الخميس، 25 أبريل 2013

خطبة جمعة : أحكام وآداب من سورة الحجرات

 الخطبة الأولى : أيها المسلمون يقول ربنا عز وجل في محكم التنزيل: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)   فمن عظيم مقاصد إنزال القرآن تدبر آياته ومعانيه، وقد حث الله سبحانه على هذه العبادة ورغبهم فيها فقال :( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) ، فبتدبر كلام الله يتعرف العبد على ربه ومولاه، فيزيد إيمانه، وتقوى علاقته بربه، قال بن القيم: فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر... فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها " . 
ومن سور القرآن العظيمة التي يحتاج المسلم إلى معرفة معانيها سورة الحجرات، هذه السورة حوت جملة من الأحكام والآداب التي لا يستغني عنها مؤمن، خصوصا أن كثيرا من هذه الأحكام والآداب قد بدأها الله عز وجل بلفظ الإيمان فقال : يا أيها الذين آمنوا " وفي هذا يقول الصحابي المفسر الجليل عبد الله بن مسعود: إذا سمعت في القرآن يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك، فإما خير تؤمر به وإما شر تنهى عنه " 
أيها المؤمنون: من أول تلكم الأحكام والآداب وهو أساسها الذي تنبي عليه قوله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم)  ، فينهى الله المؤمنين عن التقدم بين يدي الله ورسوله، وذلك يقتضي تقديم حكمهما في كل أمر وشأن، فالمؤمن الصادق في إيمانه مستسلم لحكم ربه، يقدمه ويعمل به ويأمر به غيره ويصبر على تطبيقه، وإن خالف هواه ومصلحته، قال تعالى في وصف المؤمنين (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) ، وقال سبحانه(إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51) ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون) ، قال المفسر السعدي رحمه الله: فإن هذا، حقيقة الأدب الواجب، مع الله ورسوله، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته تفوته السعادة الأبدية، والنعيم السرمدي، وفي هذا النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم على قوله، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب اتباعها، وتقديمها على غيرها، كائنا ما كان" 
   قال علامة الشام الأوزاعي المتوفى عام (175هـ) موصيا وناصحا: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم، ولا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم القول إلا بالعلم، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بالنية موافقة للسنة "  
فكيف بمن يرد قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم أو يفسرهما حسب ما يقتضيه هواه ومصلحته، وخصوصا في زمن الفتن واختلاط الأمور، فإن الواجب في هذه الحال الرد إلى الله ورسوله وإلى أولي العلم خاصة لأنهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا)
 عباد الله : ومن جملة الآداب والأحكام التي وردت في سورة الحجرات قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) ، فيوجه الله عباده المؤمنين إلى التثبت من الخبر إذا جاء من قِبَلِ من لا يُعرف بالصدق، قَبلَ بناءِ الحكم عليه، حتى لا يندم المؤمنون ويقعون في الإثم نتيجة التسرع في الحكم، وربما أدى عدم التثبت إلى تلف الأنفس والأموال بغير حق. 
كما تدل الآية على عدم جواز نقل الأخبار قبل التثبت من صحتها، قال صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذباً أن يُحَدِّثَ بكل ما سمع "  ، وفي زماننا تيسرت وسائل الاتصال الحديثة كالبلاك بيري والهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعية التي تنقل الخبر والحدث عبر العالم في لحظات سريعة، فيتلقفها من لا فقه عندهم ثم يبادرون بنشرها دون تثبت من صحتها، مما يؤدي إلى انتشار الإشاعات، التي تأثر على المجتمع وعلى أمنه وسلامته، خصوصا إذا كانت هذه الإشاعات مما يتعلق بالدولة داخليا أو خارجيا.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة من يكذب الكذبة فتنتشر في الآفاق قال صلى الله عليه وسلم وسلم في الرؤيا التي رآها : فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ، بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمِنْخَرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ ، قَالَ: ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولى، قَالَ: قُلْتُ سُبْحَانَ اللهِ مَا هذَانِ ؟ قال الملك : فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ  " رواه البخاري ومسلم
وفي هذه الآية أدب للمثقفين وكتاب الصحف وغيرهم ، بأن لا يبنوا أحكامهم ونقدهم على ما يتلقفوه من وسائل الإعلام دون تثبت وتمحيص، فكم سمعنا عن أحكام صدرت منم في قضايا تمس صلب الدين وتمس أمن البلاد، جانبوا فيها الصواب، وخالفوا الشرع والكتاب، لأنهم أسسوها على أخبار منقولة من وسائل الإعلام الغربية أو المحلية دون تثبت، و ذلك لأجل أن يحقق سبقا إعلاميا، وشهرة على حساب دينه ووطنه. 


الخطبة الثانية : أيها المسلمون : ومن الأحكام والآداب في سورة الحجرات قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون)  فبعد أن قرر الله سبحانه وتعالى مبدأ الأخوة الإيمانية بين المؤمنين بقوله قبل هذه الآية :( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون)  ذكر الأمور التي تتنافى مع هذه الرابطة التي تجمع العباد مع بعضهم وهي رابطة الإيمان، ومن ذلك النهي عن السخرية من المؤمن واحتقاره وانتقاص شأنه كائنا من كان ، ويؤكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره التقوى هاهنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرات «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه» ، ويدخل في هذا النهي النكت التي يطلقها بعض الناس ليضحك أصحابه، فيسخر من أهل البلد الفلاني، ومن القبيلة الفلانية، فهذا منهي عنه ومتوعد فاعله، قال صلى الله عليه وسلم: ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك به القوم، ويل له ويل له  " 
كما ينهى الله المؤمن أن يلقب أخاه بما لا يحب ولا يرضى من الألقاب التي تسوؤه ولا تسره، أما الألقاب غير المذمومة فلا تدخل في هذا الحكم.
عباد الله: ومن الأحكام والآداب التي وردت في السورة قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) ، فمما ينافي الأخوة الإيمانية ظن السوء بالمؤمن والتجسس  عليه بتتبع عوراته والبحث عن عيوبه، وهذا الفعل متوعد صاحبه بالعقاب قال صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِى بَيْتِهِ " .
ثم نهى الله عن الغيبة، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ذكرك أخاك بما يكره" ، وقد شبه الله المغتاب في الآية بمن يأكل لحم من تكلم فيه ميتا. 
والغيبة ذنب عظيم يحصد الحسنات يوم القيامة حصدا، فيذر صاحبه مفلسا، فيورده النار، ولكن الكثير من الناس لا يهتمون لذلك، بل فاكهة المجالس الغيبة، بل قد تخرج الغيبة في قالب طيب وكلام جميل، ولكنه يقصد من ورائه انتقاص هذا المغتاب . 
أيها المؤمنون: هذه السورة اشتملت على أحكام مهمة في بيان حقيقة الإيمان بالله تعالى، وأن الإيمان بالله أكبر نعمة يمنها الله على العبد، فيجب عليه أن يشكر ربه عليها وأن يؤدي حقها. 
أحكام وآداب كثيرة لا يتسع المقام لذكرها  وبيانها، فاقرؤوا كتاب ربكم وتتدبروا معانيه، واعملوا بأحكامه تفلحوا في الدارين .  


الخميس، 11 أبريل 2013

خطبة جمعة : الجنة ونعيمها

الخطبة الأولى :جماعة المسلمين: يقول ربنا سبحانه وتعالى في محكم التنزيل (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) ، فيدعو الربُ الجليلُ عبادَه المؤمنين إلى دار الخلود والقرار، إلى دار السلام التي سلمت من جميع الآفات والنقائص، وذلك لكمالِ نعيمِها وتمامهِ وحسنهِ من كل وجه، إنها الجنةُ التي أعدها الله لعباده المؤمنين ،قال صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . واقرؤوا إن شئتم : (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) 
فما هي الجنة وما صفتها ؟  ذكر الله-جل وعلا- في كتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم  في سنته خبر الجنة وصفتها، فالجنة خلقها الله وجعلها نزلا لمن أطاعه واتقاه ، قال تعالى (وإن للمتقين لحسن مآب (49) جنات عدن مفتحة لهم الأبواب (50) متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب (51) وعندهم قاصرات الطرف أتراب (52) هذا ما توعدون ليوم الحساب (53) إن هذا لرزقنا ما له من نفاد) دارٌ أبديةٌ لا تفنى ولا تبيد، وعد الله أهلها بالخلود فقال.( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا  (107) خالدين فيها لا يبغون عنها حولا) 
يدخلها المؤمنون بعدما يجتازون الصراط على متن جهنم ، قال صلى الله عليه وسلم :" يُوضَعُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ ، عَلَيْهِ حَسَكٌ كَحَسَكِ السَّعْدَانِ ، ثُمَّ يَسْتَجِيزُ النَّاسُ ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ ، وَمَخْدُوشٌ بِهِ ثُمَّ نَاجٍ ، وَمُحْتَبِسٌ وَمَنْكُوسٌ فِيهَا " أي في النار
ثم يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتَصُ بينهم؛ ليذهب الغِلّ والحقد الذي في قلوبهم، ، كما قال تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين)
ثم يأتي أهلُ الجنةِ الجنة، وأولهم دخولاً لها نبُينا صلى الله عليه وسلم يأتي فيقرعُ باب الجنة فيستفتحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ : مَنْ أَنْتَ ؟ فيقول : مُحَمَّدٌ ، فَيَقُولُ : بِكَ أُمِرْتُ لا أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ . ثم تدخل بعده أمتُه، فهي آخرُ الأممِ في الدنيا وأولُهم دخولاً الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: ((نحن الآخِرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة)) رواه مسلم.
وللجنة ـ عباد الله ـ ثمانيةُ أبواب، ما بين مصراعي الباب مسيرة أربعين سنة وليأتينَّ عليهِ يومٌ وهو شديدُ الزحام ، كلُ بابٍ منها مخصصٌ لصنفٍ من المؤمنين يُدْعون للدخول منه. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصِّيَامِ بَابِ الرَّيَّانِ ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ . هَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ؟ فَقَالَ :« نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ يَا أَبَا بَكْرٍ ». 
وأولُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً؛ لاَ يَبُولُونَ، وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ، وَلاَ يَتْفِلُونَ، وَلاَ يَمْتَخِطُونَ أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، ثم هم بعد ذلك منازل ودرجات، 
قال صلى الله عليه وسلم : إنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِهِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ اللَّهِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ  . يدخلها المؤمنون جرْدًا بِيضًا جُعد الشعر مُكَحَّلِينَ أَبْنَاءَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى خَلْقِ آدَمَ ستون ذِرَاعًا في السماء. 
وأما نعيم الجنة (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)  ، يخبرنا الصادق المصدوق عن أدنى أهل الجنة منزلة ونعيما،  فقال صلى الله عليه وسلم : سألَ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - رَبَّهُ : ما أدْنَى أهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً ؟ قال : هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ ، فَيُقَالُ لَهُ : ادْخُلِ الجَنَّةَ . فَيَقُولُ : أيْ رَبِّ ، كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ ، وأخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ ؟ فَيُقَالُ لَهُ : أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا ؟ فَيقُولُ : رَضِيْتُ رَبِّ ، فَيقُولُ : لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَيقُولُ في الخامِسَةِ . رَضِيْتُ رَبِّ، فَيقُولُ : هذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ . فَيقُولُ : رَضِيتُ رَبِّ . قَالَ : رَبِّ فَأَعْلاَهُمْ مَنْزِلَةً ؟ قالَ : أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ ؛ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي ، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"
وأما بناءُ الجنة ، فلَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلَا يَبْأَسُ وَيَخْلُدُ وَلَا يَمُوتُ لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ، فيها نهر الكوثر حافتاه من ذهب وتربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج،  قال تعالى في وصف أنهار الجنة (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم)  ،  ليس لها أخدود في الأرض بل إنها لسائحة على وجه الأرض إحدى حافيتها اللؤلؤ والأخرى الياقوت ، طينها المسك الأذفر أي الخالص . 
وأما شجرها ففي الجنة أنواع من أشجار الفواكه مختلفة كما قال تعالى (فيهما من كل فاكهة زوجان) ،  فيها شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها ، ساقها من ذهب ، يأكل أهل الجنة من ثمارها قياما وقعودا ومضطجعين ، وأما نخلها فعن ابنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : نَخْلُ الْجَنَّةِ جُذُوعُهَا زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ ، وَكَرَبُهَا ذَهَبٌ أَحْمَرُ ، وَسَعَفُهَا كِسْوَةٌ لأَهْلِ الْجَنَّةِ ، مِنْهَا مُقَطَّعَاتُهُمْ وَحُلَلُهُمْ ، وَثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلالِ أَوِ الدِّلاءِ ، أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ لَيْسَ لَهُ عَجْمٌ " أي نوى.
لمثل هذا فليعمل العاملون، فالجنة – يا عباد الله- أقرب إلى أحدنا من شراك نعله والنار مثل ذلك، فلا تؤثروا الحظ الفاني في الدنيا، على الحظ الباقي النفيس في الآخرة، لا  تبيعوا جنة عرضها السموات والأرض، بسجن في الدنيا.
والعمل قليل والوعد من الله عظيم . (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)



الخطبة الثانية : وأما نساء الجنة ، والحور العين فهن أزواج مطهرات من كل أذى وقذر، أنشأهن الله إنشاءً فجعلهن أبكارًا، كلما جامعها زوجها عادت  بكرًا، وجعلهن عُرُبًا أترابًا، والعَرُوب هي المرأة المتودّدة إلى زوجها، أترابًا على سِن واحد ، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينها ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها ـ أي خمارها ـ على رأسها خير من الدنيا وما فيها ، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا يكونون (هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكؤون (56) لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون (57) سلام قولا من رب رحيم) 
وأما عن طعام وشراب أهل الجنة فكما قال تعالى (يطوف عليهم ولدان مخلدون (17) بأكواب وأباريق وكأس من معين (18) لا يصدعون عنها ولا ينزفون (19) وفاكهة مما يتخيرون (20) ولحم طير مما يشتهون) قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن أحدكم –في الجنة- ليعطى قوة مئة رجل في الأكل والشرب والجماع" 
وأما خيام أهل الجنة فقال صلى الله عليه وسلم : إنَّ لِلمُؤْمِنِ فِي الجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُها في السَّمَاءِ سِتُّونَ مِيلاً . لِلمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُ فَلاَ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضاً " وعن ابن عباس – رضي الله عنه- قَالَ : الْخَيْمَةُ لُؤْلُؤْة مُجَوَّفَةٌ ، فَرْسَخٌ فِي فَرْسَخٍ ، لَهَا أَرْبَعَةُ آلاَفِ مِصْرَاعٍ مِنْ ذَهَبٍ.
وأما أعظم النعيم فهو رؤية المؤمنين لربهم الكريم في الجنة قال تعالى (وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة) عن صهيب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  :إِذَا دَخَلَ أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة يَقُول اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : أَلَمْ تُبَيِّض وُجُوهنَا ؟ أَلَمْ تُدْخِلنَا الْجَنَّة وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّار ؟ قَالَ : فَيَكْشِف الْحِجَاب , فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَر إِلَى رَبّهمْ عَزَّ وَجَلَّ . ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)
جماعة المسلمين : هذا وصف قليل من كثير ، وإلا فوصف الجنة أعظم من هذا ، ولكن السؤال الذي ينبغي أن نسأله أنفسنا ، كيف السبيل إلى هذه الجنة ؟ 
فالجواب قال تعالى (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) ، والتقوى تكون بفعل الطاعات والاجتهاد فيها ، واجتناب المعاصي والابتعاد عنها . 
قال تعالى (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (73) وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين)