الخميس، 28 أغسطس 2014

نعمة الوطن والخدمة الوطنية

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه ، مُعافى في جَسَدِهِ ، عندهُ قوتُ يومِه ، فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها " في الحديث تذكير بنعم الله على العبد، فإن الله سبحانه وتعالى- خلق العباد لعبادته وتوحيده فقال: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" وأهم النعم التي يحتاجها العابد لتحقيق هذا الهدف السامي هي أمن في نفسه وجماعته وبلده، وعافية في صحته وجسده، وطعام يتقوى به على طاعة الله.
أيها المسلمون: الأرض التي تتوافر فيها هذه النعم من الأمن والعافية والغذاء حري بأهلها أن يتعاونوا على حفظها والعمل على الدفاع عنها وحفظ مكتسباتها، وهذا أمر مجبولة عليه النفوس السليمة، وهو محبة الوطن والدفاع عنه .

فحب الوطن عباد الله- غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجم، ويغضب له إذا انتُقص، أخرج الترمذي، بسندٍ صحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق مكة عند هجرته منها:  (مَا أطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأحَبَّكِ إليَّ، وَلَوْلا أن قَوْمِي أخْرَجونِي مِنْكِ مَا سَكَنْت غيْرَكِ). وحيث أن حب الوطن غريزة في الإنسان، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم من ربه بأن يرزقه حب المدينة لما انتقل إليها، فقد أخرج الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد). ومما يدل على مشروعية حب الوطن كما قرره الأئمة الأعلام ما أخرجه البخاري، وأحمد وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة (أي حدود المدينة ) أوضع ناقته أي (حملها على السير السريع )، وإن كانت دابة حركها" قال أبو عبد الله: زاد الحارث بن عمير عن حميد: "حركها من حبها".قال ابن حجر في "الفتح" "وفي الحديث دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه".

أيها المسلمون: من نعم الله علينا أن أسكننا هذه الأرض – دولة الإمارات العربية المتحدة – وجعل لنا فيها الأمن والأمان والراحة والطمأنينة ، وهي الوطن الذي نشأنا فيه وترعرعنا وتعلمنا على أرضه وذلك بفضل من الله المنعم ثم بفضل ما يسر لهذه البلاد من الخيرات وولاة الأمر من الحكام- أعزهم الله- حيث لم يبخلوا علينا في شيء بل وفروا لنا كل ما نحتاج إليه في حياتنا، فإذا تقرر هذا؛ فما هو الواجب علينا ؟ إن الواجب على أبناء هذا الوطن أولا شكر الله تعالى على هذه النعم بأن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، فمن شكر وعد بالمزيد قال سبحانه : " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ "  ، ثم على أبناء هذا الوطن محبته، و التكاتف بين أفراد مجتمعه والتلاحم فيما بينهم، فإذا كنا لبنة واحدة؛ عجز عنا العدو وباء طمعه بالخسران

عباد الله : وهذه النعم محل حسد من أصحاب القلوب المريضة، والدول المبغضة، فيسعون بكل جهد ومال لإفسادها وتغييرها، واستبدالها بالنقم، فسعوا جاهدين لتهييج أهل الفتن في البلدان، بحجة المطالبة بالحقوق ومشاركة السلطان، وسخروا لهم وسائل الإعلام، وجندوا فيها الروبيضة سفهاء الأحلام، فنعقوا بالشبهات وحرفوا الرواسخ الثابتات، وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ" قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: "الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ" ، فغرروا الناس بالفتن حتى أحرقوهم بنيرانها، وأصلوهم بحرها وسمومها، وهم يظنون أنهم يسعون للحريات، وحقيقة الفتن أن أولها يسر وأوسطها يغر وآخرها علقم مر ، وهذا ما كشفه التاريخ والواقع، فما أتت هذه الثورات بخير على بلاد المسلمين.

  فلو قلبتم أنظاركم في ما جاوركم من البلدان، التي كانت تنعم بالخير والأمان، فاغتر أهلها بالفتن فانقلبت أحوالهم، فلم يحصدوا من الثورات إلا الخوف والحَزن، والجوع والمحن، أمن مرفوع، وخير مقطوع، وشتات وجوع، سُفكت دماؤهم وضاعت أموالهم ، وخربت ديارهم ،و سَلب الأعداء الخيرات، وتركوهم في الفتن المتلاطمات، والعاقل من اعتبر بعبر الزمان.
عن معاوية رضي الله عنه قال : "إياكم والفتنة فلا تهموا بها، فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة وتورث الاستئصال" فحذار حذار أيها الناس " ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" وتأملوا قول ربنا سبحانه : " سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" فسنة الله ثابتة أن من كفر نعمهُ سلبه خيره، وأن من اتبع أهواه أشقاه.
فاحمدوا الله واشكروه على نعمه علينا في هذه البلاد، التي صارت بفضل الله مضرب الأمثال في العالم.



الخطبة الثانية : اعلموا رحمكم الله أن من موجبات حب الوطن الدفاع عنه بالمال والنفس والقلم، لأنه بلد إسلامي، أهله مسلمون، تظهر فيه شرائع الإسلام، وإن من حرص دولتنا علينا  وعلى هذه الأرض أن أمرت بالتجنيد العسكري لجميع رجال الدولة خدمة وطنية، يتسلح من خلالها شباب الوطن للدفاع عنه، والذود عن حياضه والمحافظة على مكتسباته، وحفظ أمنه وثرواته، فهذه مصالح عظيمة، وتربوية متينة تصب في صالح الدين والوطن.

أيها الناس لا يخفى على عاقل أننا في زمانِ تحدٍ وقوة، والوطن برجاله والدين بحماته، وقد أولى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجانب غاية الاهتمام، فكان هو الفارس المقدام والمحارب الشجاع، فربى أصحابه على ذلك فكان يتلو على المنبر قول الله تعالى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ " ثم قال : ألا إنِ القوةَ الرمْيُ، ألاَ إِن القوةَ الرمْيُ، ألا إن القوةَ الرمْيُ" ، ومَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ أي يرمون بالسهام - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا "  قال بعض أهل العلم: دل هذا الحديث أن للسلطان أن يأمر رجاله بتعلم الفروسية وأن يحض عليها" ، وقال صلى الله عليه وسلم :" من تعلم الرمي ثم نسيه فهي نعمة جحدها" وقال في رواية: من علم الرمي ثم تركه فليس منا "  وفي هذا الترهيب من تضييع القوة التي بها يُنتصر على العدو ، وكان الخلفاء يكتبون إلى عمالهم بتدريب الرجال على أعمال القتال والجهاد، فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل الشام: أن علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل" وعَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ، يَقُولُ: «أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ وفيه: أَمَّا بَعْدُ، .َإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ الْعَجَمِ، وَعَلَيْكُمْ بِالشَّمْسِ فَإِنَّهَا حَمَّامُ الْعَرَبِ، وَاخْشَوْشِنُوا-من الخشونة وترك التنعم- وَاخْلَوْلِقُوا- أي تهيؤوا استعدادا لما يراد منكم- وَارْمُوا الْأَغْرَاضَ، واقطعوا الرُّكُب، وَانْزُوا نَزْوًا " أي أن يقفزوا على الخيل بلا ركاب وهو موضع القدم في السرج.

قال ابن القيم: " هذا تعليم منه للفروسية وتمرين البدن على التبذل وعدم الرفاهية والتنعم .."

وفي القيام بالخدمة الوطنية اكتساب للأجر والمثوبة، ففيها طاعة لله ورسوله بالاستعداد للجهاد ولقاء العدو، وطاعة لولي الأمر، والله يقول : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ "
وقال صلى الله عليه وسلم: " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية ٍ فإذا أمر بمعصية ٍ فلا سمع ولا طاعة"

وفي التدريب العسكري تعليم للقوة وتدريب عليها، والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير.


فيا معشر الشباب: لبوا نداء حكامكم والتفوا حولهم وكونوا يدهم وعينهم، فالبيت المتوحد أمان وعصمة، والمجتمع المتحد درع وقوة ، وهذه وصية باني دولتنا شيخنا الشيخ زايد رحمه الله رحمة واسعة ورفع درجته في الجنة إذ قال : اعلموا يا أبنائي أن وطنكم أمانة في أعناقكم فصونوا هذه الأمانة وذودوا عن حياضه وشرفه واعملوا على عزة ورفعة شأنه ، فعليكم تقع مسؤولية عظيمة جدا، فكونوا عند حسن ظن قيادتكم وأهلكم بكم، وثقة شعبكم الذين هم سندكم، تزودوا يا أبنائي بالعلم والإيمان والأخلاق واغرفوا من مناهل الثقافة والعلوم الفكرية ما يؤهلكم لاستيعاب أحدث الأسلحة والخطط العسكرية المتطورة وليكن النظام والطاعة والانضباط أسلوبكم في التعامل اليومي، واعلموا أن قوة الجيش في نظامه وإخلاصه وولائه وتمسكه بعقيدته"


ملاحظة : اقتبست بعض هذه الخطبة من خطبة للشيخ الدكتور الفاضل محمد غيث حفظه الله وغفر الله له 

الأربعاء، 27 أغسطس 2014

أدلة ومصادر الفقه - 2 -

المصدر الثالث: الإجماع

هو الأصل الثالث من الأصول التي تستمد منا الشريعة الأحكام ، ويذكره علماء الأصول بعد الحديث عن الكتاب والسنة

تعريفه : اتفاق مجتهدي العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على  أمر من أمور الدين .

قوله " اتفاق " ليخرج الخلاف في المسألة

مجتهدي : ليخرج غيرهم، والمجتهد هو الفقيه الذي استكمل شروط الاجتهاد .

العصر : أي الفترة الزمنية التي وقعت فيها تلكم الحادثة.

من أمة محمد صلى الله عليه وسلم: يخرج المجتهدين من أتباع الأمم الأخرى كاليهود والنصارى فلا يعتد بخلافهم أو إجماعهم.

بعد وفاته : فلا إجماع في حياته صلى الله عليه وسلم .

في أمر من أمور الدين: قيد يخرج الإجماع في الأمور غير الشرعية ، فالإجماع الشرعي هو ما كان في الأمور الشرعية  فقط .

وهو حجة قد دل على حجيته الكتاب والسنة .

فمن الكتاب قول الله تبارك وتعالى : " وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا "
الله توعد بالعذاب من شاق الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين أي الطريق الذي اختاروه لأنفسهم ، وهذا يدل على وجوب متابعتهم سبيلهم وعدم مخالفته ، ولا يصح إطلاق القول بأن ذلك القول أو الفعل هو سبيل المؤمنين إلا باجتماع قولهم أو فعلهم على رأي موحد.
ومن السنة قال صلى الله عليه وسلم: لا تجتمع أمتي على ضلالة ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار " رواه أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم والألباني .
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تجتمع على ضلالة أبدا، فدل على أنها معصومة إن اجتمعت على أمر .

وللإجماع أقسام بعدة اعتبارات منها :
أولا باعتبار صدوره من أهله ينقسم إلى :
إجماع الأمة : بأن يجمع المجتهدون من هذه الأمة على حكم مسألة ما
إجماع الصحابة: قال الشوكاني: إجماع الصحابة حجة بلا خلاف
إجماع أهل المدينة : وهو اتفاق أهل المدينة في القرون المفضلة بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما إذا خالفهم آخرون في أمر من أمور الاجتهاد
اشتهر به الإمام مالك بن أنس كأصل من أصوله وأكثر من الاستدلال به في الفروع الفقهية
وقد قسم ابن القيم عمل أهل المدينة إلى ثلاثة أقسام :
الأول: أن لا يعلم أن أهل المدينة خالفهم فيه غيره
الثاني: ما خالف فيه أهل المدينة غيرهم
الثالث: ما فيه الخلاف بين أهل المدينة أنفسهم
فأما الأول فهو حجة بلا شك
أما الثاني فحمل خلاف بين المالكية والجمهور
أما الثالث فلا عبرة به إذ أن قول البعض ليس بحجة على الآخرين .

ثانيا : باعتبار النطق به ينقسم إلى :
أولا : الإجماع الصريح أو اللفظي
وهو اتفاق مجتهدي الأمة في عصر ما على حكم شرعي عن طريق إبداء كل منهم رأيه صراحة
وهو الذي يعتبر في المرتبة الثالثة بعد الكتاب والسنة .

الثاني : الإجماع السكوتي
وهو أن يعمل بعض المجتهدين في عصر عملا أو يبدي رأيا صريحا في مسألة اجتهادية ويسكت الباقي من المجتهدين بعد علمهم بذلك الرأي
وهو محل اختلاف بين العلماء هل هو إجماع وحجة أم لا ؟

الاعتبار الثالث : من حيث القطع والظن
الإجماع القطعي وهو المنقول بالتواتر، المصرح به من قبل المجتهدين لا أن يكون سكوتيا ، وأن يكون مستند الإجماع دليلا قطعيا
الإجماع الظني : ما اختل فيه أحد الشروط السابقة كالإجماع السكوتي ونحوه ..


ولأجل إعمال الإجماع كمصدر ودليل في الاستدلال الفقهي لا بد من التحقق من صحته، لأن مجرد حكاية الإجماع لا تكفي  ، حيث يحكي بعض العلماء الإجماع ويريد به الجمهور، وبعضهم يحكي الاتفاق ويعني علماء المذهب  كالكاساني الحنفي ي كتابه بدائع الصنائع إذ قد يحكي الإجماع ويريد إجماع علماء المذهب الحنفي دون غيرهم
وبعض الفقهاء يستعمل الاجماع  في  اتفاق مجتهدي الأمة ويستخدم لفظ (الاتفاق) للاتفاق بين علماء المذهب كالعيني في كتابه البناية في الفقه الحنفي ، مثال : قال : " لو أمنى بعد البول أو النوم لا غسل عليه بالاتفاق، وعند الشافعي يجب في الحال " فحكى الخلاف بعد ذكر الاتفاق في نفس السياق.

ومن الدراسات الحديثة التي اعتنت بدراسة تحقق الإجماع من عدمه دراسة بعنوان : موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي لمجموعة من الباحثين بلغت عشر مجلدات طبعت في دار الفضيلة .

ومن العلماء الذين ينقلون الإجماع :
ابن المنذر في كتبه وخصوصا كتاب الإجماع ، وله الأوسط والإشراف على مذاهب العلماء
النووي في المجموع وفي شرحه على مسلم
ابن قدامة في المغني
ابن حزم في كتابه مراتب الإجماع والمحلى
وابن عبد البر في كتابه الاستذكار

رابعا : القياس
تعريفه هو : إلحاق فرع بأصل في الحكم الشرعي الثابت له لاشتراكهما في علة الحكم.
الفرع : المقصود به هنا : المقيس، أي الصورة أو المسألة التي يراد إثبات حكمها بالقياس.

الأصل : المقصود به هنا : المقيس عليه، أي : الصورة أو المسألة التي ثبت حكمها بنص أو إجماع، أو اتفق عليه الخصمان المتناظران.

الحكم المقصود به هنا : أي حكم من الأحكام الشرعية، كالوجوب والتحريم والندب.

العلة : المراد بها هنا : المعنى الذي ثبت الحكم في المسألة المقيس عليها لأجله، سواء عرف ذلك بنص أو باجتهاد ونظر.

فمعنى التعريف : أن القياس هو تسوية المجتهد في الحكم بين مسألتين : إحداهما ثبت حكمها بنص أو إجماع أو اتفاق من المتناظرين، والأخرى لا نص فيها، فيقوم المجتهد بإلحاقها بالأولى المتفق على حكمها لأجل اشتراك المسألتين في الوصف الذي يغلب على الظن أنه علة ثبوت الحكم في المسألة المقيس عليها.

مثال : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « البر بالبر مثلا بمثل » الحديث، فقاس جمهور العلماء الذرة على البر، وحكموا بتحريم بيعها بجنسها مع التفاوت في المقدار، ولم يخالف في هذا إلا الظاهرية، فالأصل في هذا المثال البر، والفرع الذرة، والعلة الجامعة أن كلا منهما مكيل يمكن ضبط مقداره بالكيل، والحكم هو تحريم التفاضل إذا بيع بجنسه.

حجيته :
القياس الصحيح حجة شرعية ودليل يعتمد عليه في تقرير الأحكام واستنباطها وقد دل على ذلك الكتاب والسنة
أما الكتاب فقول الله تعالى : " فاعتبروا يا أولي الأبصار"
وجه الدلالة : القياس فيه معنى المجاوزة والتعدية، والمجاوزة اعتبار ، والاعتبار مأمور به، فيكون القياس مأمور به ، وما أمر به فهو معتبر شرعا ويعمل به

ومن السنة  : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» ، قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «مَا أَلْوَانُهَا؟» ، قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: «فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» ، قَالَ: فَإِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: «فَأَنَّى تَرَى ذَلِكَ جَاءَهَا؟» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِرْقٌ نَزَعَهَا قَالَ: «فَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ» ، قَالَ: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «مَا أَلْوَانُهَا؟» قَالَ: حُمْرٌ قَالَ: «فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا قَالَ: «فَأَنَّى تَرَى ذَلِكَ جَاءَهَا؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِرْقٌ نَزَعَهَا قَالَ: «فَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ»
وجه الدلالة : النبي صلى الله عليه وسلم قاس الغلام الأسود على البعير الأورق ، بجامع العرق الذي نزع كل واحد منهما ، ونبه الرجل على أن يحكم للغلام بحكم نظيره .

ومنه كذلك عنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : هَشِشْتُ فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ : إِنِّى صَنَعْتُ الْيَوْمَ أَمْراً عَظِيماً قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ. قَالَ :« أَرَأَيْتَ لَوْ مَضْمَضْتَ مِنَ الْمَاءِ ». قُلْتُ : إِذاً لاَ يَضِيرُ. قَالَ :« فَفِيمَ؟ »
فالنبي صلى الله عليه وسلم قاس حكم القبلة في رمضان على المضمضمة بجامع عدم التفطير، فكما أن المضمضة لا تفطر الصائم فكذلك القبلة .

وهنا مسألة تتعلق بالقياس وهي هل يقع القياس في العبادات ؟

وذلك لأن القياس مبني على وجود العلة ، والعبادات العلة فيها تعبدية محضة .
لذلك قرر العلماء أنه  لا يمكن إثبات عبادة مستقلة بالقياس ولكن قد يجري القياس بين الشروط والأسباب ونحوها إذا أمكن تعليلها مع تساوي العبادات في المعنى
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " المراد بقول أهل العلم لا قياس في العبادات أي في إثبات عبادة مستقلة، أما شروط  في عبادة وما أشبه ذلك مع تساوي العبادتين في المعنى فلا بأس ، وما زال العلماء يستعملون هذا كقولهم: تجب التسمية في الغسل والتيمم قياسا على الوضوء "
(الشرح الممتع 6/524 )

ومثاله كذلك ما ذهب إليه الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في الصحيح من مذهبهم إلى جواز الاستنجاء بغير الماء والحجر من الجمادات الطاهرات غير المحترمة كالورق والخرق ونحوها .

وعللوا ذلك بأنه متى ورد النص بشيء لمعنى معقول وجب تعديته إلى ما وجد فيه المعنى، والمعنى هاهنا إزالة عين النجاسة، وهذا يحصل بغير الأحجار كحصوله بها .."  (ابن قدامة .المغني . 1/200 )

ومثله تثنية الخطبة في العيدين ، فالأئمة الأربعة وغيرهم على أن خطيب العيد إذا صلى العيد قام فخطب خطبتين كالجمعة، ومستندهم القياس .
وتوجد بعض مسائل العبادات وقع فيها خلاف في استعمال القياس .

 (ينظر للفائدة : القياس في العبادات وتطبيقاته في المذهب الشافعي . رامي بن محمد جبرين . دار ابن حزم )

هذه الأدلة المتفق عليها في باب الاستدلال لأحكام الفقه .
وأما غير المتفق عليها فهي :

1 -  الاستصحاب وهو : الحكم باستمرار وجود ما ثبت وجوده ، حتى يدل الدليل على ذهابه، والحكم باستمرار عدم ما لم يثبت وجوده حتى يقوم الدليل على وجوده

مثاله : لو ادعى شخص على آخر دينا فأنكر المدعى عليه فالقول قوله لأن الأصل براءة ذمته حتى يثبت قوله بالبينة
لو تطهر مصل ثم شك في الحدث فإنه يحكم له باستصحاب الطهارة حتى يثبت خلاف هذا الوصف .

2- شرع من قبلنا : وهو ما نقل إلينا من أحكام شرائع الأمم السابقة التي كانوا مكلفين بها على أنها شرع لهم، فهذه الأحكام هل تكلف بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم أم خاصة بأممهم .

3 قول الصحابي :  اتفق الفقهاء على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين
واختلفوا إذا ورد عن الصحابي قول في مسألة ولم يكن فيه مخالفة صريحة لدليل شرعي ولم يعلم اشتهاره بين الصحابة ، ثم شاع ذلك القول بعدهم في التابعين ، ولم يرد عن غيره من الصحابة ما يخالف ذلك ، فهل يعتبر حجة أم لا ؟
والذي عليه الجمهور أنه حجة .

(ينظر : حجية قول الصحابي عند السلف . د ترحيب الدوسري . دار المنهاج )

4 الاستحسان : اختلف في تعريفه فقيل : العدول عن قياس إلى قياس أقوى
وقيل : العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى
وقال الشيخ يعقوب باحسين في كتابه الاستحسان حقيقته أنواعه حجيته ص 41 : العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه، لوجه يقتضي التخفيف ويكشف عن وجود حرج عند إلحاق تلك الجزئية بنظائرها في الحكم "
وله أنواع ذكرها أهل الأصول والفقه .
ومن الأمثلة عقد الاستصناع وهو طلب العمل من صانع في شيء خاص على وجه مخصوص
كالخياط والبناء وما يسمى بعقد المقاولة والنجار .
فأجيز استحسانا مع مخالفته للقياس لأنه بيع معدوم، لحاجة الناس إليه وتعامل الناس به دون نكير .

5 المصالح المرسلة  : ما لم يشهد الشرع لاعتباره ولا لإلغائه بدليل خاص
تنقسم المصالح إلى ثلاثة أقسام :
الأول : مصلحة معتبرة وهي ما شهد الشرع باعتباره ، فهذه محل اتفاق على العمل بها
الثاني: مصلحة ملغاة ما شهد الشرع ببطلانه وقد اتفق الفقهاء على ردها كالمصلحة الموجودة في الخمر أو في الربا
الثالث : مصلحة مرسلة لم يأتي دليل خاص على اعتبارها ولا على إلغائها
ومن أمثلة المصالح المرسلة : جمع القرآن الكريم زمن أبي بكر رضي الله عنه، ثم زمن عثمان رضي الله عنه .
اتخاذ الكتاب والدوواين والسجون، وأحكام الأنظمة والقوانين كقوانين السير والمرور ونحو ذلك .

6 – سد الذرائع
الذرائع : جمع ذريعة، والذريعة هي الوسيلة المؤدية إلى الشيء، سواء أكان مصلحة أم مفسدة.
وسد الذرائع : منع الوسائل المفضية إلى المفاسد
مثال ذلك قول الله تعالى : "وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ "
وجه الاستدلال : أن الله منع المسلمين من سب آلهة الكفار مع أنها تستحق السب والشتم، ولكن منع من سبها حتى لا يسبوا الله، وهذا ظاهر في سد الذريعة المؤدية إلى المفسدة.

ومثالها : منع الشارع القاضي من أخذ الهدية لئلا يكون ذريعة إلى أخذ الرشوة، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « هدايا العمال غلول » 

الاثنين، 25 أغسطس 2014

أدلة ومصادر الفقه

سبق وأن ذكرنا أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.

فما هي الأدلة التي اعتمد عليها الفقهاء لاستنباط الأحكام الشرعية العملية ؟

هذه الأدلة يطلق عليها الفقهاء مصادر الفقه الإسلامي ، وهي تنقسم إلى أقسام باعتبارات

فمن حيث الاتفاق وعدمه تنقسم إلى :

مصادر متفق عليها وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس
مصادر مختلف فيها وهي ما عداها من المصالح المرسلة والعرف وسد الذرائع والاستحسان وقول الصحابي وعمل أهل المدينة ونحوها .

ومن حيث كونها منقولة بالرواية أو معتمدة بالرأي والعقل تنقسم إلى :

مصادر نقلية وهي الكتاب والسنة والإجماع
ومصادر عقلية وهي القياس والاستحسان والمصالح المرسلة ونحوها

وسنتكلم على كل دليل منها وطريقة الاستفادة منه في باب الفقه .

أولا : الأدلة المتفق عليها  
القرآن الكريم .
هو كتاب الله وكلامه (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) .

قد جاء الأمر بلزومه واتباعه (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ )

وجاء الأمر بأن يجعل هو الحكم بين الناس (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ )

ونصوص القرآن قطعية الثبوت لأنه متواتر ، فلا يحتاج إلى إثباتها ، بخلاف السنة التي بعضها متواتر وبالتالي تكون قطعية الثبوت، وبعضها آحاد دون المتواتر وهذه يقول عنها الأصوليون أنها ظنية الثبوت، ولا يسلم لهم ذلك لأن ما تفق عليه الشيخان من الآحاد وهو قطعي الثبوت عند المسلمين .

إلا أن دلالة الآيات على الأحكام الفقهية تنقسم إلى قسمين :

قطعي الدلالة وهو ما يعرف عند الأصوليين بالنص الذي لا يحتمل غير معنى واحد كقوله تعالى : " فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ "
فعدد الأيام التي يصومها المتمتع الذي لا يجد الهدي عشرة لا تزيد ولا تنقص .

ثانيا: ظني الدلالة وهو ما كان من قبيل الظاهر والمشترك ونحوها مما يحتمل معنين فأكثر كقوله تعالى : " وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ " والقرء في المعنى اللغوي يحتمل الطهر ويحتمل الحيض

والأحكام الفقهية في القرآن لها أحوال :

أولا : أن تأتي الأحكام مبينة كما في آيات المواريث، والكفارات، ومقادير العقوبات في الحدود، وطريقة اللعان بين الزوجين،  كقوله تعالى : " وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ "
فالزوج له حالان : أن لا يكون لزوجته أولاد فيرث نصف ما تركت ، فإن كان لها اولاد فله ربع ما تركت بعد انفاذ الوصية وسداد الديون ...
وكقوله في كفارة اليمين : "  لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "
فكفارة اليمين كما دلت عليها الآية : إطعام عشرة مساكين من أوسط الطعام أو كسوتهم أو تحرير رقبة فهذه على التخيير ، فإن عجز عن واحدة منها فيصوم ثلاثة أيام .

ثانيا : أن تأتي الأحكام مجملة ولها ثلاثة أحوال :

الأولى : أن تبين في القرآن ، فيأتي الحكم مجملا في موضع ويبين في موضع آخر.
كعام خص أو مطلق قيد ، كقوله تعالى : "  وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ " ثم جاء بعض التفصيل في القرآن كقوله تعالى "إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا" ثم بين هذه الأوقات فقال:
"أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا"

مثال آخر : قوله تعالى " وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ" هذا يشمل كل مطلقة مدخول بها أو غير مدخول بها حامل أو غير حامل تحيض أو لا تحيض.
ثم جاء التخصيص في آيات أخرى فأخرج المطلقة غير المدخول بها فقال : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْقَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا"
ثم أخرج الحامل والتي لا تحيض فقال : "وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ "

ثانيا : أن يأتي الحكم مجملا وتبينه السنة، كقوله تعالى : " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا" فبينة السنة أن موضع القطع هو كف اليمنى .
ثالثا : أن يبقى على إجماله كالأمر بالشورى في قوله " وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ " ونحوه .

ومن المباحث التي يبحثها الفقهاء في القرآن الكريم النسخ ، رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متأخر عنه . وله أنواع يبينها أصول الفقه .
مثال : قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ "
عن ابن عباس في هذه الآية قال: كتب عليهم ألا يفر عشرون من مائتين، ثم خفف الله عنهم، فقال: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا} فلا ينبغي لمائة أن يفروا من مائتين.

المصدر والدليل الثاني السنة

تعريفها : ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير"

وهي حجة في تقرير  الأحكام ، قال تعالى :  " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا "
والرد إلى الله أي إلى كتابه ، والرد إلى الرسول أي إلى سنته .

وقال سبحانه : "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا "
فلا فرق بين قضاء الله وقضاء رسوله وأن كلا منهما ليس للمؤمن الخيرة في أن يخالفها، وأن عصيان الرسول صلى الله عليه وسلم كعصيان الله تعالى وأنه ضلال مبين.

والسنة وحي من الله تعالى كما قال تعالى : " وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ،إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى"

وعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَّا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ مَا حَرَّمَ الله".

فهي حجة في تقرير الأحكام إن صح سندها، وهي تنقسم من جهة القبول والرد إلى قسمين :
أحاديث مقبولة ، وأحاديث مردودة .

والأحاديث المقبولة تنقسم من حيث عدد الرواة إلى قسمين :
أحاديث متواترة  وهي ما رواها جمع عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب
وأحاديث آحاد  وهي ما دون المتواتر ، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام :
مشهور : ما رواه ثلاثة فأكثر لا يبلغون حد التواتر
وعزيز : هو أن لا يرويه أقل من اثنين عن أقل من اثنين
وغريب : ما تفرد بروايته راو واحد .

وتنقسم من حيث الصحة والضعف إلى أقسام منها :
الصحيح والحسن والضعيف ، ولكل أقسام .

لكن إن صح الحديث وثبت فهو حجة يفيد العلم والقطع ويجب العمل به .

قال الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام ص18: " والحق الذي نراه ونعتقده أن كل حديث آحادي صحيح تلقته الأمة بالقبول من غير نكير منها عليه أو طعن فيه فإنه يفيد العلم واليقين سواء كان في أحد الصحيحين أو في غيرهما، وأما ما تنازعت الأمة فيه فصححه بعض العلماء وضعفه آخرون فإنما يفيد عند من صححه الظن الغالب فحسب.."

وهذا خلاف ما يذكره الأصوليون من أن أحاديث الآحاد بدون تفصيل تفيد الظن ولو كانت مما اتفق عليه الشيخان.

ومعنى أنها تفيد الظن أنها محتملة للصحة وللضعف، ولذلك فغالبية أهل الأصول من المتكلمين لا يثبتون بها العقيدة لكونها لا تفيد اليقين، والعقيدة لا تثبت إلا بيقين.

 مسألة : هل تثبت الأحكام الفقهية بالحديث الضعيف ؟

قال النووي: "  و أما الأحكام كالحلال و الحرام و البيع و النكاح و الطلاق و غير ذلك فلا يعمل فيها إلا بالحديث الصحيح أو الحسن ، إلا أن يكون في احتياط في شيء من ذلك  "

قال ابن تيمية : "  ولم يقل أحد من الأئمة أنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف ، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع "

ولكن هذا ليس على إطلاقه عند الفقهاء إذ يجوزن العمل بالحديث المرسل وفق شروط وضوابط.

والمرسل عند المحدثين نوع من أنواع الضعيف ويعرفه المحدثون بقولهم : " ما سقط منه الصحابي ورفعه التابعي، بأن يقول التابعي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"
وأما الفقهاء فالمرسل عندهم أعم وأوسع من تعريف المحدثثين فهو : قول العدل الثقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ..فيدخل فيه المعضل والمنقطع .
وبعض الفقهاء لا يقبل إلا مراسيل كبار التابعين وأن يكون قد التقى بكبار الصحابة كسعيد بن المسيب ، وأن يكون متنه قد روي معناه مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طريق آخر، أو أن يشهد له بعض أقوال الصحابة، أو أن يقبله جماعة من العلماء ويفتى به، وبعضهم لا يقبل من المراسيل إلا من التابعين أو تابعيهم دون من بعدهم

وبعض الفقهاء كأحمد قد يستعمل لفظ الضعيف ويريد به الحسن وما دونه ، قال ابن القيم : وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالضَّعِيفِ عِنْدَهُ الْبَاطِلَ وَلَا الْمُنْكَرَ وَلَا مَا فِي رِوَايَتِهِ مُتَّهَمٌ بِحَيْثُ لَا يَسُوغُ الذَّهَابُ إلَيْهِ فَالْعَمَلُ بِهِ؛ بَلْ الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ عِنْدَهُ قَسِيمُ الصَّحِيحِ وَقِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْحَسَنِ، وَلَمْ يَكُنْ يُقَسِّمُ الْحَدِيثَ إلَى صَحِيحٍ وَحَسَنٍ وَضَعِيفٍ، بَلْ إلَى صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ، وَلِلضَّعِيفِ عِنْدَهُ مَرَاتِبُ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ فِي الْبَابِ أَثَرًا يَدْفَعُهُ وَلَا قَوْلَ صَاحِبٍ، وَلَا إجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ.


وأما منزلة السنة من القرآن في تقرير الأحكام :

السُّنَّةُ مَعَ الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
 أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَيَكُونُ تَوَارُدُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ مِنْ بَابِ تَوَارُدِ الْأَدِلَّةِ وَتَظَافُرِهَا.
كالأمر بالصلاة والزكاة والنهي عن الخمر والزنا .

الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِمَا أُرِيدَ بِالْقُرْآنِ وَتَفْسِيرًا لَهُ.
فتبين مجمله ، قال تعالى : " وأقيموا الصلاة " قال صلى الله عليه وسلم: " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، وكقوله " وآتوا الزكاة " فجاءت السنة فبينت المقادير والشروط
وكقوله تعالى : "  فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ " احتمل المعنى من تزوجها ولو لم يدخل بها، لأن اسم النكاح يقع بالإصابة ويقع بالعقد، فلما ورد حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تحلين له حتى تذوقي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ" تعين أن الإحلال لا يكون إلا بنكاح حصل فيه دخول.
وتخصص عامة كقوله تعالى : " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ" [النساء: 24] بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا» وَعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ»
وتقيد مطلقه كقوله تعالى : " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا" فبينت السنة مكان القطع

الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِحُكْمٍ سَكَتَ الْقُرْآنُ عَنْ إيجَابِهِ أَوْ مُحَرِّمَةً لِمَا سَكَتَ عَنْ تَحْرِيمِهِ، وَلَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، فَلَا تُعَارِضُ الْقُرْآنَ بِوَجْهٍ مَا .
كتحديد ميراث الجدة ، وتحريم زواج المتعة، ولحوم الحمر الأهلية .
(ينظر : إعلام الموقعين 4/84)

ولا يوجد تعارض بين القرآن والسنة الصحيحة أبدا .
وكل ما يحتاجه الناس قد بينه الله سبحانه وتعالى في كتابه او في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم قال ابن تيمية رحمه الله : فكل ما يحتاج الناس إليه في دينهم فقد بينه الله ورسوله بيانا شافيا.."
ويقدم النص على العقل وكل ما خالف الشرع فهو خيال واوهام، قال ابن تيمية : " " ولهذا لا يوجد في كلام أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ عَارَضَ الْقُرْآنَ بِعَقْلِ وَرَأْيٍ وَقِيَاسٍ وَلَا بِذَوْقِ وَوَجْدٍ وَمُكَاشَفَةٍ وَلَا قَالَ قَطُّ قَدْ تَعَارَضَ فِي هَذَا الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ: فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ "
مجموع الفتاوى (13/ 29)

سنسكمل بقية الأدلة غدا إن شاء الله 


تاريخ الفقه الإسلامي

خامسا :  تاريخ الفقه الإسلامية
قسم بعض الباحثين تاريخ الفقه وبيان أطواره بحسب الزمان إلى : 

أولا : عصر النبوة

هو الأساس الذي بني عليه الدين كله، فقد أكمل الله فيه الدين فقال تعالى :" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا "

في هذا العصر نلاحظ ما يلي :

1 يأمر الله سبحانه وتعالى بالعبادات في القرآن إجمالا ثم يأتي البيان في القرآن أو في السنة

مثال ذلك الصلاة ، قال تعالى : "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ " فهذا أمر مجمل، ثم جاء بيان أحكامها في القرآن وفي السنة ، قال تعالى :  "إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا" ثم بين الله هذه الأوقات إجمالا فقال :أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا " ثم جاءت السنة ببيان هذه الأوقات تفصيلا في حديث جبريل عليه السلام كما في حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، " أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ، فَتَقَدَّمَ جِبْرِيلُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ، وَالنَّاسُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ ... وفي نهاية الحديث قال : مَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ وَقْتٌ "
وكذلك الصوم والحج وبقية الأحكام .

وقد تأتي الأحكام مفصلة كأحكام المواريث والأسرة من زواج وطلاق ..

2 يسأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الوقائع التي تنزل بهم فيزل الله الحكم إما في الكتاب أو بالسنة .
مثال ذلك قوله تعالى : "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ " وقوله تعالى : " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ... "

3 كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في بعض المسائل التي تقع أو تعرض عليه، فينزل الوحي إما مقرا له أو مصوبا لاجتهاده .
كاجتهاده في أسرى بدر ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا نَبِيَّ اللَّهِ هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ قُلْتُ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبًا لِعُمَرَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا } .

4 اجتهد بعض الصحابة رضوان الله عليهم في بعض المسائل التي وقعت لهم ولم يكن استطاعة لعرضها على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حضروا عنده أخبروه الخبر فيصوب بعضهم ويخطئ بعضهم .

مثال ذلك : ما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخُدريِّ، قال: خرجَ رجلانِ في سفَرٍ، فحَضَرَتِ الصَّلاةُ وليسَ معهما ماءٌ، فتَيَمَّما صَعيداً طيباً، فصَلَّيا، ثمَّ وَجَدا الماءَ في الوقتِ، فأعادَ أحدهما الصَّلاةَ والوضوءَ، ولم يُعِدِ الآخَرُ، ثمَّ أتيا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يُعِدْ: "أصَبتَ السُّنَّةَ وأجزَتْكَ صَلاتُكَ" وقال للذي توضَّأ وأعادَ: "لكَ الأجرُ مَرَّتين" .

وعن عمرو بن العاص، قال: احتَلَمتُ في ليلةٍ باردةٍ في غَزوةِ ذاتِ السَّلاسِلِ فأشفَقتُ أنْ اغتَسِلَ فَأهلِكَ، فتَيَمَّمتُ، ثمَّ صَلَّيتُ بأصحابي الصُّبحَ، فذكروا ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -, فقال: "يا عَمرو، صَلَّيتَ بأصحابِكَ وأنت جُنُبٌ؟ " فأخبَرتُه بالذي مَنَعَني مِنَ الاغتِسالِ، وقلتُ: إني سمعتُ اللهُ يقولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّة كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فضَحِكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -ولم يَقُل شيئاً .

ثانيا: عصر الصحابة

هذا العصر يبدأ منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ويمتد إلى نهاية القرن الأول للهجرة تقريبا

وفي هذا العصر سار الصحابة على المنهج الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في الاستنباط والاجتهاد، فكانوا ينظرون فيما يعرض لهم من مسائل هل ورد فيها نص من كتاب أو سنة فيأخذون به فإن لم يظفروا بشيء من ذلك اجتمعوا وتباحثوا الأمر فيجتهدون ويصدرون الحكم .

روى الدارمي عن مَيْمُون بْن مِهْرَانَ، قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بَيْنَهُمْ، قَضَى بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ، وَعَلِمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ سُنَّةً، قَضَى بِهِ، فَإِنْ أَعْيَاهُ، خَرَجَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ: «أَتَانِي كَذَا وَكَذَا، فَهَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي ذَلِكَ بِقَضَاءٍ؟» فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّفَرُ كُلُّهُمْ يَذْكُرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ قَضَاءً. فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِينَا مَنْ يَحْفَظُ عَلَى نَبِيِّنَا،» صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " فَإِنْ أَعْيَاهُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ سُنَّةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَمَعَ رُءُوسَ النَّاسِ وَخِيَارَهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَمْرٍ، قَضَى بِهِ .

هذا الأثر منقطع فميمون لم يدرك أبا بكر إلا أن معناه صحيح ويدل عليه ما رواه ابن ماجة  عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، قَالَ: جَاءَتْ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ، فَسَأَلَ النَّاسَ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهَا السُّدُسَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ؟ فَقَامَ مُحَمَّدُ ابْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ.
ثُمَّ جَاءَتْ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى مِنْ قِبَلِ الْأَبِ إِلَى عُمَرَ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَلا كَانَ الْقَضَاءُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ إِلَّا لِغَيْرِكِ، وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الْفَرَائِضِ شَيْئًا، وَلَكِنْ هُوَ ذَاكِ السُّدُسُ، فَإِنْ اجْتَمَعْتُمَا فِيهِ، فَهُوَ بَيْنَكُمَا، وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ، فَهُوَ لَهَا "

واشتهر في هذه الحقبة من الزمن جملة من العلماء والمفتين، منهم المكثر ومنهم المتوسط ومنهم المقل،
قال ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين  : وَاَلَّذِينَ حُفِظَتْ عَنْهُمْ الْفَتْوَى مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةٌ وَنَيِّفٌ وَثَلَاثُونَ نَفْسًا، مَا بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَكَانَ الْمُكْثِرُونَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.
وعنهم انتشر العلم في أنحاء الدنيا ، قال ابن القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/38) :
وَالدِّينُ وَالْفِقْهُ وَالْعِلْمُ انْتَشَرَ فِي الْأُمَّةِ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَصْحَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ؛ فَعَلِمَ النَّاسُ عَامَّتَهُ عَنْ أَصْحَابِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ؛ فَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَعِلْمُهُمْ عَنْ أَصْحَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَعِلْمُهُمْ عَنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِرَاقِ فَعِلْمُهُمْ عَنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.

وفي هذه الفترة اتسعت رقعة الدولة الإسلامية خصوصا زمن عمر وعثمان رضي الله عنهما، وظهرت الفتن في نهاية خلافة عثمان وخلافة علي رضي الله عنهما، واستجدت حوادث ونوازل احتاجت للاجتهاد واستنباط الأحكام ، ظهر في هذه الحقبة الإجماع كمصدر من مصادر التشريع واستعملت المصالح المرسلة والقياس

ووقع في هذه الفترة بعض الخلاف في مسائل الفقه وهذا ناتج عن اختلاف الفهم للنصوص، كالخلاف الواقع بين زيد ابن ثابت وعبد الله ابن عباس في ميراث الجد وهل هو كالأب يجب الأخوة أم لا ؟

في هذه الفترة لم يدون الفقه وإنما كان مجرد مسائل تنقل بالرواية، غير ما وجد من بعض الرسائل التي احتوت على بعض الأحكام الفقهية كما في رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري في القضاء .

ثالثا: عصر التابعين

يبدأ هذا العصر بوفاة الصحابة رضوان الله عليهم ما بين عام 90 إلى 100 للهجرة ، وبعضهم يذكر أن بدأ هذا العصر كان بتولي معاوية رضي الله عنه للخلافة، ويسميه (عصر صغار الصحابة وكبار التابعين)

في هذه الفترة برز تلاميذ الصحابة من التابعين منهم : سعيد بن المسيب فقيه أهل المدينة ويسمى راوية عمر بن الخطاب فقد كان من أعلم الناس بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين.
وعروة بن الزبير والحسن البصري و عطاء بن أبي رباح فقيه مكة وإبراهيم النخعي فقيه أهل الكوفة وغيرهم كثير.
وعرف في هذه الفترة ما سمي بالفقهاء السبعة وهم : بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبوبكر بن عبد الرحمن ابن الحارث وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وسليمان بن يسار وخارجة بن زيد بن ثابت .
وظهر في هذه الفترة قول الصحابي كمصدر من مصادر التشريع، إذ كان التابعون يسيرون على منهج الصحابة رضوان الله عليهم في الفقه، وزادوا على ذلك الأخذ بأقوال كبار الصحابة وفتاواهم فيما لا نص فيه .

بل ربما أفتى كبار التابعين بحضور بعض الصحابة كما ذكر ذلك ابن القيم فقال : وَأَكَابِرُ التَّابِعِينَ كَانُوا يُفْتُونَ فِي الدِّينِ، وَيَسْتَفْتِيهِمْ النَّاسُ، وَأَكَابِرُ الصَّحَابَةِ حَاضِرُونَ يُجَوِّزُونَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُهُمْ أَخَذَ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعَلِيٍّ "  الإعلام 2/45

تميز هذا العصر بكثرة المستجدات والنوازل نتيجة اتساع رقعة الدولة الإسلامية

رابعا: عصر التدوين والأئمة المجتهدين

يبدأ هذا الدور من أوائل القرن الثاني الهجري ويمتد إلى منتصف القرن الرابع، ويتميز بظهور المذاهب الفقهية وتدوين الفقه .

فبرز بعض العلماء الذين اشتهروا بالعلم والفتيا، وكان لهم تلاميذ أخذوا العلم عنهم مثل الأوزاعي وسفيان بن عيينة واسحاق بن راهويه وأبو حنيفة ومالك بن انس ومحمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل وداوود الظاهري وغيرهم ، لكن تميز بعضهم بوجود تلاميذ اعتنوا بآراء علمائهم وتقعيداتهم فبرز منهم :
أبو حنيفة في الكوفة و مالك بن أنس في المدينة والشافعي في العراق ومصر وأحمد بن حنبل في بغداد .

وظهر في هذه الفترة الزمنية تدوين الفقه فألف الإمام مالك كتابه الموطأ فكان أول كتاب جمع الحديث على أبواب الفقه ، وكذلك كتاب الرسالة في أصول الفقه للشافعي وبعض الرسائل الأخرى التي ألفها ثم جمعت في كتاب الأم، وكتاب الخراج للقاضي أبي يوسف الحنفي وكتب محمد بن الحسن الحنفي في المذهب وغيرها

خامسا: عصر الجمود والتقليد

وهو الذي يمتد من منتصف القرن الخامس وينتهي بسقوط بغداد عام 656 هـ تقريبا
حيث رأى أهل هذا العصر أن المذاهب قد استقرت وأن أصولها كافية لتطبيق الشرع، حتى أصبحت الشريعة منحصرة في نصوص الفقهاء وأقوالهم، ووقع التعصب المذهبي المقيت .

وتميزت هذه المرحلة بازدهار حركة التدوين فظهرت المتون الفقهية والمختصرات وشروحها والحواشي عليها  وظهرت كتب الفتاوى وقنن الفقه .

وظهر في هذه المرحلة بعض العلماء الذين حاربوا التقليد ودعوا إلى الاجتهاد على رأسهم شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله .

سادسا: العصر الحاضر .

وفي هذا العصر وقع تجديد للفقه الإسلامي ، تمثل في الدعوة إلى الاجتهاد والاستنباط والبعد عن التقليد المذموم، وأسست الجامعات التي تعتني بتدريس فروع علوم الشريعة، وتدرجت في الدرجات العلمية إلى الدكتوراة ، وكثرة المؤلفات الفقهية والشروحات والأبحاث المتخصصة في جزئيات الفقه وبأسلوب موسع، وتأسست المجامع الفقهية، وظهر الاجتهاد الجماعي .


مسألة : يذكر كثير من الباحثين في تاريخ الفقه الإسلامي ظهور مدرستين فقهيتين :
الأولى : مدرسة الحديث ومركزها المدينة النبوية، وسميت بذلك لاعتمادها على النصوص من الكتاب والسنة والآثار الواردة عن الصحابة وعدم استعمالهم الرأي غالبا في الأحكام
الثانية: مدرسة أهل الرأي ومركزها الكوفة والتي تعتمد الرأي والتعليل والإكثار من القياس وأن الأحكام إنما شرعت لمقاصد
ويرجعون نشأة هذه المدارس إلى عصر التابعين ، وبعضهم يرجعها إلى عصر الأئمة المجتهدين.

وبالنظر إلى تراجم الأئمة المجتهدين والوضع العلمي لتلكم الحقبة الزمنية نلاحظ ما يلي :

أولا : اتفاق جميع الأئمة على الأخذ بالمصادر الأصلية في الاستنباط وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس وأقوال الصحابة في الجملة .
ثانيا : القياس من الأصول المتفق عليها بين جميع الفقهاء ما عدا الظاهرية، وهو من قبيل المصادر العقلية لا النقلية
وإذا نظرنا إلى المذهب المالكي فنجد أن من مصادر الاستنباط التي يعتمد عليها المصالح المرسلة والعرف وسد الذرائع
وكذلك المذهب الشافعي والحنبلي وهي أدلة تعتمد على الرأي .

ثالثا : جميع الأئمة الأربعة درسوا الرأي ، فأبو حنيفة أكثر من اشتهر بالرأي والأخذ بالادلة العقلية ، والإمام مالك درس على شيخه المنسوب للرأي وهو ربيعة الرأي ، والشافعي درس على محمد بن الحسن الحنفي وحفظ كتبه، وألف في علم أصول الفقه ووضع كتابه الرسالة وفصل في القياس ووضع ضوابطه بل فاق فيه الحنفية ، وكذلك الإمام احمد قال عنه الخلال: كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها ثم لم يلتفت إليها " ودرس على شيخه الشافعي طرق الاستنباط وضوابطه .

رابعا: ما يقال عن قلة الأحاديث في الكوفة حتى اعتمدوا على الرأي محل نظر ، فالرحلات العلمية كانت قائمة بين المدينة والعراق والمكاتبات بين العلماء معلومة، فهذا الحسن البصري وهو في العراق كان إذا أشكل عليه شيء كتب به إلى سعيد بن المسيب في المدينة ، ومحمد بن الحسن الحنفي دارس الإمام مالك بل وروى عنه الموطأ ، وهذا عالم الشام مكحول الدمشقي يقول :  ثم قدمت المدينة فما خرجت منها حتى ظننت أن ليس بها علم إلا وقد سمعته" وعالم الكوفة عامر بن شراحبيل الشعبي يقول : " أقمت بالمدينة مع عبد الله بن عمر ثمانية أشهر"

خامسا : التفرقة بين المدرستين بمعيار القول بالتعليل ، وأن مدرسة الحديث تعتمد على النصوص فقط ولا يلجئون للرأي إلا عند الضرورة القصوى ، وأن مدرسة أهل الرأي يرون أن الشريعة معقولة المعنى ولها علل ويكثرون من الأقيسة والأدلة العقلية  ، تفرقة لا يساندها الدليل .

فالتعليل والقول بالرأي كمنهج في الاجتهاد لم يختلف عليه أهل الحجاز وأهل العراق في تلكم الفترة، فكانوا يناقشون النصوص ويأخذون بها على ظاهرها تارة وقد يصرفونها عن الظاهر أخرى، ويتجهون إلى الرأي عند عدم النص لا فرق بين حجازي وعراقي .

( ينظر بحث : المدارس الفقهية في عصر التابعين (أهل الحديث) و (أهل الرأي) قراءة نقدية في مراجع تاريخ الفقه الإسلامي الحديثة .  د حميدان بن عبد الله بن محمد الحميدان )