الخميس، 26 فبراير 2015

خطبة جمعة معالم وسطية الإسلام

الخطبة الأولى : لَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أُمَّةِ الإِسْلاَمِ فَجَعَلَهَا أُمَّةً وَسَطًا، قَالَ سُبْحَانَهُ:( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا).  فَخَصَّهَا بِأَكْمَلِ الشَّرَائِعِ وَأَقْوَمِ الْمَنَاهِجِ وَأَوْضَحِ السُّبُلِ، فَالْوَسَطِيَّةُ مَزِيَّةٌ كُبْرَى، وَفَضِيلَةٌ عُظْمَى، وَقَدْ أَوْصَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِاتِّبَاعِ النَّهْجِ الْمُعْتَدِلِ، وَسُلُوكِ الطَّرِيقِ الأَوْسَطِ، وَهُوَ الأَفْضَلُ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَخَطَّ خَطًّا، وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الْأَوْسَطِ، فَقَالَ:« هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ». ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ). فَسَبِيلُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الدِّينُ الَّذِي أَنْزَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، مُشْتَمِلاً عَلَى الْوَسَطِيَّةِ وَالسَّمَاحَةِ، يَقُولُ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم:« أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ». أَيْ: الَّتِي لاَ حَرَجَ فِيهَا وَلاَ تَضْيِيقَ، وَالْوَسَطِيَّةُ سِمَةٌ مِنْ سِمَاتِ الْمُتَّقِينَ الأَبْرَارِ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الأَئِمَّةِ الأَخْيَارِ، يَقُولُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: عَلَيْكُمْ بِالنَّمَطِ الْأَوْسَطِ -أَيِ الطَّرِيقِ الْأَوْسَطِ- فَإِلَيْهِ يَنْزِلُ الْعَالِي، وَإِلَيْهِ يَرْتَفِعُ النَّازِلَ.

وحقيقة الوسطية في الشرع أنها عدل ووسط بين متناقضين، بين الإفراط والتشدد، وبين التفريط والتساهل، قال عمر بن عبد العزيز : وقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا، وغنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم " ، وقال الحسن البصري : سنتكم والله الذي لا إله إلا هو بينهما : بين الغالي والجافي " ، وقال ابن القيم وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان : إما إلى تفريط وإضاعة وإما إلى إفراط وغلو ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه كالوادي بين جبلين والهدى بين ضلالتين والوسط بين طرفين ذميمين فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد"

ولا يحكم على الشيء في الشرع بأنه وسط إلا بأمرين : الأول : أن تدل أدلة الشرع على مشروعيته جملة أو تفصيلا ، فإن كان مخالفا للشرع فليس من الوسطية ولو رآه الناس وسطا.
ثانيا: أن يكون في تطبيقه تحقيقا لمصالح الأمة ودفعا للمفاسد عنها، لأن المقصد الأعظم من التشريع هو جلب المنافع وتكثيرها ودفع المفاسد أو تقليلها.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ لِلْوَسَطِيَّةِ سِمَاتٍ كَثِيرَةً، وَمَعَالِمَ عَدِيدَةً، وإن من أعظم معالمها أن جميع شرائع الدين مبنية على الوسطية والاعتدال، بعيدة عن الغلو والتعقيد ، قال ابن كثير : " ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح  المذاهب كما قال تعالى : " هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ "

ومن معالم وسطية أمة الإسلام أن هذه الأمة وسط بين الأمم السابقة جميعها ، وقد أشار الله إلى ذلك في عدد من سور القرآن ومنها سورة الفاتحة ، قال تعالى : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ " فقسم الله الناس إلى ثلاث طوائف : المنعم عليهم ، والمغضوب عليهم وهم اليهود، والضالون وهم النصارى .

فاليهود الضالون عندهم إفراط من جهة علمهم وعدم عملهم، والنصارى الضالون عملوا بجهل، وأما المنعم عليهم فهم وسط بين أهل الإفراط والتفريط فعلموا وعملوا، بوب البخاري في صحيحه فقال: باب العلم قبل القول والعمل ثم استدل بقوله تعالى : " فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ " .

ومن معالم وسطية الإسلام التَّيْسِيرُ وَرَفْعُ الْحَرَجِ، فَالْيُسْرُ قَرِينُ الْوَسَطِيَّةِ وَالاِعْتِدَالِ، فكل حكم ثابت في الشرع فهو دليل على وسطية هذه الشريعة، سواء علمنا الحكمة منه أو لم نعلم، قال تعالى : " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " ، فأحكام الإسلام بنيت على اليسر والرحمة قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). وجاءت التكليفات خالية من المشقة الخارجة عن المعتاد قال تعالى : " لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا " ، ومن قواعد الشرع الكلية أن المشقة تجلب التيسير، ومتى ضاق الأمر اتسع .

وَقَدْ أَوْصَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّيْسِيرِ، وَنَهَانَا عَنِ التَّعْسِيرِ فِي نُصُوصٍ كَثِيرَةٍ،فقال صلى الله عليه وسلم :« يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا». وَتَوَعَّدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُتَشَدِّدِينَ فقال:« هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ». كرَّرها ثَلَاثًا.

جماعة المسلمين: إِنَّ الْوَسَطِيَّةَ مَبْدَأٌ جَمِيلٌ، يُرَبِّي النُّفُوسَ عَلَى أَرْقَى الْقِيَمِ وَأَسْمَاهَا، وَالاِرْتِقَاءِ بِالنَّفْسِ نَحْوَ الأَخْلاَقِ الْعَلِيَّةِ، وَتَرْكِ الْغَضَبِ وَالاِنْتِقَامِ، وَتَغْلِيبِ جَانِبِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنينَ). وَالْوَسَطِيَّةُ جَمَالٌ فِي التَّعَامُلِ، وَرُقِيٌّ فِي السُّلُوكِ، تَحُثُّ صَاحِبَهَا عَلَى اخْتِيَارِ أَنْسَبِ الْكَلِمَاتِ، وَأَلْيَقِ التَّصَرُّفَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا).
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ صُوَرَ الْوَسَطِيَّةِ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَنَاحِي الْحَيَاةِ، وَمِنْهَا: الاِعْتِدَالُ فِي الإِنْفَاقِ، وَالاِبْتِعَادُ عَنِ الإِسْرَافِ وَالإِقْتَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) وَقَالَ سُبْحَانَهُ:( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)، فَالاِقْتِصَادُ فِي الإِنْفَاقِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْمَوَارِدِ، وَتَرْشِيدُ الاِسْتِهْلاَكِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الثَّرَوَاتِ مِنْ تَمَامِ الْوَسَطِيَّةِ وَالاِعْتِدَالِ.

أَيُّهَا المسلمون: وَلاَ تَقْتَصِرُ الْوَسَطِيَّةُ عَلَى التَّعَامُلِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَحَسْبُ، بَلْ تَشْمَلُ التَّعَامُلَ مَعَ النَّاسِ جَمِعيًا، بِالْبِرِّ بِهِمْ، وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

عباد الله: إِنَّ التَّمَسُّكَ بالوسطية يَقْتَضِي تَرْكَ الْغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ جُرْأَةٍ فِي التَّكْفِيرِ، وَاسْتِبَاحَةٍ لِلدِّمَاءِ، وَلْيَعْلَمِ الْمُتَشَدِّدُونَ أَنَّهُمْ بَعِيدُونَ عَنْ رُوحِ الإِسْلاَمِ وَسَمَاحَتِهِ، مُخَالِفُونَ لِوَسَطِيَّتِهِ وَنَقَائِهِ، كَيْفَ لاَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُنَا صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ». وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم من تكفير المسلمين بغير وجه حق شرعي صحيح  فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:« مَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ». وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ " ، بل قد جعل النبي صلى الله عليه وسلم تكفير المؤمن كقتله، فعند البخاري ومسلم من حديث  ثَابِت بْن الضَّحَّاكِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « َمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ»
قال الشوكاني رحمه الله : " والأدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه تدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح فكيف إخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية فإن هذه جناية لا تعدلها جناية وجرأة لا تماثلها جرأة "

وعظُم الخطب لما رفع راية التكفير من انتسب للقرآن والسنة، وهو من أبعد الناس عنها، كالخوارج الذين كفروا المسلمين واستحلوا دماءهم، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوع ذلك فقال : « إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ، وكان رِدْءاً لِلْإِسْلَامِ غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ». قيل: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟ قال:« بَلِ الرَّامِي».
قال ابن تيمية : " وَلِهَذَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ مِنْ تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا فَإِنَّهُ أَوَّلُ بِدْعَةٍ ظَهَرَتْ فِي الْإِسْلَامِ فَكَفَّرَ أَهْلُهَا الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ "

فَاللُهَمَّ وَفِّقْنَا لِلتَّمَسُّكِ بِطَرِيقِ الْوَسَطِيَّةِ، وَأَعِنَّا عَلَى التَّحَلِّي بِالأَخْلاَقِ الزَّكِيَّةِ

الخطبة الثانية : عباد الله : ومن معالم وسطية الإسلام وسطية هذا الدين حتى في تعامله مع غير المسلمين، ومن مظاهر ذلك: حث الإسلام على دعوة غير المسلمين إلى الإسلام بالتي هي أحسن ، قال تعالى : " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ "
وحث على بر الوالدين إن كانا كافرين فقال تعالى : " وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا "
كما حث الإسلام على حسن التعامل مع غير المسلمين حال كونهم مسالمين قال تعالى : " لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ "
وحرم الاعتداء على المعاهدين والمستأمنين منهم وهم في بلاد الإسلام: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» ، وقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
و تتجلى وسطية الإسلام في حالة الحرب معهم في أسمى معانيها، فإن حربنا مع عدونا تقوم على الأخلاق والمبادئ السامية، فأمرنا الإسلام بعدم نقض العهود معهم، وعند إرادة حربهم أن نعلمهم بإنهاء العهد قال تعالى : " وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ "
وكَانَ رَسُولُ الله صَلى الله عَليهِ وسَلم إِذَا أَمَّرَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى الله, وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا, وَقَالَ: اغْزُوا بِسْمِ الله، وَفِي سَبِيلِ الله, قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ, اغْزُوا وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا.
هذه بعض معالم وسطية الإسلام، التي تدل على كماله وسماحته ...


الخميس، 19 فبراير 2015

خطبة جمعة :فضل قراءة القرآن وتعلمه

الخطبة الأولى: جماعة المسلمين قَالَ الله تبارك وتَعَالَى:(وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). فمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ أَنْ أَنْزَلَ إِلَيْهِمُ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ، فَهُوَ النِّعْمَةُ الْعُظْمَى، وَالْفُرْقَانُ الْمُبِينُ، وَمَوَاعِظُهُ لأَمْرَاضِ الْقُلُوبِ شَافِيَةٌ, وَأَدِلَّتُهُ لِطَلَبِ الْهُدَى كَافِيَةٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا).

هذا الكتابُ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، وفُصِّلَتْ كلماتُهُ، وحُفِظَتْ مِنْ عَبَثِ العابثينَ، وتحريفِ الْمُحَرِّفينَ، قالَ تعالَى:( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ، سَمَّاهُ اللهُ تعالَى بأسماءٍ كريمةٍ، ووصفَهُ بصفاتٍ حكيمةٍ، فهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وهوَ الشفاءُ النافِعُ، والدواءُ الناجِعُ، عِصْمةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بهِ، ونجاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ
فَالْقُرْآنُ نُورٌ يَهْدِي الْقُلُوبَ، وَيُنِيرُ الْبَصَائِرَ وَالْعُقُولَ، وَيَمْحُو الْجَهَالَةَ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا).

سمعته الجن فأعجبوا به وعلموا أنه يدعو للهداية قال تعالى:" قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا "
واجتمع الجن مرة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن قال تعالى : "وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ"

فالقرآن مَنْهَجُ حَيَاةٍ، وَمَنْبَعُ حَضَارَةٍ، يَدْعُو لِلأَخْلاَقِ الْكَرِيمَةِ، وَالْمَبَادِئِ الْقَوِيمَةِ، وَيُحَقِّقُ الطُّمَأْنِينَةَ وَالسَّعَادَةَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ الْكَرِيمَ:( طَهَ، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى). أَيْ: لَمْ نُنْزِلْ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَتْعَبَ وَتَشْقَى، بَلْ لِنَجْعَلَكَ أَسْعَدَ بَنِي آدَمَ.

وقد يسر الله تلاوته وحفظه وتدبره فقال سبحانه : " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" ، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في فضيلة من تعلم القرآن :«خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ تِلاَوَةَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ هِيَ التِّجَارَةُ الرَّابِحَةُ، وَالْغَنِيمَةُ الْبَاقِيَةُ، فَهَنِيئًا لِمَنْ ظَفَرَ بِهَا، وَوَاظَبَ عَلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ).

فَالتَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإعْمَارُ الأَوْقَاتِ بِتِلاَوَتِهِ وَسَمَاعِهِ، سَبَبٌ لِلْفَوْزِ بالْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ فِي الْجَنَّةِ، يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا».  قال بعض شراح الحديث:وصاحبُ القرآنِ هُوَ مَنْ يُلَازِمُهُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْعَمَلِ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ تِلاَوَةَ الْقُرْآنِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ نَيْلِ رُضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى، يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« يَجِيءُ القُرْآنُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ حَلِّهِ، فَيُلْبَسُ تَاجَ الكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ، فَيَرْضَى عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَارْقَ، وَيُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً».

وفي ذلكم اليوم العظيم الذي تقترب فيه الشمس من الرؤوس ويلجم العرق الناس، يأتي القرآن شفعيا لأصحابه، فعن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ " أي السحرة . رواه مسلم.   

وأهل القرآن هم أهل الله سبحانه وتعالى قال صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ:« هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ».

وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا رَسُولُنَا الْكَرِيمُ صلى الله عليه وسلم مَا فِي تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِنْ ثَوَابٍ مُضَاعَفٍ جَزِيلٍ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:« مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ (ألم)حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ».

فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُ الرَّاغِبُ فِي الأَجْرِ وَالثَّوَابِ، اجْعَلِ الْقُرْآنَ جَلِيسَكَ وَأَنِيسَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ أَفْضَلُ مَا اجْتَهَدَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُونَ، وَأَجَلُّ مَا تَنَافَسَ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ، فَيَا فَوْزَ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ تِلاَوَتِهِ، وَصَبَرَ عَلَى تَعَلُّمِهِ وَإِتْقَانِهِ، يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُهُ وَهُوَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ فَلَهُ أَجْرَانِ».

بل إن في تعلم القرآن أجر وفضيلة تعلو وتزيد على أنفس الأموال وأغلاها ثمنا في الدنيا، فروى مسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ :خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ والناقة الكوماء هي العظيمة السنام وهي من أفضل أنواع النوق عند العرب- فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُحِبُّ ذَلِكَ قَالَ أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الْإِبِلِ"

فإذا خرجت أخي المسلم إلى المسجد لتقرأ كتاب ربك وتتعلمه فأبشر بهذه البشارة العظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حِجَّتُهُ» فإذا جلست في حلقات القرآن فأنت في خير عظيم وفضل عميم قال صلى الله عليه وسلم: مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ "

يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ: قَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّفَكُّرِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَتَدَبُّرِ مَعَانِيهِ، بِقُلُوبٍ حَاضِرَةٍ، وَعُقُولٍ وَاعِيَةٍ، فَقَالَ تَعَالَى:( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ). وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا). فَحَثَّنَا عَلَى قِرَاءَتِهِ بِأَدَاءٍ حَسَنٍ، وَيَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا».

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَى تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَدَبُّرِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبًا وَافِرًا فِي بَيْتِهِ، وَيَكُونَ قُدْوَةً فِي ذَلِكَ لأَوْلاَدِهِ وَأُسْرَتِهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم :« لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ».

فَاللُهَمَّ أَعِنَّا عَلَى التَّخَلُّقِ بِآدَابِ الْقُرْآنِ، وَيَسِّرْ لَنَا تِلاَوَتَهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ.

  

الخطبة الثانية : عباد الله : قال تعالى عن القرآن "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ " ففيه الشفاء من أمراض الشبهات والشهوات، والأوجاع والأسقام وما يصيب القلوب من هموم وغموم وأحزان .
وتأثيره على القلوب عظيم جدا ، قال تعالى : " اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ"

فمال للقلوب لا تتأثر بكلام الله تعالى ولا تخشع له، مع أن الله أخبر أن هذا القرآن لو أنزل على الجمادات لخشعت، ألم يقل الله سبحانه : لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ " فكيف بالقلوب وهي المضغة الصغيرة الحية، لهي أولى بالخشوع والتأثر

لقد انشغل الكثير من الناس بأمور الدنيا وتغافلوا عن كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي ذلك علامة على مرض القلوب قال ابن القيم: فالقلب الطاهر، لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث، لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذى لم يطهره الله تعالى، فإنه يتغذى من الأغذية التى تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة. فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التى تلائم الصحيح "

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن هذه القلوب أوعية فأشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره "

فاعمروا قلوبكم وبيوتكم بتلاوة كتاب ربكم، واحفظوه وحفظوه أولادكم، وقَدْ هيأَتْ حكومتُنَا الرشيدةُ كلَّ الوسائلِ التِي مِنْ شأنِهَا خدمةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ منذُ عهدِ المغفورِ لهُ الشيخِ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، الذِي أسَّسَ مشروعَ الشيخ زايد لحفظِ القرآنِ الكريمِ، وهَا هيَ الجهودُ مستمرةٌ بطباعةِ المصاحفِ وتوزيعِهَا، وإنشاءِ مراكزِ ومعاهدِ تحفيظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي أنحاءِ الدولةِ، التِي يدرسُ فيهَا الصغارُ والكبارُ الذكورُ والإناثُ، والتِي خَرَّجَتْ بفضلِ اللهِ تعالى أعدادًا كبيرةً مِنْ حفظةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فاستثمِرُوهَا يرحمكُمُ اللهُ.

 فمَنْ علَّمَ أبناءَهُ القرآنَ أُلْبِسَ تاجاً مِنْ نُورٍ عنْدَ الرحمنِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:( مَن قَرَأَ الْقُرآنَ وَتَعَلَّمَهُ، وَعَمِلَ بِهِ أُلْبِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَاجَاً مِنْ نُورٍ، ضَوْؤُهُ مِثْلُ ضَوْءِ الشَّمْسِ، وَيُكْسَى وَاْلِدَيْهِ حُلَّتَانِ لاَ تُقَوَّمُ بِهِمَا الدُّنْيَا، فَيَقُولاَنِ: بِمَ كُسِينَا؟ فَيُقَاْلُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرآنَ)


الخميس، 12 فبراير 2015

الابتكار وإقامة الحضارة على وفق شرع الله

الخطبة الأولى : اعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل قد كَرَّمَ الإِنْسَانَ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ غَايَةَ الإِحْسَانِ، قَالَ تَعَالَى:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً). قال ابن كثير في تفسير الآية: "يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم، وتكريمه إياهم، في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها ..وجعل لهم سمعا وبصرا وفؤادا، ليفقهوا بذلك كله وينتفعوا به، ويفرقوا بين الأشياء، ويعرفوا منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدنيوية والدينية" ا.هـ ، وَإِنَّ مِنْ أَفْضَلِ مَا تَمَيَّزَ بِهِ الإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ نِعْمَةَ العَقْلِ. فَهُوَ هِبَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمِنْحَةٌ جَزِيلَةٌ.

وَلَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِعْمَالِ الْعَقْلِ وَالتَّفْكِيرِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:( قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). فَطُوبَى لِمَنْ أَعْمَلَ عَقْلَهُ، وَوَسَّعَ مَدَارِكَهُ، وَزَادَ مِنْ عِلْمِهِ، وَارْتَقَى بِمَهَارَاتِهِ، وَوَظَّفَ مَوَاهِبَهُ، وَتَخَلَّقَ بِالأَخْلاَقِ الْجَمِيلَةِ، وَتَحَلَّى بِالصِّفَاتِ النَّبِيلَةِ؛ لِيُصْبِحَ إِنْسَانًا يَنْفَعُ وَلاَ يَضُرُّ، وَيُعَمِّرُ وَلاَ يُدَمِّرُ، وَيَبْنِي وَلاَ يَهْدِمُ، وَيُحَقِّقُ الْخَيْرَ لِنَفْسِهِ وَمُجْتَمَعِهِ وَوَطَنِهِ وَالإِنْسَانِيَّةِ جَمْعَاءَ، قَالَ تَعَالَى:( وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ)

أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: لَقَدْ دَعَانَا رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى النَّظَرِ والتفكر فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَقَالَ:( قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) وقال سبحانه : "أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ"  فيستدلوا منها على وحدانية الله تعالى وقدرته وأنه هو المستحق للعبادة وحده دون سواه، وأن يدْرُسُوا مَا فِيهَا، وَيسْتَفِيدُوا مِنْ قَوَانِينِهَا وأنظمتها فيسخروها لمعيشتهم وراحتهم.

 كَمَا أَمَرَنَا أَنْ نَدْرُسَ أَحْوَالَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ بالنظر في قصصهم وأخذ العبرة مما وقع عليهم، قال تعالى : " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" فنَسْتَفِيدَ مِنْ إِيْجَابِيَّاتِهِمْ، ونقتدي بالصالحين منهم، وَنَتَجَنَّبَ وما وقعوا فيه من الكفر بالله والإشراك به، فيزداد إيماننا بربنا ونولد أَفْكَارًا جَدِيدَةً، نُطَوِّرُ مِنْ خِلاَلِهَا حَيَاتَنَا، وَنَبْتَكِرُ حُلُولاً أَفْضَلَ لِمُشْكِلاَتِنَا، لِنَصِلَ بِهَذَا الإِبْدَاعِ الإِنْسَانِيِّ الرَّاقِي إِلَى الرِّيَادَةِ الْحَضَارِيَّةِ، فَبِالإِبْدَاعِ وَالابْتِكَارِ تَزْدَهِرُ الْحَيَاةُ، وَتُعَمَّرُ الأَرْضُ، وَتُبْنَى الْحَضَارَةُ على وفق شرع الله سبحانه وتعالى .

عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ حَرَصَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَلَى تَنْمِيَةِ مَلَكَةِ التَّفْكِيرِ وَالإِبْدَاعِ لَدَى أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  قَالَ:« إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَهِيَ مَثَلُ المُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟». فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا بِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:« هِيَ النَّخْلَةُ». فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي، فَقَالَ:« لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا».

وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَسْتَخْرِجُ الْمَوَاهِبَ، وَيَقُومُ بِرِعَايَتِهَا وَتَحْفِيزِ أَصْحَابِهَا، فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:« يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟». قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:« يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟» قُلْتُ:( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ:« وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ».

وَعِنْدَمَا أَشَارَ سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ حِمَايَةً لِلْمَدِينَةِ سَارَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى تَبَنِّي هَذِهِ الفِكْرَةِ الْمُبْتَكَرَةِ وَتَطْبِيقِهَا، فَكَانَ مَنْهَجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رِعَايَةَ الأَفْكَارِ الْمُبْتَكَرَةِ الْمُفِيدَةِ، وَاحْتِضَانَ الطَّاقَاتِ الإِبْدَاعِيَّةِ النَّافِعَةِ، حَتَّى تَنَوَّعَتِ الْمَوَاهِبُ وَتَعَدَّدَتْ، وَانْطَلَقَ مَبْدَأُ التَّفْكِيرِ الْبَنَّاءِ، وَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى القِرَاءَةِ وَالتَّعْلِيمِ، وَانْبَثَقَ فَجْرُ الْحَضَارَةِ الإِسْلامِيَّةِ فِي وَقْتٍ يَسِيرٍ، وَنَجَحَ الْمُسْلِمُونَ فِي بِنَاءِ حَضَارَةٍ عَظِيمَةٍ عَرِيقَةٍ مُتَمَيِّزَةٍ فِي مُخْتَلَفِ الْمَجَالاَتِ، وَابْتَكَرُوا العَدِيدَ مِنَ العُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الإِبْدَاعِيَّةِ الْجَدِيدَةِ، وَبَرَعُوا فِي عِلْمِ الطِّبِّ وَالرِّيَاضِيَّاتِ وَالْهَنْدَسَةِ وَالفِيزْيَاءِ وَالفَلَكِ وَغَيْرِهَا، فَضْلاً عَنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالفِقْهِ وَأُصُولِهِ، وَعُلُومِ العَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا، مُحَقِّقِينَ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى:( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا). أَيْ: جَعَلَكُمْ فِيهَا عُمَّارًا تُعَمِّرُونَهَا وَتَسْتَغِلُّونَهَا ،وَكَانَتْ ثَمَرَةُ هَذَا الإِبْدَاعِ وَالابْتِكَارِ تَحْقِيقَ الْخَيْرِ وَالرُّقِيِّ لِلْعَالَمِ بِأَسْرِهِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ صُوَرِ الإِبْدَاعِ التَّخْطِيطُ وَالإِعْدَادُ لِلْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الله في القُرْآن الكَرِيمُ، فَهَذَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ جَنَّبَ قَوْمَهُ مَصَاعِبَ السَّنَوَاتِ الصَّعْبَةِ بِالتَّخْطِيطِ الْجَيِّدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى في قصة يوسف عليه السلام:( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ). فَيَا فَوْزَ مَنِ اسْتَفَادَ مِنْ وَاقِعِهِ، وَخَطَّطَ لِمُسْتَقْبَلِهِ، فَحَظِيَ بَخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وفي الأثر: "اعمل للدنيا, كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك , كأنك تموت غدا " فَاللُهَمَّ يَسِّرْ لَنَا أَسْبَابَ الْخَيْرِ وَالرَّشَادِ، وَأَعِنَّا عَلَى الرُّقِيِّ وَالسَّدَادِ


الخطبة الثانية : عباد الله الحضارة والتطور والإبداع  الحقيقي الصحيح هو الذي يعود نفعه على الأفراد والمجتمعات، وهو الذي يرتكز على ركائز من أهمها العقيدة الصحيحة والعلم النافع والأخلاق في التعامل. وبدونها تتحول الحضارة والتطور إلى حقارة ومعاول هدم تهدم في كيان الأمة .
وإلا ما فائدة حضارة ينحدر فيها مستوى الإنسان إلى العبودية لغير الله ليصبح عبد ديناره ودرهمه، عبد شهوته ومادته ورغبته، فيسقط في التعاسة والانتكاسة كما تعست وانتكست البشرية التي تسيطر عليها هذه المدنية المعاصرة، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ))
ما فائدة تقدم مادي لا يقوم على الأخلاق واحترام الإنسان، وإنما شعاره الغاية تبرر الوسيلة، والمادة هي الغاية الكبرى.

لقد قامت حضارة الإسلام على مبادئ عظيمة بها حققت أعلى المقامات، حتى أقبل عليها العالم ينهل منها، ومن أولى تلك الركائز العقيدة الصحيحة المبنية على توحيد الله وإقامة العبودية له وحده دون سواه كما قال تعالى "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"

ومن تلكم الركائز الترغيب في طلب العلم النافع والازدياد منه، قال تعالى " وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا" ، فبالعلم النافع ترقى الأمم وتسعد، وأول ما يطلبه المسلم هو علم دينه الذي يتعبد ربه به، لأن من متطلبات التمكين في الأرض وإقامة الحضارة عبادة الله تعالى كما قال سبحانه " الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ "، وهذا لا يكون إلا بالعلم الشرعي .

ومتى ما خلت العلوم الدنيوية من العلوم الشرعية صارت وبالا على صاحبها وعلى المجتمع، وقد عاب الله على من أقبل على علوم الدنيا وترك علوم الدين قال تعالى " وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ"فوصف رب العزة أكثر الناس بعدم العلم، مع إثبات علمهم بأمور الدنيا، فدل على أن العلم الحقيقي هو العلم الشرعي الذي يضبط العلم الدنيوي .
أيها المسلمون: ومن تلكم الركائز التي قامت عليها الحضارة الإسلامية الأخلاق في التعامل، فهي حضارة تحترم النفس البشرية دون تمييز عنصري كما قال تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"

حتى في الحروب التي تراق فيها الدماء ويظهر فيها العداء أمرنا ديننا الحنيف أن نتخلق بأخلاق الإسلام، قال تعالى " وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" ، وقال صلى الله عليه وسلم: (أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ) ، ومن وصايا أبي بكر الصديق رضي الله عنه لجيش أسامه : (لا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا شيخًا ولا وليدًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له)

بهذه الركائز تسمو المجتمعات، ويُعز الأفراد، وينتفع الناس، ويسخر الإنسان الضعيف ما وهبه الله من إمكانات لخدمة البشرية وإقامة العبودية لله .

عباد الله : إن الدين الإسلامي يدعو إلى الإبداع والابتكار في أمور الدنيا، ولا يمنع من الاستفادة من الحضارات الأخرى، بشرط عدم تعارضها مع شرعنا الإسلامي.

لكن على المسلم أن لا يغتر بحضارة غير المسلمين، لأنها حضارة ظاهرها التطور والصلاح وباطنها من قبلها الفساد والانحلال والدمار، لأنها لم تبن على عقيدة تؤمن بالله ربا، ولا تؤمن بالأخلاق تعاملا، بل هدفها وغايتها تحقيق الربح المادي ولو كان على حساب الدين والأفراد والأخلاق .
وأما حضارتنا الإسلامية فهدفها الأول إقامة العبودية لله تعالى، وتسخير ما في الكون من مخلوقات الله لخدمة البشرية وسعادتهم، من أجل أن يقوموا بتوحيد الله على أكمل وجه .

وأما ما نعيشه اليوم من ذل وهوان وتخلف على الصعيد العلمي والتقدم الحضاري فبسبب إعراضنا عن دين الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم:  (وَجَعَلَ الذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي ) وقال الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة " لن يصلح آخر هذه الأمة إلى ما أصلح أولها"


فأقبلوا على دينكم، ووحدوا ربكم، والتزموا هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، وتعلموا العلم النافع، مع إخلاص لله ومتابعة، يتحقق لكم التمكين في الأرض، وتسموا على غيركم.

الخميس، 5 فبراير 2015

خطبة جمعة : صنائع المعروف

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين قال الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " يأمر الله عباده المؤمنين الذين يرجون الفلاح في الدارين بعبادته والتقرب إليه، وذلك بفعل ما أمر ، وخص الصلاة بالذكر لعظم شأنها وعلو قدرها ، فمن حافظ عليها كان لما سواها أحفظ، ثم أمر بفعل الخيرات والتقرب إليه بالطاعات ففي ذلك تحصيل لأعلى الدرجات، وتحقيق لعبودية رب الأرض والسموات.

وقد أمرنا الله بالاستعداد للقائه بعمل الخير والتزود منه لذلك اليوم فقال : "وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ " 

والمراد بالخير في الآية كل ما حث عليه الله عز وجل وشرعه من الأقوال والأعمال الواجبة والمستحبة، وقد أمرنا الله بالمسارعة في فعلها والتنافس في تحصيلها فقال تعالى "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" ، وبفعل الخيرات والطاعات ينال العبد محبة ربه ويكون من أوليائه المتقين قالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِى بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بَهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِى عَبْدِى أَعْطَيْتُهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ).

والمسارعة إلى فعل الخيرات من صفات المرسلين قال تعالى : إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ " 
جماعة المسلمين : إن الله تعالى قد فتح لنا أبوابا للخير كثيرة بحسب قدرتنا وطاقاتنا، ولن يعجز أحد أن يكون مبادرا إلى الإحسان والنفع كل في مكانه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ ). قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ :( فَيَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ ). قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ :(فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ ). قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ :( فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ أَوْ قَالَ بِالْمَعْرُوفِ ). قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ :( فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ ) رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ  .

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ كَثِيرَةٌ، فَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ مَعْرُوفٌ، وَكَفُّ الأَذَى عَنِ النَّاسِ مَعْرُوفٌ، وَبَذْلُ شَتَّى أَنْوَاعِ الْخَيْرِ إِلَى الآخَرِينَ مَعْرُوفٌ، قَالَ نَبِيُّنَا الْكَرِيمُ صلى الله عليه وسلم فِي بَيَانِ بَعْضِ صُوَرِهِ : «لا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا... وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْطَلِقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوَحْشَانَ فِي الْأَرْضِ». والْوَحْشَانُ هُوَ الَّذِي يَشْعُرُ بِالْوَحْشَةِ فَتُؤْنِسُهُ بِالْقَوْلِ الْجَمِيلِ

ومن صنائع المعروف ذات الأجر العظيم نفعُ الناس وقضاءُ حوائجهم، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا، أَوْ تُطْرَدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلِأَنْ أَمْشِيَ  مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، شَهْرًا، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلَأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَلْبَهُ أَمْنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَثْبَتَهَا لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ " 

حديثٌ عظِيم تضمَّن ما يورِث حبَّ الله وحبَّ الخلق وما بِه تشيعُ روحُ الأخوّة بين المسلمين وتقوَى العلاقاتُ معه بين المؤمنين. حديثٌ جليل تضمَّن من مبادئ الأخلاق أعلاها، ومِن قيَم الآداب أرفعَها، ومِن معالي المحاسِن أزكاها، ومِن محاسِنِ الشمائل أرقاها. توجيهاتٌ تزكو بها النفوس وتصلح بها المجتمعاتُ وتسعَد بها الأفراد والجماعات قِيَم اجتماعيّةٌ لم يشهد التاريخُ لها مثيلاً، ومبادِئُ حضاريّة لم تعرف البشريّة لها نظيرًا، ذلكم أنها توجيهاتُ من لا يصدر عن الهوى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى

وَمِنْ صَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ الَّتِي يَحْتَاجُهَا النَّاسُ الْيَوْمَ إِظْهَارُ الدِّينِ فِي سَمَاحَتِهِ وَنَقَائِهِ كَمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فَأَجْمَلُ مَعْرُوفٍ يُقَدِّمُهُ الإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ وَدِينِهِ وَوَطَنِهِ أَنْ يُظْهِرَ جَانِبَ الْمَعْرُوفِ فِي هَدْيِ شَرِيعَتِنَا السَّمْحَاءِ.

 وَمِنْ أَنْوَاعِ الْمَعْرُوفِ التَّعَامُلُ مَعَ النَّاسِ بِالأَخْلاَقِ الْعَالِيَةِ وَالْمُعَامَلَةِ الرَّاقِيَةِ، فَالْمُوَظَّفُ الَّذِي يُحْسِنُ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ يُؤَدِّي عَمَلَهُ فَقَدْ قَدَّمَ الْمَعْرُوفَ لِنَفْسِهِ وَمُجْتَمَعِهِ وَوَطَنِهِ، وَمَنْ زَارَ مَرِيضًا وَوَاسَاهُ، أَوْ تَبَرَّعَ بِدَمٍ، أَوْ تَطَوَّعَ بِعَمَلِهِ، أَوْ أَدَّى عَنْ فَقِيرٍ حَاجَتَهُ، أَوْ قَضَى عَنْ مَدْيُونٍ دَيْنَهُ، أَوْ كَفَّ الأَذَى عَنْ أُسْرَتِهِ أَوْ عَنْ مُجْتَمَعِهِ فَقَدْ سَاهَمَ فِي الْمَعْرُوفِ، وَمَنْ تَبَرَّعَ بِمَا يَسْتَطِيعُ لِبِنَاءِ مَسْجِدٍ، أَوْ كَفَالَةِ يَتِيمٍ، أَوْ رِعَايَةِ أُسْرَةٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ للهِ قَوْمًا يَخْتَصُّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَيُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا , نَزَعَهَا مِنْهُمْ , فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ "

فَاللُهَمَّ أَعِنَّا عَلَى صَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ وَالإِحْسَانِ، وَاجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرَاتِ يَا رَحْمَنُ

الخطبة الثانية : أَيُّهَا المسلمون: إِنَّ لِصَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ آدَابًا تَجْدُرُ مُرَاعَاتُهَا، لِكَيْ يَفُوزَ صَاحِبُهَا بِحُسْنِ عَوَاقِبِهَا، وَجَمِيلِ ثِمَارِهَا، فَمِنْهَا: احْتِسَابُ الأَجْرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلا يَنْتَظِرُ صَاحِبُ الْمَعْرُوفِ مُقَابِلاً مِنَ النَّاسِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَلا مُكَافَأَةً عَلَى مَعْرُوفِهِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِ عِبَادِهِ الأَبْرَارِ : " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ،إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا " 

وَقَدْ تَكَفَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِإِثَابَةِ مَنْ بَذَلَ مَعْرُوفًا وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَوَعَدَ عَلَيْهِ بِمُضَاعَفَةِ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ، فَقَالَ تَعَالَى :"إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا" 

أَيُّهَا النّاس: إِنَّ لِصَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ ثَمَرَاتٍ كَثِيرَةً، فَهِيَ تَشْرَحُ الصُّدُورَ، وَتَزِيدُ فِي الأُجُورِ، وَتَصْرِفُ البَلاءَ، وَهِيَ سَبَبٌ لِنَيْلِ مَغْفِرَةِ اللهِ تَعَالَى وَرِضْوَانِهِ، وَالفَوْزِ بِنَعِيمِهِ وَجِنَانِهِ، يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أُتِيَ اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ، فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ-أَيِ الْغَنِيِّ- وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، أَيْ أُمْهِلُهُ، فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي». 

فَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ فِي مُجْتَمَعِهِ نَاشِرًا لِلْخَيْرِ، صَانِعًا لِلْمَعْرُوفِ، فَإِنَّهُ بِذَلِكَ يُؤَلِّفُ بَيْنَ الْقُلُوبِ، وَيَنَالُ مَرْضَاةَ عَلاَّمِ الْغُيُوبِ، وَسَيَجِدُهُ فِي صَحِيفَتِهِ مَكْتُوبًا، وَفِي سِجِلِّهِ مَحْفُوظًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ" وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ". 

وَفِي صَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ حِفْظٌ لِلأَوْلاَدِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَوِقَايَةٌ لَهُ وَلَهُمْ مِنَ السُّوءِ وَالْفِتَنِ، فَقَدْ قَيَّضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَالْخَضِرَ لِخِدْمَةِ غُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ، فَبَنَيَا لَهُمَا الْجِدَارَ لِيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا، وَذَلِكَ لِصَلاَحِ أَبِيهِمَا، قَالَ تَعَالَى: "وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً". وَلاَ يُعْرَفُ صَلاَحُ الْمَرْءِ حَتَّى يَكْثُرَ مَعْرُوفُهُ. 

وفي صنائع المعروف وقاية من مصارع السوء ومن البلايا والمحن ، قال صلى الله عليه وسلم:صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السَّوْءِ , وَالْآفَاتِ وَالْهَلَكَاتِ" 

فالموفق من وفقه الله للعمل بطاعته في هذه الدنيا قبل الموت، فإن العبد عند موته لا يتمنى إلا عمل الصالحات ليزداد من الأجور وينجو من حر القبور، قال تعالى : "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ،لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ"