الخميس، 30 يناير 2014

خطبة جمعة : قال تعالى : " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها "

الخطبة الأولى: جماعة المسلمين قال ربنا سبحانه وتعالى في محكم التنزيل : " وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " فيخبر الله سبحانه وتعالى عن نفسه بأن له أسماء وصفها بأنها حسنى، قد بلغت من الحسن غايته، فليس في الأسماء أحسن منها، لأنها كلها أسماء مدح وثناء وتمجيد،  تدل على صفات كمال لله تعالى ،قال تعالى : " وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ"

أيها المؤمنون : بالأسماء الحسنى يتعرف العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، فتزداد خشيته لربه، ويقبل على عبادته، ويحبه ، وكلما قويت هذه المعرفة في العبد عظم إقباله على الله واستسلامه لشرعه ولزومه لأمره وبعده عن نواهيه ، وقد قال ربنا عز وجل : "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " قال ابن كثير-رحمه الله- : " إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى -كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر" ا.هـ
 والسير إلى الله من طريق الأسماء الحسنى والصفات شأنه عجيب، فصاحبه قد سيقت له السعادة من غير تعب مرهق، ولكن للأسف غالب الناس في بعد عن تعلم هذا العلم، مع أن معرفة الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أفضل العلوم وأشرفها، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، والمعلوم فيها هو الله سبحانه وتعالى، ومن حرم هذا العلم فهو محروم حقا ، كما قال بعض السلف : مَسَاكِينُ أَهْل الدُّنْيَا خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا ذَاقُوا أَطْيَبَ مَا فِيهَا، قَالُوا: وَمَا أَطْيَبُ مَا فِيهَا؟ قَالَ: معرفة الله، ومَحَبَّتةُ، وَالْأُنْسُ بِهِ، وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُ " ، وسبيل هذه المعرفة يكون باستحضار الأسماء الحسنى وحفظها وظهور أثرها على العبد، فإذا حقق العبد ذلك نال الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ " ومعنى إحصاؤها إحصاء ألفاظها وحفظها، وفهم معانيها ومدلولاتها، ودعاء الله بها، فإذا حقق العبد هذه الأمور تحقق له الإحصاء الوارد في الحديث.

وأسماء الله الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا تحد بعدد معين، بل هي أكثر من تسعة وتسعين اسما، فروى أحمد في المسند من حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ: اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا " فدل الحديث على إثبات أسماء لله تعالى قد استأثر بها في علم الغيب فلم يطلع عليها أحدا من الخلق إلا أن يشاء الله، كما ورد في حديث شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي"

جماعة المسلمين : لهذه الأسماء الحسنى والصفات العليا آثارها التي ينبغي أن تظهر على العبد في عبوديته لربه سبحانه وتعالى ، فإذا علم العبد أن الله سميع بصير كما قال سبحانه : "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " فلا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات والأرض، يعلم السر وأخفى، بل إن جميع العباد لو وقفوا في صعيد واحد وسألوا الله عز وجل في لحظة واحدة وبِلُغات مختلفة ولهجات متباينة، لسمِع الله عز وجل أصوات الجميع دون أن يختلط عليه صوت بصوت ولا حاجة بحاجة ولا لغة بلغة ، وانظر ذلك في قوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه حيث يقول تعالى : ((يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ))، وجاءت المرأة المجادِلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيته لتشتكي إلى الله وكانت تشتكي زوجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة - رضي الله عنها - في البيت فتقول عائشة : ((تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ ، إِنَّ الْمَرْأَةَ لَتُنَاجِي رَسُولَ اللهِ ، أَسْمَعُ بَعْضَ كِلامِهَا وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضٌ إِذْ أَنْزَلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ "

فإذا علم العبد ذلك حق العلم أورثه الخشية من ربه، فلا يراه حيث نهاه، ولا يسمع منه إلا ما يرضيه، ذكر ابن رجب رحمه الله : أن رجلا راود امرأة في صحراء في ليل دامس فأبت، فقال لها : ما يرانا إلا الكواكب، فقالت : فأين مكوكبها ؟ أين الله ألا يرانا فمنعها هذا العلم من اقتراف الذنب والوقوع في الخطيئة .

وإذا علم العبد أن الله هو النافع الضار المعطي الرازق المحيي المميت، أثمر له ذلك عبادة التوكل عليه باطنا وظاهرا.

وإذا علم العبد أن الله تواب رحيم يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئآت، أثمر له ذلك رجاء في ثواب الله تعالى ، والطمع فيما عنده،  والتوبة بعد المعصية، ومحبة في قلبه لربه.

وبهذا يعلم أن العبودية بجميع أنواعها راجعة إلى مقتضيات الأسماء والصفات، ولهذا يتأكد على العبد أن يعرف ربه ويعرف أسماءه وصفاته معرفة صحيحة يترتب عليها العلم بما تضمنته من موجبات وآثار .
فنسأل الله جلّ وعلا أن يبصِّرنا وإياكم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا ، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح ، وأن يهدينا جميعاً سواء السبيل
  
الخطبة الثانية 
عباد الله : لقد أرشدنا الله سبحانه وتعالى إلى استعمال الأسماء الحسنى في دعائه وسؤاله فقال : " وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا " فَيُطْلَبُ بِكُلِّ اسْمٍ مَا يَلِيقُ بِهِ، تَقُولُ: يَا رَحِيمُ ارْحَمنِي، يَا غَفُورُ اغْفِرْ لِي، يَا رَزَّاقُ ارْزُقْنِي، يَا هَادِي اهْدِنِي. وَإِنْ دَعَوْتَ بِاسْمٍ عَامٍّ قُلْتَ: يَا اللَّهُ، فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِكُلِّ اسْمٍ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو اللَّه تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ:« يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ».
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ وَتَشَهَّدَ دَعَا فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ إِنِّي أَسْأَلُكَ، فَقَالَ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: تَدْرُونَ بِمَا دَعَا؟ قَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:( وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ العَظِيمِ، الذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى)

عباد الله : كما حذر سبحانه في الآية من الإلحاد في أسمائه فقال : " وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " والإلحاد في أسماء الله سبحانه يكون بالميل بها عن معانيها الصحيحة وتأويلها بالمعاني الفاسدة، فقد توعد الله سبحانه وتعالى من فعل ذلك، وانظروا رحمكم الله- إلى الوعيد الذي يلحق من انتقص شيئا من أسماء الله تعالى ومعانيها قال تعالى : " وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ  " فلما ظنوا أن علم قاصر وناقص عن إدراك ما يعلمه هؤلاء القوم، مع أن علم الله محيط بكل شيء وبكل عمل، أصبحوا من الخاسرين.

 ولأجل ذلك قال أهل العلم إن الله سبحانه وتعالى إنما يسمى ويوصف بما ورد في كتابه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز ذلك، قال الإمام أحمد : لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث "

كما ينبغي أن يعلم أن هذه الأسماء والصفات يُثبت لفظها ومعناها ولا يسأل عن كيفيتها وماهيتها، من غير تمثيل ولا تشبيه بشيء من المخلوقات، فالله سبحانه : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " وقال سبحانه " ولم يكن له كفوا أحد" أي ليس له ند ولا مثيل، فالله سبحانه يتكلم ويرضى ويغضب ويسخط، ويحب ويكره، مستو على عرشه، عال على خلقة، ينزل كل ليلة في الثلث الآخر من الليل فيقول: مَنْ يدعوني فأستجيبَ له؟ مَنْ يسألُني فاُعْطِيَه؟ مَنْ يَستغفِرُني فاغْفِرَ له؟ ، بهذا جاءت النصوص الشرعية فنثبت هذه الصفات كما جاءت في لفظها ومعناها، ولا نحرفه ألفاظها ولا معانيها، هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة التي عليها السلف الصالح من الصحابة والتابعين .

الخميس، 23 يناير 2014

حب بلاد الإسلام ، والحذر من خيانتها

الخطبة الأولى: جماعة المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه ، مُعافى في جَسَدِهِ ، عندهُ قوتُ يومِه ، فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها " في الحديث تذكير بنعم الله على العبد، فإن الله سبحانه وتعالى- خلق العباد لعبادته وتوحيده فقال: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" وأهم النعم التي يحتاجها العابد لتحقيق هذا الهدف السامي هي أمن في نفسه وجماعته وبلده، وعافية في صحته وجسده، وطعام يتقوى به على طاعة الله، وفي ذلك تعليم لخلق القناعة والزهد في أمور الدنيا، والاهتمام بأمر العلم والعمل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ  .

أيها المسلمون: الأرض التي تتوافر فيها هذه النعم من الأمن والعافية والغذاء حري بأهلها أن يتعاونوا على حفظها والعمل على الدفاع عنها وحفظ مكتسباتها، وهذا أمر مجبولة عليه النفوس السليمة، وهو محبة الوطن والدفاع عنه .

فحب الوطن عباد الله- غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجم، ويغضب له إذا انتُقص، أخرج الترمذي، بسندٍ صحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق مكة عند هجرته منها:  (ما أطيبك من بلدة وأحبك إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما سكنت غيرك). وحيث أن حب الوطن غريزة في الإنسان، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم من ربه بأن يرزقه حب المدينة لما انتقل إليها، فقد أخرج الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد). ومما يدل على مشروعية حب الوطن كما قرره الأئمة الأعلام ما أخرجه البخاري، وأحمد وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة (أي حدود المدينة ) أوضع ناقته أي (حملها على السير السريع )، وإن كانت دابة حركها" قال أبو عبد الله: زاد الحارث بن عمير عن حميد: "حركها من حبها".قال ابن حجر في "الفتح" "وفي الحديث دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه".

أيها المسلمون: من نعم الله علينا أن أسكننا هذه الأرض – دولة الإمارات العربية المتحدة – وجعل لنا فيها الأمن والأمان والراحة والطمأنينة ، وهي الوطن الذي نشأنا فيه وترعرعنا وتعلمنا على أرضه وذلك بفضل من الله المنعم ثم بفضل ما يسر لهذه البلاد من الخيرات وولاة الأمر من الحكام- أعزهم الله- حيث لم يبخلوا علينا في شيء بل وفروا لنا كل ما نحتاج إليه في حياتنا، فإذا تقرر هذا؛ فما هو الواجب علينا ؟ إن الواجب على أبناء هذا الوطن أولا شكر الله تعالى على هذه النعم بأن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، فمن شكر وعد بالمزيد قال سبحانه : " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ "  ، ثم على أبناء هذا الوطن محبته، و التكاتف بين أفراد مجتمعه والتلاحم فيما بينهم، فإذا كنا لبنة واحدة؛ عجز عنا العدو وباء طمعه بالخسران.

ومن مقتضى محبة الوطن القيام بالواجبات المنوطة على كل فرد بأمانة وإخلاص، على اختلاف المواقع والمراكز والمناصب والرتب، ومن مقتضى محبة الوطن؛ المحافظة على ثرواته وخيراته، وعدم العبث بها وهدر أموال بيت المال، بحجة أن هذا المال للدولة؛ وأنا ابن الدولة، لا ، أنت مؤتمن على كل ما يُوكَل إليك من أعمال، وراع في وزارتك، أو إدارتك، أو مكتبك، وأنت راع لمن ولّاك ولي الأمر عليهم من العاملين، يقول : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ...).متفق عليه ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته . "صحيح ابن حبان".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: تَقَعُ عَلَى عَوَاتِقِنَا مَسْؤُولِيَّةٌ كُبْرَى فِي تَرْبِيَةِ أَبْنَائِنَا عَلَى حُبِّ وَطَنِهِمْ، وَغَرْسِ قِيَمِ الْوَلاَءِ وَالاِنْتِمَاءِ لَهُ فِي نُفُوسِهِمْ، فَلْنُعِدَّ شَبَابَ الْوَطَنِ لِلدِّفَاعِ عَنْ تُرَابِهِ، وَالذَّوْدِ عَنْ حِيَاضِهِ، وَحِمَايَةِ مُنْجَزَاتِهِ، وَالطَّاعَةِ لِقِيَادَتِهِ وَحُكَّامِهِ، وَلْنَحُثَّهُمْ عَلَى خِدْمَةِ وَطَنِهِمْ، بِالِالْتِزَامِ فِي وَظَائِفِهِمْ، وَالاِنْضِبَاطِ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَالاِسْتِقَامَةِ فِي سُلُوكِهِمْ، وَالاِرْتِقَاءِ فِي عِلْمِهِمْ، وَتَنْمِيَةِ مَهَارَاتِهِمْ، وَاكْتِسَابِ الْقُوَّةِ فِي أَجْسَادِهِمْ، لِيَنَالُوا مَحَبَّةَ رَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَلَا تَعْجِزْ)
وفقنا الله لما يحبه ويرضاه ، ....



الخطبة الثانية : أيها المسلمون : لقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم الزوجة التي تنكر فضل زوجها عليها بالنار فقال : " وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ قَالُوا بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ بِكُفْرِ الْعَشِيرِ وَبِكُفْرِ الْإِحْسَانِ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ "  ، فكيف بالذي ينكر فضل الله عليه في هذه الدولة التي آوته وربته وأنفقت عليه، وعلمته حتى بلغ مرتبة علية، ووظفته حتى ساد المناصب وذاع صيته في الآفاق، ثم إذا هو ينكر ذلك كله في المحافل الدولة، ويجلب بلسانه على دولته وولاة أمره فينتقصهم ويتهمهم بسلب الحقوق، وكتم الحريات، ثم يقدم ولاءه وبيعته لحزبه وجماعته على ولائه وبيعته لولي أمره  التي أمر الله ورسوله بالوفاء بها قال صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ "

بل ويعظم الخطب بأن يسعى هذا المخذول إلى التآمر ضد دولته ولو مع العدو الخارجي الذي يتربص بالمسلمين الدوائر، ويسعى إلى تفريق صفهم، وإضعاف قوتهم، فيركن إليه ويذيع سر دولته، ويتجسس لصالحه، وقد كان من قبل يظهر أن التعاون مع دول الكفر كفر، فلماذا هذا التلون والتلاعب بالدين.
ومن خذلانهم لدولتهم وأبناء شعبهم أن يطلقوا التكفير عليهم، فيكفروا ولاة أمرهم ثم يلحقوا بذلك الجهات الأمنية وأخيرا أبناء الدولة ممن لا يوافقونهم على فكرهم الهدام.

وقال قال صلى الله عليه وسلم : إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رِدْئًا لِلْإِسْلَامِ، غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟ قَالَ: «بَلِ الرَّامِي»  رواه ابن حبان وسنده صحيح .
فيقوده تكفيره للمجتمع إلى إعلان الجهاد (المزعوم) ولا الجهاد المشروع، فيسعى إلى قتل أهل بلده بكل وسيلة ولو كانت غير شرعية، وهذا هو وصف الخوارج كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فروى مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ والنبي صلى الله عليه وسلم يقسم الغنيمة- كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :فَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ إِنْ عَصَيْتُهُ أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي .قَالَ ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فِي قَتْلِهِ يُرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ "

فاحذروا رعاكم الله- من هذه الأفكار المنحرفة التي تسعى إلى تفريق الصف، وإضعاف القوة البلد والمسلمين، ولا تغتروا بلباسهم الذين يلبسون، ومن تدينهم الذي يزعمون، فإنهم عن الصراط ناكبون ومنحرفون، روى الطبراني عن أبي غَالِبٍ، قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ، فَبَعَثَ الْمُهَلَّبُ سَبْعِينَ رَأْسًا مِنَ الْخَوَارِجِ، فَنُصِبُوا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَكُنْتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لِي، فَمَرَّ أَبُو أُمَامَةَ يُرِيدُ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ دَمِعَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ، مَا يَفْعَلُ الشَّيْطَانُ بِبَنِي آدَمَ» - ثَلَاثًا - قَالَ: «كِلَابُ جَهَنَّمَ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ» - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - ثُمَّ قَالَ: «خَيْرُ قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ مَنْ قَتَلُوهُ» - ثَلَاثًا - ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: «يَا أَبَا غَالِبٍ، إِنَّكَ بِأَرْضِ هَؤُلَاءِ بِهَا كَثِيرٌ، فَأَعَاذَكَ اللهُ مِنْهُمْ. هَلْ تَقْرَأُ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا آلُ عِمْرَانَ؟» قُلْتُ: بَلَى، إِنِّي رَأَيْتُكَ دَمِعَتْ عَيْنَاكَ. قَالَ: «بَكَيْتُ رَحْمَةً لَهُمْ، كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ» فَتَلَا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] إِلَى أَنْ بَلَغَ: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] وَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَزِيغَ بِهِمْ، ثُمَّ تَلَا: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 105] إِلَى أَنْ بَلَغَ: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] قُلْتُ: هَؤُلَاءِ يَا أَبَا أُمَامَةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . قُلْتُ: يَا أَبَا أُمَامَةَ مِنْ قِبَلِ رَأْيِكَ تَقُولُ، أَمْ شَيْئًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: «إِنِّي لَجَرِيءٌ - ثَلَاثًا - بَلْ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَرَّةً، وَلَا مَرَّتَيْنِ حَتَّى بَلَغَ سِتَّةً»



الخميس، 16 يناير 2014

محبة المسلم لنبيه صلى الله عليه وسلم

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين اعلموا رحمكم الله أن محبة المسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عرى الإيمان وأسسه العظيمة، ومن أعظم القُرَب وأجلِّ الطاعات، بها يجد المسلم حلاوة الإيمان في قلبه، فعَنْ أَنَسٍ –رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ... " 
ولاَ يَكْمُلُ إِيمَانُ العبد، إِلاَّ إِذَا أحبه أَكْثَرَ مِنْ حبه لنفسه وولده ووالده والناس أجمعين، قَالَ نبينا صلى الله عليه وسلم :« لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». 

فالنبي صلى الله عليه وسلم " أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ" فبه أخرج الله العباد من ظلمات الشرك والجاهلية إلى نور التوحيد والهداية والعدالة، قال سبحانه " هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ" .

"النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ" لشفقته عليهم ورحمته بهم وقد قال سبحانه في وصفه "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ"

"النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ" لأنه أعظم الخلق مِنَّةً عليهم، من كل أحد، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر، إلا على يديه وبسببه"  ولأجل ذلك ولغيره كانت محبته علامة على صدق الإيمان به

أيها المسلمون: ولما كان لكلِّ دعوى لابد فيها من برهان يدل على صدقها، فإن محبة النبي صلى الله عليه وسلَّم لابد لكل من ادَّعاها لنفسه أن يحقِّق العلامات والبراهين الدالة على صدق المحبة وثبوتها وتحقُّقها ، وأعظم علامة  تدل على ذلكم : اتباعُ هديه ولزومُ نهجه والتمسكُ بسنته صلوات الله وسلامه عليه، روى الطبراني عن أبي قُرَادٍ السُّلَمِيّ رضي الله عنه قال : «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِطَهُورٍ فَغَمَسَ يَدَهُ فِيهِ ثَمَّ تَوَضَّأَ ، فَتَتَبَّعْنَاهُ فَحَسَوْنَاهُ» ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : ((مَا حَمَلَكُمْ عَلَى مَا صَنَعْتُمْ ؟)) قُلْنَا  «حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ» قَالَ : ((فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ يُحِبَّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ فَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ ، وَاصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ ، وَأَحْسِنُوا جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكُمْ )) ؛ فبيَّن عليه الصلاة والسلام أن محبته صلى الله عليه وسلم عملٌ واتِّباع واهتداءٌ واقتداء بهديه القويم ونهجه المبارك عليه صلوات الله وسلامه. 

وأعظم الناس حبا للنبي صلى الله عليه وسلم هم صحابته الكرام، ففي سيرتهم من قصص الاتباع ما يدل المؤمن اللبيب على علامة المحبة الصادقة للنبي صلى الله عليه وسلم. 

وفي اتباع سيرته وسنته النجاة والهداية في الدارين، وقال قال تعالى : " وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا" ، وفي اتباعه دليل على صدق محبة العبد لربه سبحانه وتعالى ، قال سبحانه : "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" قال المفسر ابن كثير رحمه الله : " هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله.." ، وقال ابن تيمية رحمه الله: " السعادة والهدى في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الضلالة والشقاء في مخالفته" 
فمن أحب هذا النبي صلى الله عليه وسلم اتبعه في جميع شؤون حياته، في عبادته فلا يعبد الله تعالى إلا بما شرعه نبيه صلى الله عليه وسلم  ، يتبعه في تعامله مع الخلق، فهو الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي رِعَايَتِهِ لِلضُّعَفَاءِ، وَحُنُوِّهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَتَفَقُّدِهِ لِلْمَسَاكِينِ، وَعِنَايَتِهِ بِالْبِيئَةِ وَالْمَخْلُوقَاتِ، وَرَحْمَتِهِ بِالْحَيَوَانَاتِ.

المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه في تعامله مع أهله وأولاده وزوجته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " 

المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه في بيعه وشرائه، في أقواله وأفعاله، المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه أمره عظمه وتلقاه بصدر منشرح بلا ضيق ولا حرج بل يبادر إلى تطبيقه، قال تعالى : فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " 

فمن الجفاء في المحبة أن تعامل أوامر النبي صلى الله عليه وسلم بالمجادلة والتشكيك، أو بالتكاسل والإهمال .

وتأملوا رحمكم الله إلى هذه القصة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم التي رواه مسلم في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ – هذه الليلة التي وصفها الله بقوله : "إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا / هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا" – يقول حذيفة :  وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ – أي شديدة البرودة- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ . فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ . ثُمَّ قَالَ أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ.  ثُمَّ قَالَ أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ فَقَالَ: قُمْ يَا حُذَيْفَةُ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ . فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ . .. فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ – أي ذهب شعوري بذلك البرد -حَتَّى أَتَيْتُهُمْ فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمَّامِ فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَفَرَغْتُ قُرِرْتُ –أي رجع الشعور بالبرد- 

فانظروا رحمكم الله إلى سرعة استجابة المؤمن لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو مع ما يكره، ثم تأملوا بركة تطبيق السنة، إذ أحس حذيفة بالدفيء الشديد في الليلة شديدة البرد، فلما قضى ما أمر به عاد البرد الشعور بالبرد إليه.. 

عبد الله يقول ربنا سبحانه وتعالى : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا " 


الخطبة الثانية : عباد الله : روى الإمام البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : ((كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا ، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ وَكَانَ عَلَيْهِ – صلوات الله وسلامه عليه- فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ الْعِشَارِ- وهي النوق الحوامل- حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ )) . تأمل أيها المؤمن - رعاك الله - هذا الحديث العظيم الذي يحرك القلوب الغافلة والنفوس المعرِضة مبيِّناً المكانةَ العظمى والمنزلةَ العالية لهذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ؛ حتى إن جذع نخلةٍ كان يقوم إليه النبي عليه الصلاة والسلام فيسمع ذلك الجذعُ حديثَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فلما ابتعد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك الجذع وأخذ يخطب على المنبر حنّ ذلك الجذع وصار له صوتٌ كصوت العشار ، وجاء في بعض الروايات أن الجذع ((جَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ)) جذعُ نخلةٍ يحن إلى أحاديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف عباد الله بالإنسان المؤمن ؟! كان الحسن - رحمه الله تعالى وهو من أئمة التابعين - إذا حدّث بهذا الحديث بكى ثم قال رحمه الله : " يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شوقاً إليه لمكانته من الله عز وجل فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه "

أيها المسلمون : من علامة محبة العبد لنبيه صلى الله عليه وسلم  الإكثار من ذِكره صلى الله عليه وسلم فإنَّ الله أعلى شأنه ورفع مقامه ورفع ذكره، فلا يُذكر سبحانه وتعالى إلا ويُذكر معه عليه الصلاة والسلام ، ولاسيما في أشرف المقامات وأرفعها كالأذان والإقامة والتشهد ونحو ذلك . والإكثار من ذكر النبي عليه الصلاة والسلام يكون بذكر مناقبه العظيمة وشمائله المباركة وأخلاقه الشريفة وآدابه الفاضلة وسيرته العطرة وسنته المباركة صلوات الله وسلامه عليه ، مع الإكثار من الصلاة والسلام عليه صلوات الله وسلامه عليه في كل مرة يُذكر فيها صلى الله عليه وسلم .

ومن علامات المحبة ودلائلها : محبة رؤيته عليه الصلاة والسلام ومودَّة ذلك والرغبة الشديدة فيه ، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ)) 

ومن علامات المحبة : الحذر من الغلو فيه صلى الله عليه وسلم فإنه نهى عن ذلك وحذَّر منه أشد التحذير ، والأحاديث في ذلكم كثيرة ، روى الحاكم في مستدركه عن يحي بن سعيدٍ قال : « كُنَّا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَجَاءَ قَوْمٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ أَحِبُّونَا حُبَّ الْإِسْلَامِ ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَرْفَعُونِي فَوْقَ قِدْرِي ، فَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي عَبْدًا قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَنِي نَبِيًّا)) » 
فلنحذر من الغلو بكافة صوره وجميع أشكاله ولنحرص على الاتباع لهدي نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام والملازمة لسنته والبعد عن البدع والأهواء . 



ملاحظة : اقتبست بعض الفقرات في هذه الخطبة من بعض خطب الشيخ عبد الرزاق البدر - حفظه الله-

الخميس، 9 يناير 2014

المنة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم

الخطبة الأولى : اعلموا رحمكم الله ، أن الله جل وعلا بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق على فترة من انقطاع الرسل ، وقد مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا أو أكثرهم قبيل مبعثه ، والناس في ذلك الوقت أحد رجلين : إما كتابي معتصم بكتاب مبدل منسوخ أو بدين دارس بعضه مجهول وبعضه متروك ، وإما أميّ من عربي أو أعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من وثن أو قبر أو تمثال أو غير ذلك قال تعالى : " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" فمنّ الله على هذه الأمة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخرجهم من ظلمات الجهل والشرك إلى نور التوحيد والهداية قال تعالى:" رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ" وقال الله في بيان عظيم فضله علينا ببعثة صلى الله عليه وسلم " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" أي شديد الرأفة والرحمة بهم ، أرحم بهم من والديهم . ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق ، وواجب على الأمة الإيمان به ، وتعظيمه ، وتوقيره ، أكمل الله به الدين ،فقد أخرج الطبراني عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال " تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحية في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علما . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم " 

فكان حقا على كل مسلم من هذه الأمة أن يعرف لهذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه حقه من الإيمان به وطاعته وتقديم محبته على محبة النفس والأهل والمال والناس أجمعين، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ».   وهذه المحبة تقتضي التعرف على سيرته صلوات الله وسلامه عليه من اسمه ونسبه وأخلاقه ومبعثه وهجرته وغزواته وسراياه، قال ابن القيم " اضطرار العباد إلى معرفة الرسول وما جاء به وتصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر فوق كل ضرورة " ا.هـ . ففي سيرته صلوات الله وسلامه عليه من العبر والعظات ما يكون منهجَ حياة وطريقَ هداية وسلامة قال تعالى "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا"

جماعة المسلمين : لما عرف الصحابةُ رضوانُ الله عليهم هذه النعمة ,وهي بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أحبوه أكثر من الولد والمال والنفس والناس أجمعين وتسابقوا في تطبيق سنته والعمل بها . 
كيف لا والله أمرهم بذلك فقال سبحانه:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"  قال المفسر عبد الرحمن السعدي في تفسير هذه الآية (فإن هذا حقيقة الأدب الواجب مع الله ورسوله ، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه ، وبفواته تفوته السعادة الأبدية ، والنعيم السرمدي . وفي هذا ، النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم على قوله ، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب اتباعها ، وتقديمها على غيرها ، كائنا من كان  ) ا.هـ

 فأين مثقفوا هذه الأمة من هذا الأدب الرفيع وهم يردون بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بحجة أنها لا تتوافق مع عقولهم المستنيرة بظلمة الهوى والضلال ،أو أنها تخالف أراء مفكريهم ومنظريهم،  أو أنها لا تصلح لهذا الزمان الذي ساد فيه التطور وغلبت المادة وضاع فيه الدين ، يقول الشافعي رحمه الله : أجمع المسلمون على أنَّ من استبان له سنةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَحِلَّ له أن يدعها لقول أحد " وقال أحمد رحمه الله : " من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة .  "
هذا الرسول الكريم عظمه ملوك النصارى وكبراؤُهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأحبوا رؤيته وتمنوا خدمته قال هرقل عظيم الروم : " لو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمية" 

أيها المسلم، إن من محبة المسلم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم , وتعظيمه له ، اتباعُ سنته ولزومُها والتمسكُ بها ، ففيها النجاةُ من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، عن مالك بن أنس – رحمه الله –قال :" سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وولاة الأمر بعده سننا ، الأخذ بها اتباع لكتاب الله ، واستكمال بطاعة الله ، وقوة على دين الله ، ليس لأحد تغييرُها ولا تبديلُها ولا النظرُ في شيء خالفها ، من اهتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا " أ.هـ

ولقد ورد الأمر باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن وفي الحديث ، فمن ذلك قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" ، قال أهل التفسير  ( يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة لله وللرسول أي الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه والاجتناب لما نهيا عنه والانكفاف عنه والنهي عنه  ، وقوله (إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ) فإن حياة القلب والروح بعبودية الله تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام   "  

وعن الْعِرْبَاضُ  قال : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا فَقَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ . 

فذكر صلى الله عليه وسلم الداء والمرض وهو الافتراقُ والتنازع ، ثم ذكر العلاج فقال : فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ "  فجعل كلمته هذه وصيةً لأمته من بعده ، ليتمسكوا بها ويعملوا بها .
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله " أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة ضلالة "  



الخطبة الثانية : اعلموا رحمكم الله أن في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم الكفاية لمن أراد الهداية ، فيسعنا ما أمر به وفعله ، دون تكلف وغلو، قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ( اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتكم ) أي كفيتم مؤونة التشريع وبقي عليكم العمل  . 

ومن خالف السنة والهدي النبوي فإنه معرض للافتتان في الدنيا، والعذاب في الآخرة، قال تعالى:" فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" ، وقال سبحانه:" وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا "  

وأما في أرض المحشر فإنه يُصد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، قال صلى الله عليه وسلم : إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مِنِّي ومِنْ أُمَّتِي فَيُقَالُ: هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، وَاللهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ  " وكانَ ابنُ أبي مليكةَ راوي الحديثِ يقولُ: اللهم إنا نعوذُ بكَ أنْ نرجعَ على أعقابِنا أو نفتنَ في ديِننا.

قال ابن عبد البر في التمهيد – وهو من علماء المالكية-: "وكلُ من أحدثَ في الدينِ ما لا يرضاه اللهُ ولم يأذنْ به اللهُ فهو من المطرودينَ عنْ الحوضِ المبعدينَ عنه، واللهُ أعلم. وأشدُّهم طردًا من خالفَ جماعةَ المسلمينَ وفارقَ سبيلَهم مثلُ الخوارجِ على اختلافِ فرقِها والروافضِ على تباينِ ضلالِها .. فهؤلاء كلُهم يبدلونَ، وكذلكَ الظلمةُ المسرفونَ في الجورِ والظلمِ وتطميسِ الحقِ وقتلِ أهلِه وإذلالهِم، والمعلنونَ بالكبائرِ المستخفّونَ بالمعاصي، وجميعِ أهلِ الزيغِ والأهواءِ والبدعِ، كلُ هؤلاءِ يُخافُ عليهم أن يكونوا عُنُوا بهذا الخبرِ" اهـ.

وأخبرنا الله عز وجل عن أهل النار إذا هم دخلوها كيف أنهم يتأسفون على ترك طاعتهم لله ولرسوله، وأن سبب هذا الإعراض عن حكم الله وحكم النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو إتباع آراء أحبارهم ومفكريهم مع مخالفتها لحكم الشرع،  قال تعالى:" يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا" ، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن ترك سنته وهديه سبب لوقوع الذل في المسلمين، روى احمد في المسند قول رسولنا صلى الله عليه وسلم : وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ " و أخبر صلى الله عليه وسلم عن هلاك وضلال من خالف هديه وسنته، فقال صلى الله عليه وسلم : إني تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" 

فالواجب على المسلم الذي يرجو الله واليوم الآخر، ويحب نبيه صلى الله عليه وسلم ويعظمه أن يقدم قول الله وقول رسوله وأن ينظر في فهم سلف الأمة وعلمائها لنصوص الشرع، ولا ينفرد بفهم خاص، أو يتعصب لرأي أيا من كان إذا خالف حكم الشرع وأقوال العلماء السابقين قال الإمام مالك بن أنس: كل يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر" وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم . 

فعظموا نبيكم وأطيعوا أمره واجتنبوا نهيه وصدقوا خبره واعبدوا الله بشرعه وهديه تكونوا من أهل الفلاح في الدنيا والآخرة .