الخميس، 25 سبتمبر 2014

النهي عن التفرق والتحزب في الإسلام وذكر صفات الخوارج

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين: اعلموا رحمكم الله أن من المقاصد العظيمة التي جاءت النصوص بتقريرها وتأكيدها وحدة الدين والتمسك به وعدم التفرق فيه، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ " قال ابن كثير رحمه الله : " يقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ الْمُصَدِّقِينَ بِرَسُولِهِ: أنْ يَأْخُذُوا بِجَمِيعِ عُرَى الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ، وَالْعَمَلِ بِجَمِيعِ أَوَامِرِهِ، وَتَرْكِ جَمِيعِ زَوَاجِرِهِ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ ذَلِكَ " ، ولتحقيق هذا المقصد نهى الله ورسوله عن التفرق في الدين وتوعدوا من فعل ذلك بالعقاب الأليم، فقال سبحانه: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ  " ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَطًّا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ « هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ مُسْتَقِيماً » ، قَالَ: ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ « هَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلاَّ عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ». ثُمَّ قَرَأَ : " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ " ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراط الذي ينبغي للمسلم سلوكه عند الافتراق والاختلاف فقال صلى الله عليه وسلم: أَلَا وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ " وبين صلى الله عليه وسلم هذه الجماعة بقوله : " وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً» فَقِيلَ لَهُ: مَا الْوَاحِدَةُ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي» ، وأكد صلى الله عليه وسلم ذلك في وصية عظيمة فقال : أوصيكم بتقوى الله والسمع وَالطَّاعَة وَإِن كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعًا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ فَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وكل بِدعَة ضَلَالَة"

عباد الله: إن الاختلاف بين المسلمين والخروج على الجماعة المسلمة شر عظيم، وعواقبه عظيمة على الإسلام والمسلمين، قال تعالى : " وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ " أي تذهب قوتكم ، فكل أمة متفرقة هي أمة فاشلة ضعيفة، وقد روى الإمام أحد عن الحسن قال: شهدتهم يوم تراموا بالحصى في أمر عثمان، حتى جعلت أنظر فما أرى أديم السماء من الرَّهَجِ أي من الغبار- فسمعت كلام امرأة من بعض الحجر ، فقيل لي هذه أم المؤمنين فسمعتها تقول: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب"

فالحزبيات مقيتة يذكي شررها الشيطان ، ويجمع حطبها أهل الأهواء والبدع، ويشب نارها أهل الكفر، فَفرِقت الأمة وشُتت شملها ومُزقت صلات أبنائها، إذ جعلهم يتقاتلون ويتهارجون، حتى لا يعلم القاتل لم قَتل، ولا يعلم المقتول فيم قُتل  .

ولقد كان أول اختلاف وتحزب في صف الإسلام الخروج على عثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنها،إذ تحزبت جماعات، ورأسوا عليهم أميرا منهم، وخرجوا منكرين على خليفة المسلمين، بدعوى الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم رفعوا السلاح في وجه إخوانهم المسلمين، فماذا كانت النتيجة ؟
وقع القتال وسفكت الدماء وقتل خير أهل الأرض في زمانهم، وهما عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما،فكان ذلك أول اختلاف وقع في الإسلام على أيدي الخوارج الذين حذر منهم النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الآجري رحمه الله في كتابه الشريعة  في بيان حقيقة الخوارج :" لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنَّ الْخَوَارِجَ قَوْمُ سُوءٍ عُصَاةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ صَلَّوْا وَصَامُوا، وَاجْتَهَدُوا فِي الْعِبَادَةِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَافِعٍ لَهُمْ، يُظْهِرُونَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَافِعٍ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ عَلَى مَا يَهْوُونَ، وَيُمَوِّهُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ حَذَّرَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَحَذَّرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَذَّرَنَاهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ، .. وَالْخَوَارِجُ هُمُ الشُّرَاةُ الْأَنْجَاسُ الْأَرْجَاسُ، ..َيَخْرُجُونَ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ وَيَسْتَحِلُّونَ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ "  

ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فتنهم وجلى حقيقتهم ليحذرهم أهل العقول والنهى، ولا يغترون بهم .
فمن صفاتهم جرأتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة الأفاضل والعلماء الأكارم، فهذا أول الخوارج ظهورا في الإسلام يتطاول على النبي صلى الله عليه وسلم فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِالْجِعْرَانَةِ وَهُوَ يَقْسِمُ التِّبْرَ أي الذهب -وَالْغَنَائِمَ، وَهُوَ فِي حِجْرِ بِلَالٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ بَعْدِي إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟» فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أَضْرِبَ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا فِي أَصْحَابٍ، أَوْ أُصَيْحَابٍ لَهُ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»  
وجرهم ذلك للطعن في الصحابة رضوان الله عليهم فحاصروا عثمان وقتلوه، ثم اقتتلوا مع الصحابة والتابعين في معركة النهروان، ثم قتلوا علي بين أبي طالب رضي الله عنه.

الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : ومن صفات الخوارج جرأتهم على دماء المسلمين وأعراضهم فيقتلون أهل الإسلام ويستحلون أموالهم وأعراضهم ففي "الصحيحين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنهم يقتُلُون أهلَ الإسلام، ويدَعون أهلَ الأوثان، لئن أدركتُهم لأقتُلنَّهم قتلَ عاد».
وفي زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أسروا عبد الله ابن الصحابي خباب بن الأرت ومعه زوجته وكانت حاملا، فقطعوا رأسه أمامها، ثم قتلوا زوجته وشقوا بطنها.
ومن صفاتهم أنهم صغار السن يرفعون شعار الإسلام، ويتكلمون بالقرآن، وهم من أبعد الناس عنهم قال صلى الله عليه وسلم في وصفهم: يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ، حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
ومن صفات الخوارج خروجهم على ولاة أمر المسلمين وتكفيرهم لمن لا يكون معهم، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُم رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا بِالْقُرْآنِ، حَتَّى إِذَا عَرَفَ الإِسْلامَ، وَرَأَى عَلَيْهِ بَهْجَتَهُ اخْتَرَطَ سَيْفُهُ فَضَرَبَ بِهِ جَارَهُ، وَرَمَاهُ بِالْكُفْرِ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالْكُفْرِ، الرَّامِي أَمِ الْمَرْمِيٌّ؟ قَالَ: " بَلِ الرَّامِي ".
عباد الله: ولخطر الخوارج على الإسلام والمسلمين وصفهم النبي صلى الله عليهم وسلم بأنهم كلاب النار وأنهم شر الخلق والخليقة فقال : " الخوارج كلاب النار" وقال : "هم شر الخليقة" وتوعدهم بالقتل فقال : "  لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ "  ، ووصف قتلاهم بأنهم شر القتلى، وأثنى على من قاتلهم أو قتلوه ، فعن  عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنُهْ رَأَى رُءُوس الخوارج مَنْصُوبَةً عَلَى دَرَجِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: " كِلَابُ النَّارِ كِلَابُ النَّارِ، ثَلَاثًا، شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ. خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ، ثُمَّ قَرَأَ {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} فقيل لِأَبِي أُمَامَةَ أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سِتًّا أَوْ سَبْعًا مَا حَدَّثْتُكُمْ " ، وقال صلى الله عليه وسلم: " شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ السَّمَاءِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ "
عباد الله : عليكم بجماعة المسلمين فالزموها واحذروا ممن يشق وحدة الصف ويكفر الأمة ويدعو لسفك دماء أبنائها قال تعالى : وإن هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ "
وقال صلى الله عليه وسلم: من خرجَ من الطاعة، وفارقَ الجماعة، فمات ماتَ ميتةً جاهليةً، ومن قاتلَ تحت رايةٍ عُمِّيََّة، يغضبُ لعُصبةٍ أو يدعُو لعُصبةٍ، أو ينصُرُ عُصبةً، فقُتِل فقِتلةٌ جاهليَّةٌ، ومن خرجَ عن أمَّتي يضرِبُ برَّها وفاجِرَها، ولا يتحاشَى من مؤمنِها، ولا يفِي لذي عهدٍ عهدَه فليس منِّي ولستُ منه».



الخميس، 4 سبتمبر 2014

فضل العلم ووبيان الأدوار المشتركة في التربية والتعليم

الخطبة الأولى :
جماعة المسلمين: لقد مدح الله سبحانه وتعالى , العلم وأهله وحث عباده على العلم والتزود منه ، فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة قال الإمام أحمد رحمه الله ( العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته قالوا : كيف ذلك ، قال ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره ) ، فصاحب العلم حي القلب مستنير البصيرة يسير إلى ربه على نور وهدى، بخلاف صاحب الجهل فإنه متخبط في ظلمات الجهل أشبه الميت وهو حي قال تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، وهذا العلم الذي حث عليه الشرع هو العلم الشرعي .

والعلم الشرعي إخواني في الله هو ميراث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتأملوا هذا الحديث النبوي في ذكر فضائل العلم الشرعي روى الترمذي عَنْ قَيْسِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ وَهُوَ بِدِمَشْقَ فَقَالَ مَا أَقْدَمَكَ يَا أَخِي فَقَالَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : أَمَا جِئْتَ لِحَاجَةٍ . قَالَ : لَا . قَالَ : أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : مَا جِئْتُ إِلَّا فِي طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ . قَالَ : فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ

وقال الله عز وجل في فضل أهل العلم ورفع منزلتهم في الدنيا والآخرة (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) ، قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله –في بيانها " ورفعة الدرجات تدل على الفضل إذ المراد به كثرة الثواب وبها ترتفع الدرجات ، ورفعتها تشمل المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت ، والحسية في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة" ، وفي صحيح مسلم أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي فَقَالَ ابْنَ أَبْزَى . قَالَ: وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى ؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا . والمولى هو العبد الذي اعتق-  قَالَ فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى ! قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : هكذا العلم يزيد الشريف شرفا ويجلس المَمْلوكَ على الأسرة" ، وفي سير أعلام النبلاء للذهبي أن الخليفة هارون الرشيد قدم الرقة، فانجفل الناس خلف عبد الله ابن المبارك، - وقد وصفه الذهبي بقوله : الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته- وتقطعت النعال،وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب ، فقالت: ما هذا ؟ قالوا: عالم من أهل خراسان قدم.فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَطٍ وأعوان"

إخوة الإسلام: إن ديننا يشجع المسلم على كسب العلوم والمعارف الدنيوية التي تزود الأفراد والمجتمع بكل صالح ونافع يحقق عمار الأرض ومصالح العباد وفق ما أراد الله جلّ وعلا قال سبحانه (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) لكن لا بد أن تبنى هذه العلوم الدنيوية على العقيدة الصحيحة وعلى الأسس التربوية الشرعية السليمة وعلى الأخلاق الفاضلة، أمّا إذا تجرَّد التعليمُ وأهدافه من الإيمان فأضحَتِ الوسائل والمقاصِد مادّيةً بحتة فهو الوبالُ والشقاء ، وهذه حضارةُ اليوم شاهِدٌ حيّ على هذا النتاج، فشقِيت أمَمٌ بصِناعاتها واختِراعاتها، وأصبح التّسابُقُ في وسائِلِ الدمار لا في العَمَار والاستقرار، وأضحَى الظلمُ والطغيان وسرقةُ الأوطانِ هو شعار أقوَى الدّوَل وأظهرِها في الحضارة المادية ، فما الرّبح في كثرةِ المتعلِّمين إذا غُيِّبتِ المبادئ والحقائِق وصودِرَ الدين وشُغِل العامّة بالشّهوات واللّهَثِ وراءَ المادّة في غفلةٍ عن الآخرة؟! قال تعالى (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)

أيها المسلمون : إن التربية والتعليم منظومة متكاملة وسلسلة متصلة لا ينفك بعضها عن بعض ، ومع بداية العام الدراسي الجديد يتحمل الجميع مسؤوليات كثيرة ، والواجب علينا جميعا أن نقوم بهذه المسؤولية على أكمل وجه  :
أيها الطلاب والطالبات ، إن عليكم واجبات فقوموا بها على الوجه الصحيح ، استحضروا النية الصالحة عند ذهابكم إلى المدرسة بطلبكم العلم النافع فتنفعوا أنفسكم ودينَكم ووطنَكم، ثم احرصوا على الاجتهاد في الدراسة ومتابعتها والحرص عليها ، فدولتنا بفضل من الله ثم بتوجيهات من حكامنا أطال الله أعمارهم وأمدهم بالصحة والعافية وعلى رأسهم رئيس الدولة قد أولوا اهتماما بالغا بالتعليم فوفروا لك أيها المتعلم كل وسائل التعلم ، وكل ذلك من أجل خدمتكم يا معاشر المتعلمين ، فهذه نعمة لا بد أن تقابل بالشكر للمنعم وهو الله عز وجل ثم لهذه الدولة ، وشكرها يكون بالاجتهاد والمثابرة على طلب العلم وتحصيله، وهذا الاجتهاد يحتاج إلى صبر فالعلم لا يرام براحة الجسد .
كما أوصيكم إخواني الطلاب والطالبات باحترام المعلمين جميعا ، وبذل الوسع في الاستفادة من علومهم وأخلاقهم الحسنة ، فالمعلم هو أساس التعلم ، فإن أحببت معلمك وأحبك بذل لك كل ما في وسعه لتعليمك ، وإن احتقرته وتطاولت عليه فاتك علم كثير ،وهذا مثال من واقع الصحابة ، ابنُ عباس ابنُ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعه نسبه وعلو منزلته حين يبلغه الحديث عن رجل أن يأتي بابه وهو قائلٌ نائم، فيقول رضي الله عنهما: فأتوسّد ردائي على بابه، تسْفِي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟! هلاّ أرسلت إليّ فآتيك؟! فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، قال: فأسأله عن الحديث. هذا هو الأدب حقًا.
كما أن سعة الصدر والتواضع من سمات طلبة العلم، فقد قال أحد العلماء: لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر. وأدبك في مدرستك انعكاس لتربية والديك لك، فإن أحسن والدك تربيتك فسيظهر ذلك في حسن تعاملك وخلقك في مدرستك، وإن أسأت فهو عنوان فساد تربية والديك لك في المنزل.                        وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه.


الخطبة الثانية : أيها المعلم والمعلمة : اتقوا الله عز وجل في الرعية التي استرعاكم الله إياها قال صلى الله عليه وسلم" مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ، فاخلصوا في عملكم وابذلوا جهدكم في تعليم أبنائِكم وإخوانِكم من المتعلمين ولا تقصروا أبدا  ، وكونوا أمامهم قدوة حسنة ، وعلموهم كل ما ينفعهم ، واعلموا أنكم تعملون بوظيفة الأنبياء جميعا وهي التعليم قال تعالى : "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ " قال صلى الله عليه وسلم: إنما بعثت معلما "

ولكم الأجر العظيم في تعليمكم الناس، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ  ) وقال صلى الله عليه وسلم في بيان فضل معلن الناس الخير:« إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ»

ووأمر النبي صلى الله عليه وسلم المعلمين أن يترفقوا بالمتعلمين فقال : سَيَأْتِيكُمْ أَقْوَامٌ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَقُولُوا لَهُمْ مَرْحَبًا مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاقْنُوهُمْ أي علموهم- " رواه ابن ماجة بإسناد حسن

أيها الأب والأم ، إنَّ مهمّةَ تربيةِ الأولاد مهمّةٌ عظيمة، خصوصًا في هذا الزّمنِ الذي تَلاطمَت فيه أمواجُ الفتن واشتدَّت غربةُ الدين وكثُرت فيه دواعي الفساد، حتى صار المربِّي مع أولاده كراعِي الغَنَم في أرضِ السّباع الضارية إن غفَل عنها أكلَتها الذئاب.
 فليس دوركم هو توفير الحاجيات المدرسية والنفقات اليومية فقط بل هذا واجب عليكم تجاه أبنائكم ، ولكنك أيها الأب عليك واجب عظيم وهو تحمل المسؤولية الكبرى في تعليم ولدك وتربيته ومتابعته، فالوالد هو المخاطَب بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) فليست التربية والتعليم مقتصرة على المدارس والمعلمين بل هي عمل مشترك بين الوالدين وبين المدارس   ، فراقبوا أولادكم ولاحظوا دروسهم ،لا تسمحوا لهم بالسهر الطويل في اللعب واللهو والجلوس على الفضائيات التي أفسدت التربية والتعليم في كل بقاع الأرض ، راقبوا استعمالهم للانترنت فإن سلاح ذو حدين، وقد سهل استعماله في زماننا وانتشر حتى صار في الهواتف النقالة مع كل شخص، مما سهل الانفتاح على العالم الخارجي بمفاسده ومنافعه.  

لاحظ على ولدك أو ابنتك من يصاحبون فأصحاب السوء مرض عضال فتاك لا علاج له إلا ببتره وقطعه وكما قيل (الصاحب ساحب ) و على الوالدين أن يخصصوا لأولادهم جزءا من أوقاتهم للإشراف على مذاكرتهم وتعليمهم ، وعليهم أن يسألوا عنهم في مدارسهم وعن أحوالهم الدراسية ، فالبيت جزء من التعليم لا ينفك عنه .

 ولقَدْ أدركَ الصالحونَ قيمةَ التعليمِ لأبنائِهِمْ، فحرصُوا علَى بذلِهِ لَهُمْ، وتوفيرِ الجوِّ المناسِبِ لذلكَ، فهذهِ أُمُّ سفيانَ الثورِيِّ ماتَ زوجُهَا، وأرادَ ولدُهَا أَنْ يترُكَ العلمَ لِيَكْفُلَ أُمَّهُ وإخوتَهُ، فقالَتْ لَهُ تلكَ الأمُّ الصالحةُ العارفةُ لأهميةِ العلمِ وفضلِهِ: يَا بُنَيَّ اطْلُبِ الْعِلْمَ وَأَنَا أَعُولُكَ بِمِغْزَلِي فانطلَقَتْ الأمُّ تغزِلُ صُوفَهَا، وتكافِحُ فِي حياتِهَا، حتَّى أصبحَ ولدُهَا سفيانُ علماً مِنْ أعلامِ المسلمينَ، وإماماً مِنْ أئمةِ الْهُدَى.


فمتابعةُ الوالدَيْنِ لأبنائِهِمْ فِي سلوكِهِمْ ودراستِهِمْ لَهُ أبلغُ الأثَرِ فِي تقويةِ عَزْمِهِمْ ونجاحِهِمْ وتَفَوُّقِهِمْ فِي تحصيلِهِمُ العلْمِيِّ. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وإنَّ لولدك عليك حقا»