الخميس، 26 يونيو 2014

استقبال شهر رمضان

اعلموا رحمكم الله ، أن الله – عز وجل -  فضَّل بعضَ الأوقاتِ على بعضٍ، وجعلها مُتَّجراً رابحاً لعبادهِ المؤمنين. فهذا شهرُ رمضان يقبل علينا، شهر شرّفهُ الله وفضَّله، أنزلَ فيه القرآنَ قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ "  ، وفرضَ صيامَهُ على الأنام فقال سبحانه (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، وجعلَه موسماً عظيماً من مواسم العفو والغفران، قال صلى الله عليه وسلم " إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ " من صامهُ إيماناً واحتساباً غُفرَ له ما تقدم من ذنبه ، قال الخطابي رحمه الله :قوله " إيمانا واحتسابا " أي نية وعزيمة وهو أن يصومَهَ على التصديقِ والرغبةِ في ثوابهِ طيبةً بهِ نفسهُ غيرَ كارهٍ له ولا مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه ، لكن يغتنم طول أيامه لعظم ثوابه " 

 فضَّلهُ سبحانه على كثيرٍ من القرباتِ والطاعاتِ، ورفعَ منزلتهُ وميّزهُ على أنواعِ العباداتِ بقوله في الحديثِ القدسي ،" كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ" 

قال ابن رجب رحمه الله : " الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد ، بل يضاعفه الله أضعافا كثيرة بغير عدد ، فإن الصيام من الصبر وقد قال الله (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)ا.هـ، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم بشهر الصبر ،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر "

 فهذه النعم تستوجبُ الشكرَ للباري، وتقتضي اغتنام هذا الشهر، بما يكونُ سبباً للفوزِ بدارِ القرارِ، والنجاةِ من النار، فمن حرم فضل هذا الشهر فهو المحروم ، وأي خسارةٍ أعظمُ من أن يدخلَ المرءُ فيمن دعا عليهم جبريلُ عليهِ السلام ، وأمنَّ على دعائهِ نبيُّ الأنامِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم حيثُ قال جبريل : ((من أدركَ شهرَ رمضانَ فلم يغفر له، فدخلَ النارَ فأبعدهُ الله قل: آمين، فقلت: آمين))؟! من حرم المغفرة في شهر المغفرة فماذا يرتجي؟! 

 يقول الله جل وعلا :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا  كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)  فالصيامَ من أكبرِ أسبابِ التقوى لأن فيهِ امتثالا لأمرِ اللهِ واجتنابا لنهيه ، فالصائمَ يتركُ ما أحل الله له من الأكلِ والشربِ والجماعِ ونحوها التي تميلُ إليها نفسهُ متقرباً بذلك إلى الله راجيا بتركها ثوابهُ ، فهذا من التقوى ،  كما أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه لعلمه باطلاع الله عليه  .

والصائم ليله ونهاره في عبادة ، فقد ترك شهواته لله بالنهار تقربا إليه وطاعة له ، وبادر إليها في الليل تقربا إليه وطاعه فما تركها إلا بأمر ربه ولا عاد إليها إلا بأمر ربه فهو مطيع في الحالين .

قال أهل العلم : المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه : جهاد بالنهار على الصيام وجهاد بالليل على القيام ، فمن جمع بين هذين الجهادين ووفى بحقوقهما وصبر عليهما وفِّيَ أجره بغير حساب"

معاشر المسلمين، ليكن صومكم جُنّة تتدرّعون به من جميع المعاصي والآثام، في جميع الأوقات والأزمان، يقول صلى اللهعليه وسلم: ((الصيام جُنّة (أي وقاية)، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني امرؤ صائم)) متفق عليه.

فمن مقاصد الصوم ضبطُ النفس وتهذيبُها، وصومُ الجوارح وحفظُها، قال صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري ، وقال صلى الله عليه وسلم : كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش "

قال ابن رجب : " وسر هذا أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات – من الطعام والشراب والجماع – لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل "   ، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس الصيام من الطعام والشراب وإنما الصيام من اللغو والرفث "  . 

فاحفظوا جوارحكم عن المحرمات ومشاهدة المسلسلات والأفلام وسماع الأغاني حتى تحفظوا صومكم ، وتفوزوا برضا ربكم . وإن من أعظم الخسارة أن يأتي العبد يوم القيامة بعبادة لا أجر لها، وهو أحوج ما يحتاج إلى حسنة تدخله الجنة وتنجيه من النار، فأي قبول يرتجيه الصائم وقد أرهق نفسه بترك الطعام والشراب والشهوات في النهار ثم أفطر عليها وعلى ما حرم الله، فمثله كمثل عامل عمل طول النهار ثم أخذ أجرته في آخر النهار فرماها في البحر. 

وانشغلوا يا عباد الله بتلاوة القرآن الكريم قال صلى الله عليه وسلم " الصيام والقرآن يشفعان للعبد يقول الصيام أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان " 


الخطبة الثانية : عبادَ الله، إذا نزَلَت بالمسلم مواسمُ الخيرات تهيَّأ لها واستعدِّ ونشطَ لكسبها وجدَّ، والسَّعيد من وفِّق لاغتنامها وسلَك الطريقَ الموصِل للقَبول، والمحرومُ من حرِمَ خيرَها، وكَم من صائمٍ حظُّه من صيامِه الجوع والعطَش، وكم من قائمٍ حظُّه من قيامه التَّعب والسّهَر، نعوذ بالله من الحِرمان؛ لِذا شمَّر الخائِفون، وفاز سراةُ اللّيل، ورَبِح المدلِجون، وعند الترمذيّ بسند صحيح عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((من خاف أدلَج، ومن أدلَجَ بلغ المنزِل، ألا إنَّ سلعةَ الله غالية، ألا إنَّ سلعة الله الجنة))

أيّها المسلمون، من أرادَ الصلاةَ تطهَّر لها، وكذا من أراد الصّيام والقيامَ وقَبول الدعاء فعَليه أن يتطهَّر من أدرانِ الذنوب وأن يغسِلَ قلبَه من أوحالِ المعاصي، والتي لها آثارٌ سيّئة على العبادَة خاصَّة، فالتّوبةُ والاستِغفار من أولى ما تُستَقبَل به مواسمُ الخير، فكيف نلقَى الله تعالى وندعوه ونَرجو خيرَه وبِرَّه وإِحسانَه ونحن مثقَلون بالأوزارِ، فالمعَاصي تحرِم العبدَ من إجابةِ الدعاءِ كما في صحيح مسلم أنَّ النبيّ    صلى الله عليه وسلم :ذكَر الرّجلَ يطيل السّفَر أَشعثَ أغبر يمدُّ يدَيه إلى السّماء: يا رَبِّ، يا ربِّ، ومَطعمُه حرام، ومَشرَبه حَرام، ومَلبَسه حَرام، وغُذِّي بالحرام: ((فأنَّى يستَجَاب لذلك؟!))

فاتَّقوا الله تعالى أيَّها المسلمون، واستقبِلوا شَهرَكم بالتّوبَةِ والاستغفار وهجرِ الذنوب وردِّ المظالِمِ وإخلاصِ العِبادَة لله وحدَه واتِّباع السّنّة والعَزيمةِ المقرونةِ بالهمَّةِ الصادِقة للظَفَر بخير هذا الشّهر الكريم وإظهارِ الفرَح والاستبشار به والحذَرِ من التذمُّر والتسخُّط
كما يستعد المسلم بتعلم أحكام الصيام والقيام حتى يعبد الله على بصيرة، فيكون عمله مقبولا، وعنه مرضيا، قال تعالى " فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " 

أيها المسلم إذا دخل رمضان ، فبيت نية الصيام من الليل قبل طلوع الفجر ، و يكفي عزم القلب على الصوم ، وما قيامك للسحور إلا قرينة على نيتك للصوم 

ولا تدع السحور فإنه بركة فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ فَلَا تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ  " وصلاة الله عليهم بأن يذكرهم الله في الملأ الأعلى وصلاة الملائكة أي دعاؤهم لهم عند الله بالمغفرة والرحمة 

ويستحب فيه التأخير إلى قبيل الفجر فعَنْ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً " رواه البخاري  

ثم أمسك عن الطعام والشراب والجماع وعن كل ما يفسد الصوم من الذنوب والمعاصي إلى غياب الشمس ، فإذا غابت الشمس فقد أفطر الصائم  ، وعجل بالإفطار ولا تتأخر فيه ، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ   

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات فإن لم تكن حسا حسوات من ماء   

ولا تدع صلاة التراويح فإنها من سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في رمضان ، وفيها الأجر العظيم قال صلى الله عليه وسلم " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ "  وقال صلى الله عليه وسلم مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ  " 

واعلموا من الذنوب العظام الفطر في نهار رمضان بدون عذر فإنه من كبائر الذنوب والآثام وصاحبه متوعد بالعذاب الأليم فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينا أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلا وعرا فقالا اصعد فقلت إني لا أطيقه فقالا إنا سنسهله لك فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة  قلت ما هذه الأصوات قالوا هذا عواء أهل النار ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم (جانب الفم ) تسيل أشداقهم دما قال قلت من هؤلاء قالا الذين يفطرون قبل تحلة صومهم  . 

الجمعة، 20 يونيو 2014

خطبة : خطر المخدرات والمسكرات و الاهتمام بالأبناء في الإجازة

الخطبة الأولى : قال تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا "  ، كرم الله -عز وجل- بني آدم بخلال كثيرة ، امتاز بها عن غيره من المخلوقات، كرمه بالعقل  وزينه بالفهم ، فكان العقل من أكبر نعم الله على الإنسان ، به يميز بين الخير والشر، والضار والنافع .  وإذا ما فقد الإنسان عقله ، لم يفرق بينه وبين سائر الحيوانات والجمادات ، بل لربما فاقه الحيوان الأعجم  بعلة الانتفاع . 

هذا العقل الثمين ، الذي هو مناط التكليف ،وأحد الضرورات الخمس التي جاءت الشرائع بحفظها، يوجد في بني الإنسان من لا يعتني بأمره ، بل يضعه تحت قدميه ، يبدو ذلك ظاهرا جليا  في مثل كأس خمر ، أو جرعة مخدر ، تفقد الإنسان عقله ؛ فينسلخ من عالم الإنسانية ، ويتقمص شخصية الإجرام والفتك والفاحشة ، وينسى السكران ربه ، ويظلم نفسه ، يتم أطفاله ، ورمل زوجته وأزرى بأهله لما فقد عقله ، فعربد ولهى ولغى 

جماعة المسلمين :  لقد حرم الإسلام الخمر والمخدرات بأنواعها تحريما قطعيا واعتبرها أما للخبائث لأنها مصدر كل خبث وشر ومعصية، والمخدّرات بأنواعها شرٌّ من الخمر، فهي تشارك الخمر في الإسكار وتزيد عليها في كثرة الأضرار، قال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ، فرتب حصول الفلاح على ترك ما حرمه الله . 

وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ عَشْرَةً عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةُ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِي لَهَا وَالْمُشْتَرَاةُ لَهُ   ، بل لقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم على شارب الخمر في الدنيا أن يشربها في الآخرة وإن دخل الجنة عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ " رواه مسلم 
فيا من كرمه الله بنعمة العقل ، يا من كرمه الله بنعمة الإيمان ، كيف تزري بنفسك فترديها المهالك بسبب شربة خمر أو جرعة مخدر يعقبها من الندم الشهور والسنون ، أي لذة يشعر بها من يتعاطى الخمر والمخدر ، وقد حرم نفسه من خيري الدنيا والآخرة 
جماعة المسلمين: الخمر والمخدرات أدت إلى وجود خلل في المجتمع لا يمكن أن يصلح إلا بمحاربة المخدرات والخمور ، فكم سمعنا عن بيوت تهدمت وتشرد الأبناء بسبب ضياع الأب مع المخدرات والخمور ،  والله الكثير مما يشيب لذكره الولدان  ، كما أن المخدرات والمسكرات سبب للعار والفضيحة في المجتمع فمن شرب الخمر فعليه الحد بأن يجلد ثمانين جلدة على ظهره أمام الناس ،ومن تجرع المخدر عرض نفسه للسجن وربما الإعدام إن كان مروجا . كما أن متناول المخدر معرض نفسه للأمراض الفتاكة التي لا دواء لها ، والمسكرات بأنواعها تؤدي إلى انتشار الجريمة في المجتمع والتحلل الأخلاقي حتى يغدو متناول المسكر كالديوث لا يغار على أهله وعرضه .

    هذه خسارة الدنيا فما بالكم بخسارة الآخرة ، خسارة يوم القيامة ، الويل الويل لمن مات على الخمر والمخدر ، والله قد هلك ، طُرد من رحمة الله ،فقد لعنه الله قال صلى الله عليه وسلم " لعن الله الخمر وشاربها .. " وعرض نفسه للحرمان من دخول الجنة فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم قال " ثلاثة لا يدخلون الجنة : الديوث ، ورجلة النساء ، ومدمن الخمر " فأي خسارة هذه يا أيها الإنسان أن تفقد الجنة ونعيمها لمجرد سكرة ساعة ولذة دنيا ،  ربما تموت بعدها وتفارق الدنيا .

وقد وصل بشارب الخمر إلى أن عده رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعباد الأصنام من الكفار على حد سواء إذا ما لقي الله وهو على المخدر والمسكر عاكف ،فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن " رواه أحمد 

ولا يقبل الله لشارب الخمر صلاةً مدة أربعين يوما وإن مات مات ميتة جاهلية قال صلى الله عليه وسلم " ما من أحد يشربها فتقبل له صلاة أربعين ليلة ، ولا يموت وفي مثناته منه شيء إلا حرمت بها عليه الجنة ، فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية  " فإن دخل النار توعده الله بأن يشربه من دم وصديد وعرق أهل النار قال صلى الله عليه وسلم ( كل مسكر حرام ، وإن عند الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال " قالوا يا رسول الله ! وما طينة الخبال ؟ قال ( عرق أهل النار أو عصارة أهل النار " 

فإذا علمت يا شارب الخمر أن العذاب والويل لك إن شربت الخمر أو تناولت المخدر ، أفما يجدر بك أن تتركها ، أن تترك لذة يوم ، لذة دنيا ، لتكسب لذة دائمة ، لذة طاعة الله ورسوله ، أتبيع جنة عرضها السماوات والأرض وتشتري مقاما في النار بشربة خمر أو شمة مخدر ، هل هذا من العقل في شيء ، إنك كمن يبع الذهب بالتراب  . 
فإن قال قائل قد شربت الخمر وتعاطيت المخدرات فما علي الآن ، تب إلى الله فإنه يغفر الذنوب جميعا ، واعزم على ترك الخمر والمخدر أبدا ، ولا يخدعنك الشيطان بأن الله لن يغفر لك قال ربنا عز وجل : " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"        


الخطبة الثانية : عباد الله ومما يتعلق بالمخدرات والمسكرات التدخين الذي عمَّ وانتشر بين جميع أطياف المجتمع دونما نكير من أحد ، بصوره الكثير  كالسيجارة أو الشيشة أو المدوخ والغليون وغير ذلك ، فهو بلاء عظيم ومنكر جسيم استهونه كثير من الناس مع ما يرونه من واقع أليم للمدخنين .
 وتدخين السيجارة حرام ، فيحرم شراؤها وبيعها لما تسببه من أمراض وأضرار صحية على المدخن ، فالتدخين من الخبائث بشهادة العقلاء من بني آدم ، بل ضرره شديد جدا على صحة الفرد فاحذروه .

فاتق الله في نفسك وفي ذريتك وأهلك فإن المدخن يؤذي أهله وأولاده برائحته حتى الملائكة في المسجد تتأذى منه ومن رائحته ، فاعزم الأمر واترك التدخين وقوعك في المرض أو انقضاء أجلك وعنده لا ينفع الندم.

عباد الله : أيام قلائل وينتهي أبناؤنا من أداء امتحاناتهم النهائية وتبدأ إجازتهم الدراسية، وهنا تقع على الآباء مسؤولية كبرى تتمثل في توجيه أبنائهم للاستغلال الأمثل للوقت في هذه الإجازة حتى لا يكونوا فريسة سهلة لشياطين الجن والإنس من أصحاب السوء.
ووقت الفراغ نعمة تحتاج إلى شكر واستغلال حسن وليست مشكلة كما يسميها البعض، قال صلى الله عليه وسلم: " نعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ " 

ولقد عرف السلف الصالح رضوان الله عليهم أهمية حياتهم ووقتهم فاستغلوها خير استغلال فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول " ما ندمت على شيء ندامتي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي " و يقول ابن القيم رحمه الله: "السَّنةُ شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاذ يوم المعاد، فعند الجذاذ يَتبين حلو الثمار من مرها" 

لذلك عليكم بتوجيه أبنائكم لتعلم ما هو نافع لهم في دينهم ودنياهم، كلزومهم حلقات تحفيظ القرآن الكريم،  والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " ، وإذا عزمتم على السفر فليكن لبيت الله والعمرة وزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم نصيب من سفركم.

كذلك يحتاج الأبناء إلى جملة من الدورات العلمية في مجالات شتى لتعزيز مهاراتهم وقدراتهم العلمية والعقلية، فلا بأس من التحاقهم بدورات تعلم اللغات والحاسوب ونحو ذلك مما يكسبهم معارف جديدة تعود عليهم بالنفع في دراستهم وعملهم في المستقبل. 

معاشر الآباء : من حسن تربيتكم لأولادكم أن تشركوهم في أمور حياتكم ومجالسكم، فإذا خرجت إلى السوق مثلا فخذ ولدك معك ليتعلم طريقة التعامل مع الناس في البيع والشراء، وإذا ذهبت للمسجد لصلاة الجماعة والجمعة  أو لزيارة أرحامك أو زيارة مريض أو صديق فخذه معك ليعتاد هذه العبادات ويألفها. 

وكذلك الأم لتشرك بناتها في أمور المنزل وأعماله بدلا من جلوسهن أمام الفضائيات وكلامهن مع الصديقات فيما لا يعود عليهن بالنفع .



الأربعاء، 11 يونيو 2014

مقال : حق الليلة (القرقيعان) بين العادة المباحة والإحداث في الدين .

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد 

                الناظر في الساحة الحوارية هذه الأيام يرى اختلاف المتحاورين والمتناظرين حول شرعية ما يسمى بحق الليلة أو القرقيعان أو غيرها من المسميات، ونرى مظاهر الاحتفال بهذه الليلة تعم بعض الطرق وتعج بها الإعلانات، وتلهج بها بعض وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. 

كما نرى هجوما شرسا ممن يرى شرعية إحياء هذه الليلة بناء على أنها من العادات الإماراتية والخليجية الموروثة على من يرى منعها لأسباب شرعية، بل يتهمونهم بالتعصب والتشدد، وزاد بعضهم من تهجمه بأن شكك في وطنيتهم.

وفي الحقيقة هذه الهجمة منهم لا تظهر سعة صدورهم لحوار المخالف، الذي ينبغي أن يتصف به المتحاورون ، بل هي طريقة من لا حجة لديه في أي حوار كان، إذ يلجأ إلى التهويل ورفع الصوت والتخويف والاتهامات لأجل تغطية ضعف الحجة لديه.

والمسلم يتلقى الأحكام من الشرع الحنيف ، ويعرض أعماله على أحكام الشرع فما وافق الشرع عمل به، وما خالفه تركه إرضاء لله ، فأود أن أعلق على حكم هذه الليلة من منظور شرعي خصوصا بعد أن تكلم فيها من لا يحسن العلم الشرعي من الأصاغر ودعاة الفضائيات ومحبي الشهرة . 

فأقول : 
أنزل الله سبحانه وتعالى أحكام شرعه لنتحاكم إليها ونعمل بها قال تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: " وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ " ، وحذر من مخالفة حكمه وشرعه فقال : "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا "  ، وأرشدنا الله سبحانه إلى الرجوع في ما يستجد من من قضايا ونوازل ومستجدات إلى أهل الاستنباط ليستخرجوا الحكم الشرعي من الأدلة والقواعد الشرعية فقال : "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا"

فلا بد أن ننظر في أحكام الشرع وأدلته في حكم ما يسمى (بحق الليلة ) خصوصا وقد وقع فيه الاختلاف ما بين قائل بالإباحة بناء على أنها موروث ثقافي في الدولة، وبين من يقول بمنعها لاحتوائها على ما يخالف الشرع. 
وللحكم على هذه المسألة لا بد من تحديد صورتها التي تحدث بها : 

أولا : صورة المسألة 
في ليلة النصف من شعبان ينطلق الأطفال بعد صلاة العصر أو المغرب في جماعات فيطوفون على المنازل وهم يرددون بعض الجمل الشعرية أو العبارات المسجوعة أو الشعرية، ومعهم أكياس يجمعون فيها ما يعطونهم إياه أصحاب هذه المنازل والذين يكونون قد جهزوا الهدايا قبل ذلك . 
وتطور الأمر بعد ذلك إلى أن أصبحت احتفالية تصحبها الأغاني الشعبية والتجمعات الأهلية .

ثانيا : حكم إحياء هذه الليلة .

الجواب : هذه الليلة لا يخلو أن تكون : إما من قبيل العبادات أو من قبيل العادات .

فإن كانت من قبيل العبادات فإن القاعدة التي تحكمها قول النبي صلى الله عليه وسلم: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 

وقد علمنا بالاستقراء لحياة النبي صلى الله عليه وسلم أنه أدرك تسع  شعبانات في حياته ، لأن العلماء أجمعوا أنه صام تسع رمضانات في حياته صلى الله عليه وسلم، ولم يرد بنقل صحيح صريح أنه فعل شيئا من ذلك في هذه الليلة . 

و لقد حذرت شريعتنا البدع جميعها صغيرة كانت أو كبيرة، ولو قصد صاحبها الخير، قال صلى الله عليه وسلم:كل بدعة ضلالة" وهذا عموم لم يخص.

ومن خطورة البدع أنها تشابه الشرع من حيث إرادة التعبد وفعل الخير فيظنها الناس خيرا فيعملونها بل ويدافعون عنها على أنها دين يتقرب به إلى الله وينكرون على من ينكرها،  قال عمر بن عبد العزيز:ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله قد فني عليه الكبير وكبر عليه الصغير ... حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره " ، ولأجل ذلك كانت البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فالمعصية قد يتوب منها فاعلها أما البدعة فلا يتاب منها لأن فاعلها يعتقدها دينا يتقرب به إلى الله.

وقد عرف الشاطبي البدعة بقوله:" طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية"

والبدع لا يشترط أن تكون محدثة لا أصل لها في الشرع، بل قد تكون مشروعة في أصلها ولكن تقع البدعة من حيث التطبيق ومخالفة هدي السلف، فالثلاثة الرهط الذين جاؤوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته(يقوم الليل ولا ينام-يصوم الدهر-لا يتزوج) عبادات مشروعة وفعل خير، ولكن أنكر ها النبي صلى الله عليه وسلم وقال :فمن رغب عن سنتي فليس مني" وعلى هذا يفسر قوله :"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. 

ومن علامات البدعة :تخصيص العبادة بزمان أو مكان أو حالة أو عدد ولم يثبت دليل على ذلك التخصيص، ولو كانت مشروعة في أصلها، والقاعدة العامة في هذا الباب: أن كل عبادة لم يتعبدها النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة من بعده فهي بدعة ضلالة. 

ثانيا : إذا قيل أن هذه الاحتفال بهذه الليلة ليس من قبيل العبادات بل هو من قبيل العادات التي لا دخل للبدعة فيها. 

فالجواب : الأصل أن البدع لا تدخل في العادات وتعاملات الناس الدنيوية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنتم أعلم بأمور ديناكم ، قال ابن تيمية : الأصل في العبادات أن لا يشرع فيها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله " 

ولكن يوجد استثناء من هذا الأصل وهو أن العادة قد يحكم عليها بأنها بدعة أو حرام إذا تُعبِدَ بها  أو اندرجت تحت عبادة ما أو احتوت على مما يخالف الشرع،  قال الشاطبي في الاعتصام : العادات إذا دخل فيها الابتداع فإنما يدخلها من جهة ما فيها من التعبد لا بإطلاق " وقال " العاديات – أي العادات- من حيث هي عادية –أي عادة- لا بدعة فيها ، ومن حيث يتعبد بها أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة " 

إذا نخلص من ذلك : أن الأصل في العادات الإباحة ولا تدخلها البدعة إلا إذا اقترنت بها شبهة التعبد وفعلت على غير الوجه الشرعي أو وجد فيها ما هو محرم . 

 مثال ذلك: لو اعتاد الناس أن من يقترض قرضا من آخر فإنه يرده إليه في موعد السداد مع هدية، فهذه العادة محرمة لأنها تؤول إلى الربا .

ولو اعتاد الناس المصافحة بعد الصلاة مباشرة، فهذه العادة بدعة قال القرافي :" ما يفعله أهل الزمان من المصافحة عند الفراغ من الصلاة بدعة غير مشروعة"
وهذه عادة والأخرى عادة واختلف الحكم عليها بسبب ما داخل العادة من شبهة التعبد أو احتوائها وإفضائها إلى أمر محرم .

بقي السؤال : هل احتفال الناس بليلة النصف من شعبان :
عبادة 
أم عادة محضة 
أم عادة فيها شبهة عبادة
أم عادة احتوت على محرم

الجواب : 
هذه العادة ارتبطت بتعظيم ليلة لم يعظمها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل هي ليلة من ليالي السنة لا مزية لها ولا خصوصية، إلا ما ورد من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " يطلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن "  

وهذا الحديث قد اختلف فيه أهل الحديث اختلافا كبيرا، فضعفه البعض وصححه آخرون.

وعلى القول بصحته فإنه يثبت فضيلة لهذه الليلة بهذه الصفة وهي مغفرة الله لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن. 

وباب الفضائل توقيفي، فلا يحكم في الشرع بفضيلة زمان ولا مكان ولا عمل إلا بدليل شرعي صحيح، فيقتصر في فضلها على ما ورد به النص دون الزيادة عليه بإحداث عادات تبنى على فضيلة ما . 

والأولى في هذه الليلة الانشغال بمحاسبة النفس على ما وقعت فيه من رياء أو عمل من الأعمال يكون شركا كالحلف بغير الله، وتعليق التمائم، والخوف من الأولياء والصالحين كخوفهم من الله ، فيبادر بالتوبة. 

ويسعى لإصلاح ذات البين فيما بينه وبين غيره، أو يصلح بين المتخاصمين مذكرا لهم بهذا الحديث، وليس الانشغال بالهدايا والاحتفالات. 

وهذه الفضيلة ولا شك فضيلة عظيمة جدا، ولكنها قد وردت كذلك في مناسبات أخرى منها ما رواه البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا" 
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فلم تخص هذه العادة بالنصف من شعبان دون أيام الإثنين من كل أسبوع، فالفضيلة واحدة.

و السلف رحمهم الله لم يعظموا هذه الليلة بشيء، إذ صح عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو من أتباع التابعين أنه قال : " لم أدرك أحدا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان، ولم ندرك أحدا منهم يذكر حديث مكحول (الحديث السابق) ولا يرى لها فضلا على سواها من الليالي " 

ونبينا صلى الله عليه وسلم عظم شهر شعبان كله بصيام أغلبه كما صحت بذلك الأدلة، ولكن انصرف الناس عن المشروع إلى عادة غير مشروعة وهذه من آثار البدع قال ابن عباس :ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن"

ثانيا : إن سلمنا بأنها عادة والأصل في العادات الحل والإباحة .
الجواب : هذه العادة وإن كانت جائزة في ذاتها لكن يمنع منها للأسباب التالية: 

أ – أنها وقعت في زمن تكثر فيه البدع والمخالفات ، ففي إحياء هذه العادة في هذا الزمان مشاركة لأهل البدع في بدعهم. 

فمن المعلوم أن بعض المسلمين من الجهال يجتهدون في بعض البدع في ليلة ويوم النصف من شعبان ، كصلاة الألفية التي بنيت على حديث موضوع كما ذكر ذلك ابن القيم فقال : " حديث : " يَا عَلِيَّ مَنْ صَلَّى لَيْلَةَ النِّصْفِ من شعبان مئة رَكْعَةٍ بِأَلْفِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قَضَى اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَاجَةٍ طَلَبَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَسَاقَ جُزَافَاتٍ كَثِيرَةً وَأَعُطِيَ سَبْعِينَ أَلْفَ حَوْرَاءَ لِكُلِّ حَوْرَاءَ سَبْعُونَ أَلْفَ غُلامٍ وَسَبْعُونَ أَلْفَ وِلْدَانٍ" إِلَى أَنْ قَالَ: "وَيَشْفَعُ وَالِدَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سَبْعِينَ أَلْفًا".
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ شَمَّ رَائِحَةَ الْعِلْمِ بِالسَّنَنِ أَنْ يَغْتَرَّ بِمِثْلِ هَذَا الْهَذَيَانِ وَيُصْلِيهَا؟!
وَهَذِهِ الصَّلاةُ وضعت في الإسلام بعد الأربع مئة وَنَشَأَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَوُضِعَ لَهَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ:
مِنْهَا: "مَنْ قَرَأَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَلْفَ مَرَّةٍ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في مئة رَكْعَةٍ الْحَدِيثُ بِطُولِهِ وَفِيهِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مئة مَلَكٍ يُبَشِّرِونَهُ".
وَحَدِيثِ "مَنْ صَلَّى لَيْلَةَ النِّصْفِ من شعبان ثنتي عَشْرَةَ رَكْعَةً يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلاثِينَ مَرَّةً {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} شَفَّعَ فِي عَشْرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ قَدِ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ" وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي لا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ " انتهى كلامه .

وبعضهم يخص يومه بصيام دون غيره لاعتقاد فضله، وكل ذلك مما لم يرد فيه دليل على مشروعيته .

 فإحداث عادة يحصل بها الاحتفال في هذه الليلة من معاونة أهل البدع على بدعهم. 

ب– تمنع هذه العادة سدا لذريعة الوقوع في البدع في هذه الليلة، وقد حذر العلماء من الأعمال التي تقع في هذه الليلة لاعتقاد فضلها على غيرها من الليالي .

ج – تمنع هذه العادة للقاعدة الشرعية : إذا تعارض محظور ومباح قدم المحظور .
فالابتداع في الدين محظور ومحرم، وحق الليلة عادة مباحة ، وقد اختُلفَ في حكم هذه الليلة على قولين : الأول التحريم ، والثاني : الحل ، فيترك فعل الحلال المباح لأجل عدم الوقوع في الحرام والبدعة . 

د – تمنع هذه العادة لأن فتوى العلماء الأجلاء من أهل الفتوى والاجتهاد على منعها وعدم فعلها، وقد أمرنا بالرجوع إليهم في ما يشكل علينا أو ما يستجد من قضايا وأحوال . 
حيث أفتى الشيخ ابن باز والشيخ صالح الفوزان والشيخ عبد الله الغديان والشيخ بكر أبو زيد والشيخ محمد بن صالح العثيمين والشيخ الألباني ، بأن ما يسمى بحق الليلة من البدع التي لا يجوز فعلها ولا إحياؤها. 

فتقدم فتوى أهل العلم على ما اعتاده الناس من أعمال قد لا يدركون حقيقتها على الوجه الصحيح، وتقدم على فتوى دعاة الفضائيات من الأصاغر ومحبي الشهرة الإعلامية ممن لا يعرف بعلم.

هـ - : هذه العادة توافق يوم احتفال عند أهل البدع من الرافضة، إذ يعتقدون أنها الليلة التي ولد فيها الحسن بن علي رضي الله عنه، وهذا وإن حصل الاختلاف في تحديد النصف الذي ولد فيه هل هو النصف من شعبان او النصف من رمضان، لكن تبقى مشابهتهم له في المسمى والصفة والأقوال والأشعار التي تقال فيها . 

ومن قرأ كلامهم في هذه الليلة ما يحصل فيها علم علم اليقين أنها من إحداثهم
وقد نهينا في شرعنا عن مشابهة أهل الانحراف من المشركين وأهل البدع وأهل الفسق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من تشبه بقوم فهو منهم" 

فلهذا ولغيره من الأسباب كان ترك الاحتفال بهذه العادة متعينا، اتقاء للشبهات، وإرضاء لرب الأرض والسموات . 

وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه . 

كتبه : أبو محمد سعيد بن سالم . 

الخميس، 5 يونيو 2014

خطبة جمعة : وصف الجنة

الخطبة الأولى :جماعة المسلمين: يقول ربنا سبحانه وتعالى في محكم التنزيل " وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " ، فيدعو الربُ الجليلُ عبادَه المؤمنين إلى دار الخلود والقرار، إلى دار السلام التي سلمت من جميع الآفات والنقائص، وذلك لكمالِ نعيمِها وتمامهِ وحسنهِ من كل وجه، إنها الجنةُ التي أعدها الله لعباده المؤمنين ،قال صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . واقرؤوا إن شئتم :" فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " 

فما هي الجنة وما صفتها ؟ فقد ذكر الله-جل وعلا- في كتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم في سنته خبر الجنة وصفتها، فالجنة خلقها الله وجعلها نزلا لمن أطاعه واتقاه ، قال تعالى " هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ، جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ، مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَا، وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ،إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ"  دارٌ أبديةٌ لا تفنى ولا تبيد، وعد الله أهلها بالخلود فقال تعالى : "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ، خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا "  

يدخلها المؤمنون بعدما يجتازون الصراط على متن جهنم ، قال صلى الله عليه وسلم :" يُوضَعُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ ، عَلَيْهِ حَسَكٌ كَحَسَكِ السَّعْدَانِ ، ثُمَّ يَسْتَجِيزُ النَّاسُ ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ ، وَمَخْدُوشٌ بِهِ ثُمَّ نَاجٍ ، وَمُحْتَبِسٌ وَمَنْكُوسٌ فِيهَا " أي في النار ، ثم يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتَصُ بينهم؛ ليذهب الغِلّ والحقد الذي في قلوبهم، ، كما قال تعالى: " وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ "  

ثم يأتي أهلُ الجنةِ الجنة، وأولهم دخولاً لها نبُينا صلى الله عليه وسلم يأتي فيقرعُ باب الجنة فيستفتحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ : مَنْ أَنْتَ ؟ فيقول : مُحَمَّدٌ ، فَيَقُولُ : بِكَ أُمِرْتُ لا أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ . ثم تدخل بعده أمتُه، فهي آخرُ الأممِ في الدنيا وأولُهم دخولاً الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: ((نحن الآخِرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة)) مسلم

وللجنة ـ عباد الله ـ ثمانيةُ أبواب، ما بين مصراعي الباب مسيرة أربعين سنة وليأتينَّ عليهِ يومٌ وهو شديدُ الزحام ، كلُ بابٍ منها مخصصٌ لصنفٍ من المؤمنين يُدْعون للدخول منه. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصِّيَامِ بَابِ الرَّيَّانِ ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ . هَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ؟ فَقَالَ :« نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ يَا أَبَا بَكْرٍ ». 

وأولُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً؛ لاَ يَبُولُونَ، وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ، وَلاَ يَتْفِلُونَ، وَلاَ يَمْتَخِطُونَ أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ.

يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جُرْدًا ، مُرْدًا ، بيضًا ، جِعَادًا ، مُكَحَّلِينَ ، أَبْنَاءَ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِينَ ، عَلَى خَلْقِ آدَمَ ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي عَرْضِ سَبْعِ أَذْرُعٍ.

ثم هم بعد ذلك منازل ودرجات، قال صلى الله عليه وسلم : إنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِهِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ اللَّهِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ  
فإذا دخلوا   نادى عليهم مُنَادٍ إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلاَ تَسْقَمُوا أَبَدًا وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلاَ تَمُوتُوا أَبَدًا وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلاَ تَهْرَمُوا أَبَدًا وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلاَ تَبْتَئِسُوا أَبَدًا ». فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ "  

وأما نعيم الجنة":" فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "  ، يخبرنا الصادق المصدوق عن أدنى أهل الجنة منزلة ونعيما،  فقال صلى الله عليه وسلم : سألَ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - رَبَّهُ : ما أدْنَى أهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً ؟ قال : هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ ، فَيُقَالُ لَهُ : ادْخُلِ الجَنَّةَ . فَيَقُولُ : أيْ رَبِّ ، كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ ، وأخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ ؟ فَيُقَالُ لَهُ : أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا ؟ فَيقُولُ : رَضِيْتُ رَبِّ ، فَيقُولُ : لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَيقُولُ في الخامِسَةِ . رَضِيْتُ رَبِّ، فَيقُولُ : هذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ . فَيقُولُ : رَضِيتُ رَبِّ . قَالَ : رَبِّ فَأَعْلاَهُمْ مَنْزِلَةً ؟ قالَ : أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ ؛ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي ، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" وفي رواية عند الطبراني صححها الألباني رحمه الله وفيها: " فيقول الله جل ذكره : ألم ترض أن أعطيك مثل الدنيا منذ خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافه ؟ فيقول : أتهزأ بي وأنت رب العزة ؟ فيضحك الرب تبارك وتعالى من قوله ،فيقول الرب جل ذكره : لا ولكني على ذلك قادر، سل . فيقول : ألحقني بالناس، فيقول : الحق بالناس، قال : فينطلق يرمل في الجنة حتى إذا دنا من الناس رفع له قصر من درة، فيخر ساجداً فيقال له : ارفع رأسك ما لك ؟ فيقول : رأيت ربي .فيقال له : إنما هو منزل من منازلك . قال : " ثم يلقى رجلاً فيتهيأ للسجود له، فيقال له : مه، فيقول : رأيت أنك ملك من الملائكة، فيقول : إنما أنا خازن من خزانك وعبد من عبيدك تحت يدي ألف قهرمان على مثل ما أنا عليه " .
قال : " فينطلق أمامه حتى يفتح له القصر " . قال : " وهو من درة مجوفة، ... فيقال له : أشرف، فيشرف فيقال له : ملكك مسيرة مائة عام ينفذه بصرك " 
عبد الله: وأما إن سألت عن  بناءِ الجنة ، فلَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلَا يَبْأَسُ وَيَخْلُدُ وَلَا يَمُوتُ لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ. 

أيها المؤمن إن لك في الجنة غرفا مبنية قال تعالى : "لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ "، وفيها قصور من ذهب ، يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن أحدكم بمنزله في الجنة أدل منه بمسكنه كان في الدنيا " 

وأما خيام أهل الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: إنَّ لِلمُؤْمِنِ فِي الجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُها في السَّمَاءِ سِتُّونَ مِيلاً . لِلمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُ فَلاَ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضاً " وعن ابن عباس – رضي الله عنه- قَالَ : الْخَيْمَةُ لُؤْلُؤْة مُجَوَّفَةٌ ، فَرْسَخٌ فِي فَرْسَخٍ ، لَهَا أَرْبَعَةُ آلاَفِ مِصْرَاعٍ مِنْ ذَهَبٍ.
في الجنة – أيها الموفق- أنهار  قال تعالى في وصفها:"  مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ"   ليس لها أخدود في الأرض بل إنها لسائحة على وجه الأرض إحدى حافيتها اللؤلؤ والأخرى الياقوت ، طينها المسك الأذفر أي الخالص . وفيها نهر الكوثر حافتاه من ذهب وتربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج.

لمثل هذا فليعمل العاملون، فالجنة – يا عباد الله- أقرب إلى أحدنا من شراك نعله والنار مثل ذلك، فلا تؤثروا الحظ الفاني في الدنيا، على الحظ الباقي النفيس في الآخرة، لا تبيعوا جنة عرضها السموات والأرض، بسجن في الدنيا.
والعمل قليل والوعد من الله عظيم ." فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ "  



الخطبة الثانية : عبد الله فإن سألت عن شجر الجنة، ففي الجنة أنواع من أشجار الفواكه مختلفة كما قال تعالى  "فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ " ،  فيها شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها ، ساقها من ذهب ، يأكل أهل الجنة من ثمارها قياما وقعودا ومضطجعين ، وأما نخلها فعن ابنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : نَخْلُ الْجَنَّةِ جُذُوعُهَا زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ ، وَكَرَبُهَا ذَهَبٌ أَحْمَرُ ، وَسَعَفُهَا كِسْوَةٌ لأَهْلِ الْجَنَّةِ ، مِنْهَا مُقَطَّعَاتُهُمْ وَحُلَلُهُمْ ، وَثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلالِ أَوِ الدِّلاءِ ، أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ لَيْسَ لَهُ عَجْمٌ " أي نوى.

وأما نساء الجنة ، والحور العين فهن أزواج مطهرات من كل أذى وقذر، أنشأهن الله إنشاءً فجعلهن أبكارًا، كلما جامعها زوجها عادت  بكرًا، وجعلهن عُرُبًا أترابًا، والعَرُوب هي المرأة المتودّدة إلى زوجها، أترابًا على سِن واحد ، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينها ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها  - أي خمارها-  على رأسها خير من الدنيا وما فيها ، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا يكونون "هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ، لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ، سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ"  

وأما عن طعام وشراب أهل الجنة فكما قال تعالى:" يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُون، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ،لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ ، وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ "  قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن أحدكم –في الجنة- ليعطى قوة مئة رجل في الأكل والشرب والجماع "  

وأما أعظم النعيم فهو رؤية المؤمنين لربهم الكريم في الجنة قال تعالى :"وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ "  عن صهيب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إِذَا دَخَلَ أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة يَقُول اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : أَلَمْ تُبَيِّض وُجُوهنَا ؟ أَلَمْ تُدْخِلنَا الْجَنَّة وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّار ؟ قَالَ : فَيَكْشِف الْحِجَاب , فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَر إِلَى رَبّهمْ عَزَّ وَجَلَّ . ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة: "لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ "   

جماعة المسلمين : هذا وصف قليل من كثير ، وإلا فوصف الجنة أعظم من هذا ، ولكن السؤال الذي ينبغي أن نسأله أنفسنا ، كيف السبيل إلى هذه الجنة ؟  فالجواب قال تعالى: "تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا " ، والتقوى تكون بفعل الطاعات والاجتهاد فيها ، واجتناب المعاصي والابتعاد عنها . 

قال تعالى: " وَسِيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ"