الجمعة، 27 مارس 2015

خطبة جمعة : نعمة الأمن والاستقرار

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين اعلموا رحمكم الله أن الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ مِنْ ضَرُورياتِ الْحَيَاةِ، تَصْلُحُ بِهِمَا الْأَحْوَالُ، وَيَنْمُو الْعُمْرَانُ، وَتُقَامُ الشَّعَائِرُ، وتتحقق العبودية لله تعالى. وَالْإِنْسَانُ لَا يَجِدُ هَنَاءً فِي عَيْشِهِ، وَطُمَأْنِينَةً فِي نَفْسِهِ إِلَّا بِأَمْنٍ وَاسْتِقْرَارٍ؛ فَالْخَوْفُ يُنَغِّصُ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ، وَالِاضْطِرَابُ وَالتَّشْرِيدُ يَسْلُبُهُ مُقَوِّمَاتِ عَيْشِهِ،  وَلِأَهَمِّيَّةِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ المُؤْمِنِينَ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ، فَهُمْ آمِنُونَ مِنْ فَقْدِ نَعِيمِهَا، وَآمِنُونَ مِنْ كُلِّ مُكَدِّرٍ فِيهَا ، قال تعالى :" إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ،ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ " وَهُمْ مُسْتَقِرُّونَ فِيهَا، لَا يَخْشَوْنَ خُرُوجًا مِنْهَا، وَلَا اضْطِرَابًا فِيهَا، وَنَعِيمُهُمْ فِيهَا مُسْتَقِرٌّ فَلَا يَخَافُونَ نَقْصَهُ وَلَا انْقِطَاعَهُ قال تعالى : "خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا"

وَحِينَ أَذِنَ اللهُ تَعَالَى بِإِسْكَانِ الْبَشَرِ الْأَرْضَ، بَسَطَ لَهُمْ فِيهَا الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ وَسَخَّرَ لهم مَا عَلَيْهَا ، قال تعالى لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَهْبَطَهُ الْأَرْضَ: "وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ"وَمِنْ البلاغة القرآنية  فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ قُدِّمَ فِيهَا الِاسْتِقْرَارُ عَلَى المَتَاعِ، وَالمَتَاعُ هُوَ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ النَّاسُ مِنَ المَآكِلِ وَالمَشَارِبِ وَالمَرَاكِبِ وَالمَلَابِسِ وَالمَسَاكِنِ، وَكُلُّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا بِلَا اسْتِقْرَارٍ، فَكَانَ الِاسْتِقْرَارُ هُوَ الرُّكْنَ الْأَهَمَّ لِلْعَيْشِ فِي الْأَرْضِ، وَفَقْدُهُ يُؤَدِّي إِلَى فَقْدِ كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي لَا اسْتِقْرَارَ فِيهَا يُفَارِقُهَا أَهْلُهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَلَوْ عَظُمَتْ خَيْرَاتُهَا، وَتَفَجَّرَتْ ثَرَوَاتُهَا، فَلَا قِيمَةَ لَهَا بِلَا اسْتِقْرَارٍ. وَالْأَرْضُ المُسْتَقِرَّةُ يُبَارَكُ فِي رِزْقِ أَهْلِهَا، وَيَهْنَئُونَ بِعَيْشِهِمْ فِيهَا، وَلَا يفارقونها إِلَى غَيْرِهَا، فَلَا حَاجَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَهُمْ يَجِدُونَ الِاسْتِقْرَارَ

وَبِالْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ تَعْمُرُ الْأَرْضُ، وَيُقَامُ فِيهَا دِينُ اللَّـهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي تُسَبِّبُ الْخَوْفَ وَالِاضْطِرَابَ، وَتَسْلُبُ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ؛ تَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الْعِبَادَةِ، وَتُمَكِّنُ لِلْكُفْرِ وَأَهْلِهِ فِي الْأَرْضِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ" ولذلك حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على الإقبال على العمل الصالح حال الاضطراب والفتن فقال : "بَادِرُوا بِالأعْمَال فتناً كقطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ ، يُصْبحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً ، وَيُمْسِي مُؤمِناً ويُصبحُ كَافِراً ، يَبيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا " رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ" ، فأرشد صلى الله عليه وسلم في زمن الفتنة وعدم الاستقرار  إلى الانشغال بعبادة الله جلّ وعلا والإقبال على طاعته ، لأن الفتن والاضطرابات وعدم الاستقرار تشغل العبد عما خلق له من عبادة الله والتقرب إليه

عباد الله : بِالْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ تُقَامُ الشَّعَائِرُ، وَتُعْمَرُ المَسَاجِدُ، وَيَأْمَنُ السَّبِيلُ فيحج الناس إلى بيت ربهم؛ وذلك لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالِاضْطِرَابَ مَانِعَانِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَمْ عُطِّلَتْ مِنْ جُمَعٍ وَجَمَاعَاتٍ بِسَبَبِ الِاضْطِرَابِ وَالْخَوْفِ، وَكُتُبُ التَّارِيخِ مَمْلُوءَةٌ بِأَخْبَارِ تَعَطُّلِ المَسَاجِدِ ومنع الحجاج من حجب بيت ربهم بِسَبَبِ عدم الاستقرار.

بِالْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ يَزْدَهِرُ الْعُمْرَانُ، وَتُبْدِعُ الْعُقُولُ، وَتَنْتَشِرُ المَعَارِفُ وَالْعُلُومُ، وَأَقْوَى سَبَبٍ يُعِيقُ ذَلِكَ وَيُوقِفُهُ الْخَوْفُ وَالِاضْطِرَابُ؛ لِأَنَّ الْعُقُولَ المُبْدِعَةَ، وَالْأَيَادِيَ النَّاجِحَةَ تُفَارِقُ الْبُلْدَانَ المُضْطَرِبَةَ إِلَى حَيْثُ الْأَمْنُ وَالِاسْتِقْرَارُ، فَلَا يَبْقَى إِلَّا أَهْلُ الْحَرْبِ وَالدَّمِ يُثِيرُونَ الذُّعْرَ فِي النَّاسِ.

وَبِذَهَابِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ تَسْتَوْحِشُ الْقُلُوبُ وتسوء الأخلاق وتطيش العقول قال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ ". فَقَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: " الْقَتْلُ ". قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ إِنَّا لَنَقْتُلُ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا. قَالَ: " إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ". قَالُوا: وَمَعَنَا عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: " إِنَّهُ يُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيُخَلَّفُ لَهُ  هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ يَحْسَبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُ  عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ "

وبذهاب الأمن والاستقرار تسفك الدماء وتنهب الأموال وتخرب مكتسبات البلدان طوال السنين الماضية، التي سعت الحكومات والأفراد إلى تأسيسها وبنائها لينعم الإنسان بحياة آمنة سعيدة مستقرة

فَالْأَمْنُ وَالِاسْتِقْرَارُ لَا يُجَازِفُ بِهِمَا إِلَّا مَجْنُونٌ، وَلَا يَسْتَهِينُ بِأَمْرِهِمَا إِلَّا أَحْمَقُ مَخْذُولٌ، وَلَا يَسْعَى لِتَجْرِيبِ ضِدِّهِمَا إِلَّا جَاهِلٌ مَغْرُورٌ.

وَإِذَا كَانَ الْأَمْنُ وَالِاسْتِقْرَارُ بِهَذِهِ الْأَهَمِّيَّةِ الْكَبِيرَةِ كَانَ لِزَامًا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الْحِفَاظُ عَلَيْهِمَا، وَالسَّعْيُ فِي تَقْوِيَتِهِمَا، وَاجْتِنَابُ مَا يُؤَدِّي لِفَقْدِهِمَا، بل واستخدام القوة إن لزم ذلك لأجل استعادة الأمن والاستقرار في حياة الشعوب في حال فقدهما، قال تعالى " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ "

ففي هذه الآية يبين الله سبحانه وتعالى حكما يتعلق ببغي طائفة من المؤمنين على أخرى، مما أدى إلى الاقتتال وسفك الدماء فنتج عنه الخوف والاضطراب، فأمر الله بقتال الفئة الباغية حتى تعود إلى أمر الله، فينقلب الخوف أمنا، والاضطراب استقرارا.
جماعة المسلمين : كما يقال " كل صاحب نعمة محسود " و نعمة الأمن والاستقرار في بلاد الإسلام محل حسد من قبل الأعداء، فإنهم يسعون إلى تخريب بلاد المسلمين وتدميرها بشتى الطرق والوسائل.

ويعظم الخطب وتكبر المصيبة أن يسعى إلى نشر الفوضى والفتن من يعيش بين أظهرنا فيظهر الإسلام وحب المسلمين ثم يطعنهم في ظهورهم، ومثل ذلك ما حصل زمن عثمان رضي الله عنه فقد كان الناس في رغد من العيش عظيم ولكن أهل الفتن غاضهم ذلك ، قال الحسن البصري رحمه الله: أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قل ما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيرا، يقال لهم: يا معشر المسلمين اغدوا على أعطياتكم، فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على أرزاقكم فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم اغدوا على السمن والعسل، الأعطيات جارية، والأرزاق دارة، والعدو متقى، وذات البين حسن، والخير كثير، وما من مؤمن يخاف مؤمنا، .. وقد كان من ألفته ونصيحته ومودته قد عهد إليهم أنها ستكون أثرة، فإذا كانت فاصبروا ، فلو أنهم صبروا حين رأوها لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق والخير الكثير، بل قالوا: لا والله ما نصابرها: فوالله ما وردوا وما سلموا، والأخرى كان السيف مغمدا عن أهل الإسلام فسلوه على أنفسهم، فوالله ما زال مسلولا إلى يوم الناس، هذا وايم الله إني لأراه سيفا مسلولا إلى يوم القيامة "
فدعا أصحاب الفتن من الخوارج إلى قتال عثمان رضي الله عنه وأغروا الجهلة بأنه من أعظم الجهاد، وكان يسوسهم ويثيرهم ويوقد نار الفتنة ابن السوداء عبد الله بن سبأ اليهودي، فجيشوا الجيوش، وطالبوا بعزل عثمان من خلافته ، وحاصروا لمدينة، ولم يهدأ لهم بال حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه.
ثم خرجوا زمن علي رضي الله عنه فقاتلهم علي رضي الله عنه في معركة النهروان حتى قضى على جيشهم.
فتأملوا رحمكم الله كيف انقلبت الأمور من الأمن والاستقرار إلى الخوف والاضطراب والفتن.
فاللهم احفظنا من الفتن والشُّرور، وجنِّبنا كل كيد ومكر وسوء.


الخطبة الثانية : اعلموا رحمكم الله أن كُلَّ مَنْ سَعَى بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لِإِحْدَاثِ الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ عَادَ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَاسْتِهْدَافُ أَمْنِ المُسْلِمِينَ وَاسْتِقْرَارِهِمْ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَلَا يَقَعُ فِيهِ إِلَّا مَبْخُوسُ الْحَظِّ مَرْذُولٌ. وَمَنْ أَشْعَلَ فِتْنَةً تُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْأَمْنُ، وَيَزُولُ الِاسْتِقْرَارُ، بَلَغَتْهُ نَارُهَا فَأَحْرَقَتْهُ وَلَوْ ظَنَّ أَنَّهُ فِي مَأْمَنٍ مِنْهَا، فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسٍ الْعَمَلِ. 

وَمِنْ أَهَمِّ مُقَوِّمَاتِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ تحقيق التوحيد والعبودية لله تعالى ومحاربة الشرك قال تعالى : "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" والظلم المقصود به في الآية الشرك كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى :"وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ"

وَمِنْ مُقَوِّمَاتِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ لُزُومُ الْجَمَاعَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ شَقِّ عَصَا المُسْلِمِينَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَّا أَخْبَرَ عَنْ زَمَنِ الْفِتَنِ، وَكَثْرَةِ دُعَاةِ جَهَنَّمَ، سَأَلَهُ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَمَّا يَفْعَلُ إِنْ أَدْرَكَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمِنْ مُقَوِّمَاتِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ ترك الذنوب والمعاصي ولزوم أحكام الله وشرعه، فعلى قدر مخالفة أوامر الله يختل الأمن وتحدث الفتن والاضطرابات، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ.

وَمِنْ مُقَوِّمَاتِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ منع كل ما يؤدي إلى الفوضى والاضطراب، والأخذ على يد من تسول له نفسه نشر الفتن والقلاقل في بلاد المسلمين.

جماعة المسلمين : اعْلَمُوا أن الاستقرار مصلحة عليا وضرورة كبرى يجدر بكل عاقل المحافظة عليها، فبها يأمن الناس على حياتهم، ويقومون على مصالحهم، ويبنون حاضرهم ويستشرفون مستقبلهم، فيستنير واقعهم، وتزدهر حضارتهم، وبذهابِ الاستقرار تحل النكباتُ والمآسي، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:« مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا».

وإن قيادتنا الرشيدة لم تدخر وسعا لتحقيق هذه المصلحة العليا على الصعيد الداخلي والخارجي، والتعاون مع الإخوة والأشقاء لإرساء دعائم الحق، ودفع كل بغي وتهديد وإفساد، امتثالا لقول الحقِّ جل وعلا:( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) وقول النبي صلى الله عليه وسلم:« يَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ».


فبارك الله في قيادتنا، وأعزَّ دولتَنَا، وحفظَ جنودَنَا، وحمَى شعبَنَا وإخوتنا من كل سوءٍ ومكروهٍ، وكفَّ بأسَ كلِّ طامعٍ وحاقدٍ.


الجمعة، 13 مارس 2015

خطبة جمعة : حقوق الطريق

الخطبة الأولى  : أيها المسلمون : يقول الله عز وجل في محكم آياته { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا }  قال ابن كثير – رحمه الله - في تفسير هذه الآية ( هذه أكبرُ نعم الله تعالى على هذه الأمة ، حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره ، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه ، ولهذا جعله الله تعالى خاتم خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن ، فلا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه ، ولا دين إلا ما شرعه .."أ.هـ

وأخرج الطبراني عن أبي ذر الغِفاري رضي الله عنه قال :( تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علما . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار ؛ إلا وقد بين لكم "  

ومما بينه الله للأمة حق الطريق ، الذي يستخدمه العباد في مسيرهم اليومي ، وذلك لأن الطريق شركة بين الناس جميعا ، فلا يحق لأحد أفراد الناس أن يستأثر به دون الباقين من إخوانه. 

روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ. فَقَالُوا مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا قَالَ فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ .

كلماتٌ جامعةٌ من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- توضحُ لنا حقَّ الطَّريقِ الواجبِ علينا ، ففي قوله صلى الله عليه وسلم ( اعطوا الطريق حقه ) أمر بمراعاة حقوقِ الطريقِ وآدابه والتي منها :
( كف الأذى ) فالمسلم مأمورٌ بأن يكفَ أذاهُ وشرهُ عن الآخرين قال صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار ) بل من صفات المسلم الصادق عدم إيذاء الآخرين قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ ). 

ويدخل في ذلك – أي في الإيذاء – عدم الاستخدام الأمثل للمركبات على الطريق ، فبتهور كثير من السائقين -هداهم الله- حصل كثير من أنواع الإيذاء للمسلمين ، فكم من دماء للمسلمين سفكت على قارعة الطريق ، فرملت زوجات ويتم أبناء وثكلت أمهات .

فَكَمْ مِنْ كَوَارِثَ أَفْجَعَتْ، وَأَرْوَاحٍ أُزْهِقَتْ، وَأُسَرٍ فَقَدَتْ عَزِيزًا عَلَيْهَا، وَإِعَاقَاتٍ مَسْتَدِيمَةٍ حَصَلَتْ، وَأَمْوَالٍ أُهْدِرَتْ، وَطُرُقٍ أُتْلِفَتْ، بِسَبَبِ الْحَوَادِثِ النَّاجِمَةِ عَنِ التَّفْرِيطِ وَالتَّسَاهُلِ، وعدم الالتزام بالهدي النبوي الشريف الذي يوجب على المسلم أن يعطي الطريق حقوقه. 

أيها المسلم: إن من نعم الله عليك أن يسر لك وسائل النقل لاستخدامها في حوائجك ، قال تعالى في بيان نعمته علينا  "وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ " 

فلا بد لهذه النعمة من الشكر لله -سبحانه وتعالى- وذلك بحسن استخدامها لما وضعت له ، فتتأدب بأدب الله  ورسوله صلى الله عليه وسلم إذا ما ركبت دابتك قال تعالى " وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ، لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ" ، وعن علي بن ربيعة قال :  شهدت علياً -رضي الله عنه- وأتي بدابةٍ ليركبَها، فلما وضع رجله في الرِّكاب قال :بسم الله . فلما استوى على ظهرها قال : الحمد لله . ثم قال :  سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون . ثم قال : الحمد لله ثلاث مرات ، ثم قال : الله أكبر ثلاث مرات . ثم قال: سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . ثم ضحك فقيل يا أمير المؤمنين : من أي شيء ضحكت قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك فقلت يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال : إن ربك يعجب من عبده إذا قال اغفر لي ذنوبي يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري . 

وفي هذا الذكر عند الركوب تبرك باسم الله تعالى في قولك : بسم الله ، ثم اعتراف بنعمة الله عليك أن يسر لك هذا المركوب في قولك : ( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين )  ، ثم إقرار بمصيرك إليه يوم القيامة وذلك في قولك ( وإنا إلى ربنا لمنقلبون )   ، وفي نهايته طلب للمغفرة من الذنوب  ، فهو ذكر مبارك على المسلم أن لا يدعه عند ركوبه لمركبته .  

ومن تلكم الآداب التواضع وعدم الطيش في القيادة ، قال تعالى في وصف عباده المؤمنين  " وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا " ، بل تعتبر القيادة بالسرعة الجنونية من البطر والمرح المنهي عنه والله يقول "وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا" 

فعلى المسلم الصادق أن يتأدب بالأدب الشرعي في حال قيادته لمركبته ،مراعيا حقوق العباد عليه، وأن يراعي النظم والقوانين التي سنتها الدولة لحفظ الأرواح والممتلكات ، وإن مراعاة هذه القوانين والنظم واجب شرعي على المسلم ، يجب عليه أن يتقيد به ويعمل به لقوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ "   



الخطبة الثانية :قال عز وجل "وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا " ، قال أهل التفسير : ( ولا تقتلوا أنفسكم )  أي : لا يقتل بعضكم بعضا ، ولا يقتل الإنسان نفسه . ويدخل في ذلك ، الإلقاء بالنفس إلى التهلكة ، وفعل الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك . " إن الله كان بكم رحيما "  ومن رحمته ، أن صان نفوسكم وأموالكم ، ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها ، ورتب على ذلك ، ما رتبه من الحدود " 

جماعة المسلمين : إن احترام الأنظمة التي سنتها الدولة لتنظيم السير والمرور في الدولة واجب شرعي على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر ، وإن مخالفتك أخي المسلم لهذه الأنظمة يوجب عليك عقوبتان ، عقوبة دنيوية تتثمثل في الغرامات المالية أو ما شابهها من العقوبات ، وعقوبة أخروية وهي حصولك على الإثم والسيئات. 

جماعة المسلمين : نداء للشباب خاصة ، اتقوا الله في أنفسكم ، اتقوا الله في آبائكم ، اتقوا الله في إخوانكم من المسلمين . لا تهلكوا أنفسكم وتهلكوا الغير بالتهور في القيادة ، فإن ذلك ليس من صفات المؤمنين . قال صلى الله عليه وسلم ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده )  
 وإذا حصل لك حادث بسبب مخالفة أنظمة المرور فلا تخلوا من أحوال ، إما أن تصاب بإصابات خطيرة من كسور ورضوض وغيرها ربما جعلتك مقعدا لا تستطيع الحركة فخسرك أهلك ومجتمعك وخسرت نفسك لأنك أصبحت عالة على الناس ، وإما أن تقتل نفسك فتفجع والديك وتصيبهما بالحسرة والندامة ، وربما كتبت من المنتحرين ، لأنك قتلت نفسك بسرعتك الطائشة  ، وإما أن تصيب أو تقتل غيرك فتحمل نفسك العقوبة في الدارين من حبس ودية مسلمة لأهل الميت ثم كفارة ذلك صيام شهرين متتابعين ، وقد كنت السبب في حرمان عائلة من الأب الذي كان يعولها أو حرمت والدين من ابنهما الذي كانا ينتظرانه  .  

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ حِفْظَ الأَبْدَانِ وَالأَرْوَاحِ، وَقَدْ نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنِ الضَّرَرِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ فَقَالَ:« لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ». وَنَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ تَرْوِيعِ النَّاسِ وَإِخَافَتِهِمْ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَقَالَ :« لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا" 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الاِلْتِزَامَ بِقَوَانِينِ السَّيْرِ يُعَبِّرُ عَنْ رُقِيِّ ثَقَافَةِ السَّائِقِ، وَمَدَى احْتِرَامِهِ لِلنُّظُمِ وَالْقَوانِينِ، الَّتِي وُضِعَتْ لأَجْلِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَنَفْعِ الْعِبَادِ وَالْبِلاَدِ، وَحِفْظِ الأَنْفُسِ وَالأَرْوَاحِ، وَصِيَانَةِ الْمُنْشَآتِ وَالْمُمْتَلَكَاتِ، فَلْنَتَعَاوَنْ لِتَحْقِيقِ السَّلاَمَةِ الْمُرُورِيَّةِ مُمْتَثِلِينَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى)

الخميس، 5 مارس 2015

خطبة الجمعة : من وصايا لقمان لابنه

الخطبة الأولى : 
اعلموا رحمني الله وإياكم ، أن الوعظ حقيقة هو تذكير النفس بأوامر الله وحثها على سلوكها ، وبنواهي الله وحثها على تجنبها وتركها  ، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي الذي تعلق بشهوات الدنيا الزائلة ، فآثرها على الحظ الباقي النفيس، ودواء هذا القلب كما يقول ابن القيم – رحمه الله – " إذا غذي القلب بالتذكر وسقي بالتفكر ونقي من الدغل رأى العجائب وألهم الحكمة " 

ومن خير ما يستعان به على ذلك ، التأمل في ما حكاه الله لنا في كتابه العزيز من قصص الماضين وأحوالهم ، وكلام الصالحين وأخبارهم ومواعظهم . 

ومما ذكره الله عز وجل في كتابه العزيز ، موعظة لقمان الحكيم لابنه ، فهذه موعظة عظيمة، الواجب على المسلم أن يتفكر فيها، وأن يربي نفسه وأولاده على سلوك منهجها  ، فتعالوا نقف وقفات مع هذه الموعظة الجليلة .

قال تعالى "{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، فبدأ موعظته بأعظم وصية ، وبأعظم نهي ، وهي وصية متعلقة بحق الله على العباد ، فقال " لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " قال السعدي رحمه الله " ووجه كونه عظيما أنه لا أفظع وأبشع ممن سوى المخلوق بمالك الرقاب وسوى الذي لا يملك من الأمر شيئا بمن له الملك كله ... وهل أعظم ظلما ممن خلقه الله لعبادته فذهب بنفسه الشريفة فجعلها في أخس المراتب  " أ.هـ

ولأجل ذلك كانت الوصية بحق الله تعالى من أعظم الوصايا، عن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ .فَقَالَ يَا مُعَاذُ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ ؟  قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ قَالَ لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا

جماعة المسلمين : إن الشرك بالله أكبر الذنوب على الإطلاق ، قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ  " ، وهو الذنب الذي لا يغفره الله أبدا قال تعالى " {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } ، وكل الأنبياء والرسل من لدن نوح عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جاءوا للأمر بتوحيد الله والتحذير من الشرك وعاقبته الوخيمة قال تعالى " {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، ومن أشرك بالله فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين قال تعالى" {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، فهذا الخطاب موجه لنبي الأمة صلى الله عليه وسلم المعصوم من الشرك بأنه إن أشرك بالله فعمله حابط وهو خاسر ، فمن دونه من باب أولى . 

ولخطر الشرك استعاذ منه إمام الموحدين وأبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام فقال " {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} ، قال إبراهيم التيمي رحمه الله " فمن يأمن البلاء بعد إبراهيم "  ، وخافه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، روى البخاري في الأدب المفرد عن مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ قال: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟» قَالَ: " قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ "

وهذا المنهج في تعليم العقيدة للصغار منهج تربوي أصيل، وذلك بغرس الإيمانِ الصحيح باللهِ تعالَى فِي نفْسِ الأولاد، لتقوى صلة الابن بربِّهِ عزَّ وجلَّ، فيُحْسِنَ أداءَ حقوقِ اللهِ وحقوقِ عبادِهِ.

أما الوصية الثانية من لقمان لابنه قال تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} فهذه وصية من الله لنا سنسأل عنها يوم القيامة وهي من لوازم التوحيد وهي البر بالوالدين ، قال تعالى " {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} ، فمن عظم حق الوالدين على الولد قرن الله حقهما بحقه ، فأمر بالإحسان إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي لأنهما سبب وجود العبد . 
وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله وقتال الكفار ، روى البخاري في صحيحه عن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ  " 

وأما عقوق الوالدين فمن أكبر الكبائر بعد الشرك ، فكما قرن الله بين حقه وبين حق الوالدين قرن بين من اعتدى على حقه وعلى حق الوالدين قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ  " رواه البخاري  . 

ثم قال لقمان لابنه مؤكدا على حق الله وهو توحيده وعدم الإشراك به {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، فعلى الرغم من الحق العظيم الذي جعله الله للوالدين ، إلا أنهما إذا أمرا الولد بأن يشرك بالله فلا سمع ولا طاعة ، فليس ذلك من عقوقهما لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق  .

ومن وصاياه " وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ  " وهم المؤمنون بالله المستسلمون لربهم المنيبون إليه ، واتباع سبيلهم بأن يسلك مسلكهم في الإنابة إلى الله التي هي انجذاب دواعي القلب وإرادته إلى الله ، ثم يتبعها سعي البدن فيما يرضي الله ويقرب منه  .  

ثم يقرر لقمان لابنه مقدرة الله على خلقه وانه على كل شيء قدير ، ليستشعر عظمة الله في قلبه ، ومن ثم يدين له بالتوحيد الخالص فقال " {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} ، ففي الآية بيان لعظيم قدرة الله ، والمقصود أن أي مظلمة أو خطيئة ولو كانت مثقال حبة خردل فإن الله على الإتيان بها لقدير ، ليوم القيامة ليجازى عليها العبد إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، قال تعالى {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 

ومَنْ أيقنَ أنَّ اللهَ عز وجل محيطٌ بكلِّ شيءٍ علمًا؛ سعَى فِي نَيْلِ محبَّتِهِ ورضاهُ، وأحسنَ فِي عملِهِ، وراقبَهُ فِي تعامُلِهِ معَ الخلْقِ، ونفعَ ولَمْ يضرَّ، وأفادَ ولَمْ يُسِئْ


الخطبة الثانية : قال لقمان لابنه واعضا إياه " {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ، أقم الصلاة أي بحدودها وفرضها وشروطها وفي أوقاتها ، بلا تفريط ولا نقصان  ، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، بحسب استطاعتك وقدرتك ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لخيرية هذه الأمة من بين الأمم قال تعالى " {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ  " ولكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون إلا بالعلم الشرعي ،  وإلا فمن الممكن أن يأمر بما يظنه معروفا فيكون باطلا ومنكر،ا وينهى عن المنكر وهو معروف وصواب ، أو يذهب يغير المنكر بمنكر أكبر منه ، فلا بد لمن تصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون على بصيرة من دينه متعلما لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مقتفيا أثر الصحابة والتابعين في سلوكهم لمنهج ربهم

ثم أوصى لقمان ابنه بالصبر  لأن الداعي إلى الله الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يلاقي من أذى الناس ما قد يصده عن عمله ، فأوصاه بالصبر  قال صلى الله عليه وسلم "  وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ 
فهذه وصايا من لقمان لابنه فيما يتعلق بينه وبين الله في نفسه وعبادته ، ثم أنهى وصاياه بحضه على محاسن الأخلاق فقال " {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} 

فأمره بالإحسان إلى الغير ، بان لا يتكبر على الناس ، ولا يمشي بينهم مستعليا عليهم فخرا بالنعم ناسيا حق المنعم عليه بالشكر ، بل عليه أن يتواضع في مشيته مستكينا غير متجبر ، وأن يخفض من صوته إذا ما حدث الناس وكلمهم فهذا من أبلغ الأدب وأحسنه . 

جماعة المسلمين : وصايا نافعة ، عظيمة لمن تدبرها ووعاها بقلبه قال تعالى " {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}