الاثنين، 14 أكتوبر 2013

خطبة عيد الأضحى 1434 هـ

الخطبة الأولى: : الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. 
معاشر المسلمين: قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ ) فأعظم أيام الدنيا عند الله يوم عيد الأضحى- يوم النحر- ويوم القر، هو أول أيام التشريق حيث يقر الحجيج في منى بعد أدائهم لأعمال اليوم العاشر من الرمي والذبح والحلق والطواف والسعي.
ففي يوم النحر تجتمع عبادتان من أجلِّ العبادات وهي عبادة الصلاة وعبادة النحر، وقد جمعهما الله سبحانه في آية واحدة فقال :"فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ" فالصلاة صلاة العيد والنحر نحر الأضاحي.

والحكمة من مشروعية ذبح الأضاحي هو إقامة ذكر الله وتحقيق التقوى بامتثال الأمر قال تعالى "وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ " 

وذبح الأضاحي أفضل من التصدق بثمنها لفعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده فعَنْ أَنَسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ وَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا.أي وضع رجله على أعناقها لئلا تضطرب الأضحية. 

وأفضل الأضاحي الإبل ثم البقر ثم الغنم، وأفضلها أسمنها وأغلاها ثمنا، فعن سَهْل بْن حنيف قال : كُنَّا نُسَمِّنُ الأضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ .

ويُتقى من الأضاحي العوراء البين عورها والعمياء من باب أولى، والعرجاء البين عرجها والذي يمنعها من اللحاق بالسليمة من الماشية، ومن باب أولى التي لا تمشي، والمريضة البين مرضها ، والعجفاء الهزيلة التي لا لحم فيها. ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :لَا يَجُوزُ مِنْ الضَّحَايَا الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي" 

ويشترط في المُضحى به من بهيمة الأنعام بلوغ السن المعتبرة شرعا، فالإبل ما أتمت خمسا ودخلت في السادسة، والبقر ما أتمت سنتان ودخلت في الثالثة، والمعز وما أتمت سنة ودخلت في الثانية.

وتجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته، فعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته ، فيأكلون ويطعمون" وإذا كانت العائلة كثيرة وهي في بيت واحد فيجزئ عنهم أضحية واحدة ، وإن ضحوا بأكثر من واحدة فهو أفضل .وتجزئ الإبل والبقر عن سبعة.

والسنة أن يذبح المضحي  بنفسه، أو يوكل غيره، فإذا أراد الذبح سمى وكبر، ثم يأكل منها لأمر الله تعالى حيث قال " فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ" ، ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حيث أَمَرَ مِنْ كُلِّ جَزُورٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَأَكَلُوا مِنْ اللَّحْمِ وَحَسَوْا مِنْ الْمَرَقِ. ثم يهدي لأرحامه وجيرانه ويتصدق على الفقراء والمحتاجين.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد

جماعة المسلمين : إن القلب ليعتصر ألما وحزنا على ما يراه من أحداث أليمة في عالمنا الإسلامي، من سفك للدماء البريئة، وتشريد للضعفاء، وتخريب للديار والبلدان، وإفساد لجميع مكتسبات ومقدرات العالم الإسلامي، فازداد المسلمون ضعفا إلى ضعفهم وفقرا إلى فقرهم وتمكن منهم عدوهم ولم يحققوا الأهداف التي سعوا إليها وتنادوا بها.

ولعل أكبر الأسباب  المؤدية إلى هذه النتيجة هو الإعراض عن شرع الله تعالى حكما وتحكيما ، بين الأفراد والجماعات والدول، بل نجح الغرب وجهال المسلمين من أنصاف المثقفين والعلمانيين وأرباب الأحزاب المنتسبة للإسلام زعما في تصوير الشريعة بأنها رمز للإرهاب، وسبب لسفك الدماء وتفريق الصفوف وكبت الحريات، وصوروا النجاة في ديمقراطيات فاسدة تجعل من حكم الشعب أساسا ودستورا. 

ونبينا صلى الله عليه وسلم حذر ورهب وخوف من عاقبة ومآل تلكم الحال فقال صلى الله عليه وسلم:يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: وذكر منها :"وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ " 

وربنا سبحانه وتعالى أمرنا في كتابه بلزوم حكمه وهديه وشرعه وعدم اتباع الهوى فقال عز من قائل : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" 

لقد تركنا النبي صلى الله عليه وسلم وقد بين لنا الفتن وأسبابها وطرق الوقاية منها، وعلاجها إذا ما وقعت، ومن ذلك ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ .وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِكُلِّ فِتْنَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ السَّاعَةِ وَمَا بِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَرَّ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يُحَدِّثْهُ غَيْرِي وَلَكِنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ مَجْلِسًا أَنَا فِيهِ عَنْ الْفِتَنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَعُدُّ الْفِتَنَ مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ لَا يَكَدْنَ يَذَرْنَ شَيْئًا وَمِنْهُنَّ فِتَنٌ كَرِيَاحِ الصَّيْفِ مِنْهَا صِغَارٌ وَمِنْهَا كِبَارٌ " 

فما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر الفتن فلماذا الإعراض عن هديه وسنته؟ ونحن نعتقد أن السلامة والنجاة إنما تكون في لزوم هديه والسير على سنته، ألم يقل ربنا تبارك وتعالى آمرا المؤمنين:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ " ثم حذر من الفتن في الآية التي بعدها مباشرة فقال :وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " فكأنه يشير إلى أن عدم الاستجابة لله وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم سبب للوقوع في الفتن. 

بل قد صرح ربنا سبحانه وتعالى متوعدا ومحذرا من مخالفة سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: " فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : " أي: فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطنا أو ظاهرا {أن تصيبهم فتنة} أي: في قلوبهم، من كفر أو نفاق أو بدعة، {أو يصيبهم عذاب أليم} أي: في الدنيا، بقتل، أو حد، أو حبس، أو نحو ذلك"

جماعة المسلمين : ألم يقل صلى الله عليه وسلم: فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفاً كَثِيراً ، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْمُحْدَثَاتِ ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ " فبين عليه الصلاة والسلام أن الاختلاف سيقع ولا بد – وهو قضاء كوني لا يمكن دفعه- ثم بين العلاج وحصره في الإتباع والحذر من الابتداع 
  ألم يخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن ظلم الولاة والسلاطين واستئثارهم بأمور الدنيا ؟ 
بلى ، فروى الإمام مسلم في صحيحه : عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا فَمَا تَأْمُرُنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ فَجَذَبَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَقَالَ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ " 
أليس هذا من الظلم أن تسلب حقك وتطالب بحق غيرك ؟ ولكن كيف وجه النبي صلى الله عليه وسلم-الرحيم بالأمة الناصح لها- الأمة ؟ لقد أرشدها إلى السمع والطاعة، ولم يرشدها إلى المظاهرات ولا إلى الخروج على ولاة الأمور للمطالبة بالحريات.

بل ذكر لنا ما هو أشد من ذلك إذ قال : يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ قَالَ قُلْتُ كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ قَالَ تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ " 
فتأملوا رعاكم الله؛ أئمة من صفاتهم مخالفة الشريعة وظلم الناس بأخذ أموالهم وضرب ظهورهم ورسولنا صلى الله  عليه وسلم يقول : تسمع وتطيع للأمير .." 

والأمثلة على بيان السنة للطريقة القويمة للتعامل مع الفتن كثيرة لا يتسع المقام لذكرها، ولكن غفل الناس عن الرجوع إليها، ومن أسباب غفلتهم تعلقهم بالأشخاص دون الحق، فصاروا يعرفون الحق ممن يحبون ممن أظهرهم الإعلام وسوق لمقالاتهم حتى صار الولاء والبراء لهم وعليهم لا على الحق، وهذا الذي حذر منه صلى الله عليه وسلم إذ قال : إنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزعهُ مِنَ النَّاسِ،وَلكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً ، فَسُئِلُوا فَأفْتوا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأضَلُّوا 

فتأملوا –رحمكم الله- أن الذي رأس هؤلاء القوم من الأصاغر إنما هم الناس بأن جعلوهم محلا للفتيا والسؤال، وهم في الحقيقة من أهل الجهل والضلال، قال صلى الله عليه وسلم: إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر" ، وهذا سبب للهلاك بأن يترك الناس العلماء ويقبلون على القصاصين والوعاظ ومفسري الأحلام لأجل الفصل في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم، وتفرقت أهواؤهم؛ هلكوا"
وليس المقصود بالأصاغر صغار السن ممن تلقوا العلم والدين على العلماء الكبار ، فلقد سئل عبد الله بن المبارك مَنِ الْأَصَاغِرُ؟ قَالَ: " الَّذِينَ يَقُولُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَأَمَّا صَغِيرٌ يَرْوِي عَنْ كَبِيرٍ; فَلَيْسَ بِصَغِيرٍ ".

وهؤلاء الأصاغر لهم دور عظيم في صد الناس عن السنة وتأويل أحاديثها على وفق أهوائهم وانتماءاتهم الحزبية، ثم إثارة الفتن بين المسلمين، ومن نظر في التاريخ الغابر رأى ذلك رأي عين، ففي فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه لم يكن للصحابة العلماء أي مشاركة وإنما هم شذاذ الآفاق وقطاع الطرق رفعوا شعار  المطالبة بالحريات المكبوتة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكانت النتيجة أن قتلوا خليفة المسلمين. 

وفي زمن علي رضي الله عنهم خرج الخوارج وناظرهم ابن عباس وقال لهم: لقد جئتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن عند ابن عم رسول الله وما فيكم منهم أحد" يشير إلى عدم مشاركة العلماء معهم مما يدل على جهلهم وضلالهم، فما رجع منهم إلا القليل وقاتلهم علي رضي الله عنه في معركة النهروان، وانتصر عليهم ، ثم قتلوا عليا رضي الله عنه متقربين لله بذلك العمل الشنيع . 

وفي زماننا يتكرر الأمر فالذي يدعو للفتن وما يسمى بالربيع العربي الذي سفكت فيه دماء المسلمين وانتهكت أعراضهم وخربت ديارهم إنما هم الأصاغر من أرباب الأحزاب . 

عباد الله: لقد منّ الله عليها في هذه الدولة بولاة أمر نحسبهم والله حسبيهم من خيرة الأمراء، ومنّ عليها بنعمة الأمن والعيش الطيب، فاشكروا الله على هذه النعمة ، واسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله أمركم، واحذروا ممن يدعو إلى تفريق صفنا وبث العداوة بين قلوبنا وقلوب حكامنا، وعلينا أن ندعو لهم في السر والعلن بالتوفيق والصلاح وأن يؤيدهم الله بالبطانة الصالحة التي تعينهم على أمر الدين والدنيا 

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد


الخطبة الثانية : الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد
يا معاشر النساء : اسعينَ –رحمكنَّ الله – إلى فكاك أنفسكُنُّ من النار، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " وَنَظَرْتُ فِي النَّارِ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ " وقال -صلى الله عليه وسلم- « يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ مِنَ الاِسْتِغْفَارِ فَإِنِّى رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ». فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ قَالَ « تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ "  ، وروى أحمد في المسند قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْفُسَّاقَ هُمْ أَهْلُ النَّارِ. قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَنْ الْفُسَّاقُ ؟ قَالَ النِّسَاءُ. قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَوَلَسْنَ أُمَّهَاتِنَا وَأَخَوَاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنَّهُمْ إِذَا أُعْطِينَ لَمْ يَشْكُرْنَ وَإِذَا ابْتُلِينَ لَمْ يَصْبِرْنَ " 

والسبيل إلى الخلاص من النار هو أن تأَدينَ حقَّ الله عليكُنَّ بأداءِ ما فرضه الله، وانتهينَ عما نهاكُنَّ عنه تَكنَّ من أهل الفوز والسعادة قال صلى الله عليه وسلم (إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ ) . 

أختي المسلمة : اعلمي أن سبب نهضة الأمة هو قرارك في مملكتك وهو بيتك، والتزامك بحجابك وحشمتك، فإن فعلت ذلك فقد صُنتِ المجتمع من فتنة عمياء صماء مهلكة، قال عليه الصلاة والسلام: ألا فاتَّقوا الدُّنيا، واتَّقوا النساءَ، فإنَّ أولَ فتنةِ بَني إسرائيلَ كانتْ في النساءِ " 
وإياك والتبرج فإنه سبب للعذاب قال صلى الله عليه وسلم: صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا : نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلاَتٌ مُمِيلاَتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَمْثَالِ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ

ولتؤدي المرأة حق زوجها عليها فإنه من أعظم الحقوق بعد حق الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم:وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَة حَقَّ رَبّهَا حَتَّى تُؤَدِّي حَقَّ زَوْجهَا وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسهَا وَهِيَ عَلَى قَتَب لَم ْتَمْنَعهُ " ، وفي رواية  : ولا تجد امرأة حلاوة الإيمان حتى تؤدي حق زوجها.." 

 واصبري على زوجك فإنه من نعم الله عليك روى البخاري في الأدب المفرد الأدب عن أسماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ وَعُصْبَةٌ مِنَ النِّسَاءِ قُعُودٌ قَالَ بِيَدِهِ إِلَيْهِنَّ بِالسَّلَامِ فَقَالَ: (إِيَّاكُنَّ وَكُفْرَانَ الْمُنْعِمِينَ إِيَّاكُنَّ وَكُفْرَانَ الْمُنْعِمِينَ) قَالَتْ: إِحْدَاهُنَّ نَعُوذُ بِاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ كُفْرَانِ نِعَمِ اللَّهِ. قَالَ: (بَلَى إِنَّ إِحْدَاكُنَّ تَطُولُ أَيْمَتُهَا ثُمَّ تَغْضَبُ الْغَضْبَةَ فَتَقُولُ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِنْهُ سَاعَةً خَيْرًا قَطُّ فَذَلِكَ كُفْرَانُ نِعَمِ اللَّهِ وذلك كفران المنعمين" 

ولا تكثري من طلب الطلاق لأتفه الأسباب فإنه من كبائر الذنوب والموبقات قال صلى الله عليه وسلم: أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلاَقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ لَمْ تَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ " 

  وأنت أيها المسلم، يا من جعلك الله وليا على هذه المرأة، أبا كنت أو زوجا أو أخا، فإنك مأمور بوقاية نسائك ومن هم تحت ولايتك من النار بتأديبهم وتعليمهم أمور الدين وحملهم عليها قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ، ثم ستحاسب على ذلك بين يدي الله قال صلى الله عليه وسلم: إن الله سائل كل راع عما استرعاه: أحفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته" 

معاشر الرجال : استوصوا بالنساء خيرا فهذه وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لنا نحن الرجال فقال ( وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا " وقال صلى الله عليه وسلم (خيركم خيركم لأهله) فأدوا إليهن حقهن ، واصبروا عليهن قال تعالى { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} ، ومن كان ذا زوجتين فليعدل بينهن قال صلى الله عليه وسلم: من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط" 

 الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد

الخميس، 10 أكتوبر 2013

خطبة جمعة: فضل يوم عرفة - الدروس والعبر من خطبة الوداع

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين :اعلموا رحمكم الله ، أن من مواسم الخير العظيمة التي امتن الله بها علينا يوم عرفة ، فقد اختصه الله – سبحانه وتعالى – بمزيد فضل وثواب ،وجعله موسما يتنافس فيه المتنافسون لنيل رضوان ربهم ومولاهم ، وربنا تعالى يقول: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ "   

عباد الله ، إن ليوم عرفة فضائل عديدة اختصه الله بها ، فمن ذلك أن الله عز وجل قد أقسم به، ولا يقسم ربنا إلا بعظيم وذلك في قوله تعالى : "وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ"  ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ " 

ومن فضائله أنه اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم النعمة بذلك على عباده ، فروى مسلم عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِعُمَرَ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ يَهُودَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"   نَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِى أُنْزِلَتْ فِيهِ لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ فَقَالَ عُمَرُ فَقَدْ عَلِمْتُ الْيَوْمَ الَّذِى أُنْزِلَتْ فِيهِ وَالسَّاعَةَ وَأَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ نَزَلَتْ. نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِعَرَفَاتٍ. 

وقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة من أعياد أهل الإسلام، فروى الترمذي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ " 

ومن فضائله أن الله ينزل سبحانه إلى السماء الدنيا نزولا يليق بجلاله وعظيم سلطانه ليس كنزول البشر فهو كما قال تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " ، ينزل ليباهي بأهل عرفات أهل السماء ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا وقف – أي الحاج -بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا فيقول : انظروا إلى عبادي شعثا غبرا .."  قال ابنُ عبد البر: "وهذا يدلُ على أنهم مغفورٌ لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا إلا بعد التوبة والغفران والله أعلم" اهـ

في هذا اليوم يعتق الله عبيده من النار قال صلى الله عليه وسلم : "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ"  رواه مسلم  

ما أعظمها من بشارة ! وما أجملها من جائزة ! العتق من النار والفوز بالجنة وربنا يقول: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ " 

 في هذا اليوم العظيم يغفر الله لأهل عرفات ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : معاشر الناس أتاني جبرائيل عليه السلام آنفا فأقرأني من ربي السلام وقال : إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات . فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا رسول الله : هذا لنا خاصة قال هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة . فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كثر خير الله وطاب .

في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( فإذا وقف بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا فيقول : انظروا إلى عبادي شعثا غبرا ، اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم وإن كانت عدد قطر السماء ورمل عالج " أي ما تراكم من الرمل ودخل بعضه في بعض 

يجتمع الخلائق في هذا اليوم على اختلافهم في الأجناس والألوان واللهجات ، يسألون ربا واحدا كريما معطيا ، كل يدعوه بمسألته والله يسمعهم فهو السميع الذي وسع سمعه كل شيء ، وقال تعالى : "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ " وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي " يا عبادي ، لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم ، وإنسَكم وجِنَّكم ، قاموا في صعيد واحد ، فسألوني ، فأعطيتُ كُلَّ إنسان مسألتَهُ ، مانقص ذلك مما عندي إلا كما يَنْقُص المِخْيَطُ إذا أُدِخلَ البحرَ " 

فكيف يسمع عاقل بهذه النصوص والآيات التي يدعو الله عباده فيها لدعائه ومسألته ثم يعرضون عنها فيدعون بشرا ضعيفا أو قبرا ووثنا يرجون جلب خيره أو دفع ضره ، إن هذا لهو الكفر الصراح والذنب الذي لا يغفر  قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ "

جماعة المسلمين : ومن فضائل هذا اليوم عند الله أن صيامه كفارة سنتين قال صلى الله عليه وسلم : " صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده " 
فصوموا هذا اليوم واحفظوا جوارحكم عن المحرمات ، وأكثروا من قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله " خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " 


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من الأسس والقواعد التي يبنى عليها أمر الدين والدنيا في حجة الوداع التي حجها مع صحابته رضوان الله عليهم، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته : أيهَا الناسُ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هَذَا " فهذا تأصيل لحرمة دم المسلم وماله، فلا يجوز الاعتداء عليه بأخذ ماله أو سفك دمه إلا بحق كما قال تعالى : " وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ"  ولقد ورد الوعيد الشديد لمن قتل مسلما بغير حق قال تعالى : "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا " 

ومن القواعد التي أكد عليها صلى الله عليه وسلم هدم أمور الجاهلية وعاداتهم التي تخالف أحكام الإسلام فقال:" ألا وإن كل شيء مِن أمر الجاهليَّة تحت قدميَّ هاتَين موضوعٌ، ودماء الجاهليَّة موضوعة، وإن أول دمٍ أضَع مِن دمائنا دمُ ابن ربيعَة الحارث بن عبدالمطَّلب - كان مُسترضَعًا في بني سعد فقتلتْه هُذيل - ورِبا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع رِبانا؛ ربا العباس بن عبدالمطَّلب"

فيؤكد صلى الله عليه وسلم أن الحكم في الشرع إنما هو لله تعالى، وأن كل ما خالف هذا الشرع فهو مردود وباطل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"  

ومن الأمور التي أكد عليها صلوات الله وسلامه عليه حقوق النساء وحقوق الزوجية إذ قال : فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحلَلتُم فروجهنَّ بكلمة الله، وإن لكم عليهنَّ ألا يوطئْن فُرُشَكم أحدًا تَكرهونه، فإن فعلنَ ذلك، فاضْرِبوهنَّ ضَربًا غير مُبرِّح، ولهنَّ عليكم رزقُهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف "  وهذا إنما يدل على عظيم هذا الحق بأن ذكر ضمن خطبة ترسي أهم قواعد الإسلام، فخذوا بوصية نبيكم صلى الله عليه وسلم واستوصوا بالنساء خيرا، وليؤد كل واحد من الزوجين الحق الذي عليه للآخر حتى تستمر الحياة الزوجية التي هي من نعم الله على الناس. 

ثم ختم صلى الله عليه وسلم خطبته بتأصيل عظيم ووصية كبرى تضمن السلامة من الضلالة والانحراف، ولزوم طريق الهداية فقال : وإني قد تركتُ فيكم ما لن تَضلُّوا بعده إن اعتصمتم به: كتابَ الله " فلزوم كتاب الله تعالى سبب للهداية والرشاد قال تعالى : "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ"