الخميس، 31 ديسمبر 2015

خطبة جمعة : القراءة مفتاح العلوم

الخطبة الأولى : أيُّهَا المؤمنونَ: اعلموا رحمني الله وإياكم أن الله سبحانه مدح العلم وأهله وحث عباده على طلبه والتزود منه، فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة، ولأجل ذلك جاء الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد منه فقال تعالى : "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا" قال ابن القيم " وكفى بهذا شرفا للعلم أن أمر نبيه أن يسأله المزيد منه" وهذا العلم – إخواني في الله- لا يتحصل إلا بطلبه وتعلمه وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ " 

ومن طرق طلب العلم وتحصيله القراءةُ النافِعَة، ، ولأهميةِ القراءةِ فِي الحياةِ أمرَ اللهُ سبحانَهُ بِهَا رسولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي أوَّلِ مَا نزلَ مِنَ الآياتِ، قالَ تعالَى:" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" وفي ذلك دلالة واضحة على أهمية القراءة وعناية الإسلام بها.

ولقد حَرَصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَعْزِيزِ الْقِرَاءَةِ النافعةِ فِي الْمُجْتَمَعِ ومما يدل على ذلك ما ورد في قصة أسرى بدر كما ذكره أصحاب السير من أن النبي صلى الله عليه وسلم فدى بعض الأسرى من المشركين مقابل أن يعلم عشرة غلمان من غلمان المدينة القراءة والكتابة، وَكَانَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي يَسْتَطِيعُ الْقِرَاءَةَ يَحْظَى بِمَنْزِلَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَهَذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ الهََُْ عَنْهُ تَقَدَّمَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَشَرَّفَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ الْمَهَامِّ الْعَظِيمَةِ؛ لأَنَّهُ يُتْقِنُ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ, فَصَارَ كَاتِبًا لِلْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ وَالرَّسَائِلِ, وَمُتَرْجِمًا لِبَعْضِ اللُّغَاتِ, وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ يُرْسِلُ الْقُرَّاءَ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى الْبُلْدَانِ الْمُخْتَلِفَةِ يُعَلِّمُونَهُمُ الْقُرْآنَ الْكُرْيمَ.

وللقراءة أثر عظيم في اليوم الآخر كذلك، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِى يَقْرَؤُهُ يَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ اثْنَانِ »، ومن أعظم سبل الترقي في الجنة قراءة القرآن قال النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِى الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا »

ومِمَّا يُشعِرُ بقيمةِ القراءةِ وضَرورتِهَا، ورفعةِ قدْرِهَا وعزَّةِ شأنِهَا، أنَّ القرآنَ الكريمَ بَيَّنَ فِي حديثِهِ عَنْ أصحابِ الكهفِ أنَّ الكتابَ كانَ رفيقَهُمْ، قالَ –تعالَى-:" أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً" قالَ ابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهُمَا-: الرقِيمُ كتابٌ كانَ عندَهُمْ فيهِ الشرْعُ الذِي تَمَسَّكُوا بِهِ ، وفِي هذَا إشارةٌ إلَى أهميةِ القراءةِ واصطحابِ الكتابِ فِي الحلِّ والترحالِ، وفِي الحضَرِ والسفَرِ"

عبادَ اللهِ: خيرُ كتابٍ يقرؤُهُ المسلمُ القرآنُ الكريمُ، قالَ –تعالَى-:"فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ" وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعاً لأَصْحَابِهِ». وأفضل طريقة لقراءته هي القراءة بتدبر وتفهم لمعانيه، فإنها تكسبه لذة في النفوس، قال ابن القيم : فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر... فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها "  ا.هـ  ، ويستعين على تفهم معان القرآن بقراءة شيء من كتب التفسير التي اعتنت بتفسير كتاب الله وأخص منها تفسير ابن كثير رحمه الله أو بعض اختصاراته، وتفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للمفسر عبد الرحمن السعدي رحمه الله، فإنه بين معاني الآيات بأسهل كلام وأوجز عبارة، مع بيانه للعبر المستوحاة من الآيات والقصص في القرآن. 

ومما يعتني المسلم بقراءته ما ثبتَ من أحاديثِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء: فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في " الصحيحين "، وسنن النسائي، ورياض النواوي وأذكاره، تفلح وتنجح " ا.ه وينظر كذلك في شروح كتب الحديث وبيان الأحكام التي تستفاد منه 

ومما يعتني المسلم بقراءته كتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسِيَرِ الصحابةِ والعلماءِ والصالحينَ وأقوالِهِم، لِمَا فيهَا مِنَ الدروسِ والعِبَرِ، قِيلَ لابنِ المبارَكِ: يَا أبَا عبدِ الرحمنِ، لَوْ خرجْتَ فجلسْتَ معَ أصحابِكَ، قالَ: إنِّي إذَا كُنتُ فِي المنْزِلِ جالسْتُ أصحابَ رسولِ اللهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. يعنِي قراءةَ الكُتبِ التي تتضمَّنُ سِيَرَهُم وأقوالَهم.

وإننا اليوم نعاني من ابتعاد المسلمين عامة، والمثقفين خاصة عن تعلم وقراءة سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة من بعده، وهذا من العيب والجهل الذي لا يعذر صاحبه، إذ كيف يجهلون سيرة من جعلهم الله سببا لخروجهم من الظلال إلى الهدى ومن الظلام إلى النور. 

عباد الله : لقد أدرك السلف الصالح رحمهم الله فضل القراءة، فشمَّرُوا عَنْ ساعدِ الجدِّ في تحصيلِ العلومِ النافعةِ قراءةً وكتابةً، فقد كان الحافظ الخطيبُ البغداديُّ -رحمه الله- يمشي وفي يدِهِ جُزْءٌ يُطالِعُه، وكان العلاَّمةُ النَّحْويُّ أبو بكرٍ محمَّدُ بن أحمدَ الخيّاطُ -رحمه الله- يَقرأُ جميعَ أوقاتِهِ، حتى في الطَّريق، وكان ربَّما سقَط في حُفْرَةٍ أو خَبَطَتْهُ دابَّة!، وكان ابنُ الجوزيِّ -رحمه الله- لا يُضِيِّعُ من زمانه شيئًا، قال رحمه الله: ولو قلت إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في الطلب" ، وهذا الإمامُ ابنُ القيِّم -رحمه الله- ألَّفَ كتابَهُ المشهورَ: "زادَ المعاد في هديِ خيرِ العباد" وهو على سَفَر، ومعلومٌ لنا جميعاً: تلك المشقّةُ التي كان الأوَّلونَ يعانون منها في أسفارهم.

وكانوا يفرحونَ باقتناءِ الكتبِ ومطالعَتِها، يقول الحافظُ ابنُ الجوزيِّ: وإنِّي أُخْبِرُ عن حالي: ما أشبعُ من مطالعةِ الكُتُب، وإذا رأيتُ كتابًا لم أَرَهُ، فكأنِّي وقعتُ على كَنْزٍ.
فانظُرُوا كيفَ أثْمَرَتْ قراءتُهُمْ علماً نافعاً، وجُهداً رائعاً، سجَّلُوهُ فِي كُتُبِهِمْ ومصنفاتِهِمْ ومُؤلفاتِهِمْ.

أيهَا المؤمنونَ: لقد اشتغل بعض المثقفين بالقراءة، ولكنها في الحقيقة لا تسمن ولا تغني شيئا، إما قراءة الصحف والمجلات أو الروايات والقصص المترجمة، أو متابعة ما يكتب في المنتديات وشبكات التواصل الاجتماعي وغير ذلك ، وهذا قد تحصل منه فائدة ولكنها ليست هي المرجوة، بل لا بد أن تكون قراءتك انتقائية فتنتقي ما تقرؤه كما تنتقي طيب الطعام. 

فاجتهدُوا عبادَ اللهِ فِي الإقبالِ علَى قراءةِ كُلِّ علمٍ مُفيدٍ، وشجِّعُوا أبناءَكُمْ علَى مُطالعةِ كُلِّ نافعٍ وجديدٍ، وتخصيصِ ساعاتٍ يوميةٍ، وأوقاتٍ أسبوعيةٍ للقراءةِ.


الخطبة الثانية : أما بعد: لقد ضربَ علماؤُنا أعجبَ الأمثلةِ في حُبِّ قِراءةِ الكُتُبِ والحِرْصِ على تَحصيلها، وما ذلك إلا لعِظَمِ مَكانةِ الكِتاب لديهم، ورفعةِ منزلته في قلوبهم، فالكتبُ كانت ولا زالت وسَتَبْقَى -بإذن الله- السَّبيلَ الأعْظَمَ للقِراءة والوَسيلةَ الأنْفَعَ لنَيْلِ العُلوم، يقول الحافظُ الخطيبُ البغدادي -رحمه الله-: ومع ما في الكُتُبِ من المـَنافعِ العَمِيمةِ والمـَفاخِرِ العَظيمة، فهي أكرمُ مالٍ وأَنْفَسُ جَمال، والكتابُ آمَنُ جليسٍ وأَسَرُّ أَنِيس، وأَسْلَمُ نَديمٍ وأَفْصَحُ كَلِيم.

فمن عجائب حِرْصِ العُلماء على تحصيل الكتبِ القَيِّمةِ مع ما كانت عليهِ من النُّدْرةِ والغَلاء: ما قامَ به الحافظُ أبو العَلاءِ الهمَذانيُّ عندما وقفَ على كُتُبٍ تُباعُ في بغدادَ، فاشتراها بستِّينَ ديناراً، ولم يكن لديه هذا المبلغ، فأُمْهِلَ أسبوعاً، فأسرعَ إلى هَمَذانَ، فأمَرَ منادياً ينادي على دارٍ له هناك، فباعَها بستِّين ديناراً، ثمَّ رجع إلى بغدادَ، فوفَّى ثَمَنَ الكتاب!.

ولم تكن الطِّباعةُ موجودةً من قبل عند الأقدمين، فكانوا يضطَّرُون إلى نسْخها أو استئجارِ من يقوم بِنَسْخِها لهم، فكان بعضهُم ربما باعَ بعضَ ثيابهِ ليشتريَ بثمنهِ كتاباً أو أوراقاً لنسخِ كتاب، كما ذكروا ذلك عن بعضهم.

وذكر عن شيخ الإسلامِ ابنَ تَيْميَّةَ أنه: لا تكادُ نفسُهُ تَشْبَعُ من العِلْم، ولا تَروى من المـُطالعة، ولا تَمَلُّ من الاشتغال، ولا تَكِلُّ من البحث، وقَلَّ أن يَدْخُل في علمٍ من العلوم في بابٍ من أبوابه إلا ويُفتَحُ له من ذلك البابِ أبوابٌ، ويَسْتدرِكُ أشياءَ في ذلك العِلْمِ على حُذَّاقِ أهلِهِ ..

وأمَّا سرورهم بالقراءة وفرحُهم بتحصيلِ الكُتُبِ ومطالعتِها فعجبٌ عجاب، فعن شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ أنّه ابتدأَهُ مرضٌ فقال له الطبيب: إنَّ مطالعتَك وكلامَك في العلمِ يَزيدُ المرضَ. فقال له: لا أصبِرُ على ذلك! وأنا أحاكِمُكَ إلى علْمِكَ! أليست النَّفْسُ إذا فَرِحَتْ وسُرَّتْ قَويَتْ الطَّبيعةُ فَدَفَعَتِ المرضَ؟! فقال الطبيبُ: بلى! فقال له شيخُ الإسلام: فإنَّ نَفْسي تُسَرُّ بالعِلْمِ فتَقْوَى به الطَّبيعةُ؛ فأجدُ راحةً! فقال الطبيبُ: هذا خارجٌ عن علاجنا!.

وكان تلميذُهُ العَلَّامَةُ ابنُ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ مُغرىً بِجَمْعِ الكُتُب، فحَصَّلَ منها ما لا يُحْصر، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موتِهِ دَهْرًا طويلًا سوى ما اصْطَفَوْه منها لأنفسهم

عباد الله: إنَّ البعضَ مع كثرةِ انشغالاته يَشْتَكي من عدمِ الحصول على فرصةٍ للقراءة، فنذكِّرُهُ بوصيَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حينما قال: «استعنْ باللهِ ولا تَعْجَز»، ونقول له أيضاً: احرص على اقتطاع جزءٍ من وقتك وخصِّصْ وقتاً للقراءة ضِمْنَ برنامجك اليومي، وكلُّ واحدٍ منّا أدْرى بما يُناسِبُهُ من أوقات، ففتِّشْ عن الوقت المناسب لك، وبادِرْ إلى استغلاله بالقراءة مباشرةً، واحرِص على المحافظةِ عليه، وإيّاكَ والتسويفَ.

و إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ مَا نَغْرِسُهُ فِي أَبْنَائِنَا حُبَّ الْقِرَاءَةِ في الكتب النافعةِ التي تُعرِّفُهُم بتعاليم دينِهم، وتغرسُ في قلوبهم الإيمانَ باللهِ وتُقَرِّبُهُم منه –عزَّ وجلَّ-، وَذَلِكَ لِتَنْشِئَةِ جِيلٍ صالحٍ مؤمنٍ يَتَحَصَّنُ بِالْعِلْمِ الرَّاسِخِ، وَالْمَعْرِفَةِ النَّافِعَةِ، وَالثَّقَافَةِ الْمُفِيدَةِ.

وَإِنَّ الْجُلُوسَ مَعَ الأَبْنَاءِ لِقِرَاءَةِ الْكُتُبِ قِرَاءَةً جَمَاعِيَّةً مَعَهُمْ فِي مَجْلِسٍ أُسَرِيٍّ يُنَمِّي قُدُرَاتِهِمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَيُشَجِّعُهُمْ عَلَى الاِسْتِمْرَارِ فِيهَا، مع توفير مَكْتَبَةٍ تَحْوِي الْكُتُبَ الَّتِي تُلاَئِمُ مُسْتَوَى الأُسْرَةِ وَالأَوْلاَدِ وَأَفْكَارَهُمْ, وَأَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعٍ بَارِزٍ مِنَ الْبَيْتِ، وَتَضُمَّ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ

وولاة أمورنا في الدولة حفظهم الله يشجعون على القراءة ويولونها اهتماما بالغا فهذا رئيس الدولة يعلن عام  2016 عاما للقراءة ، ونائبه الشيخ محمد بن راشد يطلق أَكْبَرَ مَشْرُوعٍ عَرَبِيٍّ لِتَشْجِيعِ الْقِرَاءَةِ لَدَى الطُّلاَّبِ فِي الْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ بِعُنْوَانِ "تَحَدِّي الْقِرَاءَةِ الْعَرَبِي" والشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي يطلق مشروع ثقافة بلا حدود بأن وفر في كل بيت مكتبة .
فاللهم انفعْنا بما علَّمْتَنا، وعلِّمْنا ما ينفَعُنا، وزدْنا علماً.
عبادَ اللهِ: إنَّ اللهَ أمرَكُمْ بِأَمْرٍ بَدَأَ فيهِ بنفْسِهِ وَثَنَّى فيهِ بملائكَتِهِ فقَالَ  تَعَالَى:"إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" وقالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً»

الخميس، 24 ديسمبر 2015

خطبة جمعة : التحالف العسكري الإسلامي

الخطبة الأولى : اعلموا رحمكم الله أن اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الإِنْسَانَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ؛ لِيُحَقِّقَ التَّوْحِيدَ والعبودية لله وحده دون سواه، ويُقيمَ الْعَدْلَ ويقمع الظلم، وَيَنْشُرَ الإسلام والسَّلاَمَ، وَحَثَّنَا عَلَى التَّعَاوُنِ فِيمَا بَيْنَنَا لِتَحْقِيقِ الْغَايَاتِ الْكَرِيمَةِ، وَالْمَقَاصِدِ الْعَظِيمَةِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ). فَحَثَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ، وَقَرَنَهُ بِالتَّقْوَى، لِأَنَّ فِي التَّقْوَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْبِرِّ رِضَا النَّاسِ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَا النَّاسِ فَقَدْ تَمَّتْ سَعَادَتُهُ .

وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى يَكُونُ بِوُجُوهٍ، مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ مُجْتَمِعِينَ كَالْيَدِ الْوَاحِدَةِ لِرَدِّ الْمُتَعَدِّينَ، فَنِعْمَ التَّحَالُفُ الذي يقام لأجل التَّغَلُّبِ عَلَى التَّحَدِّيَاتِ، وَكَفِّ  الْمُعْتَدِينَ، وَرَفْعِ الظُّلْمِ عَنِ الْمَظْلُومِينَ، ونصرة الإسلام والمسلمين.

 وَلَقَدْ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ بَعْثَتِهِ حِلْفًا تَدَاعَتْ إِلَيْهِ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ؛ فَاجْتَمَعُوا فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَنْ لَا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ إِلَّا قَامُوا مَعَهُ، وَكَانُوا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلَمَتُهُ، وَسُمِّيَ بِحِلْفِ الْفُضُولِ. 

وَأَثْنَى النَّبِيُّ  صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذَا التَّحَالُفِ فَقَالَ:« لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلاَمِ لَأَجَبْتُ». وَكَانَ حِلْفُ الْفُضُولِ أَكْرَمَ حِلْفٍ سُمِعَ بِهِ وَأَشْرَفَهُ فِي الْعَرَبِ. 

كَمَا مَدَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّ حِلْفٍ يَقُومُ عَلَى رَدِّ الْحَقِّ لأَصْحَابِهِ، فَقَالَ:« أَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً». قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ؛ إِذْ أَمَرَ بِالِانْتِصَافِ مِنَ الظَّالِمِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ عُهُودِهِمُ الْبَاطِلَةِ عَلَى الظُّلْمِ وَالْغَارَاتِ؛ فَقَدْ هَدَمَهُ الْإِسْلَامُ. 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حُقُوقًا مِنْهَا: نُصْرَتُهُ، وَدَفْعُ الضُّرِّ عَنْهُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :« الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ». وَمَعْنَى لاَ يُسْلِمُهُ أَيْ: لاَ يَتْرُكُهُ مَعَ مَنْ يُؤْذِيهِ؛ بَلْ يَنْصُرُهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ. فَمِنْ أَفْضَلِ أَوْجُهِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ وَأَهَمِّهَا: التَّحَالُفُ نُصْرَةً لِلْمُسْتَضْعَفِينَ، وَإِغَاثَةً لِلْمَلْهُوفِينَ، قِيَامًا بِحَقِّهِمْ، وَدِفَاعًا عَنْهُمْ، عَمَلاً بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ لِلاِجْتِمَاعِ وَالتَّحَالُفِ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَوَائِدَ عَظِيمَةً، وَمَنَافِعَ كَثِيرَةً، فَهُوَ سَبَبٌ لِلْفَوْزِ وَالْقُوَّةِ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ لأَنَّهُ مِنَ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ فقَالَ:( وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).

وَمِنْ دوافع ومَنَافِعِ التَّحالف أنه باب من أبواب الجهاد الشرعي فهو سبيل لتحقيق القوة الجهادية ضد أعداء الملة امتثالا لقول الله تعالى : "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ" فبالتحالف تصير لدول الإسلام قوة عظيمة ترهب أعداء الدين ممن تحالفوا على النيل منه على كافة الأصعدة والمجالات.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله : " فمن أهم مسائل الجهاد في هذه الأوقات عقد المعاهدات وتوثيق المودة والصداقة بين الحكومات الإسلامية.. والتكافل بينها والتضامن، وأن يكونوا يدا واحدة على من تعدى عليهم أو على شيء من حقوقهم.." 

فبالتحالف يَرُدُّ الله بِهِ عُدْوَانَ الْمُعْتَدِينَ، وينصر به المستضعفين وهذا من مقاصد الجهاد وغاياته قَالَ سُبْحَانَهُ: ( وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ). 

عباد الله: إِنَّ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُشَارِكَ فِي إِحْلاَلِ الْخَيْرِ وَالسَّلاَمِ، وَيُسَانِدَ ولاةَ الأَمْرِ فِي نَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَالأَخْذِ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، قَالَ الْبَرَاءُ ابْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، فَذَكَرَ مِنْهَا وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ .

والتَّحالفُ لنُصْرةِ المَظْلومِ وتَفْرِيجِ كُرْبَتِهِ من علاماتِ صِدْقِ الإيمانِ وحُسْنِ الإسلامِ، قال صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».

ومَنْ نَصَرَ مَظْلُوماً وأَسْهَمَ في تَفريجِ كُربتهِ فإنَّ اللهَ -عزّ وجلَّ- يُفَرِّجُ عَنْهُ كُرَبةً مِنْ كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ –كَمَا صَحَّ في الحَدِيثِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم -، فَالجَزاءُ من جِنْسِ العَمَلِ، وقَدْ قالَ تَعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) .

فَاللَّهُمَّ احْفَظِ الإِمَارَاتِ، وَأَدِمْ عَلَيْنَا وَحْدَتَنَا، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَنَا، وَوَفِّقْنَا جَمِيعًا لِطَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَطَاعَةِ مَنْ أَمَرْتَنَا بِطَاعَتِهِ, عَمَلاً بِقَوْلِكَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : إِنَّ التَّحَالُفَ الإِسْلاَمِيَّ الَّذِي شَارَكَتْ فِيهِ أَغْلَبُ الدُّوَلِ الإِسْلاَمِيَّةِ خُطْوَةٌ رَائِدَةٌ غَيْرُ مَسْبُوقَةٍ فِي التَّارِيخِ الْمُعَاصِرِ، يُعَبِّرُ عَنْ رُؤْيَةٍ مُسْتَنِيرَةٍ ثَاقِبَةٍ لِلْقِيَادَاتِ الَّتِي كَوَّنَتِ التَّحَالُفَ الإِسْلاَمِيَّ، وَانْضَمَّتْ إِلَيْهِ؛ لِلْوُقُوفِ سَدًّا مَنِيعًا أَمَامَ مَا يُهَدِّدُ اسْتِقْرَارَ الْبُلْدَانِ مِنْ تَطَرُّفٍ وَاعْتِدَاءَاتٍ آثِمَةٍ، لاَ تُفَرِّقُ بَيْنَ وَطَنٍ وَآخَرَ، وَلاَ تُقِيمُ وَزْنًا لِلْقِيَمِ وَالْمَبَادِئِ، وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فَكَانَ هَذَا التَّحَالُفُ ضَرُورَةً شَرْعِيَّةً، وَحَاجَةً وَاقِعِيَّةً؛ لِحِفْظِ كِيَانِ الأُمَّةِ فِي حَاضِرِهَا، وَحِمَايَةِ مُقَدَّرَاتِهَا فِي مُسْتَقْبَلِهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُوماً، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِماً؟ قَالَ:« تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ»  وَهُوَ نُقْطَةُ تَحَوُّلٍ فِي خطِّ سَيْرِ الأَحْدَاثِ، فقَدْ جَاءَ هذا التحالفُ رَدْعًا لِلْمُجْرِمِينَ، وَالْبُغَاةِ الْمَارِقِينَ، وَدَحْرًا لِلْمُتَطَرِّفِينَ، وَتَمْكِينًا لِلْحَقِّ وَالدِّينِ، وَكَانَتْ دَوْلَةُ الإِمَارَاتِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُتَّحِدَةِ مِنْ أَوَّلِ الدُّوَلِ الدَّاعِيَةِ إِلَى تَضَافُرِ الْجُهُودِ، وَإِيجَادِ تَنْسِيقٍ مُشْتَرَكٍ لاِجْتِثَاثِ التَّطَرُّفِ ، انْطِلاَقًا مِنْ مَبَادِئِ شَرْعِنَا الْحَنِيفِ الَّذِي يَرْفُضُ الغُلُوَّ والتَّطَرُّفَ بِكُلِّ صُوَرِهِ وَأَشْكَالِهِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً. 

عباد الله : ينبغي على المسلمين أن يأخذوا حذرهم من عدوهم دائما وأبدا فإنهم يتربصون بهم الدوائر، ولئن كان الغزو العسكري من قبلهم قد تراجع بسبب المعهادات الدولية إلا أن كيدهم للإسلام لا زال مستمرا، قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ" وقال سبحانه " وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ " 

والإسلام وإن أمرنا بعقد السلم معهم متى ما طلبوه أو احتاجه المسلمون إلا أنه يأمرنا بأخذ الحذر منهم، ويحثنا على عدم موالاتهم الموالاة التي تقتضي محبتهم ونصرتهم قال تعالى : " لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ" وقال سبحانه :" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" 

الإسلام وإن كان يأمرنا بالتسامح مع المسالمين منهم كما في قوله تعالى : "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" إلا أن من أعظم مقاصده في التعامل معهم مخالفتهم فيما يختصون به من عبادات ومعاملات ، روى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ مِنَّا مِنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى"

ولكن يوجد من بني جلدتنا من ينادي بالاندماج معهم لدرجة الانسلاخ من الشخصية الإسلامية ومن أحكام الشرع بحجة التطور والتقدم ، والتسامح العالمي، والفكر التنويري القائم على استيراد مبادئهم وإلباسها لباس الدين ليسهل عليهم نشرها بين المسلمين، فهؤلاء ينطبق عليهم قول الله تعالى :" فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ" فعلى المسلم أن يعرف دينه حق المعرفة أن يعتز به وبشعائره وأحكامه، وأن لا يغتر بمثل هذه الشعارات من بعض المفكرين، فالعزة الحقيقية في الالتزام الشرع.

الأحد، 6 ديسمبر 2015

مقال : الخوارج هم العدو فاحذروهم ج ( 7 )

بسم الله الرحمن الرجيم 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد

       ذكرت في المقالات السابقة خطر الفكر الخارجي على الدين والدنيا، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر منهم في أحاديث مستفيضة، وذكر صفاتهم وأشهر ما يتميزون به عن غيرهم، لأجل أن يحذرهم المسلمون، ويتجنبوا الانضمام إليهم.

ثم ذكرت نقطة محورية هامة جدا وهي : من هو الخارجي ؟

وذكرت بعض الصفات التي تجمع بين الخوارج قديما وحديثا ، وسأتابع ذكر أخص الصفات التي يشتهر بها الخوارج، ومن من الجماعات المعاصرة أو الأشخاص قد سار على نهجهم واتصف بصفاتهم.
فمن الصفات المشتركة بين الخوارج قديما وحديثا : 

5 – اتباعهم للمتشابه من النصوص وترك المحكم، ورد النصوص التي تتعارض مع مذهبهم، وتفسيرهم للنصوص على وفق أهوائهم ومراداتهم الخاصة، فضلوا وأضلوا الناس. 

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الصفة في بعض الأحاديث التي ذكر فيها صفات الخارج ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِى يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَىْءٍ وَلاَ صَلاَتُكُمْ إِلَى صَلاَتِهِمْ بِشَىْءٍ وَلاَ صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَىْءٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ " رواه مسلم
قال الآجري -رحمه الله- في كتابه الشريعة : لم يختلف العلماء قديما وحديثا أن الخوارج قوم سوء عصاة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وإن صلوا وصاموا ، واجتهدوا في العبادة ، فليس ذلك بنافع لهم ، نعم ، ويظهرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليس ذلك بنافع لهم ؛ لأنهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون ، ويموهون على المسلمين ، وقد حذرنا الله تعالى منهم ، وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم ، وحذرناهم الخلفاء الراشدون بعده " الشريعة (1/325 ) 

وبين ذلك كذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فبوب البخاري في صحيحه بابا : (باب قَتْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُلْحِدِينَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيهِمْ)
ثم قال : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ وَقَالَ: إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِى الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.

كما دلنا على ذلك قصة جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مع رجال من الخوارج لما سمعوه يذكر حديث الشفاعة فاعترضوا عليه بقولهم : " يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ مَا هَذَا الَّذِى تُحَدِّثُونَ وَاللَّهُ يَقُولُ (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) وَ (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا) فَمَا هَذَا الَّذِى تَقُولُونَ ؟ 

فرده رضي الله عنه إلى المحكم فقال له : أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟

قُلْتُ نَعَمْ.

قَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - يَعْنِى الَّذِى يَبْعَثُهُ اللَّه فِيهِ.

قُلْتُ نَعَمْ.

قَالَ فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- الْمَحْمُودُ الَّذِى يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ. رواه مسلم.

ولما خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه رفعوا شعار : لا حكم إلا لله ، مستندين فيه على قول الله تعالى : " إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ " سورة الأنعام :57 . فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " كلمة حق أريد بها باطل" .

 فروى مسلم في صحيحه عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالُوا لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ .

قَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ،  إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ نَاسًا إِنِّي لَأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لَا يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ.."  

ومما يدل على اتصاف الخوارج بهذه الصفة ما روي عن سعيد بن  جبير –رحمه الله- قال : مِمَّا يَتَّبِعُ الْحَرُورِيَّةُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}  وَيَقْرِنُونَ مَعَهَا: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، فَإِذَا رَأَوُا الْإِمَامَ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ قَالُوا: قد كفر، ومن كفر عَدَلَ بِرَبِّهِ؛ فَقَدْ أَشْرَكَ، فَهَذِهِ الْأُمَّةُ مُشْرِكُونَ فَيَخْرُجُونَ فَيَقْتُلُونَ مَا رَأَيْتُ، لِأَنَّهُمْ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ " رواه الآجري في كتابه الشريعة (1/341)  

قال شيخ الإسلام ابن  تيمية رحمه الله في بيان هذه الصفة: " فَالْخَوَارِجُ كَانُوا يَتَّبِعُونَ الْقُرْآنَ بِمُقْتَضَى فَهْمِهِمْ" مجموع الفتاوى (28/ 483)

وقال : "فَاَلَّذِينَ أَخْطَئُوا فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ - مِثْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ - اعْتَقَدُوا مَذْهَبًا يُخَالِفُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ كَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَمَدُوا إلَى الْقُرْآنِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى آرَائِهِمْ. تَارَةً يَسْتَدِلُّونَ بِآيَاتِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُمْ بِمَا يُحَرِّفُونَ بِهِ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ فِرَقُ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْجَهْمِيَّة..."   مجموع الفتاوى (13/ 356)

وفي زماننا يتكرر ذات الأمر من قبل خوارج العصر كالقاعدة وداعش والنصرة وجماعات التكفير ، فإنهم يستدلون بالمتشابه من النصوص على أفعالهم ولا يردون هذه النصوص إلى المحكم ليتضح الحكم الصحيح ، كما أنهم يفسرون النصوص وفق أهوائهم وأغراضهم الخاصة ، ولا ينظرون إلى جميع أدلة المسألة وإنما يقتصرون على ما يوافق أعمالهم ، ومن أمثلة ذلك :

أ – جمعوا الأدلة من الكتاب والسنة مع تحريف الاستدلال بها في تقرير مذاهبهم، فقرروا –مثلا- جواز قتل الأطفال والنساء مستدلين بقول الله تعالى :" وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا" (سورة نوح : 26-27 ) ، فحكموا بكفر الآباء ثم وضعوا لازما وهو كفر الأبناء.
في حين أن الشريعة الإسلامية تنهى عن قتل الأطفال والنساء في الحروب فضلا عن قتلهم بمجرد اللوازم . 

فعن بريدة رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا وَقَالَ « اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تُمَثِّلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا "  رواه الترمذي .

وعند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة أسر خبيب قال : "فَانْطُلِقَ بِخُبَيْبٍ وَزَيْدِ بْنِ الدَّثِنَةِ حَتَّى بَاعُوهُمَا بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ ، فَابْتَاعَ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ خُبَيْبًا ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا حَتَّى أَجْمَعُوا قَتْلَهُ ، فَاسْتَعَارَ مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْحَارِثِ مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ ، فَدَرَجَ بُنَىٌّ لَهَا وَهْىَ غَافِلَةٌ حَتَّى أَتَاهُ ، فَوَجَدَتْهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بِيَدِهِ قَالَتْ فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فَقَالَ أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ قَالَتْ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ " 

فتأملوا فعل هذا الصحابي الذي أخذ العلم من النبي صلى الله عليه وسلم، مع طفل لقوم مشركين قد عزموا على قتله يقينا، والسلاح بيده، ثم يتورع عن قتله.
وخوارج اليوم يعيشون في بلاد الكفار ومع ذلك يفتون بقتل الأطفال والنساء في بلاد الإسلام. 

كما قرروا مشروعية تكفير الحكام ورعيتهم وقوات الجيش والشرطة وجواز استهداف المنشآت النفطية ببلاد المسلمين ، وقتل المعاهدين والمستأمنين ، مستدلين على ذلك بآيات وأحاديث قد حرفوا معانيها واستدلالاتها .

ب – استدلوا على أفعالهم الإجرامية ببعض آيات الجهاد ووجوب قتال المشركين والمرتدين، وتركوا الأحكام الأخرى المتعلقة بالجهاد والتي ذكرها العلماء كضوابط وشروط وأركان للجهاد، وذلك لأنها لا تتلاءم مع أفعالهم.

فالجهاد له مقاصد وحِكم وغايات لأجلها شرع الله الجهاد وأمر به، فإن كان القتال سيؤدي إلى نقيض هذه المقاصد والحكم والغايات فإنه يكون غير مشروع.

وأضرب لكم مثالا : 
من مقاصد الجهاد حماية المساجد وأهلها، قال تعالى : " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ " سورة الحج 40 
قال المفسر السعدي رحمه الله في تفسير الآية :" فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لاستولى الكفار على المسلمين، فخربوا معابدهم، وفتنوهم عن دينهم، فدل هذا، أن الجهاد مشروع، لأجل دفع الصائل والمؤذي، ومقصود لغيره، ودل ذلك على أن البلدان التي حصلت فيها الطمأنينة بعبادة الله، وعمرت مساجدها، وأقيمت فيها شعائر الدين كلها، من فضائل المجاهدين وببركتهم، دفع الله عنها الكافرين " تفسير السعدي (ص: 539)

 فأتى الخوارج من تنظيم القاعدة وداعش فاستدلوا بآيات الجهاد على جواز تفجير المساجد وقتل من فيها من المصلين، كقوله تعالى : " وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ" البقرة :191 .

مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إني نهيت عن قتل المصلين " رواه أبوداود.

ج– يقول أبو مصعب السوري في كتابه " مختصر شهادتي على الأوضاع في الجزائر ص31" – وهو مؤرخ الخوارج - : تولى أبو قتادة سياسة التبرير الشرعي لكل ما يصدر عن الجماعة المسلحة، ثم انتقل لمرحلة الفتوى والتأصيل الشرعي لطاماتها المتلاحقة "
فتأمل رحمك الله كيف أنهم – وباعتراف بعضهم- يلجؤون إلى نصوص الشرع لتبرير ما يصدر عن الجماعة الخارجية من طامات تخالف أصول الدين. 

  وأخيرا أقول :

إن من أكبر أسباب ضلال القوم وإضلالهم لغيرهم اتباعهم للمتشابه من النصوص وعدم ردها إلى المحكم، وأخذ بعض الأحكام التي تناسب فقه الحركة لديهم كما قرره سيد قطب في تفسيره وترك بقية الأحكام، والأخذ بعمومات النصوص التي قد خصصت، واتباع فهمهم الخاص للنصوص الشرعية مع استبعاد فهم السلف لها .

وهذه الأمور تبين أنهم أهل زيغ وانحراف عن الشريعة كما حكم عليه الله سبحانه وتعالى حيث قال : " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ " آل عمران: 7 . 
فذكر الله سبحانه أن من علامة أهل الزيغ اتباع المتشابه من النصوص وعدم ردها إلى المحكم، ولو ردوها إلى المحكمات لاستبان الحكم واتضح الطريق. 

قال الشوكاني –رحمه الله - : " قَوْلُهُ: ( فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ) أَيْ: يَتَعَلَّقُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنَ الْكِتَابِ، فَيُشَكِّكُونَ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجْعَلُونَهُ دَلِيلًا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبِدْعَةِ الْمَائِلَةِ عَنِ الْحَقِّ، كَمَا تَجِدُهُ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْبِدْعَةِ، فَإِنَّهُمْ يَتَلَاعَبُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَلَاعُبًا شَدِيدًا، وَيُورِدُونَ مِنْهُ لِتَنْفِيقِ جَهْلِهِمْ مَا لَيْسَ مِنَ الدَّلَالَةِ فِي شَيْءٍ.
 قَوْلُهُ: (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أَيْ: طلبا منهم لفتنة الناس في دينهم والتلبيس عليهم وإفساد ذات بينهم ، (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أَيْ: طَلَبًا لِتَأْوِيلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ وَيُوَافِقُ مَذَاهِبَهُمُ الْفَاسِدَةَ" ا.هـ  فتح القدير للشوكاني (1/ 361)

ومن كانت هذه حاله فإنه يحذر ويحذر منه، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الآيَةَ ( هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) إِلَى قَوْلِهِ ( أُولُو الأَلْبَابِ ) قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ ، فَاحْذَرُوهُمْ » متفق عليه.

وفقنا الله لما يحبه ويرضاه .

كتبه : أبو محمد سعيد بن سالم الدرمكي 


الخميس، 19 نوفمبر 2015

خطبة الجمعة : خلق الوفاء

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين اعلموا رحمكم الله  أن شريعتنا الإسلامية تحثنا على التخلق بمحاسن الأخلاق في التعامل مع الآخرين، فلن يبلغ المسلم الدرجات العلى في الجنة إلا بأن يؤدي حق الله وحق الناس عليه، ومن الأخلاق التي ورد الترغيب فيها والحث عليها خلق الوفاء. 

فالوفاء من شيم الرجال، وصفات الصادقين الشجعان، ولا يتصف به إلا أهل محاسن الأخلاق، وذلك لأنه خلق يقوم على أساس الصدق والصبر والتواضع، أثنى الله عز وجل على من اتصف به في أقواله وأفعاله،فالوفاء مِنْ عَلاَمَاتِ الصِّدْقِ، وَمَظَاهِرِ التَّقْوَى، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْمُوفِينَ بِالْعَهْدِ فَـقَالَ: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) و قال تعالى :"بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ "  ، ووصف به أهل العقل والحكمة قال سبحانه "إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ"  ووعد من اتصف به بالأجر العظيم قال سبحانه :"وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " . 

أيها المسلمون: حياة المسلم المؤمن تقوم كلها على الوفاء، وفاء مع الله، ووفاء مع الناس، ووفاء مع النفس . 

أما الوفاء مع الله فهو وفاء العبد بالعهد الذي أخذه عليه ربه، وهو عبادته وتوحيده وتطبيق أمره واجتناب نهيه. قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بِالْعُهُودِ ، وَهِيَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ، وَحَرَّمَ ، وَمَا فَرَضَ ، وَمَا حَدَّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ " ، وعنه عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ - يَعْنِى عَرَفَةَ - فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا فَقَالَ: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ"  ، ويوم القيامة يذكر الله بهذا العهد من غدر من بني آدم فكفر أو أشرك فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَىْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِياً بِهِ ؟ قَالَ: فَيَقُولُ نَعَمْ. قَالَ فَيَقُولُ قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِى ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لاَ تُشْرِكَ بى شَيْئاً فَأَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تُشْرِكَ ». 

فعلى قدر توحيد العبد لربه وطاعته فيما أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر يكون وفاؤه لعهده مع الله، يزيد بزيادته وينقص بنقصانه. 

جماعة المسلمين: والوفاء يكون كذلك مع الناس، وهو باب واسع جدا في حياة المسلم، به يظهر حسن خلقه، وجودة معدنه. 

ومن أولى الناس بهذا الوفاء الوالدان، وذلك بطاعتهما والإحسان إليهما في حياتهما وبعد مماتهما، قال تعالى :"وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا " ، وروى مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأْسَهُ فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عَلَى ذَلِكَ الْحِمَارِ إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ أَلَسْتَ ابْنَ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ قَالَ بَلَى. فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ وَقَالَ ارْكَبْ هَذَا، وَالْعِمَامَةَ - قَالَ - اشْدُدْ بِهَا رَأْسَكَ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ أَعْطَيْتَ هَذَا الأَعْرَابِىَّ حِمَارًا كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْهِ وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأْسَكَ. فَقَالَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّىَ ». وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ.

ومن الوفاء بين الناس الوفاء بين الزوجين، فهما من أكثر الناس عشرة وطول مصاحبة، ومن صور الوفاء بين الزوجين وفاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لزوجته خديجة رضي الله عنها، التي واسَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بمالها، ورُزِق منها الوَلَد، وأوّلُ من صدَّقه وآمن به من النساء، وهِي التي ثبَّتَت فؤادَه عند نزولِ الوحي، وقوَّتْ عزيمتَه، وكانت خيرَ زوجةٍ لزوجِها في حياتها. قال ابن حجر رحمه الله: "كانت حريصةً على رِضاه بكلّ ممكن، ولم يصدُر منها ما يُغضبُه قطّ". فقابَل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاءَها بوفاءٍ أعظَمَ منه، فكان في إحسانها يشكُرُها، وظلَّ بعد موتها يُكثِر ذكرها ويقول عنها: ((إني رُزِقتُ حبَّها)). وربما ذبح الشاةَ ثم يُقطِّعها أعضَاء، ثم يبعثها في صَدائقِ خَديجة، ويقول: ((إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد)). قال النوويّ رحمه الله: "في هذا كلِّه دليلٌ لحُسنِ العهدِ وحِفظِ الوُدّ، ورعايةِ حُرمة الصّاحب والعشير في حياته وبعد وفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب". 

وكذلك الزوجة وفية لزوجها، فتحفظ عرضه من أن يدنس، وماله من أن يضيع، وبيته فلا تدخل فيه في غيبته من لا يرضى، تطيعه إذا أمر، وتسره إذا نظر، ولا تخالفه في نفسها ومالها . عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَىُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ قَالَ « الَّتِى تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ وَلاَ تُخَالِفُهُ فِى نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ ». 

ومن الوفاء بين الزوجين تنفيذ الشروط التي تكون بين الزوجين قال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ " 

ومن صور الوفاء بين الناس الوفاء للعالم، وخصوصا الذي له فضل عليك في تعليمك، قال الطحاويّ رحمه الله: "وعلماءُ السّلَف من السابقين ومن بعدهم أهلُ الخبر والأثر وأهلُ الفقه والنظر لا يُذكَرون إلا بالجميل". قال الإمام أحمدُ رحمه الله: "ما بِتُّ منذ ثلاثين سنَة إلا وأنا أدعو للشافعيّ وأستغفر له". 

عِبَادَ اللَّهِ: لاَ تَقُومُ تعاملات النَّاسِ فيما بينهم بِغَيْرِ الْوَفَاءِ، فَإِنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَى التَّعَامُلِ وَالتَّعَاوُنِ، وَلاَ يَتِمُّ تَعَاوُنُهُمْ إِلاَّ بِمُرَاعَاِة الْعُهُودِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْوُعُودِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى الْوَفَاءِ فِي الْمُعَامَلاَتِ، وَحَثَّ عَلَى الْوَفَاءِ بِالدُّيُونِ؛ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ». فَتَرْجَمَ الْمُسْلِمُونَ خُلُقَ الْوَفَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمَعَ غَيْرِهِمْ قَوْلاً وَعَمَلاً، فِي شؤونِ حياتهم ومُعَامَلاَتِهِمِ الْمَعِيشِيِّةِ وَالتِّجَارِيَّةِ وغيرِ ذلك، فَكَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ كَبِيرٌ فِي نُفُوسِهِمْ، مِمَّا سَاعَدَ عَلَى انْتِشَارِ الإِسْلاَمِ بِصُوُرَتِهِ الحقيقيَّةِ العَظِيمَة.

ومن صور الوفاء بين الناس الوفاء بين الأصحاب والأصدقاء ويتحقَّقُ بشكر أفعالهم وحفظ أسرارهم ووُدِّهم، والثناء الحسن عليهم، ومَنع وصولِ الأذى إليهم، وبذل الندَى لهم ولأولادِهم.

ومَن صنَع إليك معروفًا فكافِئْه عليه، فإن لم تجد ما تُكافِئُه فادعُ له فإنه من الوفاء.
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه وجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه . 


الخطبة الثانية : أيها المسلمون : ومن صور الوفاء بين الناس، الوفاء بالبيعة لولي أمر المسلمين وإمامهم، فالسمع والطاعة لولاة أمر المسلمين أصل من الأصول الشرعية، ومقصد من مقاصد الدين، دل عليه الكتاب والسنة الإجماع، ولذلك وجبت البيعة له، وحرم نقضها وخلعها . 
قال صلى الله عليه وسلم : ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهُم الله يومَ القيامةِ ولا يُزكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ ، فذكر منهم : ورجلٌ بايع إماماً لا يُبايعه إلاَّ لدنيا ، فإنْ أعطاه ما يريد ، وفَّى له ، وإلا لم يفِ له ) 
وعن نافع مولى ابن عمر- رضي الله عمهما- : قال : لما خلعوا يزيدَ بن معاوية ، واجتمعوا على ابنِ مُطيع ، أتاه ابنُ عمر ، فقال عبدُ الله بنُ مطيع : اطرحوا لأبي عبد الرحمن وِسَادة ، فقال له عبدُ الله بنُ عمرَ : إني لم آتِكَ لأجلسَ ، أتيتُك لأحَدِّثَكَ حديثا ، سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : «مَن خَلَعَ يَدا من طَاعةٍ ، لقيَ اللهَ يوم القيامة ، ولا حُجَّة له ، ومن مات وليس في عُنقه بَيْعةٌ : مات مِيتَة جاهليَّة».أخرجه مسلم 

ومن الوفاء لولي الأمر الدعاء له بالصلاح والخير والتوفيق والسداد، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ». أَيْ: تَدْعُونَ لَهُمْ، وَيَدْعُونَ لَكُمْ .

وَالْوَفَاءُ لِلْوَطَنِ مِنْ أَهَمِّ صُوَرِ الْوَفَاءِ، وَذَلِكَ بِحِرَاسَةِ تُرَابِهِ وَمُنْجَزَاتِهِ، وَصِيَانَةِ حُرُمَاتِهِ، وَالْحِفَاظِ عَلَى مُقَدَّرَاتِهِ، وَالْعَمَلِ عَلَى خِدْمَتِهِ وَتَطْوِيرِهِ، ونَشْرِ الخَيْرِ فيه، ونَفْيِ الشَّرِّ عنه، فَالْمَرْءُ يَتَربَّى فِي أَكْنَافِ وطنهِ، وَينْهِلَ مِنْ خَيْرَاتِهِ

جماعة المسلمين: والوفاء يكون بين الناس في وعودهم التي يتواعدون بها بينهم، وقد حث الله على الوفاء بها ومدح من أوفى بها قال تعالى :"وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ" ، وقال صلى الله عليه وسلم : اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ، وَأَضْمَنُ لَكُمُ الْجَنَّةَ : اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ. 

إخواني في الله : الوفاء صفة جليلة تحمل العبد على مطابقة قوله لفعله، فينفذ وعده، وعقده، ويؤدي عمله بأمانة وإخلاص، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُوفُونَ الْمُطَيِّبُونَ» .

الخميس، 12 نوفمبر 2015

خطبة جمعة :التحذير من الفكر الخارجي والرد على بعض شبهاتهم

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين : اعلموا رحمكم الله أن الله خلق الخلق وابتلاهم قال تعالى:الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ " فيه يظهر الصادق من الكاذب، والسعيد من الشقي قال سبحانه : أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ،وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" .

والابتلاء قد يقع في أمور الدين وفي أمور الدنيا، وفي الشبهات وفي الشهوات، والسلامة يوم القيامة لا تتحقق إلا بالسلامة من آثار هذا الابتلاء قال تعالى : يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ،إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " والقلب السليم هو الذي سَلِمَ من الشهوات الدنيوية من المعاصي والذنوب، وسلم من الشبهات في أمر الدين.

وإن من أعظم الابتلاءات والفتن والمحن التي يواجهها المسلم الابتلاء في الدين، ولأجل ذلك كان صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يحفظ له دينه وأن يثبته عليه إلى أن يلقاه، فكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه "يَا مُقّلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ"

وأثر الفتن على الدين عظيم جدا إذ قد يخرج الرجل من دينه بسببها قال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَأَنَّهَا قِطَعُ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيَبِيعُ فِيهَا أَقْوَامٌ خَلَاقَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا".

عباد الله :ومن جملة الفتن التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجها وحذر منها فتنة الخوارج، وتكمن فتنهم في أنهم أهل عبادة وصلاح، فكلامهم معسول بالكتاب والسنة، وشعارهم الدين، فيتغتر بهم من لا علم له بهم، ولكنهم كما قال صلى الله عليه وسلم:إِنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي أَوْ سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ . 

جماعة المسلمين: ولأجل السلامة من هذه الفتنة وشبهاتها فلا بد من الرجوع إلى العلماء الربانيين ورثة الأنبياء، لأنهم يزيلون الشبهات وينشرون السنة والعقيدة الصحيحة، ويربطون الناس بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

والفكر الخارجي إذا سيطر على عقل المسلم فلا يزعزعه إلا فكر صحيح يزيل شبهاته ويقوم اعوجاجه، وهذا هو ما يقوم به العلماء والمصلحون من طلاب العلم.

ولما خرج الخوارج على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذهب إليهم حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فناظرهم ورد شبههم فرجع منهم ألفان وكانوا ستة آلاف ، وقُتل الباقون في معركة النهروان.

ومن أسباب انحراف فكر الخوارج في فهم القرآن والاستدلال به تركهم للسنة،  ومن الأمثلة الدالة على  ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن يَزِيدُ الْفَقِيرُ قَالَ: كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَةٍ ذَوِي عَدَدٍ نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ، قَالَ: فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ -جَالِسٌ إِلَى سَارِيَةٍ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ. 

قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ وَاللَّهُ يَقُولُ: { إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } وَ { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا }. فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ؟
قَالَ: فَقَالَ أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟  قُلْتُ : نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ فِيهِ؟قُلْتُ: نَعَمْ.قَالَ: فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ.
قَالَ: قَدْ زَعَمَ أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا. قَالَ: يَعْنِي فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ، قَالَ: فَيَدْخُلُونَ نَهَرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ الْقَرَاطِيسُ.
 فَرَجَعْنَا قُلْنَا: وَيْحَكُمْ أَتُرَوْنَ الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَرَجَعْنَا فَلَا وَاللَّهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ . 

فهذا الرجل قد عزم على الخروج على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد استدل بآيات من كتاب الله سبحانه على فكره واعتقاده المنحرف، فلما رده الصحابي العالم إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم صلح فكره واعتقاده، وحسن سلوكه بأن ترك ما كان قد خرج لأجله.

جماعة المسلمين ومن أعظم ما جناه الفكر الخارجي على أمة الإسلام تكفيرهم حكام المسلمين وأئمتهم، ثم انطلقوا بعد ذلك إلى تكفير الرعية والشعوب لأنهم يدينون بالولاء والطاعة لحكامهم وولاة أمرهم، فرفعوا راية الجهاد ضد بلاد المسلمين ففجروا في بيوت الله بزعم أنها معابد جاهلية، وسفكوا الدم الحرام، وهتكوا الأعراض، وانتهبوا الأموال، وهذه صفة الخوارج كما قال صلى الله عليه وسلم: "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ" ، قال الآجري رحمه الله ( 360هـ ) " الخوارج هم الشراة الأنجاس الأرجاس ..يخرجون على الأئمة والأمراء ويستحلون قتل المسلمين"

وتكفير حكام المسلمين بقول الله تعالى : "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" ليس بصحيح على إطلاقه، فإن الخوارج القدامى قد خرجوا تحت شعار " لا حكم إلا لله"وكفروا  علي بن أبي طالب وجيشه بسببها، وخوارج اليوم شعارهم : الحاكمية ، فلا حاكمية إلا لله ، وكفروا بها أئمة الإسلام.  

مع أن الله سبحانه وتعالى جعل للحكم بغير ما أنزل الله ثلاثة أحكام فقال:"وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" وقال : "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" وقال : " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" ثلاثة ألقاب في ثلاث آيات متتاليات هل تعطي حكما واحدا ؟ 
فانظروا رحمكم الله إلى فقه السلف في فهم هذه الآية، فعن ابن عباس قال في تفسير قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق " وأخرج عبد الرزاق عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية" ليس بالكفر الذي تذهبون إليه " وإسناده صحيح ، وقال طاوس: ليس بكفر ينقل عن الملة " وإسناده صحيح، وقد ورد هذا التفسير عن مجاهد وعكرمة وهو اختيار شيخ المفسرين الطبري وأبوبكر الجصاص وابن الجوزي وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وغيرهم كثير، فكيف تجرؤون على تكفير أئمة المسلمين بأمر قد خالفكم فيه جملة من علماء الأمة.

عَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّمَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلًا قَرَأَ الْقُرْآنَ , حَتَّى رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ وَكَانَ رِدْئًا  لِلْإِسْلامِ , غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ , وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ " , قَالَ حُذَيْفَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ , أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟ , قَالَ: " بَلِ الرَّامِي " 


الخطبة الثانية : عباد الله إن من أعظم الفتن التي جرت الويلات إلى المسلمين فتنة التكفير، ولأجل خطورة التكفير بلا موجب شرعي صحيح  حذر النبي صلى الله عليه وسلم من إطلاق لفظ الكفر على المسلم في أحاديث متظافرة متوافرة ، منها ما رواه البخاري ومسلم: عن ابْن عُمَرَ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ " وفي رواية" إذا كفر الرجل أخاهُ فقد باءَ بها أحَدُهُما " . ومعنى " باءَ بها " احتملها أو رجعت عليه . 

قال الشوكاني : " ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير"

قال ابن أبي العز الحنفي : " إنه لمن أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلده في النار فإن هذا حكم الكافر بعد الموت "

وبسبب التكفير بلا موجب شرعي صحيح تجرأ الخوارج فاعتبروا بلاد المسلمين بلاد كفر وردة، وأن دار الإسلام هي دارهم وأوجبوا على الناس الهجرة إليهم، وهذا بعينه فكر الخوارج القدامى، قال ابن تيمية في وصف الخوارج : " الخوارج ترى السيف، وحروبهم مع الجماعة مشهورة، وعندهم كل دار غير دارهم فهي دار كفر "، وكتب نافع بن الأزرق – وهو من رؤوس الخوارج- إلى أتباعه بالبصرة قائلا: الدار دار كفر والاستعراض مباح وإن أصيب الأطفال فلا حرج على من أصابهم".

والحق يا أمة الإسلام هو ما قرره الأئمة الأعلام من أن الحكم على الدار بأنها دار إسلام هو بما يكون فيها من إظهار شعائر الإسلام وأحكامه وأعظمها الصلاة والأذان، روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبِحُ .." رواه البخاري ومسلم

قال النووي-رحمه الله - :"وَفِي الْحَدِيثِ دليل على أن الأذان يمنع الإغارة عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إِسْلَامِهِمْ" ، وقال الإمام أبو بكر الإسماعيلي الشافعي-رحمه الله-: (( ويرون (أي: أهل الحديث): الدار دار الإسلام، لا دار الكفر ..، ما دام النداء بالصلاة، والإقامة ظاهرين، وأهلها ممكنين منها آمنين )).

وقال الشوكاني رحمه الله :"الاعتبار بظهور الكلمة، فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام، بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره إلا لكونه مأذوناً له بذلك من أهل الإسلام فهذه دار إسلام، ولا يضر ظهور الخصال الكفريّة فيها لأنها لم تظهر بقوّة الكفار، ولا بصولتهم.. وإذا كان الأمر بالعكس فالدار بالعكس" أي دار حرب . 

وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله :" دار الإسلام هي التي تقام فيها شعائر الإسلام بقطع النظر عن حكامها ، حتى لو تولى عليها رجل كافر، و هي مما يظهر به شعائر الإسلام فهي دار إسلام ، يؤذن فيها، يقام فيها الصلاة، تقام فيها الجمع، يقوم فيها الأعياد الشرعية و الصوم و الحج وما أشبه ذلك هذه ديار إسلام ، حتى لو كان حكامها كفاراً.." 

وَإِنَّ بِلاَدَنَا هَذِهِ بِلاَدُ إِسْلاَمٍ، دِينُهَا الإِسْلاَمُ، وَحُكَّامُهَا مُسْلِمُونَ، وَإِلَى الْخَيْرَاتِ سَابِقُونَ، يُقِيمُونَ فِيهَا الْعَدْلَ، وَيُعَظِّمُونَ الشَّعَائِرَ، وَيُنْشِئُونَ الْمَسَاجِدَ، فَارْتَفَعَتْ فِي بِلاَدِنَا الْمَآذِنُ، وَصَدَحَتْ فِيهَا الْمَنَابِرُ، وَانْتَشَرَتْ فِي رُبُوعِهَا مَرَاكِزُ تَحْفِيظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَوُزِّعَتْ فِيهَا الْمَصَاحِفُ، وَالْكُتُبُ الإِسْلاَمِيَّةُ بِلُغَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، لِنَشْرِ الدين والدعوة إليه.

فيا أمة الإسلام لا تغتروا بفكر الخوارج وما يستغلونه فيكم من حبكم لدينكم ورغبتكم في الدفاع عنه ونشره، فعليكم بكتاب الله وسنة رسول الله، وانظروا في فهم السلف من الصحابة والتابعين لنصوص الكتاب والسنة والزموا العلماء الأكابر واتركوا الأصاغر من المجاهيل ومن لا يعرف بعلم صحيح ولم يشهد له أهل العلم بالعلم تسلموا ويسلم لكم دينكم 

الخميس، 5 نوفمبر 2015

خطبة جمعة: المنهج الشرعي في العناية بالشباب وتربيتهم

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين ، اعلموا رحمني الله وإياكم أن الأمم والمجتمعات لا تستطيع المحافظة على استمرار وجودها وتقدمها ورقيها إلا بفضل إعداد أجيالها المتاعقبة الإعداد السليم المتكامل ، وبقدر ما تحافظ الأمم والشعوب على تربية هذه الأجيال على التمسك بدينها ومعتقداتها وأخلاقها ، بقدر ما تحافظ على بقائها وعلو شأنها ، لذلك وجهنا الإسلام إلى الإهتمام والعناية بالشباب وتنشئتهم تنشئة صالحة.

 فالشبابُ يُعتَبر ثروةَ الأمّة الغاليةَ وذخرَها الثمين، يكون خيرًا ونعمةً حين يُستَثمر في الخير والفضيلةِ والبناء، ويغدو ضررًا مستطيرًا وشرًّا وبيلاً حين يفترسه الشرُّ والفساد.

ولذلك إخواني في الله حث نبينا صلى الله عليه وسلم على إغتنام مرحلة الشباب قبل المشيب فقال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظهُ : اِغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْل خَمْس , شَبَابك قَبْل هَرَمك , وَصِحَّتك قَبْل سَقَمك , وَغِنَاك قَبْل فَقْرك , وَفَرَاغك قَبْل شُغْلك , وَحَيَاتك قَبْل مَوْتك "  ، والغنيمة لا تكون إلا لشيء يخشى فواته وضياعه إن لم يتدارك ويستغل. 

ومما لا شك فيه أن الواجب في هذه الأمة مشترك بين المسلمين جميعا شبابا وشيوخا ، ولكن خُص الشباب بالذكر لأنها مرحلة مهمة جدا في حياة المسلم نفسه ، وفي حياة مجتمعة المسلم ، فهم الذين يقومون بالواجب بعد رحيل الجيل الذي سبقهم .

ومن أجل هذا المطلب أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى سلوك الطريق النبوي في تربية هذا النشئ ، بدءا من اختيارك لزوجتك الصالحة المؤمنة التي تعتبر بحق هي المدرسة الأولى لتربية النشئ ، إلى أن يكبر الأبناء ليقوموا بدورهم من جديد .

ولقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم  منهجاً واضحاً للآباء والمربين لتربية شباب الأمة  ممثلاً في ابن عمه الغلام عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث غرس فيه أسس الاعتقاد الصحيح ولما يبلغ الخامسة عشر من عمره، فقال له : ((يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ"

 فأول لبنة في بناء الشباب لبنة العقيدة السليمة ، وقوة الإيمان وصدق التعلق بالله وحده ، فأرشده إلى حفظ الله بحفظ حقوقه وحدوده وحفظ أمره ونهيه، ومن ثم الاستعانة به وحده في الأمور كلها والتوكل عليه، واليقين الجازم بأنه بيده سبحانه الضر والنفع، يأتي كل ذلك ليكون دافعاً للشباب، وهو في فورته وطموحه وتكامل قوته، ليكون قوي العزيمة عالي الهمة ، ولما ثبتت هذه المعاني في نفوس الشباب من السلف برعوا رحمهم الله في العلم الصحيح فحفظوا القرآن الكريم ولما يبلغ أحدهم الثانية عشر من عمره ورحلوا في طلب العلم عند العلماء بلا طائرات ولا وسائل نقل حديثة بل إن أحدهم ليعمل أجيرا لدى القوافل مقابل أن ينقلوه إلى بلد فيها عالم يطلب العلم على يديه، كما فعل ذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. 

بل قد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم الشباب في أعمال الدولة، فمن ذلك ما رواه زيد بن ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَكَانَ شَابًّا- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « أَتُحْسِنُ السُّرْيَانِيَّةَ؟». قُلْتُ: لَا. قَالَ: «فَتَعَلَّمْهَا فَإِنَّهُ تَأْتِينَا كُتُبٌ». قَالَ: فَمَا مَرَّ بِى نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ، فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ.

جماعة المسلمين: ومن الأسس المهمة في تربية الشباب وحفظهم حفظ شهواتهم وغرائزهم حتى لا يسقطوا في وحل الإثم والمعصية، فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم ناصحا وموجها فقَالَ ( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ) . 

ولما وجد شابا قد أوشك على الانحراف في الشهوات وعظه ونصحه ودعا له فروى أحمد في المسند عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا.!
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا ". قَالَ: فَجَلَسَ . فقال له : قَالَ: " أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ " 
" أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ " " أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ " قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ " قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ " وهو يقول: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: " اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ " قَالَ  : فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.

ومن المنهج النبوي في تربية الشباب ذكورا كانوا أو إناثا تعويدهم على العبادة منذ نعومة أظفارهم قال صلى الله عليه وسلم (مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ ) فبالرغم من أن ابن السابعة ليس مكلفا بالواجبات ولكنه يؤمر بالصلاة لأجل أن يعتادها ويألفها فتنطبع في ذهنه ، وذلك لأن الصلاة فيها سر عظيم في تربية النشئ على الإسلام الصحيح قال تعالى في ذلك " اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ "  ، ثم قال صلى الله عليه وسلم (وفرقوا بينهم في المضاجع ) أي لا تتركوهم ينامون تحت غطاء واحد أو على فراش واحد خشية أن يطلع بعضهم على عورات بعض فتقع الفتنة التي لا تحمد عاقبتها .

ثم اعلم أيها المربي ، وأنت أيها الشاب ، إنَّ نشأة الشاب على طاعة الله ورسوله سبب لتحصيل الأجر العظيم عند الله، فروى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ  .." قال ابن حجر رحمه الله (خَصَّ الشَّابّ لِكَوْنِهِ مَظِنَّة غَلَبَة الشَّهْوَة لِمَا فِيهِ مِنْ قُوَّة الْبَاعِث عَلَى مُتَابَعَة الْهَوَى ; فَإِنَّ مُلَازَمَة الْعِبَادَة مَعَ ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَدَلّ عَلَى غَلَبَة التَّقْوَى " 

أيها المسلمون ، روى الترمذي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ  ، فالشاهد من الحديدث هو قوله صلى الله عليه وسلم (وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ) فأنت أيها المسلم مسؤول أمام الله يوم القيامة عن هذه المرحلة التي تكون فيها قويا ماذا عملت فيها ؟ ، ألا فليقف كل واحد منا وقفت محاسبة مع نفسه ، ماذا قدمت لنفسك عند الله غدا ؟ قال تعالى "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ "  



الخطبة الثانية : أيها المسلمون : إِنَّ جِيلَ الشَّبَابِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا هُمْ مُسْتَقْبَلُ الْوَطَنِ وَأَمَلُهُ، وَدِرْعُهُ وَحِصْنُهُ، يَحْمُونَ أَرْضَهُ، وَيَبْنُونَ مَجْدَهُ، بِعُقُولِهِمُ الْمُتَفَتِّحَةِ، وَأَفْكَارِهِمُ النَّاضِجَةِ، وعَقِيدَتِهمُ الصَّحِيحَةِ، وَقُلُوبِهِمُ النَّقِيَّةِ، وَسَوَاعِدِهِمُ الْفَتِيَّةِ، وَإِيمَانِهِمُ الصَّادِقِ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرَآنِ الْكَرِيمِ فِتْيَةً لإِيمَانِهِمْ فَقَالَ عَنْهُمْ: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)

وإن على شبابنا واجبات تجاه أنفسهم وأهليهم وأمتهم منها أولا: عليهم أن يعتنوا بتعلم العلم الشرعي بالقدر الذي يستقيم به دينهم وتصح به عبادتهم، فيجب عليهم أن يتعلموا التوحيد والعقيدة الصحيحة وما يخالفها من العقائد الفاسدة ليحذروها، كما يجب عليهم تعلم أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج وذلك حتى يقيموا دينهم على أساس صحيح .

 وإن الواقع  لأليم يا أولياء الأمور ، إننا نرى شبابا قد بلغوا السابعة عشر من العمر وهم على وشك أن الانتهاء من الثانوية وللأسف لا يعرفون كيف يقرؤون  كتاب الله عز وجل ، ولا يعرفون شيئا عن سيرة نبيهم صلى الله وعليه وسلم ، وهذا قصور في التربية عظيم.
فنشئوهم على القراءة وحب التعلم وحضور مجالس القرآن والعلم في المساجد.

ثانيا : على شباب المسلمين أن يرتبطوا بعلماء المسلمين من أهل السنة والجماعة وأن يرتبطوا بكبارهم ، فالناس لا يزالون بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم فإن أخذوه عن أصاغرهم هلكوا ، والأصاغر هم علماء السوء من أهل البدع والضلالات، وإذا ما انفصل الشباب عن العلماء الربانيين وارتبطوا بعلماء السوء والقصاصين  تلقفتهم التيارات المنحرفة فأصبحوا لقمة سائغة لأصحاب الأغراض السئية  . 

ثالثا : على الشباب – وفقهم الله – أن يجتنبوا أصدقاء السوء لأنهم سبب لشقاء الشاب في دينه ودنياه ، والمرء على دين خليله فلينظر أحدكم إلى من يخالل  .

كما عليهم أن تَلْتَحِمَ هِمَّتهم مَعَ خِبْرَةِ الآبَاءِ والأجداد، فَيُجَالِسَ الشَّبَابُ كِبَارَ السِّنِّ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَيَتَعَلَّمُوا مِنْهُمُ الْمُثُلَ الْعُلْيَا قَوْلاً وَعَمَلاً، وَيَتَرَّبُوا عَلَى الْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ الأَصِيلَةِ الْمُسْتَمَدَّةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ السَّمْحَةِ. 

عباد الله : لقد جَعَلَتْ دَوْلَتُنَا الْمُبَارَكَةُ مِنْ اهْتِمَامَاتِهَا اسْتِثْمَارَ الشَّبَابِ، فَأَنْشَأَتْ لَهُمْ وِزَارَةً خَاصَّةً لتَوْجِيهِ طَاقَاتِهِمْ وبَرَامِجِهِمْ، وَرِعَايَةِ إِبْدَاعِهِمْ.
كَمَا فَتَحَتْ قِيَادَتُنَا الرَّشِيدَةُ لِلشَّبَابِ أَبْوَابَ الْخِدْمَةِ الْوَطَنِيَّةِ، فَهِيَ مَيْدَانٌ جَلِيلٌ، وَعَمَلٌ نَبِيلٌ، يُسْهِمُ فِي تَعْزِيزِ الاِنْتِمَاءِ لِلْوَطَنِ وَالْوَلاَءِ لِلْقِيَادَةِ، وَيُنَمِّي قِيَمَ الاِنْضِبَاطِ وَتَقْدِيرِ الْوَقْتِ، وَتَنْمِيَةِ الْمَهَارَاتِ الْفَرْدِيَّةِ وَالْجَمَاعِيَّةِ، وَاحْتِرَامِ الْقَادَةِ وَذَوِي الْخِبْرَاتِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى إِنْجَازَاتِ السَّابقين، وَيُكْسِبُ الشَّابَّ اللِّيَاقَةَ الْبَدَنِيَّةَ، وَيُعَلِّمُهُ الْمُثَابَرَةَ وَالتَّحَمُّلَ وَالثِّقَةَ بِالنَّفْسِ، وَيُمَكِّنُ الشَبَابَ مِنَ الْقِيَامِ فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ، وَرَدِّ الْعُدْوَانِ.

فيا أولياء الأمور يا معاشر الآباء والأمهات يا معاشر المعلمين اتقوا الله في شباب الإسلام نشئوهم على طاعة الله ورسوله كونوا لهم قدوة حسنة فأنتم مسئولون عن هذه الذرية يوم القيامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالرجل في بيته راع ومسئول عن رعيته ، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسئولة عن رعيتها "  وقال ربنا عز وجل " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ"  "