الجمعة، 26 ديسمبر 2014

مظاهر التسامح مع أهل الكتاب ج 2

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد 

إخواني الأفاضل 

       سبق وأن تكلمت في مقال سابق عن بعض مظاهر التسامح مع أهل الكتاب من يهود أو نصارى في الإسلام، وبينت أن الإسلام تعامل معهم حال كونهم يعيشون على أرض الإسلام، وأعطاهم من الحقوق ما كفل لهم حياة آمنة مستقرة، وحرم الاعتداء عليهم.

ولكن السؤال الذي تطرحه الظروف الحالية والأوضاع الراهنة :
إلى أي حد يكون هذا التسامح ؟ 
هل التسامح مع أهل الكتاب يشمل مشاركتهم في أعيادهم وتهنئتهم بها ؟

أقول للجواب على هذه المسألة سأبين عدة أحكام جاءت بها الشريعة في تعاملاتنا مع أهل الكتاب .

أولا : لقد حرم الإسلام التشبه بأهل الكتاب في جميع الأمور التي يختصون بها، فقد وردت النصوص الشرعية الصحيحة تنهى صراحة عن التشبه بهم، وتحذر من ذلك تحذيرا شديدا، ومن ذلك : 

أ – قال تعالى مبينا طريق الهداية الذي ينبغي للمسلم سلوكه في سورة الفاتحة : " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ"

فالمسلم يطلب من الله أن يهديه إلى الطريق الموصل إليه سبحانه، وهذا الصراط هو طريق المنعم عليهم وهم الذين بينهم الله بقوله : " أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" وتطلب من الله عز وجل أن يجنبك طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم المقصود بهم فقال :  "الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ، وَالضَّالِّينَ النَّصَارَى"

فدل قوله تعالى : " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" على المغايرة بين طريق المنعم عليهم الموصل إلى الصراط المستقيم، وبين طريقي اليهود والنصارى الصاد عن الصراط المستقيم، وهذا فيه التحذير الشديد من سلوك طريقهم. 

ب – قال تعالى : " وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ" 

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : "فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى، بعد ما علموا من القرآن والسنة - عياذا بالله من ذلك- فإن الخطاب مع الرسول، والأمر لأمته " 

ج – روى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ مِنَّا مِنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى" 
والأصل أن النهي يقتضي التحريم . 

د – جاء النهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن مشابهة أهل الكتاب في أوقات عباداتهم وصفتها، فمن ذلك : 

1 - عن أبي عُمير ابن أنس عن عُمومةٍ له من الأنصار، قال: اهتمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاةِ، كيف يجمَعُ الناس لها؟ فقيلَ له: انصِبّ رايةً عندَ حُضورِ الصلاةِ، فإذا رأَوها آذَنَ بعضُهم بعضاً، فلم يُعجِبه ذلك، قال: فذُكِرَ له القُنْعُ -يعني الشُّبّورَ، وقال زياد: شَبّورُ اليهود -فلم يُعجِبه ذلك، وقال: "هو من أمرِ اليهود" قال: فذُكِرَ له الناقوسُ، فقال: "هو من أمرِ النّصارى".فانصرفَ عبدُ الله بنُ زيد وهو مُهتم لِهَمِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأُرِيَ الأذانَ في مَنامِه .." رواه أبو داود
وجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رفض الشبور وهو البوق والناقوس لأنه من طريقة أهل الكتاب في عبادتهم.

2 - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(خَالِفُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّون فِي خِفَافِهِمْ وَلَا فِي نِعَالِهِمْ). 
وجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم أمر بمخالفة اليهود والنصارى ثم خص بالذكر طريقة في عبادتهم وهي كونهم لا يجيزون الصلاة في النعال والخفاف، وهذا يدل على  أن جنس المخالفة مقصود للشرع .
3 - عن أبي هريرة، عن النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلم- قال: "لا يَزَالُ الدينُ ظاهِراً ما عجَّل الناسُ الفِطْر، لأن اليهودَ والنصارى يُؤخِّرونَ " رواه أبو داود 

فيه دلالة  على أن من أسباب ظهور الدين مخالفة اليهود والنصارى في عباداتهم .

ومثله في صيام التاسع مع عاشوراء، وفي إطلاق اللحية وحف الشوارب وتغيير الشيب وفي السلام والنهي عن الجلوس مع الاتكاء على اليد اليسرى وهي خلف الظهر، وتنظيف الأفنية ، فجميع هذه الأحكام عللت بمخالفة اليهود والنصارى، مما يدلنا على أن مخالفتهم مقصودة في شرعنا في طريقة عباداتهم، وبالتالي يحرم التشبه بهم . 

وأما من جهة التعليل والمعنى : فإن المشابهة بالآخرين تفضي إلى نوع محبة وموالاة، فالمشابهة في الظاهر تورث تناسبا وتشابها في الباطن، والمخالفة في الظاهر توجب المباينة والمفارقة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : من تشبه بقوم فهو منهم " .

ثانيا : نهت الشريعة الإسلامية عن موالاة أهل الكتاب، بمعنى محبتهم المحبة الشرعية وليست الفطرية كمحبة الولد المسلم لوالده الكتابي، أو الزوج المسلم لزوجته الكتابية، فلا تدخل في النهي، بل المقصود المحبة الشرعية المقتضية للنصرة والتأييد ، وأمرت بإعلان البراءة منهم ومما يعبدون. والدليل على ذلك: 
1 – قال تعالى :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " 

2 – قال تعالى : " قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ " 

3 – قال تعالى : "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ "  

في هذه الآيات النهي عن موالاة أهل الكتاب والأمر بالبراءة منهم ومن عبادتهم حتى يؤمنوا بالله وحده . 
قال ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان : " لا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب " 

ولا تعارض بين البراءة منهم وعدم موالاتهم ومع الإحسان إليهم، لأن المودة تتعلق بالقلب، والإحسان إليهم يقصد منهم استمالتهم للدخول في الإسلام.
 قال القرافي في الفروق : " وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة تعين علينا أن برهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب، ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى هذا امتنع، وصار من قبيل ما نهي عنه في الآية وغيرها " .

وبعد بيان هذه الأحكام المتعلقة في تعاملنا مع اليهود والنصارى، ما هي حدود التسامح مع أهل الكتاب ؟ 
الجواب :
أولا : تحرم مشابهتهم في ما اختصوا به من عبادات وعادات، بل المشروع مخالفتهم فيها.
بل مخالفتهم في ما اختصوا به مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية في التعامل معهم. 

ثانيا: تحرم مودتهم المودة القلبية بمحبتهم وتمني نصرتهم وظهورهم، وتجب البراءة مما هم فيه من الباطل والشرك والكفر بالله، وهذا يكون علانية، لأنه من مستلزمات شهادة التوحيد وظهور الإسلام على بقية الشرائع الأخرى، قال تعالى : " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ " 

ثالثا : لا تجوز مشاركتهم في أعيادهم ومناسباتهم الدينية ولا تهنئتهم بها للأدلة التالية : 

1 – أن لكل أمة عيد يختص بهم وبشرعهم، قال تعالى : "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ" قال ابن عباس : أي عيدا .
والأعياد من أخص ما تميزت به الشرائع، فموافقتهم في أعيادهم موافقة لهم في أخص شرائعهم والتي لا يجوز إظهارها فضلا عن مشاركتهم فيها.

2 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: " قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم -: مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟ "، قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: " إِنَّ اللهَ - عزَّ وجل - قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا , يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى " 

فالنبي صلى الله عليهم وسلم لم يقر أهل المدينة على احتفالهم بهذا العيد الذي هو من عادات أهل الجاهلية، وقدم لهما بديلا شرعيا وهو عيد الفطر والأضحى. 
ولو كان الاحتفال بأعياد الكفر جائزا لما نهاهم وإنما قال : فإن الله قد زادكم ... 

3 – روى الإمام أحمد عَنْ كُرَيْبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ سَلَمَةَ، تَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ، وَيَقُولُ: " إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ " 

فهذا الحديث نص في مخالفتهم في عيدهم، فالسبت عيد اليهود والأحد عيد النصارى وهما يوما فرح وسرور عندهم. 

4 – ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال : لا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم " وإسناده صحيح . 

5 – جاء في شروط عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل الكتاب في دار الإسلام: أن أهل الذمة لا يخرجون صليبا ولا كتابا في أسواق المسلمين ولا يظهرون أعيادهم ..." 

 6 – في تهنئتهم بأعيادهم شِبهُ إقرار لهم على باطلهم، فإنهم يدعون أن عيسى عليه السلام ولد في هذا اليوم، وهذا لا دليل عليه لا في شرعهم ولا في شرعنا، بل ورد في شرعنا ما يدل على أنه ولد في الصيف وذلك في قوله تعالى : " وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا " والرطب لا يكون إلا في الصيف . 

كما أنهم يقولون بعقيدة التثليث وهي عقيدة كفرية، قال تعالى : "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " 
فالله يكفرهم ويتوعدهم بالعذاب ونحن نبارك لهم بعيدهم !! 

كما أنهم يرفعون الصليب وهو مخالف حتى لدينهم فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه في الحديث الصحيح عن عدم رضا عيسى عليه السلام بهذا الصليب،  فروى أحمد قول النبي صلى الله عليه وسلم:يوشك المسيح عيسى ابن مريم أن ينزل حكما قسطا، وإماما عدلا، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب " وهم يرفعون الصليب في أعيادهم بل هو شعارهم، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم وثنا. 


وأخيرا أقول : إن القول بعدم جواز تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم ليس خروجا عن مبدأ التسامح الذي شرعه ديننا في التعامل معهم، بل هو إتباع لشرعنا وديننا في التعامل مع من يخالفوننا في الدين والاعتقاد . 
وفقنا الله لما يحيه ويرضاه . 

مظاهر التسامح مع أهل الكتاب ج 1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده  لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد 

إن الله سبحانه وتعالى أمر الناس بعبادته وحده لا شريك له، فأرسل الرسل وأنزل عليهم الكتب، وخالف بينهم إذ جعل لكل منهم  شريعة ومنهاجا قال تعالى : "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا " ، ولكن الدين واحد عند الله وهو الإسلام قال تعالى : "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ  "  ، كما قال صلى الله وسلم واصفا "الْأَنْبِيَاءُ أَبْنَاءُ عَلَّاتٍ " رواه مسلم . فأمهاتهم شتى وأبوهم واحد، ولأجل ذلك وجدت علاقة بين هذه الملل وهي اليهودية والنصرانية والإسلام اقتضت تعاملا خاصا فيما بينهم، مع هيمنة شريعة الإسلام على بقية الشرائع لأنه خاتمها.

ولكن الناظر في تاريخ الأديان يرى انتهاكا لهذه العلاقة بين اليهود والنصارى، وبين النصارى أنفسهم، فاندلعت بينهم الحروب، وسفكت الدماء، وظهرت العداوة بينهم.

أما الإسلام فقد تعامل مع اليهود والنصارى تعاملا فريدا من نوعه، قام على الأخلاق وحسن التعامل مع الآخرين، لكونهم أصحاب كتب سماوية أنزلت على رسلهم.

وأود من خلال هذا المقال أن أبين مظاهر التسامح وحسن المعاملة التي  لقيها اليهود والنصارى في بلاد الإسلام .

1 - حِل طعام أهل الكتاب ونسائهم لأهل الإسلام قال تعالى : " وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ " 

2 - مشروعية التعاملات التجارية معهم، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ " رواه البخاري 

3 - أمر الله بدعوتهم إلى الإسلام، وبحسن مجادلتهم وحوارهم، قال تعالى :" وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ " 

4-  مشروعية زيارتهم والاطمئنان عليهم حال مرضهم ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ " رواه البخاري 

5 – الإحسان في جوارهم، وعدم إيذائهم، بل وإهداؤهم ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أَنَّهُ ذُبِحَت لَهُ شاةٌ فَجَعَلَ يَقُولُ لِغُلَامِهِ أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصينى بِالْجَارِ حَتى ظَنَنتُ أنه سَيَورِثُه "  رواه البخاري في الأدب المفرد .

6 – حمايتهم وحفظ دمائهم وأعراضهم وأموالهم طالما كانوا يعيشون في دولة المسلمين، وتحريم الاعتداء عليهم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا " رواه البخاري .
وقال صلى الله عليه وسلم: " «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "

7 -  مضاعفة الأجر لمن آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: وذكر منهم " مُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ أَجْرَانِ " رواه البخاري ومسلم .

8 – عدم إكراههم على ترك دينهم واعتناق الإسلام، بل يخيرون بين الإسلام أو دفع الجزية، وهذا في حال قوة الدولة المسلمة ، قال تعالى : " فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا " 

9 -   مشروعية عقد المعاهدات معهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة.
10- أوجب الإسلام العدل مع أهل الكتاب، ولو اقتضى الأمر أن يحكم للكتابي على المسلم، قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " 
وفي البخاري عن الأشعث بن قيس قال :كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ قُلْتُ: لَا . قَالَ : فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ احْلِفْ . قَالَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } .


هذه بعض مظاهر التسامح التي جاءت بها شريعة الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب من يهود أو نصارى، فيهدف الإسلام  إلى استمالتهم إلى هذا الدين لأنهم من أقرب الناس إليه، إذ يقرون في أنفسهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يجحدونها حسدا وكبرا، كما قال تعالى : "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " .

ولو نظرنا في تاريخنا الإسلامي لوجدنا صورا عظيمة ومشرقة لتعامل الخلفاء وقادة الجيوش الإسلامية مع دول أهل الكتاب التي تم فتحها، إذ أعطوهم الأمان، ولم يهدموا كنائسهم ولا أمكان عباداتهم، ولم يجبروهم على الدخول في دين الله، بل خيروهم بين الإسلام أو دفع جزية يسيرة، يعفى منها العجزة والأطفال والنساء.

ولكن ...

ما هو حدود هذا التسامح ؟ 

هذا ما سنتعرف عليه في المقال الثاني بإذن الله تعالى . 

الخميس، 25 ديسمبر 2014

خطبة جمعة : أهمية الوقت

الخطبة الأولى . 
أيها المؤمنون : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :« نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ : الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ » ، فدل الحديث على أن من النعم العظيمة والمنن الكبيرة على العبد نعمة الوقت ، فأنفس ما يملكه العبد في هذه الحياة هو وقته الذي يعيشه ولحظاته التي يحياها ، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة ، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط ، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون ، لأن الفراغ يعقبه الشغل ، والصحة يعقبها السقم  ، ولهذا جاءت وصية نبينا صلى الله عليه وسلم باغتنام هذه الأحوال من الفراغ والصحة بالطاعات قبل حلول الشغل أو السقم فقال : "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ "  فمرحلة الشباب والفراغ والحياة إنما ترجع إلى أصل واحد هو الوقت . 

 جماعة المسلمين : الوقت في الإسلام أعظم قدرا ، وأنبل شأنا وهدفا، وأسمى غاية ومقصدا ، فهو في الإسلام ميدان لكل عمل شريف، ومجال للمسارعة في الخيرات والمبادرة للصالحات. 

ولهذا أقسم الله بأجزاء منه في مطالع سورٍ عديدة ، بل ربما أقسم به جملة وتفصيلا وهذا فيه دلالة على أهمية الوقت في الإسلام . ، قال تعالى {وَالْعَصْرِ} ،وهو الدهر الزمان الذي يعيشه الإنسان ،  وأقسم به تفصيلا في قوله " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ،وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ،وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا " ثم كان جواب القسم في السورة " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا " أي زكى نفسه بالعمل الصالح وتجنب العمل السيء، وكذلك لما أقسم فقال: "وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى،وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى،وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى " جاء جواب القسم في السورة "إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى "   وفي ذلك إشارة من هذه الآيات إلى أن الوقت مادة الحياة، وأن سعي الناس فيه مختلف، فمنهم من يُزكّي نفسه ويُنَمّيها بالخير، ومنهم من يُهْبِطُها في أسفل الدّرَكات بتفريطه وعصيانه.

عباد الله، و مما يدل على أهمية الوقت أنه محور من محاور السؤال يوم الدين ، فإن أحسن العبد الإجابة أفلح ونجا ، وإن أساء خسر وندم ، ولا إحسان إلا بعمل واعتقاد صالح.  قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ،وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ"  فلن تزول قدما العبد في ذلك الموقف في أرض المحشر حتى يحاسب عن مدّة أجله فيم صرفه بعامَّة ؟ وعمَّا فعل بزمانه وقت شبابه بخاصة؟ وهنا تخصيصٌ بعد تعميم للأهمية والتأكيد، وإلا فإنّ مرحلة الشباب وعُمر الشباب هي مرحلة داخلة ضِمنًا في العمر الذي يسأل عنه العبد، لكن خُصَّ بالذكر لأن الإنسان في مرحلة شبابه تكون لدية من القوة والعطاء ما لا يكون في طرفَي العمر، حيث ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة . 

جماعة المسلمين : لقد عرف سلف هذه الأمة قيمة الوقت وأهميته في حياة الإنسان الرابح فاستغلوه غاية الاستغلال ووظفوه لصالحهم في الدنيا والآخرة ، فكان الواحد منهم يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا ، ويعمل لآخرته كأنه يموت غدا ، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه ناصحا " إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من صحتك قبل سقمك ومن حياتك قبل موتك فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا ؟ 
كان ابن مسعود يقول: (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي). قال الحسن : لقد أدركت أقواماً كانوا أشدَّ حرصاً على أوقاتهم من حرصكم على دراهمكم ودنانيركم .

عباد الله: لقد بين الله تعالى لنا في الكتاب الحكيم طرق استغلال الوقت فقال " وَالْعَصْرِ،إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " 

فالأصل أن الإنسان في خسارة من أمره ، ولا يمكن له أن يتدارك ذلك إلا بأمور أربعة بينها الله سبحانه في هذه السورة ، أولها إيمان صحيح خال من الشبهات ، ولا يكون ذلك إلا بالعلم الشرعي للكتاب والسنة وعلى وفق فهم الصحابة والتابعين والعلماء الربانيين ، يعقب ذلك الثمرة من وراء هذا العلم وهو العمل ، المتمثل في أداء الفرائض واستكمالها بالنوافل ، ثم اجتناب المحرمات ، ثالثها : الدعوة إلى هذا الإيمان السليم والعمل الصالح في نطاق الأسرة والمجتمع ، ثم الصبر الملازم لكل مرحلة من هذه المراحل .

قال ابن القيم –رحمه الله- في بيان كيفية عمارة الوقت :( عمارة الوقت : الاشتغال في جميع آنائه بما يقرب إلى الله أو يعين على ذلك من مأكل أو مشرب أو منكح أو منام أو راحة، فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله وتجنب ما يسخطه كانت من عمارة الوقت وإن كان له فيها أتم لذة، فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات، فالمحب الصادق ربما كان سيره القلبي في حال أكله وشربه وجماع أهله وراحته أقوى من سيره البدني في بعض الأحيان "

أيها المسلمون، إن العاقل من تفكّر في أمره، ورأى أن تصرّم أيامه مؤذن بقرب رحيله طال عمره أم قصر، فاحتاط لأمره، واجتهد في يومه، واستعد لغده. ما الوقت إلا حياة الإنسان وعمره الذي هو أنفاس تتردّد، وآماله التي تضيع إن لم تتحدّد، الوقت ثمين ونفيس، وما مضى منه فلن يعود، ولا الزمان بما مضى منه يجود. فهلاّ تنبّهنا لأعمارنا، فكم من غافل يبيع أغلى ما يملك وهو الوقت بأبخس الأثمان! فالوقت مُنْصرِمٌ بنفسه، مُنقضٍ بذاته، ومن غفل عن تداركه تَصَرّمت أيامه وأوقاته، وعظُمَت حسراته، ينقضي العمر بما فيه فلا يعود إلا أثره، فاختر لنفسك ما يعود عليك، ولهذا يقال للسعداء: "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ، ويقال للأشقياء المعذّبين:" ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ " 


الخطبة الثانية :جماعة المسلمين إن من أعظم الخسارة إضاعة الأوقات سدى ، وإن الحفاظ على الأوقات واستثمار الأعمار يحتاج إلى حزم وعزم وهمّة وقوّة إرادة، أما البَطَالة والكسل فهي داء وَبِيل ومرض خطير تنعكس آثاره السيئة على الأفراد والمجتمعات، ويسبّب الخمول والفقر والتخلّف المادّي والمعنوي، ويؤدّي إلى الرذائل والمنكرات، وإن يكن الشُّغل مَشْهَدةٌ فإن الفراغ مَفْسَدَةٌ، ومَن أكثر الرُّقَاد عُدِم المُرَاد . 

أيها المسلمون، يخيَّل لبعض الناس أن الأيام ستفرغ له في المستقبل من الشواغل، وتصفو له من المكدرات والعوائق، وأنه سيكون فيها أفرغ منه في الماضي أيام الشباب، ولكن الواقع المشاهد على العكس من هذا، كلما كبرت سِنُّك كبرت مسؤولياتك وزادت علاقاتك وضاقت أوقاتك ونقصت طاقتك، فالوقت في الكبر أضيق، والجسم فيه أضعف، والصحة فيه أقلّ، والنشاط أدنى، والواجبات والشواغل أكثر وأشدّ . 

عباد الله : قال ابن القيم رحمه الله : واعلم أن الحسرة كل الحسرة الاشتغال بمن لا يجدي عليك الاشتغال به، إلا فوت نصيبك وحظك من الله، وانقطاعك عنه وضياع وقتك عليك" 
فتوجد طوائف من الناس مشغولون بلا شغل، لأن شغلهم لا يعود عليهم بالنفع، بل بالضرر المحقق.

فتأملوا حال من يقضي الساعات الطوال في المقاهي أو من يمضي وقته في مشاهدة فلم قد أخذ بمجامع حواسه وجوارحه، أو من يعكف على حاسوبه أمام الانترنت يحادث ويتصفح بلا هدف ولا مصلحة
فهؤلاء مشغلون بما هم فيه، ولكنهم ضيعوا ساعات أعمارهم فيما لا ينفع، فهذا الوقت يمكن قضاءه في زيارة رحم، أو محادثة زوجة وأولاد، أو تلاوة قرآن، وقراءة كتاب، أو جلوس مع أهل الخير والصلاح ، أو في نوم مبكر بعد استعدادا لصلاة الفجر، أو قيام الليل . 
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة "  

أيها المسلمون: لقد طغت الحياة المادية على وقت المسلم، فالوظائف ومسئولية المنزل والأولاد مشغلة للعبد في حياته ولكن الفطن هو من ينتبه لذلك فيسخر ظروفه وأحواله لطاعة الله. 

قال تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ، وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ 
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " 

فللإنسان يومان يندم فيهما على ما ضَيّع من أوقاته، ويطلب الإمهال: فالأول في ساعة الاحتضار، وذلك حين يقول " رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ" فيكون الجواب : " وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا " والموقف الثاني في الآخرة حين يدخل أهلُ النارِ النارَ: "وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ "  فيكون الجواب: "أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ " 

فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، واستغلوا لحظات أعماركم بما ينفكم في أخراكم ودنياكم، واحذروا التسويف والتأجيل فإنه مصيدة للشيطان يوقع بها اتباعه، واعلموا أن الله لم يكلفنا من الأعمال ما لا نطيق، بل أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، والعادات مع حسن النية تنقلب طاعات يؤجر عليها المؤمن. 



استفدت هذه الخطبة مع التعديل عليها بما تيسر من خطبة للشيخ صالح آل طالب بعنوان: قيمة الوقت في حياة المسلم .