الخميس، 29 مايو 2014

حسن الكلام والحديث مع التنبيه على اغتنام شعبان

الخطبة الأولى : قال الله سبحانه وتعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا"
يأمر الله عباده المؤمنين بأن يتقوه ويقولوا قولا سديدا، والقول السديد هو القول الموافق للصواب، أو المقارب له، المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، وهذا يقتضي كفه عن كل ما حرم من القول، ثم وعدهم إن فعلوا ذلك بإصلاح أعمالهم ومغفرة ذنوبهم، وتحقق الفوز العظيم بدخول الجنة، كما قال سبحانه " فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ " .

عباد الله : لقد دلت الآية الكريمة على أن حفظ اللسان بمنعه من الكلام المحرم ولزومه طيب القول، من أسباب صلاح الأعمال والجوارح، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أصْبَحَ ابْنُ آدَمَ ، فَإنَّ الأعْضَاءَ كُلَّهَا تَكْفُرُ اللِّسانَ -أيْ تَذِلُّ وَتَخْضَعُ لَهُ- ، تَقُولُ : اتَّقِ اللهَ فِينَا ، فَإنَّما نَحنُ بِكَ ؛ فَإنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا ، وإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا )) . رواه الترمذي . 

ولذا نجد تكرر الأمر في كتاب الله تعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم بالاهتمام باللسان وما يصدر منه من أقوال، ومن ذلك ما أوصَى اللهُ تعالَى به عبادَهُ من حُسنِ القولِ، فقالَ تباركَ اسمُهُ:( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) بَلْ أمرَهُمْ أَنْ يَتَخَيَّرُوا مِنْ ألفاظِهِمْ مَا هُوَ أجْمَلُ وأتمُّ، فقالَ عزَّ وجلَّ:( وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ) فالكلامُ الجميلُ وسيلةٌ مِنْ وسائلِ جَمْعِ القلوبِ ودَفْعِ الضغائنِ، قالَ تعالَى:( وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) وقَدْ بيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دلالةَ القولِ وأثَرَهُ فِي الناسِ فقَالَ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ» ، بل إن الكلمة الواحدة تخرج من العبد لا يلقي لها بالا إما أن ترفعه إلى أعلى عليين أو تهوي به في أسفل سافلين، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ الله تَعَالَى مَا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجاتٍ ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلَمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ تَعَالَى لا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا في جَهَنَّمَ" 

وفي هذا ترهيب ووعيد شديد من إطلاق الكلام دون مراقبة لألفاظه ومعانيه، وفيه ترغيب وجزاء لمن أحسن في لفظه ومعانيه. 
جماعة المسلمين : على العبد المؤمن أن يتأدب عند كلامه مع الآخرين فلا يرفع صوتا، ولا يحتدَّ في الخطاب، وإنما يلين في قوله وخطابه، وقد أمر الله موسى عليه السلام أن يلين الخطاب لفرعون الطاغية فقال له : اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" .
وتأملوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يخاطب الناس على اختلاف أحوالهم ، فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: "يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ " والنغير طائر كان يلعب به . 

وفي خطابه للأعراب وهم البدو حاديّ الطبع فروى البخاري ومسلم عن أَنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا  فِي الْمَسْجِدِ وَأَصْحَابُهُ مَعَهُ، إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: مَهْ مَهْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ "، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: " إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنَ الْقَذَرِ وَالْبَوْلِ وَالْخَلَاءِ "، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا هِيَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللهِ وَالصَّلَاةِ ". فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِنَ الْقَوْمِ: " قُمْ فَأْتِنَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَشُنَّهُ عَلَيْهِ " فَأَتَاهُ  بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ. 

وفي خطابه للمشركين وهم أعداؤه كان هينا لينا يريد استمالة قلوبهم والأمن من شرهم ومن ذلك ما رواه أصحاب السير من إرسال قريش لعتبة بن ربيعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يفاوضه في أمر الدين فقال عتبة محاورا النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي إنك منا حيث علمت ... وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ... فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل بعضها. 
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع. 
ثم شرع عتبة يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم الملك والمال فلما انتهى قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أو قد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم. قال صلى الله عليه وسلم: فاسمع مني. قال : أفعل. فقرأ عليه شيئا من القرآن. فلما انتهى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد سمعت يا أبا الوليد، فأنت وذاك. 

ففي هذا الحوار جملة من الآداب أولها حسن الاستماع من الطرفين للآخر، والتلطف بالكلام حيث لم يدعه باسمه بل بكنيته، والعرب تحب المناداة بالكنية، ولما انتهى عتبة مما عنده أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الفرصة لإضافة شيء يود إضافته ربما يكون قد نسيه فقال له: ( أو قد فرغت يا أبا الوليد).

وفي خطابه صلى الله عليه وسلم لأهل السوق والتعامل معهم فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- قَالَ: " كَانَ لَمْ يَكُنْ النبي صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا، وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَلَا صَخَّابًا  فِي الْأَسْوَاقِ " 
بل ربما مرّ على البائع وقد ارتكب مخالفة فينصحه ويوجهه بلطف ، فصح أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أصابِعُهُ بَلَلاً ، فَقَالَ : (( مَا هذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟ )) قَالَ : أصَابَتهُ السَّمَاءُ يَا رسول الله . قَالَ : (( أفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوقَ الطَّعَامِ حَتَّى يرَاهُ النَّاسُ ! مَنْ غشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا " 

إخواني في الله: ما أحوجنا أن نراقب ألسنتنا وما نتلفظ به من كلام وما ننقله من حديث، قال تعالى : "مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ " ، وعن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنه ارتقى الصفا فأخذ بلسانه فقال يا لسان قل خيرا تغنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أكثر خطإ ابن آدم في لسانه . 
وفقنا الله لما يحبه ويرضاه ..


الخطبة الثانية : عباد الله لقد أمرنا الله بعبادته، وحثنا على المسارعة فيها، والمسابقة إليها، والموفق هو من اغتنم حياته وأيامه في طاعة الله، والمخذول الخسران من فرط في أيامه وحياته فأعرض عن طاعة ربه، حتى إذا قربت وفاته ودنا أجله قال : " رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ " 

ومن مواسم الخير التي نعيشها موسم شهر شعبان وقد نبها إليه النبي صلى الله عليه وسلم لاغتنامه بصالح الأعمال فعن أُسَامَة بْن زَيْدٍ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ ؟ قَالَ :  ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ "   

وبين لنا صلى الله عليه وسلم كيفية اغتنام هذا الشهر وذلك بالصوم فيه فقد روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال " وكان أحب الصوم إليه في شعبان " وعَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ  " ، فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على استحباب الصيام في شهر شعبان لمن قدر على ذلك .


إخواني في الله: ومن كان عليه قضاء من رمضان السابق فليبادر إلى أدائه ولا يتأخر فيه، فإنه يتعين عليه ويجب قال تعالى : " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ " 

فلنغتنم الفرصة ولنكثر من العمل فإننا مقبلون على عقبة عظيمة لا يستطاع تخطيها إلا بالعمل. 






الجمعة، 23 مايو 2014

خطبة جمعة : من عقوبات الذنوب والمعاصي

الخطبة الأولى: جماعة المسلمين اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليبتليهم  قال تعالى : "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" فأمرهم ونهاهم، فمن أحسن باتباع الأمر واجتناب النهي فله الحسنى وزيادة، قال تعالى : " لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " ، ومن ترك الأمر فعل النهي عرض نفسه للعقوبة والعذاب قال تعالى "وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ".
وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من عاقبة فعل السيئات ومخالفة شرع رب الأرض والسموات، بأن ذكر لنا بعض العقوبات العظيمة التي تصيب فاعل الذنب إن لم يتب أو يغفر الله له.

ومن ذلك حديث صحيح رواه البخاري وغيره رأى فيه النبي صلى الله عليه وسلم  أصنافا من العذاب تكون في القبر لمن ابتلي بالذنوب والمعاصي، فلنتأمله ففيه العظة والعبرة.   
عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنهُ قالَ: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يُكْثِرُ أنْ يَقولَ لأصْحَابِهِ "هَلْ رأى أحَدٌ مِنْكُم الليلة مِنْ رُؤْيَا؟ " قالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ الله أنْ يَقُصَّ، وَإنَّهُ قالَ لَنَا ذَاتَ غَدَاةٍ:  "إنَّهُ أتَاني اللَّيْلَةَ آتيانِ وَإنَّهُما ابْتَعثاني، وإنَّهُمَا قَالا لي: انْطَلِقْ فأخذا بَيدي، وَإنَّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا فأخرجاني إلى الأرض المقدسةِ، وَإنَّا أتيْنَا عَلى رجلٍ مُضْطجِع، وَإذَا آخرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِفِهرٍ أو صَخْرَةٍ، وَإذَا هُوَ يَهْوي بِالصَّخْرَةِ لِرَأسِهِ، فَيَثْلَغُ أو فَيَشْدَخُ به رأسَهُ،- أي يضرب بها رأسه فيكسره- فَيَتَهَدْهَدُ الحَجَرُ هَاهُنَا،- أي يتدحرج- فَيَتْبعُ الحَجَرَ، فَيَأخُذُهُ، فَلا يَرْجعُ إليْهِ حَتّى يَصِحَّ رَأسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيفعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ المرَّةَ الأُولى. قالَ: قُلْتُ لَهما: سُبْحَانَ الله! مَا هَذَانِ؟ قالَ: قالا لي: انْطلِقِ انْطَلِقْ.

فانْطَلقْنَا، فَأتَينْا عَلى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفاهُ، وَإذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بيده كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَإذَا هُوَ يَأتي أحَدَ شِقَّي وَجْهِهِ، -أي جانب وجهه- فَيُشَرْشِرُ  شِدْقَهُ إلى قَفَاهُ، -أي يقطعه- وَمَنْخِرَهُ إلى قَفَاهُ. وَعَينَهُ إلى قَفَاهُ  فَيَشُقُّ. قالَ: ثُمَّ يَتَحوَّلُ إلى الجَانِبِ الآخَرِ، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغُ من ذلكَ الجانبِ حتى يصحَّ و يلتئم ذَلِكَ الجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيفعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ المرَّةَ الأولَى. قالَ: قُلْتُ: سبْحَان الله! مَا هَذَانِ؟ قالَ: قَالا لي: انْطَلِقِ، انْطَلِقْ.

فَانطَلقنا، فَأتَيْنَا علَى ثِقبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أعلاه ضيِّقٌ، وأسفله واسعُ، يتوقَّدُ تحتَه ناراً، قالَ: فَإذَا فيه لَغَط وَأُصْوَاتُ، فَاطَّلَعْنَا فيه، فَإذَا فيه رِجَال وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإذَا هُمْ يَأتِيهم لَهَبٌ مِنْ أسَفَلَ مِنْهم، فإذَا اقْتَربَ ارتفعوا حتى كادَ أن يخرجوا، فإذا خمدَتْ رجعوا فيها، فَإذا أتاهُم ذلِكَ اللَّهَبُ ضَوضَوْا أي صاحوا-. قالَ: قَلْتُ لَهُما: مَا هَؤلاءِ؟ قالَ: قالا لي: انْطلِق، انْطلِق.
فَانْطَلَقْنا، فَأتَيْنَا علَىَ نَهَرٍ أحمَرَ مِثْل الدَّمِ، وَإذَا في النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ وَإذَا علَى شَطِّ النَّهرِ رَجُلٌ قائم، قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثيرةً، وَإذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأتي ذَلِكَ الذي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهِ الحجارَة، فَيفغَرُ لَهُ  فَاهُ، أي يفتح فمه- فَيُلْقِمُهُ حَجَراً، فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجعُ إليْهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إليْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ، فألْقمَهُ حَجَراً.قالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟ قَال: قالا لي: انْطَلِق، انْطَلِقْ.

فَانَطَلَقْنَا، فَأَتَينَا علَى رَجُلٍ كريهِ المَرْآةِ ، كَأكْرَهِ مَا أنْتَ رَاءٍ رَجُلاً مَرْآةً، وَإذَا عِنْدَهُ نَارٌ يحُشُّهَا أي يحركها- وَيَسْعى حَوْلَها.قَال: قُلْتُ لَهما: مَا هَذَا؟ قَالَ: قَالا لي: انْطَلِقِ، انطلقْ.
فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ خضراءَ فيها شجرةٌ فيِها من كُلِّ نَوْرِ الرَّبيع، وَإذَا بَيْنَ ظَهْرَي الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَويلٌ، لا أكادُ أرَى رْأسَهُ طُولاً في السَّمَاءِ، وَإذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أكثَرِ وِلدَانٍ رَأيْتُهُم قَطُّ. قالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا؟ مَا هَؤُلاءِ؟ قَالَ: قالا لي: انْطَلِقِ، انْطَلِقْ.
فَانْطَلَقْنَا، فَانْتَهَيْنَا إلى رَوْضَةٍ عَظيمَةٍ، لَمْ أرَ رَوْضَةً قَطُّ أعْظَمَ منْهَا، وَلا أحْسَنَ، فيها رجالٌ شيوخٌ، وشبابٌ، ونساءٌ، وصبيانٌ، قَالَ: قالا لي: ارْقَ  فيها. قالَ: فَارْتَقَيْنَا فِيهَا، فَانْتَهَيْنَا إلى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّة بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ، فَأتَيْنَا بَابَ المدِينَةِ. فاسْتفْتَحْنَا، فَفُتِحَ لَنَا، فَدَخَلْنَاهَا ، وفي روايةٍ: فأدخلاني داراً هي أحسنُ وأفضلُ، فيها شيوخٌ وشبابٌ ، فَتَلَقَّانَا فيها رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسنِ مَا أنْتَ رَاءٍ، وَشَطرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنتَ رَاءٍ، قَالَ: قالا لَهُم: اذْهَبُوا فَقَعُوا في ذَلِكَ النَّهَرِ، قَالَ: وَإذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْري كَأَنَّ مَاءَهُ المحضُ في البَياضِ، فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فيهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إليْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُم، فَصَارُوا في أَحْسَنِ صُورَةٍ.

قَالَ: قالا لي: هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ، وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ، فارفع رأسَكَ، قَالَ: فرفعت رأسي، فَسَما بَصَرِي صُعُداً، فَإذَا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ البَيْضَاءِ، -أي السحابة- قَالَ: قَالا لي: هَذَاكَ مَنْزِلُكَ، قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: بَارَكَ الله فيكُمَا، ذَرَاني فأَدْخُلَهُ، قَالا: أمَّا الآنَ فَلا، وَأنْتَ دَاخِلُهُ ، إنه بقيَ لكَ عمرٌ لم تستَكْمِلْهُ، فلو استكملْتَ أتيتَ منزِلَكَ
قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: فَإنِّي قَدْ رَآَيتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَباً، فَمَا هَذَا الذي رَأَيْتُ؟

قَالَ: قَالا لي: أمَا إنَّا سَنُخْبِرُكَ: أمَّا الرَّجُلُ الأَوَّلُ الَّذي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثلَغُ رَأسُهُ بالحجَرِ، فَإنَّهُ الرَّجُلُ يَأخُذُ القُرآنَ فَيَرْفُضُه ، وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاةِ المكْتُوبَةِ. وفي الرواية الأخرى: فرجلٌ علّمَه الله القرآنَ، فنامَ عنه بالليل، ولم يَعْملْ فيه بالنهارِ، يُفْعَلُ به إلى يومِ القيامةِ.
وَأمَّا الرَّجُل الذي أتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إلى قَفاهُ، وَمَنْخِرُهُ إلى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إلى قَفَاهُ، فَإنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الكَذبَةَ فتُحْمَلُ عنه حتى تبْلُغَ الآفَاقَ، فيُصْنَعُ به ما رأيت إلى يومِ القيامةِ .
وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ العُرَاةُ الَّذِينَ في مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَاني.
وَأمَّا الرَّجُلُ الَّذي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَح في النَّهَرِ، وَيُلقَمُ الحَجَرَ، فَإنَّهُ آكِلُ الرِّبَا.
وَأَمَّا الرَّجلُ الكَريهُ المَرآةِ، الَّذي عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا، وَيَسْعَى حَوْلَهَا، فَإنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ.
وَأَمَّا الرَّجُلُ الطويلُ الَّذي في الرَّوْضَةِ، فَإنَّهُ إبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذينَ حَوْلَهُ، فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلى الفِطْرَةِ". قَالَ: فَقَالَ بَعْضُ المسْلِمينَ: يَا رَسُولَ الله! وَأَوْلادُ المشْركينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَأوْلاَدُ المُشْرِكينَ".
"وَأمَّا القَوْمُ الَّذينَ كَانوا شَطْرٌ مِنْهُم حَسَناً، وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحاً، فَإنَّهُم قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئاً؛ تَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُمْ ، والدارُ الأولى التي دخلت دارُ عامةِ المؤمنين، وأما هذه الدارُ فدارُ الشهداءِ، وأنا جبريلُ. وهذا ميكائيلُ "


الخطبة الثانية : عباد الله ومما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من صور العذاب ما ورد في حادثة الإسراء والمعراج فعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لَمَّا عُرِجَ بِى مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِى أَعْرَاضِهِمْ)  ألا فحاسبوا أنفسكم ؟ هل تصبرون على هذا العذاب ؟ بسبب الكلام في أعراض الناس وغيبتهم والكذب عليهم ، والتلذذ بذلك ، ألا فكفوا ألسنتكم عن الناس وعيوبهم وانشغلوا بأنفسكم قال صلى الله عليه وسلم " وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ  "  

وروى ابن خزيمة بسند صحيح عن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ، فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعْرًا، فَقَالَا: اصْعَدْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أُطِيقُهُ، فَقَالَا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا أنا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، قُلْتُ: مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ؟ قَالُوا: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ. ثُمَّ انْطُلِقَا بِي، فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ، ثُمَّ انْطَلَقَا بي فَإِذَا بِقَوْمٍ أَشَدَّ شَيْءٍ انْتِفَاخًا وَأَنْتَنِهِ رِيحًا، وَأَسْوَئِهِ أو أسوده مَنْظَرًا، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ قَتْلَى الْكُفَّارِ. ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا بِقَوْمٍ أَشَدَّ شَيْءٍ انْتِفَاخًا، وَأَنْتَنِهِ رِيحًا، كَأَنَّ رِيحَهُمُ الْمَرَاحِيضُ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الزَّانُونَ وَالزَّوَانِي. ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا أَنَا بِنِسَاءٍ تَنْهَشُ ثُدِيَّهُنَّ الْحَيَّاتُ، قُلْتُ: مَا بَالُ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ اللاتي يَمْنَعْنَ أَوْلَادَهُنَّ أَلْبَانَهُنَّ. ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا أَنَا بِالْغِلْمَانِ يَلْعَبُونَ بَيْنَ نَهْرَيْنِ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذَرَارِي الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ شَرَفَا بي شَرَفًا، فَإِذَا أَنَا بِنَفَرٍ ثَلَاثَةٍ يَشْرَبُونَ مِنْ خَمْرٍ لَهُمْ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ جَعْفَرٌ، وَزِيدٌ، وَابْنُ رَوَاحَةَ، ثُمَّ شَرَفَا بي شَرَفًا آخَرَ، فَإِذَا أَنَا بِنَفَرٍ ثَلَاثَةٍ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَهُمْ يَنْظُرُونك.."

عباد الله هذه بعض صور العذاب التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لمن خالف الأمر وارتكب النهي ولم يتب إلى الله ، فبادروا إلى التوبة والإنابة فالله يقبل التوبة عن عباده ويغفر السيئات .


الخميس، 22 مايو 2014

خطبة جمعة : دروس وعبر من الإسراء والمعراج

الخطبة الأولى :جماعة المسلمين :اعلموا رحمكم الله أنّ الله تعالى قد اصطفى محمدًا صلى الله عليه وسلم النبي الأمي، وخصهُ بخصائصَ عديدة وفضائلَ كثيرة، فاق بها الأولين والآخرين، فمن خصائصه العظيمة خبر الإسراء به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى أولاً، ثم العروج به إلى السماء ثانيًا، تلك الرحلة العجيبة والآية العظيمة الباهرة ، يقول ربنا عز وجل " {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (1) سورة الإسراء
إن الإسراء والمعراج من المعجزات الإلهية التي أيد الله بها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، وثبت بها فؤاده فقد اشتد إيذاء قومه له بأن كذبوه وسبوه، ولما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الله رموه بالحجارة حتى أدموا قدمه صلى الله عليه وسلم ، ولما عاد فوجئ بمرض عمه الذي كان يحوطه ويحميه، ثم وفاته، وتبع ذلك وفاة زوجته خديجة رضي الله عنها.

أيها المسلمون : الإسراء والمعراج وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حقيقة لا مناما ، وبالروح والجسد جميعا، فأسري به من المسجد الحرام بمكة المكرمة، إلى المسجد الأقصى بفلسطين، ثم عرج به إلى السماء ، وكل ذلك جرى في جزئ يسير من الليل ، وهذا دليل على قدرة الله الذي لا يعجزه شيء في السماء والأرض { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} (44) سورة فاطر
ونحن معاشر المسلمين ، علينا أن نستعرض في قلوبنا وقائع الإسراء والمعراج ، وأن نتفهم معانيها ونستخلص منها الدروس والعبر ، والتي من أهمها :

أن فيها علو مرتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث رفعه الله مكانا عليا ، لم يصله ملك مقرب ولا نبي مرسل ، فقال صلى الله عليه وسلم " فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدٌ".  فقال أنس بن مالك راوي الحديث: ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ  " وعند أحمد والترمذي بإسناد صحيح (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُلْجَمًا مُسْرَجًا، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ. قَالَ فَارْفَضَّ عَرَقًا. "  فينبغي علينا أن نعرف لنبينا حقه ومكانته ، وذلك بطاعته في ما أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر ، وتصديقه فيما أخبر وأن لا نعبد الله إلا بما شرع قال تعالى  {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (31) سورة آل عمران

ومن الدروس والعبر ، أهمية الصلاة ورحمة الله ورسوله بهذه الأمة ، حيث فرضت الصلاة فوق السموات السبع وبلا واسطة ، قال صلى الله عليه وسلم ( ثم فرضت علي خمسون صلاة كل يوم  ، قال فرجعت فأتيت موسى عليه السلام فقال : ما صنعت ؟ قلت : فرضت علي خمسون صلاة كل يوم . فقال إني والله أعلم بالناس منك ، إني عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، وإن أمتك لن يطيقوا ذلك فارجع إلى ربك فأسأله أن يخفف عنك "
قال صلى الله عليه وسلم : فلم أزل بين ربي وبين موسى ، ويحط عني خمسا خمسا ، حتى قال : يا محمد هن خمس صلوات في كل يوم وليلة ، بكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا ، ومن هم بسئية فلم يعملها لم تكتب شيئا فإن عملها كتبت سيئة واحدة "
أفيعجز الواحد منا أن يؤدي لله في اليوم والليلة خمس صلوات ، ويحصل على أجر خمسين صلاة ، لقد تهاون كثير من المسلمين في أمر الصلاة فمنهم من أخرها عن وقتها بسبب اللعب والانشغال بأمور الدنيا ، وبعضهم لا يصلي إلا الجمع والأعياد ، وآخرون قد طبع على قلوبهم فتركوا الصلاة مطلقا. 
فتأمل أخي رحمه الله ورسوله بهذه الأمة بأن خفف عنهم الصلاة من خمسين إلى خمس في العدد ، وخمسين في الأجر ، ألا فاشكروا الله على هذه النعمة بأن تقيموا الصلاة لربكم كما علمكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم

          ومن الدروس والعبر في قصة المعراج إثبات صفة العلو لله عز وجل وأنه سبحانه فوق السماء السابعة فوق العرش مستو على عرشه استواءً يليقُ بجلالهِ وعظيمِ سلطانهِ ، قال تعالى ( الرحمن على العرش استوى " أي علا وارتفع ، وقال سبحانه (سبح اسم ربك الأعلى ) وقد أجمع الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة أهل السنة على أن الله فوق سمواته على عرشه دل على ذلك القرآن والسنة والإجماع والفطرة السليمة .

عباد الله ، في حادثة المعراج يتبن لنا فضل هذه الأمة على باق الأمم ، فهي أكثر أهل الجنة عددا ، قال صلى الله عليه وسلم (فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى، فَقِيلَ: مَا أَبْكَاكَ فَقَالَ: يَا رَبِّ هذَا الْغُلاَمُ الَّذِي بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَفْضَلُ مِمَّا يَدْخلُ مِنْ أُمَّتِي )  وسبب ذلك -عباد الله - هو توحيد هذه الأمة لله عز وجل ، لأن الجنة إنما هي للموحدين الذين أخلصوا العبادة لله وحده دون سواه فلم يشركوا به شيئا ، قال تعالى { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (72) سورة المائدة ، ألا فتعلموا التوحيد وعلموه أولادكم ، وخافوا الشرك والوقوع فيه ، فمن أشرك بالله فقد ضل ضلالا مبينا   .

وفي المعراج رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أصنافا من أنواع العذاب في القبر ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لَمَّا عُرِجَ بِى مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِى أَعْرَاضِهِمْ)  ألا فحاسبوا أنفسكم ؟ هل تصبرون على هذا العذاب ؟ بسبب الكلام في أعراض الناس وغيبتهم والكذب عليهم ، والتلذذ بذلك ، ألا فكفوا ألسنتكم عن الناس وعيوبهم وانشغلوا بأنفسكم قال صلى الله عليه وسلم " وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ  "  
  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (18) سورة الحشر 
  


الخطبة الثانية : عباد الله لقد رأى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الجنة وما أعد الله لأمته من النعيم المقيم ، وقد رأى صلى الله عليه وسلم نبي الله إبراهيم-عليه السلام- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقِيْتُ إبْرَاهِيمَ لَيلَةَ أُسْرِيَ بِي ، فَقَالَ : يَا مُحَمّدُ أقْرِىءْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلاَمَ ، وَأَخْبِرْهُمْ أنَّ الجَنَّةَ طَيَّبَةُ التُّرْبَةِ ، عَذْبَةُ الماءِ ، وأنَّهَا قِيعَانٌ وأنَّ غِرَاسَهَا : سُبْحَانَ اللهِ ، والحَمْدُ للهِ ، وَلاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ ، واللهُ أكْبَرُ " ألا فأكثروا من ذكر الله عز وجل ومن قراءة القرآن .

ورأى صلى الله عليه وسلم الكوثر فقال صلى الله عليه وسلم (بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذْ عُرِضَ لِي نَهَرٌ حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ.قَالَ: فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ -عَزَّ وَجَلَّ – قَالَ: فَضَرَبْتُ بِيَدَيَّ فِيهِ فَإِذَا طِينُهُ الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ وَإِذَا رَضْرَاضُهُ اللُّؤْلُؤُ)

ومن العبر والعظات أن الله ينصر أولياءه على عدوهم ، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يخبر الناس بخبره فكذبوه واستهزءوا به و قَالُوا وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ قَالَ فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عُقَيْلٍ فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ قَالَ وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ قَالَ فَقَالَ الْقَوْمُ أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ *

ومع هذا الدليل القوي إلا أن الكفار زادوا في كفرهم وغيهم وضلالهم وأما أهل الإيمان من الصحابة فقد قابلوا الخبر بالتصديق التام ، وهذه حال المؤمن المخلص لله تعالى يصدق رسوله فيما أخبر بدون تردد أو شك قال تعالى " {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (15) سورة الحجرات.

الجمعة، 9 مايو 2014

خطبة جمعة : مكانة المرأة في الإسلام

الخطبة الأولى :معاشر المسلمين، اعلموا رحمكم الله أن البشريةُ لم تعرف ديناً ولا حضارةً عُنيت بالمرأة أجملَ عناية وأتمَّ رعايةٍ وأكملَ اهتمام كالإسلام. تحدَّث عن المرأة، وأكّد على مكانتها وعِظم منزلتها، نظر إليها على أنها شقيقةُ الرجل، خُلِقاَ من أصل واحد، ليسعدَ كلٌّ بالآخر ويأنس به في هذه الحياة، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما النساء شقائق الرجال))

أما في غير الإسلام فلقد لقيت المرأة صورا عديدة من الظلم والاحتقار منذ ولادتها قال تعالى " وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ" فإما أن تقتل أو أن تعيش بلا حقوق بل تورث مع الأموال، حتى جاء الإسلام بتعاليمه السامية ليخرج المرأة من الذل والعبودية التي كانت تعيشها لينزلها منزلا لا نظير له في الأمم والشعوب .

إخوةَ الإسلام : لقد أشاد الإسلام بفضل المرأة، وعدَّها نعمةً عظيمةً وهِبةً كريمة، يجب مراعاتها وإكرامُها ، يقول المولى جل وعلا "لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ"

فرعى الإسلام حقَّها طفلةً، وحثَّ على الإحسان إليها، ففي صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من عال جاريتين حتى تبلُغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين)) وضمّ أصابعه.

رعى الإسلام حقَّ المرأة أمًّا، فدعا إلى إكرامها إكرامًا خاصًّا، جاء رجل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: ((أمّك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمّك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمّك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) متفق عليه.

رعى الإسلامُ حقَّ المرأة زوجةً، وجعل لها حقوقاً عظيمة على زوجها، من المعاشرة بالمعروف والإحسان والرفق بها والإكرام فقال تعالى : (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم)) أي أسيرات.

وفي حال كونِها أجنبيةً ليست من محارمك فقد حثَّ على عونها ومساعدتها ورعايتها، قَالَ: النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"السَّاعِى عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وكالقائمِ لا يَفْتُرُ، وكالصائمِ لا يُفْطِرُ"
معاشرَ المسلمين، منح الإسلام المرأة الحقوقَ ، فأعطاها حقَّ الاختيار في حياتها والتصرّف في شؤونها وفقَ الضوابط الشرعية ، قال جل وعلا: " فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعُروفِ" فلا تمنع من الزواج ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تُنكح الأيم حتى تُستأمَر، ولا البكر حتى تستأذَن في نفسها))

عباد الله : لقد سعى الإسلام إلى حفظ عرض المرأة من أن يدنس أو ينتهك ، فحرم القذف وجعل له عقوبة الجلد ثمانين لمن تجرأ وقذف قال تعالى "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" ، ولأجل حماية عرضها أمرها ربها بالحجاب والاستتار فقال سبحانه" وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ"  ، ومنعها من مخالطة الرجال حتى في أماكن العبادة ، ففي المسجد قال صلى الله عليه وسلم : "خيرُ صُفوفِ الرّجالِ أوَّلُها، وشَرُّها آخِرُها، وخيرُ صُفوفِ النساء آخِرُها، وشَرها أوَلُها " قال النووي رحمه الله : وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن عن مخالطة الرجال ورؤيتهم .." ومنعهن النبي صلى الله عليه وسلم من مخالطة الرجال في الطريق فروى أبو داود عن أبي أسيد الأنصاري : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء (اسْتَأْخِرْنَ فإنه ليس لَكُنَّ أن تَحْقُقْنَ الطريقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَاتِ الطريق) فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به .

معاشر المؤمنين، هذه بعضُ مظاهر التكريم للمرأة في الإسلام، يستحيل مثلها في أي ديانة محرفة أو مخترعة ، مهما بالغت في تكريم المرأة كما تزعم ، بل حتى الحضارة المعاصرة التي تدعي التطور والتقدم قد أهانت المرأة غاية الإهانة فجعلتها سلعة رخيصة ،فإذا عرفت المرأة المسلمة ذلك فلتحمد الله على هذه النعمة بأن تلتزم بتعاليم الإسلام التي تكفل لها الصيانة التامة والحفظ من كل سوء في الدنيا والآخرة .

إخوة الإسلام، لقد عرف أعداءُ الإسلام من الكفار والمنافقين الذين يتكلمون بألستنا وهم من بني جلدتنا ما يحمله هذا الدين للمرأة من سموّ كرامةٍ وعظيم صيانة، علموا أن الأصلَ قرارُ المرأة في مملكة منزلها، رأوا حقوقَها مقرونةً بمسؤوليتها في رعاية الأسرة، وخروجها في الإسلام من منزلها يؤخَذ ويمارَس من خلال الحشمة والأدب، ويُحاط بسياج الإيمان والكرامة وصيانة العرض، كما قال تعالى: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وكما قال صلى الله عليه وسلم: ((وبيوتهن خير لهن)). فضاقوا من ذلك ذرعاً، فراحوا بكلِّ وسيلة ليخرجوا المرأةَ من بيتها، و ليحرّروها من تعاليم دينها وأخلاقها، تارةً باسم تحرير المرأة، وتارةً باسم الرقي والتقدم الكاذب وتارة بأنها نصف المجتمع والرئة المعطلة . والعجب كل العجب أن الذي ينادي بهذه الشعارات إنما هم الرجال ليتضح لنا جليا الهدف من وراء ذلك ليس المطالبة بحرية المرأة وإنما المطالبة بحرية الوصول إلى المرأة .  

 فالمرأةُ في نظر هؤلاء هي المتحرِّرةُ من شؤون منزلها وتربية أولادها، هي الراكضةُ اللاهثة في هموم العيش والكسب ، هي التي تكون والرجال سواء بسواء  ولو كان ذلك على حساب  تدمير الفضيلة والأخلاق, وتدمير الأسرة والقيم، فلا هي حينئذ بطاعة ربٍّ ملتزمةٌ، ولا بحقوق زوجٍ وافية، ولا في إقامة مجتمع فاضلٍ مُسهِمة، ولا بتربية نشءٍ قائمةٌ.




الخطبة الثانية : أيها المسلمون : في زمان العولمة والانفتاح على العالم تسربت أفكار التحرر الغربية للمرأة المسلمة، فأصبحت تبحث عن مكانتها المفقودة وسط ركام الغرب وزبالات الشذوذ، فصارت تلهث خلف دور الموضة وتلبس كل ما هو مخالف لشرع ربها، وربما كنا في السابق نتكلم عن كشف المرأة لوجهها، ولكننا اليوم أمام كشف لعورات أكبر أمرت المرأة بسترها، فلبست المسلمة البنطال أو ما يسمى بالجينز وعليه عباءة ضيقة وشفافة تظهر ما تحتها، ثم تفننت في اختيار عباءتها ، فهذه فرنسية وهذه فراشة وهذه مخصرة ، حتى صارت العباءة زينة في حد ذاتها تحتاج ما يسترها.

ألم تسمع هذه المسكينة إلى حديث نبينها صلى الله عليه وسلم: صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا .. وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاَتٌ مَائِلاَتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا "

بل ظهر للأسف- من بناتنا المسلمات من يرى أن الحجاب والنقاب الذي تلبسه أمهاتهن والنساء العفيفات نوع من التخلف والرجعية،  وأن التقدم في نظرهن المتخلف هو  السفور وإلقاء الحجاب.

ثم أصبحت المرأة تنافس الرجل في ميدان الحياة والعمل،  فنظرت إلى نفسها نظرت الند للند، متناسية طبيعتها التي خلقها الله عليه، وأن الله لم يسو بينها وبين الرجل قال تعالى : " وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى"  ، مما نتج عنه الكثير من الخلافات الزوجية التي أدت إلى الطلاق وهدم الأسر.

ومن العجيب في الأمر أن بعض أباء النساء يشترطون على الزوج أن يسمح لها بالعمل، ولو كان ذلك على حساب هذه الأسرة وتربية الأبناء، وكل ذلك لأجل تحصيل المال، وإثبات الذات زعما، ونتج عن ذلك أن حلت الخادمة مكان الأم في أعظم وظيفة أوكلت إليها وهي بيتها، قال صلى الله عليه وسلم: ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهى مسئولة عنهم "  

عباد الله: إنَّ من الحصادِ المرِّ الذي نشهدُهُ اليوم جرّاء تخلّي كثيرٍ من النساء عن واجبهنّ الحقيقيّ تُجاه بيوتهنّ وأبنائهن: تلك المشاهدُ المؤلمةُ التي لا تخفى على أحدٍ والتي تحتوي على تعذيبٍ للأطفال وإهانتهم، ولا عجبَ أن يكون من نتائج تخلّي كثيرٍ من النساء عن واجبهنّ الحقيقيِّ تُجاه أبنائهنَّ: ظهورُ جيلٍ من الأبناء بعيدٍ عن دينه بعيدٍ عن عاداته وتقاليده الأصيلة، نسألُ الله أن يصلحهم ويردّهم إلى الصَّلاحِ والاستقامةِ ردّاً جميلاً.
إنَّ المرأةَ المثاليةَ هي التي ترعى زوجَها وأبناءها، قال صلى الله عليه وسلم «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ»

وبعض النساء ارتقين مرتقا صعبا وجبلا وعرا فصرن ينتظمن في أحزاب وجماعات، ويخرجن في مسيرات ومظاهرات، ويطالبن بالحقوق السياسية، ويتطاولن على ولاة أمور البلاد، مخالفات بذلك قول ربهن: " وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ". وإذا ما قبض عليهن صاح أولياؤهن ونادوا بالكرامة والغيرة، وهذا من التناقض في القول والعمل.

أختي المسلمة : اعلمي أن مكانتك هي التي اختارها لك ربك، لأنه هو الخبير بعباده والعليم الحكيم الذي يشرع لهم ما يصلح أحوالهم، وأن الله سبحانه قد أمرك بالقليل ووعدك بالكثير فقال صلى الله عليه وسلم: " إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَصَّنَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا، دَخَلَتْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ "

اتقوا الله يا معاشر الآباء والأزواج احفظوا نساءكم وتذكروا قول لله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ "  وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ اللهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عمّا استرعاه: حفظ أم ضيَّع؟ حتى يسأل الرجلَ عن أهل بيته)


ملاحظة  : استفدت مضمون هذه الخطبة من خطبة للشيخ حسين آل الشيخ خطيب المسجد النبوي بالمدينة النبوية  " 

الخميس، 1 مايو 2014

خطبة جمعة : حق كبار السن - شهر الله المحرم رجب

الخطبة الأولى:  جماعة المسلمين : قال الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل"اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ" ، فقوة الإنسان بَين ضَعفَين: ضعفٌ في أوَّل الأمرِ وضعفٌ في آخِر الأمر، ضعف الطفولة، وضعف الهرم والشيخوخة الذي هو آخر منازل الحياة ولا يعقبها إلا الموت قال صلى الله عليه وسلم : " مَثَلُ ابْنِ آدَمَ، وَإِلَى جَنْبِهِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ مَنِيَّةً، إِنْ أَخْطَأَتْهُ الْمَنَايَا وَقَعَ فِي الْهَرَمِ حَتَّى يَمُوتَ"  فهي مرحلة عصيبة ، ولا عجب أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعوَّذ منها عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتعوذُ يَقول: "اللهُمَّ إِني أَعوذُ بِك مِن الكَسلِ، وأَعوذُ بِك مِن الجُبنِ، وأَعوذُ بِك مِن الهَرمِ، وأَعوذُ بِك مِن البُخل "

ومن رحمة الإسلام أن أرشد المسلمين إلى حقوق كبار السن باحترامهم وتقديرهم ومعاونتهم في شؤون حياتهم .

وهذا الأدب في توقير كبار السن متوارث بين الأمم والأجيال ، فهُوَ منهجُ الأنبياءِ ، وخُلُقُ الأصفياءِ ، قالَ اللهُ تعالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى عليهِ السلامُ " وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ.."  فسقَى موسَى عليهِ السلامُ لَهُمَا لَمَّا عَلِمَ أنَّ أباهُمَا شيخٌ كبيرٌ .

وقد حث على هذا الأدب نبينا صلى الله عليه وسلم فعن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ مِنْ إجلالِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ إجْلالَ ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ "  ، وقال صلى الله عليه وسلم: " لَيس مِنا مَن لَم يَرحم صَغيرنَا ويُوقِر كَبيرنَا" وفي هذا وعيد لمن أهمل حق كبار السن بأنه ليس على هدي النبي صلى الله عليه وسلم وغير ملازم لطريقته.

وأول من تجب رعايته وتوقيره في حال كبره الوالدان قال تعالى: " وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا"  وإنما خص كبر السن بالذكر ، لأن الوالدين أحوج ما يحتاجان للولد عند بلوغهما سن الكبر ، فأمر الله الأبناء ببر الآباء عموما وخصوصا حال الكبر ، بل جعل برهما في هذا العمر من أسباب دخول الجنة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ؟ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبْرِ، أَوْ أَحَدَهُمَا، فَدَخَلَ النَّارَ» فكيف يتجرأ عاق قد نسي جميل والديه عليه إذ كان طفلا ضعيفا ، فيتأفف منهما ويضجر من مجالستهما لكبر سنهما، وربما ساقه الجحود والتكبر إلى أن ينقلهما إلى دور العجزة ليغلق بابا من أبواب الجنة قد فتح له ، ويعرضّ نفسه للعقوبة الدنيوية قبل الأخروية قال صلى الله عليه وسلم :" ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم " 

جماعة المسلمين : من رعاية الإسلام لكبار السن في مجال العبادات أن أمر من يصلي بالناس أن يراعي حال المسنين . قال صلى الله عليه وسلم : "إذا صلَّى أحدُكم للناسِ فليخفِّفْ، فإنَّ فيهِمُ الضعيفَ، والسَّقيمَ، والكبيرَ، وإذا صلَّى أحدُكم لنفسِه فليطوِّلْ ما شاءَ"
عباد الله ومن حق كبير السن أن يفسح له في المجلس إذا دخل فعن أنس بن مالك قال :  جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له فقال النبي صلى الله عليه وسلم ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا " فحثهم على أن يوسعوا له في المجلس.

وقدْ أُمر الصغيرُ أنْ يبدأَ بالسلامِ علَى الكبيرِ ، فقَالَ صلى الله عليه وسلم:« يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ » ، وقدْ بيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ كبارَ السنِّ والضعفاءَ سببٌ مِنْ أسبابِ الرزقِ لدعائِهِمْ الصالحِ وقربِهِمْ مِنَ اللهِ تعالَى ، فقالَ صلى الله عليه وسلم :« هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ » ، كمَا أنَّ البركةَ معهُمْ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم :« الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ »

وكما يدين المرء يدان، والجزاء من جنس العمل فمن راعى حقوق هؤلاء وحافظ على واجباتهم في شبابه وصحته ونشاطه، هيأ الله له في كبره من يرعى حقوقه ، فعن يحيى بن سعيد قال : بلغنا أنه من أهان ذا  الشيبة لم يمت حتى يبعث الله عليه من يهين شيبته إذا شاب"

عباد الله : إن كبار السن يعيشون مرحلة إقبال على الآخرة، فالطاعة فيهم تزيد والخير فيهم يكثر، فروى ابن أبي الدنيا قال: دخل سليمان بن عبد الملك المسجد فرأى شيخا كبيرا فدعا به فقال : يا شيخ أتحب أن تموت؟ قال : لا . قال : بم قال : ذهب الشباب وشره وجاء الكبر وخيره، فإذا قمت قلت بسم الله، وإذا قعدت قلت الحمد لله، فأنا أحب أن يبقى لي هذا" فالواجب على الشباب أن يراعوا حقوق أمثال هؤلاء الناس، اتباعا لشرع الله وإظهارا لخلق الإسلام الكريم.

فهذه النصوص تدعونا إلى احترام كبار السن، ومعرفة حق ذي الشيبة المسلم ولزوم الأدب معهم، باحترامهم وتوقيرهم وملاحظة ضعفهم ووهن أبدانهم.

الخطبة الثانية : أيها الناس: قدْ أظلَّنا شهرُ رجب وهو أحدُ الأشهُرِ الأربعةِ الحُرُم،  قال الله ـ عز وجل ـ: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ "

وعن أبي بكرة رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)

ألا فاحذروا أشدَّ الحذرِ أنْ تظلموا أنفسكُم في هذا الأشهرِ الحُرُمِ خاصّةً وفي بقيّة أيّامكم عامّة: بالشرك، والبدعِ، والذنوبِ والمعاصي، والظلمِ، فإن الله ـ جل شأنه ـ قد زجرنا ونهانا عن ذلك فقال:" فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ."

عبادَ الله: إنّ من الأخطاء التي يرتكبها البعض في شهرِ رجبٍ أنّهم يصلّون ما يسمى بصلاةَ الرَّغائبِ، يؤدُّونها في أولِ ليلةِ جمعةٍ منه بين المغربِ والعشاءِ، وهي بِدعَةٌ باتفاقِ أهلِ العلم، وإنَّ مما أحدثهُ الناسُ في شهر رجبٍ تخصيصهم هذا الشهرَ بأنواعٍ من العبادات لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رجب؛ كصيامِ هذا الشَّهرِ أو أيامٍ منه، ومن ذلك -أيضاً- تخصيصهم شهر رجبٍ بالعمرة فيه يسمونها: العمرةَ الرَّجبية، فلا أصل لها في الشرع ، قال الحافظ ابن حجرٍ  -رحمه الله تعالى-: "لم يردْ في فضلِ رجب، ولا في صيامهِ، ولا في صيامِ شيء منه معين، ولا في قيامِ ليلةٍ مخصوصة ٍفيه حديثٌ صحيحٌ يصلحُ للحجة" اهـ

ومنْ كانَ مواظباً على عملٍ معينٍ في سائرِ الشهورِ فليواصلْ عملهُ وليْثبُتْ عليه، ومنْ وجدَ في نفسهِ نشاطاً وإقبالاً على الطاعةِ فليتقربْ إلى الله من غيرِ اعتقادٍ بخصوصية أو مزيّةٍ لهذا الشهر.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، ومن عمل عملا ليس عليه هدي النبي صلى الله وسلم فهو مردود عليه.