الخميس، 5 ديسمبر 2013

خطبة جمعة: من آداب التجارة في الإسلام

الخطبة الأولى : اعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل قد تكفل بأرزاق العباد وحددها وهم في بطون أمهاتهم، قال صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا ، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ ، وَيُقَالُ لَهُ اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ " ، وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ، فَلَا تَسْتَبْطِئُوا الرِّزْقَ، وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حُرِّمَ» 

فلا يحملنكم حب المال والطمع فيه أن تطلبوه بالتعامل المحرم والطرق غير المشروعة، فإن في الحلال كفاية عن الحرام، والمؤمن قد أغناه الله بحلاله عن حرامه، وكفاه بفضله عمن سواه، والكسب الحلال يبارك الله فيه وإن كان قليلا، فينمو ويكون عونا لصاحبه على طاعة الله، والمال الحرام يمحق الله بركته وإن كان كثيرا، فلا ينتفع به صاحبه وإن بقي في يده، وقد يسلط الله عليه من يتلفه فيتحسر عليه صاحبه.

وقد رغب ديننا الإسلامي المسلمين في اكتساب الحلال الطيب، ورهب وحذر من اكتساب الحرام الخبيث، ومن طرق كسب الحلال التجارة ، وقد بين الله في كتابه ونبينا صلوات الله وسلامه عليه في سنته أحكام التجارة، وجعل لها آدابا كان لزاما على المسلم التاجر أن يتحلى بها، فمن ذلك التحلي بالصدق والأمانة في التعامل وهما صفتان من صفات المؤمن بوجه عام، ومن الصفات التي تُطلب في التعاملات المالية بوجه خاص، بل رتب عليهما الشرع أجرا عظيما إذا ما حققهما التاجر ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» 

وهذا يتطلب من التاجر الصدق مع الناس في القول والأمانة في التعامل، فإن حقق ذلك بورك له في بيعه، وإن كذب وخان محقت بركة بيعه وانقلب ربحه خسارة، روى البخاري في صحيحه عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رضى الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا ، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا" 
وإن مما يضاد الصدق والأمانة الغش في التجارة، فقد حرمه الإسلام بجميع صُوَرِهِ وأشكالِهِ، لِمَا فيهِ مِنَ الإضرارِ بالناسِ وخِداعِهِمْ، وإنْقَاصِهِمْ حُقوقَهُمْ، روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي"

ومِنْ صُورِ الغِشِّ الذِي نَهَى الله عنه في القرآن؛ التلاعب في الموازين،  قال تعالى : "وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" ، وتوعد الله من غش الناس في موازينهم بالعقوبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ:وذكر منها :  وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ" 

ومن صور الخداع والكذب وعدم الأمانة في التجارة إخفاء عيوب السلعة، فلا يبينها للمشتري فيقع في الغش، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، ولَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ، إِلَّا بَيَّنَهُ لَهُ"
فمن أراد بيع سيارته أو هاتفه النقال أو أي سلعة ما فيجب عليه أن يبين ما فيه من عيب للمشتري وإلا وقع في الحرام. 

ومن صور الغش في التجارة تزييفُ البضائِعِ وتقليدُهَا، والاعتداءُ علَى حقوقِ أصحابِهَا، فقَدْ نَصَّ العلماءُ علَى أنَّ الحقوقَ التجاريةَ والفكريةَ مِنِ اسمٍ وعُنوانٍ، وعلامةٍ واختراعٍ، وتأليفٍ وإبداعٍ؛ هِيَ حقوقٌ خاصَّةٌ لأصحابِهَا، ولَهَا فِي العُرْفِ الْمُعاصِرِ قيمةٌ ماليةٌ مُعتبَرةٌ، وهذهِ الحقوقُ يُعتَدُّ بِهَا شرعًا، فلاَ يجوزُ الاعتداءُ عليهَا، دفعًا للضَرَرِ الذِي يَلحَقُ بمالِكِيهَا, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ».

ومن صور عدم الصدق والأمانة في التجارة الحلف الكاذب من أجل بيع السلع ، فيحلف التاجر للمشتري بأن السلعة سليمة أو طازجة أو أنه اشتراها بمبلغ كذا وهو كاذب ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ "  ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ التُّجَّارَ هُمُ الْفُجَّارُ " قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَلَيْسَ قَدْ أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ؟ قَالَ: " بَلَى، وَلَكِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ فَيَكْذِبُونَ، وَيَحْلِفُونَ وَيَأْثَمُونَ " ، وقال صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم : وذكر منهم : رجل حلف على سلعته لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب" ، وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ؛ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ، ثُمَّ يَمْحَقُ " 

عباد الله : فليكن الصدق شعاركم، والأمانة تعاملكم تفلحوا في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: " الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ "



الخطبة الثانية :عباد الله :  من الأخلاق التي حث الإسلام التجار عليها التسامح والتساهل في البيع والشراء وسائر التعاملات،  روى البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ ، وَإِذَا اشْتَرَى ، وَإِذَا اقْتَضَى" وعند أحمد في المسند " غفر الله لِرَجُلٍ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ، كَانَ سَهْلًا إِذَا بَاعَ، سَهْلًا إِذَا اشْتَرَى، سَهْلًا إِذَا قَضَى، سَهْلًا إِذَا اقْتَضَى "

ويتمثل هذا التسامح في صور كثيرة، منها إنظار المدين المعسر، وكل ما فيه أجل من التعاملات بإمداد الأجل، ما دام بالإمكان الانتظار، فإن الله جل وعلا يقول " وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ"  ، وروى مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُتِيَ اللهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا، قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ، فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، فَقَالَ اللهُ: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي " 

ومن صور التسامح في التجارة إِقالةُ البيع، فإذا أراد المشتري أن يرد السلعة لعدم حاجته لها أو ندمه على شرائها فالإسلام يحث البائع على قبول السلعة وفسخ البيع، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَقَالَ أَخَاهُ بَيْعًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

الخميس، 28 نوفمبر 2013

خطبة الجمعة: مفهوم الجماعة ونعمة الاتحاد

الخطبة الأولى : أيها المسلمون من المقاصد الشرعية التي جاءت نصوص الدين بتأكيدها الاجتماع والوحدة والنهي عن التفرق والاختلاف، قال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) ، وقال سبحانه(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ، ومن السنة ما رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ " وحذر من مفارقة الجماعة والاختلاف فقال : مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَة َ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ " فشبه الإسلام بالربقة وهي الحبل يوضع حول عنق الدابة يقودها ويحفظها، فإذا فارق الرجل الجماعة فقد ترك حدود الإسلام وأحكامه.

أيها المسلمون: إن الجماعة التي حثنا على لزومها شرعنا الإسلامي ونهانا عن التفرق عنها قد بينها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي جماعتان، الأولى  هي الكتاب السنة وملازمتهما وعدم الإعراض عنهما، وهذه الجماعة هي أساس كل اتفاق، ومخالفتها أساس كل افتراق، قال ابن تيمية رحمه الله : ولست تجد اتفاقا وائتلافا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقا واختلافا إلا عند من ترك ذلك وقدم غيره عليه "

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى للجماعة فقال : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: "الْجَمَاعَةُ"  وفي رواية : "ما أنا عليه اليوم وأصحابي " ، قال ابن تيمية: فوصف الفرقة الناجية بأنهم المستمسكون بسنته وأنهم هم الجماعة"

وأما المعنى الآخر للجماعة فهو لزوم إمام المسلمين وحاكمهم وولي أمرهم، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ " البخاري ومسلم.  قال النووي: أي على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم " والمراد بالمفارقة كما نقله ابن حجر : هو السعي في حل البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى شيء، فكنى بمقدار الشبر لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق" .

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعاني للجماعة في بعض أحاديثه، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في وصيته لأصحابه وأمته من بعده: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِي اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ "

فأمر صلى الله عليه وسلم بتقوى الله ولزوم سنته وهديه وهدي الصحابة من بعده وحذر من البدع والمحدثات، وهذا هو المعنى الأول للجماعة، ثم أمر وحث على السمع والطاعة لولي أمر المسلمين، وهذا هو المعنى الثاني للجماعة، فكانت وصيةً جامعةً منه عليه الصلاة والسلام لأمته.

أيها المسلمون: إن في التزام أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة نجاة وعصمة من الانحراف، مع ما يحققه ذلك من مقاصد عظيمة في الدين والدنيا، ومن هذه المقاصد تحقيق العبودية لله تعالى، وذلك باتباع الكتاب والسنة والعمل بما فيهما، وهذا هو المقصد الأعظم من وجود الخليقة، ومن المقاصد أيضا حفظ الأمن والاستقرار في المجتمع، فينزع الخوف، ويسود العدل، فيعطى كل ذي حق حقه، ومن مقاصد لزوم الجماعة حفظ الأعراض من أن تنتهك، والأموال من أن تنتهب، والأنفس من تسفك دماؤها، والعقول من أن تزول أو تطيش.

 ومن تأمل التاريخ الغابر، والزمن الحاضر الذي خرجت فيه فئام من الناس عن  أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة بمعنييها، رأى تهاوي هذه المقاصد رأي عين، فانشغل الناس بالثورات عن العلم والعبادة والذكر وقراءة القرآن وصار همهم متابعة الأخبار والقنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي وقراءة الصحف ، وسفكت الدماء فقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وانتهكت أعراض المسلمين، وصودرت أموالهم ونهبت، وطاشت عقولهم، كل ذلك لأنهم خالفوا الأمر النبوي بلزوم الجماعة وعدم مفارقتها، وتحقق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم " مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةِ اْلإسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ" فضيعوا حدود الله باسم المطالبة بالحريات المكبوتة، فأوكلهم الله إلى أنفسهم فوقعوا في الذل والهوان مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: " وجعل الذل والصغار على من خالف أمري"

فعليكم أيها المسلمون بلزوم الجماعة التي أمركم بها نبيكم، فتمسكوا بسنته وهديه، واحذروا البدع والمحدثات، واسمعوا وأطيعوا لولاة أمركم، ولا تشقوا عصا الطاعة، روى الإمام مسلم في صحيحه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، وَخَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي بِسَيْفِهِ فَيَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا لَا يَتَحَاشَى مُؤْمِنًا لِإِيمَانِهِ، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ بِعَهْدِهِ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي، وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِلْعَصَبِيَّةِ، أَوْ يُقَاتِلُ لِلْعَصَبِيَّةِ، أَوْ يَدْعُو إِلَى الْعَصَبِيَّةِ، فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ"
 

الخطبة الثانية : أيها المسلمون من نعم الله علينا أن وحد الله بين هذه الإمارات السبع، تحت راية واحدة، وحاكم واحد، فجُمِع الشمل، وتآلفت القلوب، وقوية الشوكة، وهابها العدو، وتبوأت مكانا عليا، وأفاض الله عليها من الخيرات فعاش الناس في رغد وخير عميم، وأمن واستقرار، وصحة وعافية، كل ذلك بفضل الله تعالى المنعم، ثم بفضل مؤسس هذا الاتحاد الشيخ زايد بن سلطان، رحمه الله تعالى وأسكنه الجنة، وبفضل إخوانه الحكام الذين بذلوا ما يستطيعون لرفعة هذا البلد وسعادة أهله .

وبفضل الله تآلفت القلوب بين الراعي والرعية، فأحب الناس ولاة الأمر في هذه البلاد، وأقبل ولاة الأمر على الرعية يجالسونهم ويمدون يد العون لهم، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: " خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ "
أيها المسلمون: هذه النعم تحتاج إلى شكر منا حتى تدوم وتزيد، وقد قال تعالى :" وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ  " ، والشكر أولا إنما هو لله تعالى وذلك بالإقرار بهذه النعم في قلوبنا وعدم جحدها، ثم التحدث بها وعدم إنكارها، ثم العمل بشرع الله تعالى ولزوم هديه، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

ثم الشكر لولي أمرنا الشيخ خليفة وذلك بالسمع والطاعة له، والسعي إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف، ونبذ كل ما يفرق المسلمين، ويزرع التفرق والتباغض بينهم.

ومِنْ واجباتِ الوفاءِ لِمَنْ أَسَّسُوا الاتحادَ وأَرْسَوْا دعائِمَهُ أَنْ نذْكُرَهُمْ بالدعاءِ، ونَخُصَّهُمْ بالذِّكْرِ والشُّكر والعِرفانِ، قال صلى الله عليه وسلم: " لَا يَشْكُرُ النَّاسَ مَنْ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ، وَمَنْ لَا يَشْكُرُ فِي الْقَلِيلِ لَا يَشْكُرُ فِي الْكَثِيرِ، وَإِنَّ حَدِيثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَالسُّكُوتَ عَنْهَا كُفْرٌ، وَإِنَّ الْجَمَاعَةَ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةَ عَذَابٌ "

عباد الله: ليس من شكر نعمة الاتحاد ما يفعله البعض في هذه الأيام من طريقة خاطئة في التعبير عن حبهم للوطن عبر مخالفتهم لشرع الله ولأنظمة الدولة، مما أدى إلى وقوع حوادث أليمة، وإصابات بالغة، كل ذلك تحت شعار حب الوطن.

يظهر ذلك جليا في ما يفعله الشباب من الذكور والإناث في المسيرات التي يكثر فيها تبرج النساء ورقصهن ومعاكسات الشباب وميوعتهم، وتلويث الشوارع بالنفايات، وإزعاج الآخرين بالضوضاء، خصوصا من أصحاب السيارات المخالفة التي تزود بأجهزة تضخم الصوت وتثير الضجيج .

أما عَلِمَ أولئكَ أنَّ التعبيرَ عن الولاء لهذا الوَطَنِ يَكْمُنُ في التَّضْحِيَةِ لأجلِهِ، والتعاونِ على الخَيرِ مع ولاةِ أمْرِه، والبذلِ والتَّضحيةِ والعَطاءِ -كلٌّ في مجالِهِ-؛ وذلك في سبيلِ تطويرِ وَطَنِنا الغالي وتَنْمِيَتِه .

فلنسع للقضاء على هذه الظواهر السلبية، ولنتعاون مع الجهات الرسمية على القضاء عليها، ولنظهر بمظهرنا الإسلامي، وعاداتنا الوطنية، من السماحة والتواضع وعدم التكبر والله يقول : " وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ "

 
 
 

الخميس، 14 نوفمبر 2013

فضل العلم والقراءة

الخطبة الأولى : اعلموا رحمني الله وإياكم أن الله سبحانه مدح العلم وأهله وحث عباده على طلبه والتزود منه، فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة، قال الإمام أحمد رحمه الله ( العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته قالوا : كيف ذلك ، قال ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره )، ولأجل ذلك جاء الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد منه فقال تعالى : "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا" قال ابن القيم " وكفى بهذا شرفا للعلم أن أمر نبيه أن يسأله المزيد منه" ، وجعل الله الرفعة لطالب العلم في الدارين فقال سبحانه : " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ " وهذه الرفعة في الدنيا بسمو المنزلة وعلو الشأن بين الناس ورفعة الآخرة في درجات الجنة، وروى أحمد ومسلم أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ قَالَ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمُ ابْنَ أَبْزَى. فقَالَ: وَمَا ابْنُ أَبْزَى؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ مَوَالِينَا – وهو العبد المعتق-. فَقَالَ عُمَرُ: اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى! – مستنكرا- فَقَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ، عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ قَاضٍ، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: " إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ " ، ومما ورد من الأخبار في رفعة العالم على غيره في الدنيا ما ذُكر في كتاب سير أعلام النبلاء أنه قَدِمَ الرَّشِيْدُ الرَّقة، فَانْجَفَلَ النَّاسُ خَلْفَ ابْنِ المُبَارَكِ، وَتَقَطَّعَتِ النِّعَالُ، وَارتَفَعَتِ الغَبَرَةُ، فَأَشرَفَتْ أُمُّ وَلَدٍ لأَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ مِنْ بُرْجٍ مِنْ قَصْرِ الخَشَبِ، فَقَالَتْ: مَا هَذَا? قَالُوا: عَالِمٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ قَدِمَ. قَالَتْ: هَذَا -وَاللهِ- المُلْكُ، لاَ مُلْكَ هَارُوْنَ الَّذِي لاَ يَجْمَعُ النَّاسَ إِلاَّ بِشُرَط وَأَعْوَانٍ.

وهذا العلم – إخواني في الله- لا يتحصل إلا بطلبه وتعلمه وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ " ففي طلب العلم شرف كبير وأجر عظيم قال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ" ، وهذا نبي الله موسى عليه السلام لم يمنعه مقامه في النبوة والرسالة من طلب العلم ، ففي الصحيحين قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إذ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ " قَالَ مُوسَى: لاَ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ ... " فرحل إليه ولما لقيه قال له في أدب : " هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا "  ، قال ابن عباس رضي الله عنها: لو كان أحد يكتفي من العلم لاكتفى منه موسى عليه السلام لما قال : " هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا "

ومن طرق طلب العلم وتحصيله القراءة من الكتب، فالقراءةَ هيَ الطريقُ الموصلةُ إلَى اكتسابِ العُلُومِ، والتزوُّدِ مِنَ المعارفِ، وقَدْ حازَتْ فِي الإسلامِ منازلَ الشرَفِ العظيمةَ، ونَالَتْ مَراتِبَ الفضْلِ الجليلةَ، فكانَ الأمْرُ بالقراءةِ هوَ البدايةُ لرسالةِ الإسلامِ، والكلمةُ الأُولَى التِي نزَلَ بِهَا القرآنُ الكريمُ، قالَ تعالَى : "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"
وأعظم أنواع القراءة النافعة تلاوةُ آيات القرآن وتدبُّرُها؛ فإذَا قرأَ المسلمُ القرآنَ الكريمَ مُخْلِصاً في ذلك لله تعالى، حظِيَ بالثوابِ العظيمِ، وارتقَتْ منزلتُهُ فِي جناتِ النعيمِ، قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا). وقد أنثى الله عز وجل في كتابه على من يتلو كتاب الله عز وجل ووعدهم بالأجر العظيم فقال تعالى "إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ "

والمسلم لا يمل ولا يشبع من تلاوة كتاب ربه سبحانه، لأنه يهديه للتي هي أقوم، وبه حياة قلبه، ونجاته في الدارين، قال ابن القيم: "فالقلب الطاهر لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث لا يشبع من القرآن ولا يتغذى إلا بحقائقه ولا يتداوى إلا بأدويته بخلاف القلب الذي لم يطهره الله تعالى فإنه يتغذى من الأغذية الفاسدة التي تناسبه بحسب ما فيه من النجاسة )

وأفضل التلاوة ما رافقها تدبر وتفكر في المعاني، قال تعالى : "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" ، قال ابن القيم في بيان فضيلة القراءة بتدبر: "فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر... فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها ...، فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب"
ومما يعين على التدبر للمعاني قراءة كتب تفسير القرآن، فهي تكشف المعاني، وتجلي المقاصد الربانية، في آياته ومعانيه، وتطلع القارئ على فوائد القصص القرآنية، ومن أفضل كتب التفسير التي ينصح بها المسلم كتاب : تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن السعدي، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير.
فأقبلوا على قراءة كتاب ربكم، وتعلموا معانيه، تكونوا من أهل الخير والفلاح في الدارين.
 

الخطبة الثانية : عباد الله العلم فضل من الله على العبد يؤتيه من شاء من عباده قال تعالى : " وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا " وقال صلى الله عليه وسلم : من يرد الله به خيرا يفقه في الدين" ، والعالم العابد خير وأحب إلى الله من العابد الجاهل قال صلى الله عليه وسلم: " وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ " ، وهذا الفضل للعالم إنما كان بمعرفته لربه، وهذا يتم من خلال العلم بأسماء الله وصفاته، فيقرأ العبد كتب الاعتقاد الصحيحة المبنية على الدليل من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح رحمهم الله.

ومما يعين العبد على العبادة الصحيحة المقبولة أن يقرأ كتب السنة وشرحها كالصحيحين وكتب السنن والمسانيد ليتعرف على هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة، ويعلم أقواله وأفعاله وتقريراته فيعمل بها ، وعلى المسلم أن يهتم بكتب الفقه فيطلع على أحكام العبادات من الأركان والشروط والواجبات والمستحبات، ويعرف مبطلات العبادة، وأسباب الإعادة، وهذا لا يتحصل للمسلم إلا بقراءة كتب الفقه المعنية بذلك .

كما يعتني المسلم بكتب السيرة النبوية ليعرف حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأيامه وغزواته، ومن الكتب المختصرات في السيرة كتاب الفصول في سير الرسول لابن كثير، وكتاب الرحيق المختوم.

كما يهتم المسلم بقراءة كتب السلف رحمهم الله من القرون المتقدمة ففيها علم غزير، قال ابن الجوزي : وعليكُم بملاحظةِ سِيَرِ السلفِ ومُطالعةِ تصانيفِهِم وأخبارِهِم، فالاستكثارُ من مطالعةِ كُتُبِهِم رؤيةٌ لهم"

أخي المسلم: اعتن بأبنائك في مجال القراءة واختر لهم من الكتب ما يناسب مستواهم وأعمارهم، وتفقدهم في ذلك .

وليحذر المسلم من قراءة كتب الأفكار المنحرفة والآراء الضالة لأنها تضر ولا تنفع، ككتب أهل البدع والانحراف في الشريعة، قال ابن مفلح الحنبلي في الآداب الشرعية: " وَيَحْرُم النَّظَر فِيمَا يُخْشَى مِنْهُ الضَّلَال وَالْوُقُوع فِي الشَّكِّ وَالشُّبْهَة، وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الْمَنْع مِنْ النَّظَر فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكَلَام وَالْبِدَع الْمُضِلَّة وَقِرَاءَتِهَا وَرِوَايَتِهَا"
 وكذلك يحذر المسلم من الكتب التي تحتوي تكفير المسلمين والدعوة إلى تفريق صفهم، والكتب الحزبية التي تقعد للأحزاب،  وكذلك المجلات التي تحتوي على الصور الخليعة وأخبار أهل الفسق والمجون.

إخواني في الله : ومما يعين على القراءة بمختلف أنواعها في زماننا الأجهزة الذكية التي انتشرت بين الناس، حتى قلَّ من يخلو جيبه من إحداها، فهي تحتوي على برامج للقراءة يمكن للمسلم أن يستفيد منها .


واسأل أخي المسلم من تثق فيه من العلماء وطلبة العلم عن الكتب المفيدة النافعة، وطريقة التدرج في القراءة، وإذ أشكل وصعب عليك شيء فارجع إلى أهل الاختصاص كما قال تعالى : "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"  .

فاغرِسُوا عبادَ اللهِ حُبَّ القراءةِ النافعةِ فِي أبنائِكُمْ، وكونُوا فِي ذلكَ الأُسوةَ الحسنةَ لَهُمْ، وخَصِّصُوا للقراءةِ نَصيباً مِنْ أوقاتِكُمْ، واجعَلُوا للكُتُبِ المفيدةِ قيمةً فِي بُيُوتِكُمْ، ووطِّنُوا أنفُسَكُمْ علَى حُبِّهَا واحترامِهَا ومُطالعَتِهَا، فبِالقراءةِ يزدادُ العلمُ، ويتغَذَّى العقلُ، ويحيَا القلبُ، وتسعَدُ الجوارحُ، وتشمَخُ الأوطانُ، وتعْلُو الراياتُ .




الاثنين، 4 نوفمبر 2013

وقفات مع مقال ( د) سيف العصري : دماج (مؤازرة .. إنصاف .. موضوعية)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد ..

فلقد اطلعت على ما كتبه د سيف العصري على صفحته في الفيسبوك بعنوان : (دماج : مؤازرة .. إنصاف .. موضوعية)

فوجدت مقاله مخالفا للعنوان من كل وجه، فلا لمعنى فيه لمؤازرة المسلم تجاه عدوه الكافر أو الفاجر المتفق على انحرافه عن طريق الإسلام وهم الشيعة الرافضة، ولا يوجد فيه إنصاف لأنه حشاه بما يحمله ضد السلفيين من كره وبغض وضغينة، ولا توجد فيه موضوعية لأنه لم يحقق فيه الإنصاف بداية، ثم ذكر سلبيات كل من الفريقين دون أن يتطرق لجانب الإيجابيات ، وهذا مخالف في مجال النقد عند أهل النقد من الموضوعيين .
وسأقف مع الدكتور وقفات لأبين للقارئ حقيقة هذه المؤازرة وهذا الإنصاف وهذه الموضوعية المدعاة من قبله في مقاله المذكور .

الوقفة الأولى : حقيقة المؤازرة عند (د)

لا بد أن يعلم المسلم أن مؤازرة المسلم لأخيه المسلم حق وواجب عليه تجاه من ظلمه، وهذا من مقتضيات عقيدة الولاء والبراء المبنية على أصل الأخوة الدينية التي أساسها دين الإسلام ، قال تعالى : "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ "
وقد قال تعالى في بيان وجوب مؤازرة المسلم لأخيه المسلم في الشدائد : " وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ "
وقال صلى الله عليه وسلم وهو يقرر هذا المبدأ " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره "
ونصرة المؤمن تكون بأمور منها :
معاونته على عدوه بالسلاح والقتال والمال ، أو بتقديم النصيحة له، أو بمنعه من الخطأ والظلم.
ولا أعلم أبدا أن مؤازرة المسلم لأخيه المسلم في حربه مع أعداء الملة الذين يتفق ( د) معنا أنهم أهل إلحاد وظلم وبغض للإسلام والمسلمين، بأن يطعن في صفهم ويظهر عوارهم ويكشف سوءاتهم ، ويصفهم بأشنع البدع والمخالفات، التي توجب العقوبة والتعزير.
إن كان هذا يسمى مؤازرة فهو للعدو على المسلم !!

لقد قدمت يا (د) للعدو مساعدة عظيمة بفضح إخوانك من أهل ( دماج) .

فإن قال لك حوثي : لم تنكر علي هجومي على دماج وأهلها على الرغم مما ذكرته من بدعهم ومخالفاتهم، بل أنا مؤدب لهم ، بل ربما أنا عقوبة من الله عليهم .

لاستطاع إلجامك وإفحامك، ولما قدرت على رد شبهته، ولا الجواب على اعتراضه.

ثم إن  ( د) لم يبين نوع المؤازرة التي سيقدمها لإخوانه من أهل دماج سوى أن قال : (تأخذ فوق يديه. لتمنعه من الظلم )

فأقول : إننا نتحدث عن موقف معين وهو اعتداء جيش الرافضة المحاد لله ولرسوله ولدين الإسلام على طائفة من أهل الإسلام وهم أهل دماج.

فأقول لـ (د) : من الظالم ومن المظلوم ؟

أليس الظالم هو الرافضة ، والمظلوم هم : أهل دماج ؟

وهذا هو الذي أقررت به في آخر مقالك حيث قلت : " وما يحصل في دمَّاج ظُلمٌ بلا اختلاج، فإنهم فئةٌ قَلَّ ناصرهم، وخفَّ سلاحهم، وخصمهم مِنْ إيران مدعوم، ويملك من السلاح ما هو معلوم، ومِنَ الحقد ما هو ظاهرٌ غيرُ مكتوم، فوجب دفع الظلم"

إذا ما هو الظلم الذي ستمنع منه أهل دماج ؟

وما هو دخل ما تحمله من ضغينة تجاههم وتجاه السلفيين في حكمك على واقعة معينة؟
هل هذا هو الإنصاف والموضوعية والمؤازرة يا : (د)
 


الوقفة الثانية : حقيقة الإنصاف عند (د) .

حقيقة الإنصاف مع المخالف أن لا تجعل من أصحابك ومذهبك الذي تعتقده وتميل إليه معيارا على الحق وميزانا له، تعادي من خالفه، وتوالي من وافقه لمجرد موافقته ومخالفته، بل الميزان هو الحق المبني على الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح، وأقوال السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فهم أولى الناس بالحق، بتزكية الله ورسوله لهم.
وقد نهانا ربنا سبحانه عن أن تكون العداوة سببا لمجانبة الإنصاف والعدل قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى "

ولكن يا (د) هل من الإنصاف أن تذكر عيوب إخوانك وتنتقص منهم وتصفهم بأبشع الصفات، وأقبح السمات، وهم في حرب ضد أهل الإلحاد والظلم ؟

هل من الإنصاف يا (د) أن تكيل لهم هذه التهم دون أن تذكر إيجابياتهم من مناصرة الإسلام في جوانب العقيدة والحديث واللغة والفقه ؟

لقد صرت لهم عدوا ثانيا تحاربهم بلسانك وقلمك ، وصرت للحوثيين مساندا ومؤازرا ضد أهل دماج تحت شعار : الإنصاف . 

أليس الإنصاف عندكم يا أهل الموضوعية في النقد أن توازن بين الإيجابيات والسلبيات؟
ألم تستدل بحديث (أما إنه قد صدقك وهو كذوب) ؟

فهذا يلزمك أن تذكر إيجابياتهم كما ذكرت سلبياتهم ، أم أنهم أشر من الشيطان في وجهة نظرك فلا يستحقون أن تذكر حسناتهم مع ما ذكرته من قبيح سيئاتهم ؟!!
 


الوقفة الثالثة : حقيقة الموضوعية عند ( د)

قال في مقاله : (لا ننجرف في حين نُصرة المظلوم إلى كَيْلِ المديح، وقول ما ليس بصحيح)
هذا معيار عجيب جدا وغريب في نصرة المظلوم، وأعجب منه استدلالك بالحديث.
أين هو المظلوم في قوله صلى الله عليه وسلم: " ما إنه قد صدقك وهو كذوب"
هل كان الشيطان مظلوما  حين قال النبي صلى الله عليه وسلم مقولته تلك ؟

من قال أن الموضوعية في نصرة أخي المسلم ضد الملحد الظالم أن أُذَكِر عدوه بسلبياته وسيئاته وأكشف عن عوراته وأفصحه أمام الملأ ؟

أليست هذه الموضوعية يا ( د) إنما تكون في النقد الموضوعي، وليس في مجال نصرة المؤمن تجاه عدوه ؟

انظر كيف حملك بغضك للسلفيين إلى خلط الأوراق بعضها ببعض، حتى أنك أقحمت هذا النقد اللاذع تحت مسمى المؤازرة ، فكأنك تقتنص الفرص لتظهر غيظك تجاههم وبأي طريقة كانت .
 


الوقفة الرابعة: والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء .

لقد كال (د) التهم القاسيات، والمثالب المخزيات في مقاله تجاه أهل دماج وهو في معرض مؤازرتهم ضد عدوهم بلا دليل ولا برهان ، فمن ذلك :
1 - على غير الصراط
2 - وأنهم فارقوا الحق في قضايا كليات
3 -  وأنَّهم منكرون لحجيَّة الإجماع والقياس
4 - مخالفون لسائر الناس
5 - لَمْ يسلم أحدٌ من تبديعهم
6 - متطاولون على أئمة الإسلام
7 - مخالفون لهم في كثير من الأحكام
8 - وأنهم في مسائل الاعتقاد واقعون فيما حَقه الانتقاد
9 – لا يمثلون أهل السنة ولا الطائفة المنصورة

أقول : نعم المؤازرة لإخوانك في دماج يا (د)  !!

ولو ناقشتك في كل رزية ذكرتها لطال المقال ، ولكنه ما في نفسك تجاه السلفيين يظهر جليا في مؤازرتك لهم ، وكل إناء بما فيه ينضح .

 
والخوارج الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه إنما ذكروا المثالب والسيئات كما اعتقدوها هم، وسولها لهم الشيطان فأصمهم وأعمى أبصارهم، حتى قادهم حقدهم الأعمى إلى قتال أمير المؤمنين وقتله وهو يقرأ القرآن تقربا إلى الله ؟

فما هو الفرق بينك وبينهم ؟

والعجيب أن (د) لما أراد أن يذكر مثالب الروافض - بناء على الموضوعية والإنصاف المدعى- ذكر أقل مما ذكره في أهل دماج من المثالب والعثرات !!

فهل معنى ذلك أن أهل دماج أشر وأكثر انحرافا من الرافضة !!


وأخيرا : أتمنى من (د) أن يتقي الله في نفسه وما يكتب وليعرضه على ميزان الشرع المبني على فهم السلف الذين زكاهم الله ورسوله ، وليس على ميزان الولاء والبراء لعقيدته وطريقته التي يسلكها .

وأما أهل دماج فلا أعلم عنهم ومن خلال قراءتي لكتبهم وسماعي لأشرطتهم إلا أنهم من أهل السنة والجماعة، وإن حصل من بعضهم مجانبة للصواب فلا يعمم خطؤه على أهل دماج وعلى مركز الإمام مقبل الوادعي رحمه الله الذي شهد له الأئمة –كالألباني وابن باز وابن عثيمين وغيرهم- بالعلم والفضل، بل ينكر الخطأ ويبين الصواب ، وهذه هي حقيقة الموضوعية والإنصاف الصحيح .

وفق الله الجميع  لما يحيه ويرضاه



 

 
 

الاثنين، 14 أكتوبر 2013

خطبة عيد الأضحى 1434 هـ

الخطبة الأولى: : الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. 
معاشر المسلمين: قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ ) فأعظم أيام الدنيا عند الله يوم عيد الأضحى- يوم النحر- ويوم القر، هو أول أيام التشريق حيث يقر الحجيج في منى بعد أدائهم لأعمال اليوم العاشر من الرمي والذبح والحلق والطواف والسعي.
ففي يوم النحر تجتمع عبادتان من أجلِّ العبادات وهي عبادة الصلاة وعبادة النحر، وقد جمعهما الله سبحانه في آية واحدة فقال :"فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ" فالصلاة صلاة العيد والنحر نحر الأضاحي.

والحكمة من مشروعية ذبح الأضاحي هو إقامة ذكر الله وتحقيق التقوى بامتثال الأمر قال تعالى "وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ " 

وذبح الأضاحي أفضل من التصدق بثمنها لفعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده فعَنْ أَنَسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ وَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا.أي وضع رجله على أعناقها لئلا تضطرب الأضحية. 

وأفضل الأضاحي الإبل ثم البقر ثم الغنم، وأفضلها أسمنها وأغلاها ثمنا، فعن سَهْل بْن حنيف قال : كُنَّا نُسَمِّنُ الأضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ .

ويُتقى من الأضاحي العوراء البين عورها والعمياء من باب أولى، والعرجاء البين عرجها والذي يمنعها من اللحاق بالسليمة من الماشية، ومن باب أولى التي لا تمشي، والمريضة البين مرضها ، والعجفاء الهزيلة التي لا لحم فيها. ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :لَا يَجُوزُ مِنْ الضَّحَايَا الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي" 

ويشترط في المُضحى به من بهيمة الأنعام بلوغ السن المعتبرة شرعا، فالإبل ما أتمت خمسا ودخلت في السادسة، والبقر ما أتمت سنتان ودخلت في الثالثة، والمعز وما أتمت سنة ودخلت في الثانية.

وتجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته، فعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته ، فيأكلون ويطعمون" وإذا كانت العائلة كثيرة وهي في بيت واحد فيجزئ عنهم أضحية واحدة ، وإن ضحوا بأكثر من واحدة فهو أفضل .وتجزئ الإبل والبقر عن سبعة.

والسنة أن يذبح المضحي  بنفسه، أو يوكل غيره، فإذا أراد الذبح سمى وكبر، ثم يأكل منها لأمر الله تعالى حيث قال " فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ" ، ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حيث أَمَرَ مِنْ كُلِّ جَزُورٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَأَكَلُوا مِنْ اللَّحْمِ وَحَسَوْا مِنْ الْمَرَقِ. ثم يهدي لأرحامه وجيرانه ويتصدق على الفقراء والمحتاجين.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد

جماعة المسلمين : إن القلب ليعتصر ألما وحزنا على ما يراه من أحداث أليمة في عالمنا الإسلامي، من سفك للدماء البريئة، وتشريد للضعفاء، وتخريب للديار والبلدان، وإفساد لجميع مكتسبات ومقدرات العالم الإسلامي، فازداد المسلمون ضعفا إلى ضعفهم وفقرا إلى فقرهم وتمكن منهم عدوهم ولم يحققوا الأهداف التي سعوا إليها وتنادوا بها.

ولعل أكبر الأسباب  المؤدية إلى هذه النتيجة هو الإعراض عن شرع الله تعالى حكما وتحكيما ، بين الأفراد والجماعات والدول، بل نجح الغرب وجهال المسلمين من أنصاف المثقفين والعلمانيين وأرباب الأحزاب المنتسبة للإسلام زعما في تصوير الشريعة بأنها رمز للإرهاب، وسبب لسفك الدماء وتفريق الصفوف وكبت الحريات، وصوروا النجاة في ديمقراطيات فاسدة تجعل من حكم الشعب أساسا ودستورا. 

ونبينا صلى الله عليه وسلم حذر ورهب وخوف من عاقبة ومآل تلكم الحال فقال صلى الله عليه وسلم:يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: وذكر منها :"وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ " 

وربنا سبحانه وتعالى أمرنا في كتابه بلزوم حكمه وهديه وشرعه وعدم اتباع الهوى فقال عز من قائل : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" 

لقد تركنا النبي صلى الله عليه وسلم وقد بين لنا الفتن وأسبابها وطرق الوقاية منها، وعلاجها إذا ما وقعت، ومن ذلك ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ .وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِكُلِّ فِتْنَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ السَّاعَةِ وَمَا بِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَرَّ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يُحَدِّثْهُ غَيْرِي وَلَكِنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ مَجْلِسًا أَنَا فِيهِ عَنْ الْفِتَنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَعُدُّ الْفِتَنَ مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ لَا يَكَدْنَ يَذَرْنَ شَيْئًا وَمِنْهُنَّ فِتَنٌ كَرِيَاحِ الصَّيْفِ مِنْهَا صِغَارٌ وَمِنْهَا كِبَارٌ " 

فما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر الفتن فلماذا الإعراض عن هديه وسنته؟ ونحن نعتقد أن السلامة والنجاة إنما تكون في لزوم هديه والسير على سنته، ألم يقل ربنا تبارك وتعالى آمرا المؤمنين:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ " ثم حذر من الفتن في الآية التي بعدها مباشرة فقال :وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " فكأنه يشير إلى أن عدم الاستجابة لله وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم سبب للوقوع في الفتن. 

بل قد صرح ربنا سبحانه وتعالى متوعدا ومحذرا من مخالفة سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: " فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : " أي: فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطنا أو ظاهرا {أن تصيبهم فتنة} أي: في قلوبهم، من كفر أو نفاق أو بدعة، {أو يصيبهم عذاب أليم} أي: في الدنيا، بقتل، أو حد، أو حبس، أو نحو ذلك"

جماعة المسلمين : ألم يقل صلى الله عليه وسلم: فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفاً كَثِيراً ، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْمُحْدَثَاتِ ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ " فبين عليه الصلاة والسلام أن الاختلاف سيقع ولا بد – وهو قضاء كوني لا يمكن دفعه- ثم بين العلاج وحصره في الإتباع والحذر من الابتداع 
  ألم يخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن ظلم الولاة والسلاطين واستئثارهم بأمور الدنيا ؟ 
بلى ، فروى الإمام مسلم في صحيحه : عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا فَمَا تَأْمُرُنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ فَجَذَبَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَقَالَ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ " 
أليس هذا من الظلم أن تسلب حقك وتطالب بحق غيرك ؟ ولكن كيف وجه النبي صلى الله عليه وسلم-الرحيم بالأمة الناصح لها- الأمة ؟ لقد أرشدها إلى السمع والطاعة، ولم يرشدها إلى المظاهرات ولا إلى الخروج على ولاة الأمور للمطالبة بالحريات.

بل ذكر لنا ما هو أشد من ذلك إذ قال : يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ قَالَ قُلْتُ كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ قَالَ تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ " 
فتأملوا رعاكم الله؛ أئمة من صفاتهم مخالفة الشريعة وظلم الناس بأخذ أموالهم وضرب ظهورهم ورسولنا صلى الله  عليه وسلم يقول : تسمع وتطيع للأمير .." 

والأمثلة على بيان السنة للطريقة القويمة للتعامل مع الفتن كثيرة لا يتسع المقام لذكرها، ولكن غفل الناس عن الرجوع إليها، ومن أسباب غفلتهم تعلقهم بالأشخاص دون الحق، فصاروا يعرفون الحق ممن يحبون ممن أظهرهم الإعلام وسوق لمقالاتهم حتى صار الولاء والبراء لهم وعليهم لا على الحق، وهذا الذي حذر منه صلى الله عليه وسلم إذ قال : إنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزعهُ مِنَ النَّاسِ،وَلكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً ، فَسُئِلُوا فَأفْتوا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأضَلُّوا 

فتأملوا –رحمكم الله- أن الذي رأس هؤلاء القوم من الأصاغر إنما هم الناس بأن جعلوهم محلا للفتيا والسؤال، وهم في الحقيقة من أهل الجهل والضلال، قال صلى الله عليه وسلم: إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر" ، وهذا سبب للهلاك بأن يترك الناس العلماء ويقبلون على القصاصين والوعاظ ومفسري الأحلام لأجل الفصل في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم، وتفرقت أهواؤهم؛ هلكوا"
وليس المقصود بالأصاغر صغار السن ممن تلقوا العلم والدين على العلماء الكبار ، فلقد سئل عبد الله بن المبارك مَنِ الْأَصَاغِرُ؟ قَالَ: " الَّذِينَ يَقُولُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَأَمَّا صَغِيرٌ يَرْوِي عَنْ كَبِيرٍ; فَلَيْسَ بِصَغِيرٍ ".

وهؤلاء الأصاغر لهم دور عظيم في صد الناس عن السنة وتأويل أحاديثها على وفق أهوائهم وانتماءاتهم الحزبية، ثم إثارة الفتن بين المسلمين، ومن نظر في التاريخ الغابر رأى ذلك رأي عين، ففي فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه لم يكن للصحابة العلماء أي مشاركة وإنما هم شذاذ الآفاق وقطاع الطرق رفعوا شعار  المطالبة بالحريات المكبوتة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكانت النتيجة أن قتلوا خليفة المسلمين. 

وفي زمن علي رضي الله عنهم خرج الخوارج وناظرهم ابن عباس وقال لهم: لقد جئتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن عند ابن عم رسول الله وما فيكم منهم أحد" يشير إلى عدم مشاركة العلماء معهم مما يدل على جهلهم وضلالهم، فما رجع منهم إلا القليل وقاتلهم علي رضي الله عنه في معركة النهروان، وانتصر عليهم ، ثم قتلوا عليا رضي الله عنه متقربين لله بذلك العمل الشنيع . 

وفي زماننا يتكرر الأمر فالذي يدعو للفتن وما يسمى بالربيع العربي الذي سفكت فيه دماء المسلمين وانتهكت أعراضهم وخربت ديارهم إنما هم الأصاغر من أرباب الأحزاب . 

عباد الله: لقد منّ الله عليها في هذه الدولة بولاة أمر نحسبهم والله حسبيهم من خيرة الأمراء، ومنّ عليها بنعمة الأمن والعيش الطيب، فاشكروا الله على هذه النعمة ، واسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله أمركم، واحذروا ممن يدعو إلى تفريق صفنا وبث العداوة بين قلوبنا وقلوب حكامنا، وعلينا أن ندعو لهم في السر والعلن بالتوفيق والصلاح وأن يؤيدهم الله بالبطانة الصالحة التي تعينهم على أمر الدين والدنيا 

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد


الخطبة الثانية : الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد
يا معاشر النساء : اسعينَ –رحمكنَّ الله – إلى فكاك أنفسكُنُّ من النار، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " وَنَظَرْتُ فِي النَّارِ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ " وقال -صلى الله عليه وسلم- « يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ مِنَ الاِسْتِغْفَارِ فَإِنِّى رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ». فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ قَالَ « تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ "  ، وروى أحمد في المسند قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْفُسَّاقَ هُمْ أَهْلُ النَّارِ. قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَنْ الْفُسَّاقُ ؟ قَالَ النِّسَاءُ. قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَوَلَسْنَ أُمَّهَاتِنَا وَأَخَوَاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنَّهُمْ إِذَا أُعْطِينَ لَمْ يَشْكُرْنَ وَإِذَا ابْتُلِينَ لَمْ يَصْبِرْنَ " 

والسبيل إلى الخلاص من النار هو أن تأَدينَ حقَّ الله عليكُنَّ بأداءِ ما فرضه الله، وانتهينَ عما نهاكُنَّ عنه تَكنَّ من أهل الفوز والسعادة قال صلى الله عليه وسلم (إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ ) . 

أختي المسلمة : اعلمي أن سبب نهضة الأمة هو قرارك في مملكتك وهو بيتك، والتزامك بحجابك وحشمتك، فإن فعلت ذلك فقد صُنتِ المجتمع من فتنة عمياء صماء مهلكة، قال عليه الصلاة والسلام: ألا فاتَّقوا الدُّنيا، واتَّقوا النساءَ، فإنَّ أولَ فتنةِ بَني إسرائيلَ كانتْ في النساءِ " 
وإياك والتبرج فإنه سبب للعذاب قال صلى الله عليه وسلم: صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا : نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلاَتٌ مُمِيلاَتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَمْثَالِ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ

ولتؤدي المرأة حق زوجها عليها فإنه من أعظم الحقوق بعد حق الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم:وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَة حَقَّ رَبّهَا حَتَّى تُؤَدِّي حَقَّ زَوْجهَا وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسهَا وَهِيَ عَلَى قَتَب لَم ْتَمْنَعهُ " ، وفي رواية  : ولا تجد امرأة حلاوة الإيمان حتى تؤدي حق زوجها.." 

 واصبري على زوجك فإنه من نعم الله عليك روى البخاري في الأدب المفرد الأدب عن أسماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ وَعُصْبَةٌ مِنَ النِّسَاءِ قُعُودٌ قَالَ بِيَدِهِ إِلَيْهِنَّ بِالسَّلَامِ فَقَالَ: (إِيَّاكُنَّ وَكُفْرَانَ الْمُنْعِمِينَ إِيَّاكُنَّ وَكُفْرَانَ الْمُنْعِمِينَ) قَالَتْ: إِحْدَاهُنَّ نَعُوذُ بِاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ كُفْرَانِ نِعَمِ اللَّهِ. قَالَ: (بَلَى إِنَّ إِحْدَاكُنَّ تَطُولُ أَيْمَتُهَا ثُمَّ تَغْضَبُ الْغَضْبَةَ فَتَقُولُ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِنْهُ سَاعَةً خَيْرًا قَطُّ فَذَلِكَ كُفْرَانُ نِعَمِ اللَّهِ وذلك كفران المنعمين" 

ولا تكثري من طلب الطلاق لأتفه الأسباب فإنه من كبائر الذنوب والموبقات قال صلى الله عليه وسلم: أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلاَقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ لَمْ تَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ " 

  وأنت أيها المسلم، يا من جعلك الله وليا على هذه المرأة، أبا كنت أو زوجا أو أخا، فإنك مأمور بوقاية نسائك ومن هم تحت ولايتك من النار بتأديبهم وتعليمهم أمور الدين وحملهم عليها قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ، ثم ستحاسب على ذلك بين يدي الله قال صلى الله عليه وسلم: إن الله سائل كل راع عما استرعاه: أحفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته" 

معاشر الرجال : استوصوا بالنساء خيرا فهذه وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لنا نحن الرجال فقال ( وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا " وقال صلى الله عليه وسلم (خيركم خيركم لأهله) فأدوا إليهن حقهن ، واصبروا عليهن قال تعالى { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} ، ومن كان ذا زوجتين فليعدل بينهن قال صلى الله عليه وسلم: من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط" 

 الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد

الخميس، 10 أكتوبر 2013

خطبة جمعة: فضل يوم عرفة - الدروس والعبر من خطبة الوداع

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين :اعلموا رحمكم الله ، أن من مواسم الخير العظيمة التي امتن الله بها علينا يوم عرفة ، فقد اختصه الله – سبحانه وتعالى – بمزيد فضل وثواب ،وجعله موسما يتنافس فيه المتنافسون لنيل رضوان ربهم ومولاهم ، وربنا تعالى يقول: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ "   

عباد الله ، إن ليوم عرفة فضائل عديدة اختصه الله بها ، فمن ذلك أن الله عز وجل قد أقسم به، ولا يقسم ربنا إلا بعظيم وذلك في قوله تعالى : "وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ"  ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ " 

ومن فضائله أنه اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم النعمة بذلك على عباده ، فروى مسلم عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِعُمَرَ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ يَهُودَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"   نَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِى أُنْزِلَتْ فِيهِ لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ فَقَالَ عُمَرُ فَقَدْ عَلِمْتُ الْيَوْمَ الَّذِى أُنْزِلَتْ فِيهِ وَالسَّاعَةَ وَأَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ نَزَلَتْ. نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِعَرَفَاتٍ. 

وقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة من أعياد أهل الإسلام، فروى الترمذي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ " 

ومن فضائله أن الله ينزل سبحانه إلى السماء الدنيا نزولا يليق بجلاله وعظيم سلطانه ليس كنزول البشر فهو كما قال تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " ، ينزل ليباهي بأهل عرفات أهل السماء ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا وقف – أي الحاج -بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا فيقول : انظروا إلى عبادي شعثا غبرا .."  قال ابنُ عبد البر: "وهذا يدلُ على أنهم مغفورٌ لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا إلا بعد التوبة والغفران والله أعلم" اهـ

في هذا اليوم يعتق الله عبيده من النار قال صلى الله عليه وسلم : "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ"  رواه مسلم  

ما أعظمها من بشارة ! وما أجملها من جائزة ! العتق من النار والفوز بالجنة وربنا يقول: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ " 

 في هذا اليوم العظيم يغفر الله لأهل عرفات ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : معاشر الناس أتاني جبرائيل عليه السلام آنفا فأقرأني من ربي السلام وقال : إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات . فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا رسول الله : هذا لنا خاصة قال هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة . فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كثر خير الله وطاب .

في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( فإذا وقف بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا فيقول : انظروا إلى عبادي شعثا غبرا ، اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم وإن كانت عدد قطر السماء ورمل عالج " أي ما تراكم من الرمل ودخل بعضه في بعض 

يجتمع الخلائق في هذا اليوم على اختلافهم في الأجناس والألوان واللهجات ، يسألون ربا واحدا كريما معطيا ، كل يدعوه بمسألته والله يسمعهم فهو السميع الذي وسع سمعه كل شيء ، وقال تعالى : "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ " وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي " يا عبادي ، لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم ، وإنسَكم وجِنَّكم ، قاموا في صعيد واحد ، فسألوني ، فأعطيتُ كُلَّ إنسان مسألتَهُ ، مانقص ذلك مما عندي إلا كما يَنْقُص المِخْيَطُ إذا أُدِخلَ البحرَ " 

فكيف يسمع عاقل بهذه النصوص والآيات التي يدعو الله عباده فيها لدعائه ومسألته ثم يعرضون عنها فيدعون بشرا ضعيفا أو قبرا ووثنا يرجون جلب خيره أو دفع ضره ، إن هذا لهو الكفر الصراح والذنب الذي لا يغفر  قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ "

جماعة المسلمين : ومن فضائل هذا اليوم عند الله أن صيامه كفارة سنتين قال صلى الله عليه وسلم : " صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده " 
فصوموا هذا اليوم واحفظوا جوارحكم عن المحرمات ، وأكثروا من قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله " خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " 


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من الأسس والقواعد التي يبنى عليها أمر الدين والدنيا في حجة الوداع التي حجها مع صحابته رضوان الله عليهم، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته : أيهَا الناسُ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هَذَا " فهذا تأصيل لحرمة دم المسلم وماله، فلا يجوز الاعتداء عليه بأخذ ماله أو سفك دمه إلا بحق كما قال تعالى : " وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ"  ولقد ورد الوعيد الشديد لمن قتل مسلما بغير حق قال تعالى : "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا " 

ومن القواعد التي أكد عليها صلى الله عليه وسلم هدم أمور الجاهلية وعاداتهم التي تخالف أحكام الإسلام فقال:" ألا وإن كل شيء مِن أمر الجاهليَّة تحت قدميَّ هاتَين موضوعٌ، ودماء الجاهليَّة موضوعة، وإن أول دمٍ أضَع مِن دمائنا دمُ ابن ربيعَة الحارث بن عبدالمطَّلب - كان مُسترضَعًا في بني سعد فقتلتْه هُذيل - ورِبا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع رِبانا؛ ربا العباس بن عبدالمطَّلب"

فيؤكد صلى الله عليه وسلم أن الحكم في الشرع إنما هو لله تعالى، وأن كل ما خالف هذا الشرع فهو مردود وباطل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"  

ومن الأمور التي أكد عليها صلوات الله وسلامه عليه حقوق النساء وحقوق الزوجية إذ قال : فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحلَلتُم فروجهنَّ بكلمة الله، وإن لكم عليهنَّ ألا يوطئْن فُرُشَكم أحدًا تَكرهونه، فإن فعلنَ ذلك، فاضْرِبوهنَّ ضَربًا غير مُبرِّح، ولهنَّ عليكم رزقُهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف "  وهذا إنما يدل على عظيم هذا الحق بأن ذكر ضمن خطبة ترسي أهم قواعد الإسلام، فخذوا بوصية نبيكم صلى الله عليه وسلم واستوصوا بالنساء خيرا، وليؤد كل واحد من الزوجين الحق الذي عليه للآخر حتى تستمر الحياة الزوجية التي هي من نعم الله على الناس. 

ثم ختم صلى الله عليه وسلم خطبته بتأصيل عظيم ووصية كبرى تضمن السلامة من الضلالة والانحراف، ولزوم طريق الهداية فقال : وإني قد تركتُ فيكم ما لن تَضلُّوا بعده إن اعتصمتم به: كتابَ الله " فلزوم كتاب الله تعالى سبب للهداية والرشاد قال تعالى : "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ"


  

الخميس، 26 سبتمبر 2013

خطبة : فضل قراءة وتعلم القرآن

الخطبة الأولى : أيهَا المؤمنونَ: قال تعالى في محكم التنزيل: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ "  إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أنزلَهُ علَى قلبِ نبِيِّهِ محمدٍ خاتمِ النبيينَ، قالَ عزَّ وجلَّ:( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)  هذا الكتابُ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، وفُصِّلَتْ كلماتُهُ، وحُفِظَتْ مِنْ عَبَثِ العابثينَ، وتحريفِ الْمُحَرِّفينَ، قالَ تعالَى:( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ* لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)
سَمَّاهُ اللهُ تعالَى بأسماءٍ كريمةٍ، ووصفَهُ بصفاتٍ حكيمةٍ، فهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وهوَ الشفاءُ النافِعُ، والدواءُ الناجِعُ، عِصْمةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بهِ، ونجاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ، وهدايةٌ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ:( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ولذلك أوصانا الله بالتمسك به وحثنا النبي صلى الله عليه وسلم على لزومه، قال تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا" وروى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال: قال صلى الله عليه وسلم: أَلاَ وَإِنِّى تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَحَدُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلاَلَةٍ "

ويستلزِمُ التمسكُ بالقرآنِ الكريمِ العنايةَ بحفظِهِ وتلاوتِهِ، والمواظبةَ علَى قراءتِهِ وتدبُّرِهِ، والحرصَ علَى العملِ بأحكامِهِ ومبادئِهِ، والتخَلُّقَ بأخلاقِهِ وقِيَمِهِ، والقيامَ بتَعَلُّمِهِ وتعليمِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِصلى الله عليه وسلم:«خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»

عبادَ اللهِ: إنَّ للتمسكِ بالقرآنِ الكريمِ ثمراتٍ شتَّى، وفوائدَ عُظْمَى، تعودُ علَى الإنسانِ بِخَيْرَيِ الدنيَا والآخرةِ، فقارئُ القرآنِ الكريمِ قد أثنى الله عليه ووعده بالأجر العظيم قال تعالى : :"إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ" ، ومن عظيم بركة القرآن مضاعفة الحسنات لقارئه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:( مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ)  فكم من الحسنات ضيعت يا عباد الله بالإعراض عن تلاوة القرآن وتدبره . 

وبالقرآنِ وحفظه يرتقِي المؤمنُ يومَ القيامةِ درجاتِ الجنانِ قَالَ صلى الله عليه وسلم:( يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا) قال بعض شراح الحديث:وصاحبُ القرآنِ هُوَ مَنْ يُلَازِمُهُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْعَمَلِ.

وفي ذلكم اليوم العظيم الذي تقترب فيه الشمس من الرؤوس ويلجم العرق الناس، يأتي القرآن شفعيا لأصحابه، فعن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ " أي السحرة . رواه مسلم.  
  
بل إن في تعلم القرآن أجر وفضيلة تعلو وتزيد على أنفس الأموال وأغلاها ثمنا في الدنيا، فروى مسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ :خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ – والناقة الكوماء هي العظيمة السنام وهي من أفضل أنواع النوق عند العرب- فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُحِبُّ ذَلِكَ قَالَ أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الْإِبِلِ" 

فإذا خرجت أخي المسلم إلى المسجد لتتعلم كتاب ربك وتقرؤه فأبشر بهذه البشارة العظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حِجَّتُهُ» فإذا جلست في حلقات القرآن فأنت في خير عظيم وفضل عميم قال صلى الله عليه وسلم: مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ " 

فاللهُمَّ اجْعَلِ الْقُرْآنَ العظيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ أبصارِنَا، وَجِلاَءَ همومِنَا، وَذَهَابَ أحزانِنَا، وارزُقْنَا تلاوتَهُ، ووفِّقْنَا للعملِ بهِ والتخلُّقِ بأخلاقِهِ 



الخطبة الثانية : أيهَا المسلمونَ: مِنْ ثمراتِ التمسُّكِ بالقرآنِ استقامةُ الإنسانِ علَى طاعةِ الرحمنِ، فيتلُو القرآنَ الكريمَ حقَّ تلاوتِهِ، ويتَّبِعُهُ حقَّ اتِّبَاعِهِ، فيعملُ بآياتِهِ، ويقِفُ عنْدَ حُدودِهِ، ويُحِلُّ حلالَهُ، ويُحَرِّمُ حرامَهُ، ويتخلَّقُ بأخلاقِ القرآنِ، فقَدْ سُئِلَتِ أم المؤمنين عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِصلى الله عليه وسلمفَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ " . 
والتمسُّكُ بالقرآنِ الكريمِ سببٌ لسعادةِ الأُسر والبيوت واستقرارِهَا، والبركةِ فِي حياتِهَا، وكَثْرَةِ خيراتِهَا، وكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ في الْبَيْتُ إذَا تُلِيَ فِيهِ كِتَابُ اللهِ اتَّسَعَ بِأَهْلِهِ، وَكَثُرَ خَيْرُهُ، وَحَضَرَتْهُ الْمَلائِكَةُ، وَخَرَجَتْ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ، وَالْبَيْتُ إذا لَمْ يُتْلَ فِيهِ كِتَابُ اللهِ ضَاقَ بِأَهْلِهِ، وَقَلَّ خَيْرُهُ، وَحَضَرَتْهُ الشَّيَاطِينُ 

ومِنْ ثمراتِ التمسُّكِ بالقرآنِ شفاءُ الإنسانِ، قالَ عزَّ وجلَّ:( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ففيه الشفاء من أمراض الشبهات والشهوات، والأوجاع والأسقام وما يصيب القلوب من هموم وغموم وأحزان . 

جماعة المسلمين: لقد انشغل الكثير منا بأمور الدنيا وتغافلنا عن كتاب ربنا سبحانه وتعالى، وفي ذلك علامة على مرض القلوب قال ابن القيم: فالقلب الطاهر، لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث، لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذى لم يطهره الله تعالى، فإنه يتغذى من الأغذية التى تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة. فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التى تلائم الصحيح " 

فبعض الناس لا يقرأ القرآن إلا يوم الجمعة إذا حضر قبل الإمام، وبعضهم يقرؤه في رمضان، وبعضهم إذا وجد فسحة من وقته وملل، فأعطينا القرآن ما زاد من أوقاتنا وفضُل، واستبدلت تلاوة القرآن بقراءة الصحف والمجلات بل قد يمضي العبد أكثر من ساعة وهو يتصفح جريدة أو يطالع مجلة وإذا ما أراد قراءة القرآن فتكفيه دقائق، وهذا خلاف فعل السلف رحمهم الله الذين عرفوا قدر كتاب ربهم، فعن أبي الزناد رحمه الله قال: كنت أخرج من السحر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أمر ببيت إلا وفيه قارئ " وقيل لأخت مالك بن دينار رحمه الله: ما كان شغل  مالك في بيته ؟ قالت المصحف والتلاوة " وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن هذه القلوب أوعية فأشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره " 

فاعمروا قلوبكم وبيوتكم بتلاوة كتاب ربكم، واحفظوه وحفظوه أولادكم،  فمَنْ علَّمَ أبناءَهُ القرآنَ أُلْبِسَ تاجاً مِنْ نُورٍ عنْدَ الرحمنِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:( مَن قَرَأَ الْقُرآنَ وَتَعَلَّمَهُ، وَعَمِلَ بِهِ أُلْبِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَاجَاً مِنْ نُورٍ، ضَوْؤُهُ مِثْلُ ضَوْءِ الشَّمْسِ، وَيُكْسَى وَاْلِدَيْهِ حُلَّتَانِ لاَ تُقَوَّمُ بِهِمَا الدُّنْيَا، فَيَقُولاَنِ: بِمَ كُسِينَا؟ فَيُقَاْلُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرآنَ)

الخميس، 12 سبتمبر 2013

حل المشكلات الزوجية والطلاق

الخطبة الأولى : يقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "  
ينوِّه الله جلّ وعلا إلى نعمةٍ عظيمة امتنَّ بها على عباده، ألا وهي العلاقة بين الزّوجين التي يحصُل بها السّكون والطمأنينة في هذه الحياة، فيجِب على العبدِ أن يرعاها حقَّ رعايتها، ولا يتسبَّب في زوالها وفِصامها بعدَ توكيد عُراها. 

ولقد بين الإسلام حقوقَ كلٍ من الزوجين أتمَ بيان ، وأوصى كلاً منهم بالآخر ، لأن من الأهدافِ المرعية في الشريعة الإسلامية في ما يخصُ جانبَ الأسرةِ هو استمرارها ودوامُها فقال تعالى: " وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"  فإذا عرف الزوج الحقوقَ والواجباتِ التي عليه تجاه زوجته وقام بها ، وعرفت الزوجةُ الحقوقَ والواجبات تجاهَ زوجها وبيتها وأدتها على حسب استطاعتها ، دام الزواج واستمر وكانت نتيجته بيتا مسلما وذرية طيبة تخدم الدين والوطن .  

وإذا ما تنكر أحد الزوجين للآخر فأهمل في واجباته وحقوقه حصل الخصام والشقاق حتى يصل الأمر إلى الفراق والطلاق ، وهذا الذي يفرح به الشيطان ويسعى له، فعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ "  

أيها المسلم : إن حصول المخاصمات والمشاحنات بين الزوجين أمر واقعٌ لا محالة ، لاختلاف الطباع والأمزجة ، ولكن شريعتنا السمحة وضعت من الحلول ما يكفل إصلاح الخلل تجنبا للفراق فقال تعالى:" وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا" فأمر الله تعالى إذا ما عصت المرأة وخالفت طاعة زوجها أن يعظها ويذكرها بالله فالذكرى تنفع المؤمنين ، فإذا ما استجابت هجرها بأن لا يكلمها ولا يضاجعها في نوم ولا غيره ، فإن لم تستجب شرع للزوج ضرب الزوجة ضربا غير شديد وإنما القصد منه التأديب والزجر لا الإيلام والإعاقة . 

فإن لم يحصل بذلك صلح ووفاق قال تعالى: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا" فيختار كل من الزوجين رجلا عدلا عاقلا من أهل العلم والديانة لينظرا في حالهما فيقربا وجهات النظر ويسعيا إلى لم الشمل ورأب الصدع ، فإن وصلت الحال إلى أنه لا يمكن اجتماع الزوجين وإصلاحهما إلا على وجه المعادات والقطيعة فلهما التفريق بينهما .

جماعة المسلمين أيها الأزواج قال : " وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا" وقال نبينا صلى الله عليه وسلم " لا يفرُك مؤمن مؤمنة – أي لا يبغض زوج زوجته - إن كره منها خلقا رضي منها آخر "  
فهذا توجيه من الله ورسوله للمسلمين أن يحسنوا لزوجاتهم بالمعروف، فإذا رأى الزوج من زوجته خطأ أو تقصيرا فلا يكون ذلك سببا للعداوة والخصام بل عليه أن يلحَظَ ما في زوجتِه من الأخلاقِ الحميدة والحسنات التي لا تحصل إلا بوجودها، وأن يجعلها في مقابَلة ما كرِه من أخلاقها، وليعلَم الرجل أنّ الكمالَ متعذِّر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرشد الأزواج ويوصيهم بالنساء خيرا فقال : اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَىْءٍ فِى الضِّلَعِ أَعْلاَهُ ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ"  وفي رواية لمسلم قال صلى الله عليه وسلم "إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلاَقُهَا " قال أهل العلم في الحديث دليل على أنه لا يمكن للرجل الاستمتاع بالمرأة إلا بالصبر عليها .  

أيتها الزوجة : اعلمي أن حق الزوج عليك عظيم جدا قال صلى الله عليه وسلم: " لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا" فاعرفي لزوجك عليك حقه، واسعي إلى إرضائه وطاعته ما استطعت إلى ذلك سبيلا، روى الإمام أحمد في المسند عَنِ الْحُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ، أَنَّ عَمَّةً لَهُ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ، فَفَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: " كَيْفَ أَنْتِ لَهُ؟ " قَالَتْ: مَا آلُوهُ إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ، قَالَ: " فَانْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ " 

فلا تتعاملي مع زوجك تعامل الند مع نده، بل وإن أخطأ في حقك فاسعي إلى مراضاته وتطييب خاطره فإن ذلك من صفات نساء أهل الجنة قال صلى الله عليه وسلم: " نساؤكم من أهل الجنة الودود العؤود على زوجها التي إذا غضبت جاءت حتى تضع يدها في يده ثم تقول : لا أذوق غمضا حتى ترضى " 

وليكن مبدأ الصلح هو شعارك دائما في خصومتك مع زوجك قال تعالى : " وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا " 
إخواني في الله : إن في التزام الزوجين للوصايا الشرعية في طريقة التعامل بينهما خير معين لهما على استمرار حياتهما الزوجية، وشكر الله عليها . 


الخطبة الثانية : عباد الله لقد أباح الإسلام الطلاق ولكن جعله آخر الحلول بين الزوجين ، فإذا تكدرت الحياة الزوجية واستحال الاستمرار فيها وخيف من معصية الله ورسوله شُرع للرجل أن يطلق زوجته وشرع للمرأة أن تطلب الخلعَ من زوجها أو أن ترفع أمرها للقاضي ليفرق بينهما .

ولكن ليس للمرأة أن تطلب الطلاق لغير سبب أو عذر شرعي قال صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة "  

 وعلى الرجل أن يحكم عقله في أمر بيته وأسرته ، فلا يجعل كلمة الطلاق وسيلة للتهديد والوعيد ، أو يمينا يحلف به متى ما احتاج إلى ذلك وربما لأتفه الأسباب ، أو أن يتكلم بالطلاق هازلا فإن ذلك من الحمق والسفه ، وعقوبة له أوقع الإسلام طلاق الهازل ولو لم يرده .

إن محاكمنا الشرعية لتشتكي من كثرة قضايا الطلاق وما يتعلق بها من مسائل وأحوال ، وإنما يرجع ذلك إلى عدم الفقه السليم للطلاق وأحكامه من قبل الزوجين، فالشريعة الإسلامية بينت أحكام الطلاق ولم تجعله عبثا ،  فجعلت للرجل أن يطلق المرأة عند الحاجة طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتى تنقضي عدتها، ثم إن بدا له في تلك الفترة أن يراجعها فله ذلك بلا مهر ولا عقد جديدين، وإن انقضت عدتها قبل أن يراجعها بانت منه، ولم تحل له إلا بعقد جديد قال الله تعالى: " الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ "، والطلاق المحرم كأن يطلقها ثلاثاً بلفظ واحد أو يطلقها وهي حائض أو نفساء، أو يطلقها في طهر وطئها فيه ولم يتبين حملها. كل هذا يعد من الطلاق المنهي عنه .

يا أيها الآباء والأمهات انصحوا لبناتكم أن يحسن عشرة أزواجهن والصبر عليهم ولا يتسرعن بطلب الطلاق فهذا من تمام تربتكم لابنتكم، فهذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينصح ابنته حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها ذات مرة:)أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ قَالَتْ نَعَمْ . فقال : قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ ، أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم – فَتَهْلِكِى، لاَ تَسْتَكْثِرِى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِى شَىْءٍ ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ ، وَسَلِينِى مَا بَدَا لَكِ ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - - يُرِيدُ عَائِشَةَ  " 

أما أن يكون الأب والأم سببا لطلاق ابنتهما من زوجها لأتفه الأسباب، فهذا مما يرفضه العقل وتمجه الفطر السليمة . 

كماأنبه الرجال على وجوب تنفيذ الشروط التي اشترطت عند عقد الزواج، فالكثير منهم يوافق عند العقد ثم لا يوفي به بعد الزواج، وقد قال صلى الله عليه وسلم:( أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ ) ، وكذلك الزوجة لا يحق لها طلب الطلاق من أجل أن زوجها قد تزوج عليها، بل تتقي الله وتصبر لأن هذا من شرع الله تعالى الذي أباح التعدد للرجال بشرط العدل بين الزوجات.

فاتقوا الله جميعا في أنفسكم واجعلوا همكم طاعة ربكم والاستعداد لليوم الآخر، واهتموا بتربية أولادكم على طاعة الله ليكونوا لكم ذخرا في ميزان حسانكم يوم القيامة . 





الخميس، 5 سبتمبر 2013

خطبة: فضل العلم -بداية العام الدراسي الجديد-

الخطبة الأولى :جماعة المسلمين ؛ منذ شهور مضت ودع أبناؤنا عاما دراسيا ماضيا ، وها هي الأيام قد مضت وولت ، وإذا هم على أبواب عامهم الجديد ، فتأملوا حال الدنيا ، أيام تمضي وسنوات تمر ، وينقضي عمر ابن آدم وينتهي وهو لاه عن حقيقة ما خلق له من عبادة الله وتوحيده ، وهو معرض عن ما ينتظره من أهوال من بعد موته إلى الجنة أو النار ، عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الْأَمَلِ  . فتأملوا ذلك واتعظوا 

عباد الله : لقد مدح الله سبحانه وتعالى , العلم وأهله وحث عباده على العلم والتزود منه ، فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة قال الإمام أحمد رحمه الله ( العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته قالوا : كيف ذلك ، قال ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره ) ، وذلك لأن الأصل في الإنسان أنه جاهل يحتاج إلى العلم ليحيا حياة طيبة قال تعالى (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)  ، فصاحب العلم حي القلب مستنير البصيرة يسير إلى ربه على نور وهدى بخلاف صاحب الجهل فإنه متخبط في ظلمات الجهل أشبه الميت وهو حي قال تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، وهذا العلم الذي حث عليه الشرع هو العلم الشرعي ، قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله " فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيهما والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك ، والاجتهاد في تمييز صحيحه من سقيمه أولا ثم الاجتهاد في الوقوف على معانيه وتفهمه ثانيا ، وفي ذلك كفاية لمن عقل " أ.هـ  
والعلم الشرعي – إخواني في الله – هو ميراث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سبيل للرفعة في الدنيا والآخرة ، وتأملوا هذا الحديث النبوي في ذكر فضائل العلم الشرعي روى الترمذي عَنْ قَيْسِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ وَهُوَ بِدِمَشْقَ فَقَالَ مَا أَقْدَمَكَ يَا أَخِي فَقَالَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : أَمَا جِئْتَ لِحَاجَةٍ . قَالَ : لَا . قَالَ : أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : مَا جِئْتُ إِلَّا فِي طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ . قَالَ : فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ 
وقال الله عز وجل في فضل أهل العلم ورفع منزلتهم في الدنيا والآخرة (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) ، وهذه الرفعة في الدنيا بسمو المنزلة وعلو الشأن بين الناس، ورفعة في درجات الجنة . 

إخوة الإسلام: إن ديننا يشجع المسلم على كسب العلوم والمعارف الدنيوية التي تزود الأفراد والمجتمع بكل صالح ونافع يحقق عمار الأرض ومصالح العباد وفق ما أراد الله جلّ وعلا قال سبحانه (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) لكن لا بد أن تبنى هذه العلوم الدنيوية على العقيدة الصحيحة وعلى الأسس التربوية الشرعية السليمة وعلى الأخلاق الفاضلة، أمّا إذا تجرَّد التعليمُ وأهدافه من الإيمان فأضحَتِ الوسائل والمقاصِد مادّيةً بحتة فهو الوبالُ والشقاء ، وهذه حضارةُ اليوم شاهِدٌ حيّ على هذا النتاج، فشقِيت أمَمٌ بصِناعاتها واختِراعاتها، وأصبح التّسابُقُ في وسائِلِ الدمار لا في العَمَار والاستقرار، وأضحَى الظلمُ والطغيان وسرقةُ الأوطانِ هو شعار أقوَى الدّوَل وأظهرِها في الحضارة المادية ، فما الرّبح في كثرةِ المتعلِّمين إذا غُيِّبتِ المبادئ والحقائِق وصودِرَ الدين وشُغِل العامّة بالشّهوات واللّهَثِ وراءَ المادّة في غفلةٍ عن الآخرة؟! قال تعالى (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) 

أيها المسلمون : إن التربية والتعليم منظومة متكاملة وسلسلة متصلة لا ينفك بعضها عن بعض ، ومع بداية العام الدراسي الجديد يتحمل الجميع مسؤوليات كثيرة ، والواجب علينا جميعا أن نقوم بهذه المسؤولية على أكمل وجه  

أيها الطلاب والطالبات ، إن عليكم واجبات فقوموا بها على الوجه الصحيح ، استحضروا النية الصالحة عند ذهابكم إلى المدرسة بطلبكم العلم النافع فتنفعوا أنفسكم ودينكم ووطنكم، ثم احرصوا على الاجتهاد في الدراسة ومتابعتها والحرص عليها ، فدولتنا بفضل من الله ثم بتوجيهات من حكامنا أطال الله أعمارهم وأمدهم بالصحة والعافية وعلى رأسهم رئيس الدولة قد أولوا اهتماما بالغا بالتعليم فوفروا لك أيها المتعلم كل وسائل التعلم ، وكل ذلك من أجل خدمتكم يا معاشر المتعلمين ، فهذه نعمة لا بد أن تقابل بالشكر للمنعم وهو الله عز وجل ثم لهذه الدولة ، وشكرها يكون بالاجتهاد والمثابرة على طلب العلم وتحصيله، وهذا الاجتهاد يحتاج إلى صبر فالعلم لا يرام براحة الجسد .

كما أوصيكم إخواني الطلاب والطالبات باحترام المعلمين جميعا ، وبذل الوسع في الاستفادة من علومهم وأخلاقهم الحسنة ، فالمعلم هو أساس التعلم ، فإن أحببت معلمك وأحبك بذل لك كل ما في وسعه لتعليمك ، وإن احتقرته وتطاولت عليه فاتك علم كثير ،وهذا مثال من واقع الصحابة ، ابنُ عباس ابنُ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعه نسبه وعلو منزلته حين يبلغه الحديث عن رجل أن يأتي بابه وهو قائلٌ نائم، فيقول رضي الله عنهما: فأتوسّد ردائي على بابه، تسْفِي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟! هلاّ أرسلت إليّ فآتيك؟! فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، قال: فأسأله عن الحديث. هذا هو الأدب حقًا.

كما أن سعة الصدر والتواضع من سمات طلبة العلم، فقد قال أحد العلماء: لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر. وأدبك في مدرستك انعكاس لتربية والديك لك، فإن أحسن والدك تربيتك فسيظهر ذلك في حسن تعاملك وخلقك في مدرستك، وإن أسأت فهو عنوان فساد تربية والديك لك في المنزل.                        وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه. 


الخطبة الثانية : أيها المعلم والمعلمة : اتقوا الله عز وجل في الرعية التي استرعاكم الله إياها قال صلى الله عليه وسلم" مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ، فاخلصوا في عملكم وابذلوا جهدكم في تعليم أبنائِكم وإخوانِكم من المتعلمين ولا تقصروا أبدا  ، وكونوا أمامهم قدوة حسنة ، وعلموهم كل ما ينفعهم ، واعلموا أنكم تعملون بوظيفة الأنبياء جميعا وهي التعليم ولكم الأجر العظيم قال النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  (مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ  ) وقال عليه الصلام والسلام في خطاب للمعلمين: سَيَأْتِيكُمْ أَقْوَامٌ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَقُولُوا لَهُمْ مَرْحَبًا مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاقْنُوهُمْ – أي علموهم- " رواه ابن ماجة بإسناد حسن

أيها الأب والأم ، إنَّ مهمّةَ تربيةِ الأولاد مهمّةٌ عظيمة، خصوصًا في هذا الزّمنِ الذي تَلاطمَت فيه أمواجُ الفتن واشتدَّت غربةُ الدين وكثُرت فيه دواعي الفساد، حتى صار المربِّي مع أولاده كراعِي الغَنَم في أرضِ السّباع الضارية إن غفَل عنها أكلَتها الذئاب.
 فليس دوركم هو توفير الحاجيات المدرسية والنفقات اليومية فقط بل هذا واجب عليكم تجاه أبنائكم ، ولكنك أيها الأب عليك واجب عظيم وهو تحمل المسؤولية الكبرى في تعليم ولدك وتربيته ومتابعته، فالوالد هو المخاطَب بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) وهذه الآية أصل في تعليم الأهل والذرية، وليست التربية والتعليم مقتصرة على المدارس والمعلمين بل هي عمل مشترك بين الوالدين وبين المدارس   ، فراقبوا أولادكم ولاحظوا دروسهم ،لا تسمحوا لهم بالسهر الطويل في اللعب واللهو والجلوس على الفضائيات التي أفسدت التربية والتعليم في كل بقاع الأرض ، راقبوا استعمالهم للانترنت فإن سلاح ذو حدين، وقد سهل استعماله في زماننا وانتشر حتى صار في الهواتف النقالة مع كل شخص، مما سهل الانفتاح على العالم الخارجي بمفاسده ومنافعه.  

لاحظ على ولدك أو ابنتك من يصاحبون فأصحاب السوء مرض عضال فتاك لا علاج له إلا ببتره وقطعه وكما قيل (الصاحب ساحب ) و على الوالدين أن يخصصوا لأولادهم جزءا من أوقاتهم للإشراف على مذاكرتهم وتعليمهم ، وعليهم أن يسألوا عنهم في مدارسهم وعن أحوالهم الدراسية ، فالبيت جزء من التعليم لا ينفك عنه ، وأذكّركم قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله سائل كل رجل عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيّعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) .