الخميس، 26 سبتمبر 2013

خطبة : فضل قراءة وتعلم القرآن

الخطبة الأولى : أيهَا المؤمنونَ: قال تعالى في محكم التنزيل: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ "  إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أنزلَهُ علَى قلبِ نبِيِّهِ محمدٍ خاتمِ النبيينَ، قالَ عزَّ وجلَّ:( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)  هذا الكتابُ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، وفُصِّلَتْ كلماتُهُ، وحُفِظَتْ مِنْ عَبَثِ العابثينَ، وتحريفِ الْمُحَرِّفينَ، قالَ تعالَى:( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ* لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)
سَمَّاهُ اللهُ تعالَى بأسماءٍ كريمةٍ، ووصفَهُ بصفاتٍ حكيمةٍ، فهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وهوَ الشفاءُ النافِعُ، والدواءُ الناجِعُ، عِصْمةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بهِ، ونجاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ، وهدايةٌ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ:( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ولذلك أوصانا الله بالتمسك به وحثنا النبي صلى الله عليه وسلم على لزومه، قال تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا" وروى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال: قال صلى الله عليه وسلم: أَلاَ وَإِنِّى تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَحَدُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلاَلَةٍ "

ويستلزِمُ التمسكُ بالقرآنِ الكريمِ العنايةَ بحفظِهِ وتلاوتِهِ، والمواظبةَ علَى قراءتِهِ وتدبُّرِهِ، والحرصَ علَى العملِ بأحكامِهِ ومبادئِهِ، والتخَلُّقَ بأخلاقِهِ وقِيَمِهِ، والقيامَ بتَعَلُّمِهِ وتعليمِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِصلى الله عليه وسلم:«خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»

عبادَ اللهِ: إنَّ للتمسكِ بالقرآنِ الكريمِ ثمراتٍ شتَّى، وفوائدَ عُظْمَى، تعودُ علَى الإنسانِ بِخَيْرَيِ الدنيَا والآخرةِ، فقارئُ القرآنِ الكريمِ قد أثنى الله عليه ووعده بالأجر العظيم قال تعالى : :"إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ" ، ومن عظيم بركة القرآن مضاعفة الحسنات لقارئه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:( مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ)  فكم من الحسنات ضيعت يا عباد الله بالإعراض عن تلاوة القرآن وتدبره . 

وبالقرآنِ وحفظه يرتقِي المؤمنُ يومَ القيامةِ درجاتِ الجنانِ قَالَ صلى الله عليه وسلم:( يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا) قال بعض شراح الحديث:وصاحبُ القرآنِ هُوَ مَنْ يُلَازِمُهُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْعَمَلِ.

وفي ذلكم اليوم العظيم الذي تقترب فيه الشمس من الرؤوس ويلجم العرق الناس، يأتي القرآن شفعيا لأصحابه، فعن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ " أي السحرة . رواه مسلم.  
  
بل إن في تعلم القرآن أجر وفضيلة تعلو وتزيد على أنفس الأموال وأغلاها ثمنا في الدنيا، فروى مسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ :خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ – والناقة الكوماء هي العظيمة السنام وهي من أفضل أنواع النوق عند العرب- فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُحِبُّ ذَلِكَ قَالَ أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الْإِبِلِ" 

فإذا خرجت أخي المسلم إلى المسجد لتتعلم كتاب ربك وتقرؤه فأبشر بهذه البشارة العظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حِجَّتُهُ» فإذا جلست في حلقات القرآن فأنت في خير عظيم وفضل عميم قال صلى الله عليه وسلم: مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ " 

فاللهُمَّ اجْعَلِ الْقُرْآنَ العظيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ أبصارِنَا، وَجِلاَءَ همومِنَا، وَذَهَابَ أحزانِنَا، وارزُقْنَا تلاوتَهُ، ووفِّقْنَا للعملِ بهِ والتخلُّقِ بأخلاقِهِ 



الخطبة الثانية : أيهَا المسلمونَ: مِنْ ثمراتِ التمسُّكِ بالقرآنِ استقامةُ الإنسانِ علَى طاعةِ الرحمنِ، فيتلُو القرآنَ الكريمَ حقَّ تلاوتِهِ، ويتَّبِعُهُ حقَّ اتِّبَاعِهِ، فيعملُ بآياتِهِ، ويقِفُ عنْدَ حُدودِهِ، ويُحِلُّ حلالَهُ، ويُحَرِّمُ حرامَهُ، ويتخلَّقُ بأخلاقِ القرآنِ، فقَدْ سُئِلَتِ أم المؤمنين عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِصلى الله عليه وسلمفَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ " . 
والتمسُّكُ بالقرآنِ الكريمِ سببٌ لسعادةِ الأُسر والبيوت واستقرارِهَا، والبركةِ فِي حياتِهَا، وكَثْرَةِ خيراتِهَا، وكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ في الْبَيْتُ إذَا تُلِيَ فِيهِ كِتَابُ اللهِ اتَّسَعَ بِأَهْلِهِ، وَكَثُرَ خَيْرُهُ، وَحَضَرَتْهُ الْمَلائِكَةُ، وَخَرَجَتْ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ، وَالْبَيْتُ إذا لَمْ يُتْلَ فِيهِ كِتَابُ اللهِ ضَاقَ بِأَهْلِهِ، وَقَلَّ خَيْرُهُ، وَحَضَرَتْهُ الشَّيَاطِينُ 

ومِنْ ثمراتِ التمسُّكِ بالقرآنِ شفاءُ الإنسانِ، قالَ عزَّ وجلَّ:( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ففيه الشفاء من أمراض الشبهات والشهوات، والأوجاع والأسقام وما يصيب القلوب من هموم وغموم وأحزان . 

جماعة المسلمين: لقد انشغل الكثير منا بأمور الدنيا وتغافلنا عن كتاب ربنا سبحانه وتعالى، وفي ذلك علامة على مرض القلوب قال ابن القيم: فالقلب الطاهر، لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث، لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذى لم يطهره الله تعالى، فإنه يتغذى من الأغذية التى تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة. فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التى تلائم الصحيح " 

فبعض الناس لا يقرأ القرآن إلا يوم الجمعة إذا حضر قبل الإمام، وبعضهم يقرؤه في رمضان، وبعضهم إذا وجد فسحة من وقته وملل، فأعطينا القرآن ما زاد من أوقاتنا وفضُل، واستبدلت تلاوة القرآن بقراءة الصحف والمجلات بل قد يمضي العبد أكثر من ساعة وهو يتصفح جريدة أو يطالع مجلة وإذا ما أراد قراءة القرآن فتكفيه دقائق، وهذا خلاف فعل السلف رحمهم الله الذين عرفوا قدر كتاب ربهم، فعن أبي الزناد رحمه الله قال: كنت أخرج من السحر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أمر ببيت إلا وفيه قارئ " وقيل لأخت مالك بن دينار رحمه الله: ما كان شغل  مالك في بيته ؟ قالت المصحف والتلاوة " وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن هذه القلوب أوعية فأشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره " 

فاعمروا قلوبكم وبيوتكم بتلاوة كتاب ربكم، واحفظوه وحفظوه أولادكم،  فمَنْ علَّمَ أبناءَهُ القرآنَ أُلْبِسَ تاجاً مِنْ نُورٍ عنْدَ الرحمنِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:( مَن قَرَأَ الْقُرآنَ وَتَعَلَّمَهُ، وَعَمِلَ بِهِ أُلْبِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَاجَاً مِنْ نُورٍ، ضَوْؤُهُ مِثْلُ ضَوْءِ الشَّمْسِ، وَيُكْسَى وَاْلِدَيْهِ حُلَّتَانِ لاَ تُقَوَّمُ بِهِمَا الدُّنْيَا، فَيَقُولاَنِ: بِمَ كُسِينَا؟ فَيُقَاْلُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرآنَ)

الخميس، 12 سبتمبر 2013

حل المشكلات الزوجية والطلاق

الخطبة الأولى : يقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "  
ينوِّه الله جلّ وعلا إلى نعمةٍ عظيمة امتنَّ بها على عباده، ألا وهي العلاقة بين الزّوجين التي يحصُل بها السّكون والطمأنينة في هذه الحياة، فيجِب على العبدِ أن يرعاها حقَّ رعايتها، ولا يتسبَّب في زوالها وفِصامها بعدَ توكيد عُراها. 

ولقد بين الإسلام حقوقَ كلٍ من الزوجين أتمَ بيان ، وأوصى كلاً منهم بالآخر ، لأن من الأهدافِ المرعية في الشريعة الإسلامية في ما يخصُ جانبَ الأسرةِ هو استمرارها ودوامُها فقال تعالى: " وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"  فإذا عرف الزوج الحقوقَ والواجباتِ التي عليه تجاه زوجته وقام بها ، وعرفت الزوجةُ الحقوقَ والواجبات تجاهَ زوجها وبيتها وأدتها على حسب استطاعتها ، دام الزواج واستمر وكانت نتيجته بيتا مسلما وذرية طيبة تخدم الدين والوطن .  

وإذا ما تنكر أحد الزوجين للآخر فأهمل في واجباته وحقوقه حصل الخصام والشقاق حتى يصل الأمر إلى الفراق والطلاق ، وهذا الذي يفرح به الشيطان ويسعى له، فعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ "  

أيها المسلم : إن حصول المخاصمات والمشاحنات بين الزوجين أمر واقعٌ لا محالة ، لاختلاف الطباع والأمزجة ، ولكن شريعتنا السمحة وضعت من الحلول ما يكفل إصلاح الخلل تجنبا للفراق فقال تعالى:" وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا" فأمر الله تعالى إذا ما عصت المرأة وخالفت طاعة زوجها أن يعظها ويذكرها بالله فالذكرى تنفع المؤمنين ، فإذا ما استجابت هجرها بأن لا يكلمها ولا يضاجعها في نوم ولا غيره ، فإن لم تستجب شرع للزوج ضرب الزوجة ضربا غير شديد وإنما القصد منه التأديب والزجر لا الإيلام والإعاقة . 

فإن لم يحصل بذلك صلح ووفاق قال تعالى: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا" فيختار كل من الزوجين رجلا عدلا عاقلا من أهل العلم والديانة لينظرا في حالهما فيقربا وجهات النظر ويسعيا إلى لم الشمل ورأب الصدع ، فإن وصلت الحال إلى أنه لا يمكن اجتماع الزوجين وإصلاحهما إلا على وجه المعادات والقطيعة فلهما التفريق بينهما .

جماعة المسلمين أيها الأزواج قال : " وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا" وقال نبينا صلى الله عليه وسلم " لا يفرُك مؤمن مؤمنة – أي لا يبغض زوج زوجته - إن كره منها خلقا رضي منها آخر "  
فهذا توجيه من الله ورسوله للمسلمين أن يحسنوا لزوجاتهم بالمعروف، فإذا رأى الزوج من زوجته خطأ أو تقصيرا فلا يكون ذلك سببا للعداوة والخصام بل عليه أن يلحَظَ ما في زوجتِه من الأخلاقِ الحميدة والحسنات التي لا تحصل إلا بوجودها، وأن يجعلها في مقابَلة ما كرِه من أخلاقها، وليعلَم الرجل أنّ الكمالَ متعذِّر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرشد الأزواج ويوصيهم بالنساء خيرا فقال : اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَىْءٍ فِى الضِّلَعِ أَعْلاَهُ ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ"  وفي رواية لمسلم قال صلى الله عليه وسلم "إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلاَقُهَا " قال أهل العلم في الحديث دليل على أنه لا يمكن للرجل الاستمتاع بالمرأة إلا بالصبر عليها .  

أيتها الزوجة : اعلمي أن حق الزوج عليك عظيم جدا قال صلى الله عليه وسلم: " لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا" فاعرفي لزوجك عليك حقه، واسعي إلى إرضائه وطاعته ما استطعت إلى ذلك سبيلا، روى الإمام أحمد في المسند عَنِ الْحُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ، أَنَّ عَمَّةً لَهُ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ، فَفَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: " كَيْفَ أَنْتِ لَهُ؟ " قَالَتْ: مَا آلُوهُ إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ، قَالَ: " فَانْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ " 

فلا تتعاملي مع زوجك تعامل الند مع نده، بل وإن أخطأ في حقك فاسعي إلى مراضاته وتطييب خاطره فإن ذلك من صفات نساء أهل الجنة قال صلى الله عليه وسلم: " نساؤكم من أهل الجنة الودود العؤود على زوجها التي إذا غضبت جاءت حتى تضع يدها في يده ثم تقول : لا أذوق غمضا حتى ترضى " 

وليكن مبدأ الصلح هو شعارك دائما في خصومتك مع زوجك قال تعالى : " وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا " 
إخواني في الله : إن في التزام الزوجين للوصايا الشرعية في طريقة التعامل بينهما خير معين لهما على استمرار حياتهما الزوجية، وشكر الله عليها . 


الخطبة الثانية : عباد الله لقد أباح الإسلام الطلاق ولكن جعله آخر الحلول بين الزوجين ، فإذا تكدرت الحياة الزوجية واستحال الاستمرار فيها وخيف من معصية الله ورسوله شُرع للرجل أن يطلق زوجته وشرع للمرأة أن تطلب الخلعَ من زوجها أو أن ترفع أمرها للقاضي ليفرق بينهما .

ولكن ليس للمرأة أن تطلب الطلاق لغير سبب أو عذر شرعي قال صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة "  

 وعلى الرجل أن يحكم عقله في أمر بيته وأسرته ، فلا يجعل كلمة الطلاق وسيلة للتهديد والوعيد ، أو يمينا يحلف به متى ما احتاج إلى ذلك وربما لأتفه الأسباب ، أو أن يتكلم بالطلاق هازلا فإن ذلك من الحمق والسفه ، وعقوبة له أوقع الإسلام طلاق الهازل ولو لم يرده .

إن محاكمنا الشرعية لتشتكي من كثرة قضايا الطلاق وما يتعلق بها من مسائل وأحوال ، وإنما يرجع ذلك إلى عدم الفقه السليم للطلاق وأحكامه من قبل الزوجين، فالشريعة الإسلامية بينت أحكام الطلاق ولم تجعله عبثا ،  فجعلت للرجل أن يطلق المرأة عند الحاجة طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتى تنقضي عدتها، ثم إن بدا له في تلك الفترة أن يراجعها فله ذلك بلا مهر ولا عقد جديدين، وإن انقضت عدتها قبل أن يراجعها بانت منه، ولم تحل له إلا بعقد جديد قال الله تعالى: " الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ "، والطلاق المحرم كأن يطلقها ثلاثاً بلفظ واحد أو يطلقها وهي حائض أو نفساء، أو يطلقها في طهر وطئها فيه ولم يتبين حملها. كل هذا يعد من الطلاق المنهي عنه .

يا أيها الآباء والأمهات انصحوا لبناتكم أن يحسن عشرة أزواجهن والصبر عليهم ولا يتسرعن بطلب الطلاق فهذا من تمام تربتكم لابنتكم، فهذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينصح ابنته حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها ذات مرة:)أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ قَالَتْ نَعَمْ . فقال : قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ ، أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم – فَتَهْلِكِى، لاَ تَسْتَكْثِرِى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِى شَىْءٍ ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ ، وَسَلِينِى مَا بَدَا لَكِ ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - - يُرِيدُ عَائِشَةَ  " 

أما أن يكون الأب والأم سببا لطلاق ابنتهما من زوجها لأتفه الأسباب، فهذا مما يرفضه العقل وتمجه الفطر السليمة . 

كماأنبه الرجال على وجوب تنفيذ الشروط التي اشترطت عند عقد الزواج، فالكثير منهم يوافق عند العقد ثم لا يوفي به بعد الزواج، وقد قال صلى الله عليه وسلم:( أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ ) ، وكذلك الزوجة لا يحق لها طلب الطلاق من أجل أن زوجها قد تزوج عليها، بل تتقي الله وتصبر لأن هذا من شرع الله تعالى الذي أباح التعدد للرجال بشرط العدل بين الزوجات.

فاتقوا الله جميعا في أنفسكم واجعلوا همكم طاعة ربكم والاستعداد لليوم الآخر، واهتموا بتربية أولادكم على طاعة الله ليكونوا لكم ذخرا في ميزان حسانكم يوم القيامة . 





الخميس، 5 سبتمبر 2013

خطبة: فضل العلم -بداية العام الدراسي الجديد-

الخطبة الأولى :جماعة المسلمين ؛ منذ شهور مضت ودع أبناؤنا عاما دراسيا ماضيا ، وها هي الأيام قد مضت وولت ، وإذا هم على أبواب عامهم الجديد ، فتأملوا حال الدنيا ، أيام تمضي وسنوات تمر ، وينقضي عمر ابن آدم وينتهي وهو لاه عن حقيقة ما خلق له من عبادة الله وتوحيده ، وهو معرض عن ما ينتظره من أهوال من بعد موته إلى الجنة أو النار ، عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الْأَمَلِ  . فتأملوا ذلك واتعظوا 

عباد الله : لقد مدح الله سبحانه وتعالى , العلم وأهله وحث عباده على العلم والتزود منه ، فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة قال الإمام أحمد رحمه الله ( العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته قالوا : كيف ذلك ، قال ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره ) ، وذلك لأن الأصل في الإنسان أنه جاهل يحتاج إلى العلم ليحيا حياة طيبة قال تعالى (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)  ، فصاحب العلم حي القلب مستنير البصيرة يسير إلى ربه على نور وهدى بخلاف صاحب الجهل فإنه متخبط في ظلمات الجهل أشبه الميت وهو حي قال تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، وهذا العلم الذي حث عليه الشرع هو العلم الشرعي ، قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله " فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيهما والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك ، والاجتهاد في تمييز صحيحه من سقيمه أولا ثم الاجتهاد في الوقوف على معانيه وتفهمه ثانيا ، وفي ذلك كفاية لمن عقل " أ.هـ  
والعلم الشرعي – إخواني في الله – هو ميراث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سبيل للرفعة في الدنيا والآخرة ، وتأملوا هذا الحديث النبوي في ذكر فضائل العلم الشرعي روى الترمذي عَنْ قَيْسِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ وَهُوَ بِدِمَشْقَ فَقَالَ مَا أَقْدَمَكَ يَا أَخِي فَقَالَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : أَمَا جِئْتَ لِحَاجَةٍ . قَالَ : لَا . قَالَ : أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : مَا جِئْتُ إِلَّا فِي طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ . قَالَ : فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ 
وقال الله عز وجل في فضل أهل العلم ورفع منزلتهم في الدنيا والآخرة (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) ، وهذه الرفعة في الدنيا بسمو المنزلة وعلو الشأن بين الناس، ورفعة في درجات الجنة . 

إخوة الإسلام: إن ديننا يشجع المسلم على كسب العلوم والمعارف الدنيوية التي تزود الأفراد والمجتمع بكل صالح ونافع يحقق عمار الأرض ومصالح العباد وفق ما أراد الله جلّ وعلا قال سبحانه (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) لكن لا بد أن تبنى هذه العلوم الدنيوية على العقيدة الصحيحة وعلى الأسس التربوية الشرعية السليمة وعلى الأخلاق الفاضلة، أمّا إذا تجرَّد التعليمُ وأهدافه من الإيمان فأضحَتِ الوسائل والمقاصِد مادّيةً بحتة فهو الوبالُ والشقاء ، وهذه حضارةُ اليوم شاهِدٌ حيّ على هذا النتاج، فشقِيت أمَمٌ بصِناعاتها واختِراعاتها، وأصبح التّسابُقُ في وسائِلِ الدمار لا في العَمَار والاستقرار، وأضحَى الظلمُ والطغيان وسرقةُ الأوطانِ هو شعار أقوَى الدّوَل وأظهرِها في الحضارة المادية ، فما الرّبح في كثرةِ المتعلِّمين إذا غُيِّبتِ المبادئ والحقائِق وصودِرَ الدين وشُغِل العامّة بالشّهوات واللّهَثِ وراءَ المادّة في غفلةٍ عن الآخرة؟! قال تعالى (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) 

أيها المسلمون : إن التربية والتعليم منظومة متكاملة وسلسلة متصلة لا ينفك بعضها عن بعض ، ومع بداية العام الدراسي الجديد يتحمل الجميع مسؤوليات كثيرة ، والواجب علينا جميعا أن نقوم بهذه المسؤولية على أكمل وجه  

أيها الطلاب والطالبات ، إن عليكم واجبات فقوموا بها على الوجه الصحيح ، استحضروا النية الصالحة عند ذهابكم إلى المدرسة بطلبكم العلم النافع فتنفعوا أنفسكم ودينكم ووطنكم، ثم احرصوا على الاجتهاد في الدراسة ومتابعتها والحرص عليها ، فدولتنا بفضل من الله ثم بتوجيهات من حكامنا أطال الله أعمارهم وأمدهم بالصحة والعافية وعلى رأسهم رئيس الدولة قد أولوا اهتماما بالغا بالتعليم فوفروا لك أيها المتعلم كل وسائل التعلم ، وكل ذلك من أجل خدمتكم يا معاشر المتعلمين ، فهذه نعمة لا بد أن تقابل بالشكر للمنعم وهو الله عز وجل ثم لهذه الدولة ، وشكرها يكون بالاجتهاد والمثابرة على طلب العلم وتحصيله، وهذا الاجتهاد يحتاج إلى صبر فالعلم لا يرام براحة الجسد .

كما أوصيكم إخواني الطلاب والطالبات باحترام المعلمين جميعا ، وبذل الوسع في الاستفادة من علومهم وأخلاقهم الحسنة ، فالمعلم هو أساس التعلم ، فإن أحببت معلمك وأحبك بذل لك كل ما في وسعه لتعليمك ، وإن احتقرته وتطاولت عليه فاتك علم كثير ،وهذا مثال من واقع الصحابة ، ابنُ عباس ابنُ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعه نسبه وعلو منزلته حين يبلغه الحديث عن رجل أن يأتي بابه وهو قائلٌ نائم، فيقول رضي الله عنهما: فأتوسّد ردائي على بابه، تسْفِي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟! هلاّ أرسلت إليّ فآتيك؟! فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، قال: فأسأله عن الحديث. هذا هو الأدب حقًا.

كما أن سعة الصدر والتواضع من سمات طلبة العلم، فقد قال أحد العلماء: لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر. وأدبك في مدرستك انعكاس لتربية والديك لك، فإن أحسن والدك تربيتك فسيظهر ذلك في حسن تعاملك وخلقك في مدرستك، وإن أسأت فهو عنوان فساد تربية والديك لك في المنزل.                        وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه. 


الخطبة الثانية : أيها المعلم والمعلمة : اتقوا الله عز وجل في الرعية التي استرعاكم الله إياها قال صلى الله عليه وسلم" مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ، فاخلصوا في عملكم وابذلوا جهدكم في تعليم أبنائِكم وإخوانِكم من المتعلمين ولا تقصروا أبدا  ، وكونوا أمامهم قدوة حسنة ، وعلموهم كل ما ينفعهم ، واعلموا أنكم تعملون بوظيفة الأنبياء جميعا وهي التعليم ولكم الأجر العظيم قال النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  (مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ  ) وقال عليه الصلام والسلام في خطاب للمعلمين: سَيَأْتِيكُمْ أَقْوَامٌ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَقُولُوا لَهُمْ مَرْحَبًا مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاقْنُوهُمْ – أي علموهم- " رواه ابن ماجة بإسناد حسن

أيها الأب والأم ، إنَّ مهمّةَ تربيةِ الأولاد مهمّةٌ عظيمة، خصوصًا في هذا الزّمنِ الذي تَلاطمَت فيه أمواجُ الفتن واشتدَّت غربةُ الدين وكثُرت فيه دواعي الفساد، حتى صار المربِّي مع أولاده كراعِي الغَنَم في أرضِ السّباع الضارية إن غفَل عنها أكلَتها الذئاب.
 فليس دوركم هو توفير الحاجيات المدرسية والنفقات اليومية فقط بل هذا واجب عليكم تجاه أبنائكم ، ولكنك أيها الأب عليك واجب عظيم وهو تحمل المسؤولية الكبرى في تعليم ولدك وتربيته ومتابعته، فالوالد هو المخاطَب بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) وهذه الآية أصل في تعليم الأهل والذرية، وليست التربية والتعليم مقتصرة على المدارس والمعلمين بل هي عمل مشترك بين الوالدين وبين المدارس   ، فراقبوا أولادكم ولاحظوا دروسهم ،لا تسمحوا لهم بالسهر الطويل في اللعب واللهو والجلوس على الفضائيات التي أفسدت التربية والتعليم في كل بقاع الأرض ، راقبوا استعمالهم للانترنت فإن سلاح ذو حدين، وقد سهل استعماله في زماننا وانتشر حتى صار في الهواتف النقالة مع كل شخص، مما سهل الانفتاح على العالم الخارجي بمفاسده ومنافعه.  

لاحظ على ولدك أو ابنتك من يصاحبون فأصحاب السوء مرض عضال فتاك لا علاج له إلا ببتره وقطعه وكما قيل (الصاحب ساحب ) و على الوالدين أن يخصصوا لأولادهم جزءا من أوقاتهم للإشراف على مذاكرتهم وتعليمهم ، وعليهم أن يسألوا عنهم في مدارسهم وعن أحوالهم الدراسية ، فالبيت جزء من التعليم لا ينفك عنه ، وأذكّركم قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله سائل كل رجل عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيّعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) .