الجمعة، 29 مايو 2015

خطبة جمعة :عقيدة المؤمن في أمهات المؤمنين وواجبه تجاههن

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: قال الله عز وجل في محكم التنزيل : "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ" يخبر تعالى المؤمنين خبرًا يعرفون به حالة الرسول صلى الله عليه وسلم ومرتبته، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة فقال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فالله قَدْ عَلِمَ شَفَقَةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ ونصحَه لَهُمْ، فَجَعَلَهُ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَحَكمَهُ فِيهِمْ مُقَدّمًا عَلَى اخْتِيَارِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ فقال :" فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" ، فرسول الله أعظم الخلق مِنَّةً على الناس من كل أحد، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر إلا على يديه وبسببه، ولأجل ذلك كانت محبته صلى الله عليه وسلم مقدمة على محبة كل أحد، قال صلى الله عليه وسلم : لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " 

فلذلك، وجب على المؤمنين إذا تعارض مراد النفس أو مراد أحد من الناس مع مراد الرسول، أن يقدم مراد الرسول وأن لا يعارض قول الرسول بقول أحد كائنًا من كان، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، ويقدموا محبته على الخلق كلهم، وألا يقولوا حتى يقول، ولا يتقدموا بين يديه.

جماعة المسلمين : ومن تعظيم المؤمن للرسول صلى الله عليه وسلم تعظيمه لزوجاته، لذلك قال سبحانه " وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ" فاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَكْرَمَ النِّسَاءِ, وَأَعْلاَهُنَّ قَدْرًا, وَأَجَلَّهُنَّ شَأْنًا، وَأَرْفَعَهُنَّ مَنْزِلَةً، فَجَعَلَهُنَّ أُمَّهَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَهُنَّ خصائص لَيْسَتْ لِغَيْرِهِنَّ فِي الْفَضْلِ وَالْمَقَامِ؛ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ" 

وفي قوله تعالى " وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ" تشريف لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وتكريم للمؤمنين بأن جعل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لهم، ومتى قوي اسستشعار المؤمن لأمومة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم له قوي إقباله على القيام بحقوقهن وزاد اهتمامه بما لهن من واجبات، مع دفاعه عنهن. 

ومعنى كون زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين أي في الاحترام والإكرام والتوقير، وتقتضي كذلك تحريمهن على المؤمنين فلا يجوز نكاحهن كما قال تعالى "وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا"  وهي أمومة دينية لا تقتضي التوارث، ولذلك لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بنتاتهن وأخواتهن، بل يعاملن في هذا الجانب معاملة الأجنبية فأمرهن الله بالحجاب، قال تعالى " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا" وأمر الصحابة أن لا يسألوهن إلا من وراء حجاب فقال :"وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ" والإنسان لا يسأل أمه الحقيقية من وراء حجاب ولا تحتجب عنه.

وإذا تقرر أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أب لهم، والمقصود بالأبوة الأبوة الدينية التي تقتضي تربيتهم وإرشادهم لما فيه خيرهم، وعلى المؤمنين طاعته في ذلك، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :"قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ يَسْتَدْبِرْهَا وَلاَ يَسْتَطِبْ بِيَمِينِهِ » 

 وجاء في قراءة شاذة تقرير ذلك أيضا فقد أخرج الحاكم عن ابن عباس أنه كان يقرأ هذه الآية:" النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم" 

ولا يعارض ذلك قول الله تعالى "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ" فالمنفي في الآية أبوة النسب، والمثبت هو الأبوة الدينية التي تفوق أبوة النسب وتعلوها قدرا وشأنا ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:" لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" 

جماعة المسلمين : ولزوجات النبي صلى الله عليه وسلم خصائص تميزن بها فمع كونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله وصفهن بأنهن لسن كأحد من النساء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الصلاة عليهن في الصلاة قبل السلام، وأنهن من اللذين يؤتون أجرهم مرتين كما قال تعالى "وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا" 

وهذه الأحكام المتعلقة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم لا تشمل من طلقهن ولم يدخل بهن كالتي دخل عليها فاستعاذت بالله منه ففارقها.

جماعة المسلمين : فإذا علمنا تلكم المنزلة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم فما هو الواجب علينا تجاههن ؟

روى مسلم عن زيد بن أرقم قول النبي صلى الله عليه وسلم:" أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى ». فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ قَالَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ .." فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يوصي الأمة بآل بيته خيرا، ومن أخص الناس بآل البيت زوجاته رضي الله عنهم، ولأجل ذلك كان صلى الله عليه وسلم يدعو لهن ويصلي عليهن وحث أمته على ذلك،فعن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِى: أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّى عَلَيْكَ قَالَ « قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ».

فيجب علينا محبتهن ومعرفة فضلهن والترضي عليهن، وسلامة الصدر تجاههن من الغل والحقد، قال الإمام أبو عثمان الصابوني في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة " وكذلك يرون تعظيم قدر أزواجه رضي الله عنهن والدعاء لهن ومعرفة فضلهن والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين" 

كما يجب علينا إحسان القول لهن وسلامة اللسان تجاههن قال الطحاوي في عقيدته المشهورة :" ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذريته المقدسين من رجس فقد برئ من النفاق " 

كما يجب علينا الدفاع عنهن وعن أعراضهن والذب عنهم والرد على كل من ينتقص من قدرهن، مع دراسة سيرتهن ومعرفة أخبارهن وآدابهن فإنهن أعظم النساء قدرا، وأشرفهن فضلا، فهن القدوة لبناتنا وجميع نسائنا.


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين لقد كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ زَوْجَات النبي صلى الله عليه وسلم مَنَاقِبُ جَلِيلَةٌ، وَمَآثِرُ كَرِيمَةٌ، فَمِنْهُنَّ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، أَوَّلُ النَّاسِ إِسْلاَمًا، فَعِنْدَمَا جَاءَ الْوَحْيُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ رَجَعَ فَدَخَلَ عَلَيها وَأَخْبَرَهَا صلى الله عليه وسلم الْخَبَرَ، فَصَدَّقَتْهُ وَآمَنَتْ بِهِ، وَقَالَتْ: كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَداً... ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ حَتَّى أَتَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى. فَكَانَتْ لَهُ خَيْرَ سَنَدٍ وَمُعِينٍ، تُؤَازِرُهُ وَتُنَاصِرُهُ، وَقَدْ شَهِدَتْ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم مَوَاقِفَ شَدِيدَةً، فَثَبَتَتْ وَصَبَرَتْ، وَكَانَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قُدْوَةً رَائِعَةً لِلزَّوْجَةِ الْوَفِيَّةِ، الَّتِي تَقِفُ مَعَ زَوْجِهَا فِي شَدَائِدِهِ، وَتُقَوِّي عَزِيمَتَهُ فِي مُوَاجَهَةِ الصُّعُوبَاتِ وَالْمُلِمَّاتِ، وَسِيرَتُهَا الْعَطِرَةُ أُنْمُوذَجٌ فَرِيدٌ رَاقٍ لِلزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ، الَّتِي تُحَافِظُ عَلَى اسْتِقْرَارِ بَيْتِهَا، وَتَبْذُلُ كُلَّ وُسْعِهَا لإِسْعَادِ أُسْرَتِهَا، وَكَافَأَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَبَشَّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ- أَيْ لُؤْلُؤٍ- لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ، وَأَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمَ أَنْ يُقْرِئَهَا السَّلاَمَ مِنْهُ. 

قال ابن القيّم رحمه الله: "وَهَذِه لعمر الله خَاصَّة لم تكن لسواها" اهـ .. وقال بعض أهل العلم: "إنما بشَّرها ببيتٍ في الجنة، لأنها لم ترفَع صوتَها على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولم تُتعِبه يومًا من الدهر، فلم تصخَب عليه يومًا، ولا آذته أبدًا.." 

وَكَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَفِيًّا لَهَا فِي حَيَاتِهَا وَبَعْدَ مَوْتِهَا، يَذْكُرُهَا وَيُثْنِي عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ:« قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلاَدَ النِّسَاءِ».

وَعَلَى مِثْلِ هَذَا فَلْيَكُنِ الْبَيْتُ الْمُسْلِمُ تَضْحِيَةً وَوَفَاءً، وَبَذَلاً وَعَطَاءً، فَتَعِيشَ الأُسْرَةُ فِي سَعَادَةٍ وَاسْتِقْرَارٍ، وَرَاحَةٍ وَاطْمِئْنَانٍ. 

عباد الله: وَلَئِنْ سَأَلْنَا عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَهِيَ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، اخْتَارَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:« أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، جَاءَنِي بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ -أَيْ قِطْعَةٍ- مِنْ حَرِيرٍ فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ. فَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِكِ، فَإِذَا أَنْتِ هِيَ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ». وَكَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى قَلْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ:«عَائِشَةُ». 

وَأَثْنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُبَيِّنًا مَكَانَتَهَا السَّامِيَةَ، وَدَرَجَتَهَا الْعَالِيَةَ؛ فقَالَ:« فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ». وَدَعَا لَهَا صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:« اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهَا وَمَا تَأَخَّرَ، مَا أَسَرَّتْ وَمَا أَعْلَنَتْ». 

وَكَانَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا صَوَّامَةً قَوَّامَةً، عَابِدَةً زَاهِدَةً، كَرِيمَةً سَخِيَّةً، وَمِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ وَأَفْقَهِهِمْ، فَهِيَ مَرْجِعٌ لأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَعْصَى عَلَيْهِمْ أَمْرٌ، قَالَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ: مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا.

وَقَدْ وَهَبَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الذَّكَاءَ وَالْفِطْنَةَ، وَقَدْ جَمَعَتِ الْكَثِيرَ مِنْ أَحْادِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قُدْوَةً لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ أَنْ يَجْتَهِدُوا وَيَتَحَرَّوْا الْمَصَادِرَ الصَّحِيحَةَ وَالأَفْهَامَ النَّقِيَّةَ، كَمَا أَنَّهَا أُسْوَةٌ لِلْمَرْأَةِ الْمُتَفَقِّهَةِ فِي دِينِهَا، الْوَاعِيَةِ لِمُتَطَلِّبَاتِ عَصْرِهَا، تَنْفَعُ نَفْسَهَا وَأُسْرَتَهَا وَمُجْتَمَعَهَا عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ. فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَنْ أَبِيهَا.

عِبَادَ اللَّهِ: وَمِنْ زَوْجَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاحِبَةُ الرَّأْيِ الرَّشِيدِ السَّيِّدَةُ أُمُّ سَلَمَةَ هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، عُرِفَتْ بِحِكْمَتِهَا، وَسَدَادِ رَأْيِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّحَلُّلِ مِنَ الْعُمْرَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَخَافُوا أَنْ يَضِيعَ أَجْرُهُمْ وَيَنْقُصَ ثَوَابُهُمْ، فَامْتَنَعُوا عَنِ التَّحَلُّلِ مِنَ الإِحْرَامِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ: نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ وَتَحَلَّلَ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا. فَأَنْعِمْ بِالْعَقْلِ مِنْ نِعْمَةٍ، وَهَلْ تُسَاسُ الأُمُورُ إِلاَّ بِالْحِكْمَةِ؟ فَحَرِيٌّ بِالْمَرْءِ أَنْ يَجْعَلَ العِلْمَ قَائِدَهُ، وَالعَقْلَ رَائِدَهُ، وَالْحِكْمَةَ مَطْلَبَهُ، فَيَسْعَدَ وَيَهْنَأَ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا). وَقَدْ أُوتِيَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أُمُّ سَلَمَةَ مِنَ الْحِكْمَةِ حَظًّا وَافِرًا؛ فَاللَّهُمَّ ارْضَ عَنْهَا وَعَنْ سَائِرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الأَطْهَارِ الأَبْرَارِ، وَعَنْ آلِ بَيْتِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، وَارْزُقْنَا حُبَّهُمْ وَبِرَّهُمْ وَمَوَدَّتِهِمْ

الاثنين، 25 مايو 2015

هل الدعوة للعفاف والستر تطرف ؟

بسم الله الرحمن الرحيم الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد : 

جاءت شريعة الإسلام بكل فضيلة وحشمة، تحفظ من خلالها للمجتمع والأفراد سترهم وعوراتهم، ليعيشوا مطمئنين على أعراضهم وأنفسهم، بعيدين عن كل فاحشة وجريمة تمس حياتهم الخاصة وأقرب الناس إليهم.

فمن الضرورات التي جاءت الشريعة بحفظها ضرورة العرض والنسل، لأنها أساس وجود الأفراد والمجتمعات، ولذلك اهتم الإسلام والشرائع من قبله بحفظها  وصيانتها ومنع كل ما من شأنه أن يسيء إليها.

ومن جملة هذه الأحكام أحكام العلاقة بين الرجل والمرأة، بسبب الفطرة التي وجدت فيهما من ميل كل واحد منهما للآخر، فجاءت تشريعات الدين بأفضل الأحكام التي تحفظ لكل منهما مكانته وحقه.

فشرع الإسلام الزواج، وجعله الوسيلة الوحيدة لتحقيق الميل الفطري بينهما، وحرم بالمقابل أي علاقة يمكن أن تنشأ بينهما دون رابط شرعي، ورتب عليها عقوبة حدية ما بين الجلد أوالرجم أو القتل.

كما شرع الإسلام من الأحكام ما يضمن سلامة المجتمع من الوقوع في الجريمة التي تمس العرض والشرف، أو التي من شأنها أن تمس حقوق المرأة وكرامتها، فمنع الخلوة بمن لا تحل، وأمر بغض البصر، وأمر النساء بالحجاب .

فكانت شريعة الإسلام مغايرة ومتميزة عن غيرها من الملل في تعاملها مع العلاقة بين الرجل والمرأة.

وقد نشأ مجتمعنا الإماراتي المسلم وفق هذه التعاليم الشرعية، فاستقى عاداته وتقاليده منها، فلا نكاد نرى امرأة فيما مضى إلا وهي بلباسها الشرعي الذي يغطي جسدها، ونجد أن من أولويات الأسرة تزويج الشاب والشابة إذا ما وصلا إلى سن الزواج.

ومن هذه المنطلقات والأسس انطلقت توجيهات دولتنا الحبيبة لتحث الشباب على الزواج والعمل على تيسيره لهم، فأنشأت صندوق الزواج، ووضعت بعض الأنظمة التي تحث على الاحشام في المظهر، ووضعت القوانين التي تحمي أعراض الناس من أن يمسها ما يسيء إليها، بل تدرس العفة والحشمة والفضيلة ضمن مناهجنا الدراسية ليتأسس الأبناء على هذه القيم الحميدة. 

ولكن للأسف نجد بين الحين والآخر من يدعو لأفكار تخالف ما عليه ديننا وتقاليدنا وقوانيننا، تحت مظلة مواكبة التطور والانفتاح الذي يشهده العالم، من دون مراعاة لأطرنا الدينية والثقافية، ومن دون تمحيص موضوعي متزن يهدف إلى انتقاء الإيجابيات وترك السلبيات من تجارب الأمم والشعوب.

ويعظم الخطب وتكبر المصيبة أن يصدر مثل ذلك ممن تربى على أرض هذا الوطن، وتعلم حتى حصل أعلى الشهادات العلمية وصار حرف الدال يتقدم اسمه.

فتراه ينادي بالفكر التحرري الذي يصادم الأحكام الشرعية المتعلقة بالحشمة والعفة والفضيلة، دون أن يراعي أسس هذا المجتمع ودينه وعاداته وتقاليده.


 ولنا مع هذا الفكر المستورد ملاحظات : 

أولا : ما هو معنى التحرر الذي تنادي به هذه الطائفة من الناس ؟ 
إن التحرر أنواع، منه ما هو إيجابي ومحمود، وقد سبق إليه شرعنا الحنيف، ونادى به رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، كتحرير المرأة من الجهل إلى العلم، ومن الظلم وهضم الحقوق إلى العدل والإنصاف، ومن الازدراء والتحقير إلى الرفعة والتقدير، حتى أصبح للمرأة في الإسلام شأن عظيم، وقدر رفيع، فصارت شريكة الرجل في بناء المجتمع والرقي به، ومساوية له في كل شيء إلا فيما خصه الدليل مراعاة لمقتضى المصلحة والذي هو من تمام العدل والإنصاف، ومن التحرر ما هو سلبي يرفضه الشرع والعقل، ولا يتضمن أدنى مصلحة، بل فيه من المفاسد أضعاف أضعاف .

ولكن البعض يريد نوعا معينا من التحرير، إنه تحرر المرأة من الحجاب الشرعي، ومشابهتها للأوروبيات في طريقة حياتهن بصورة مطلقة لا تتناسب مع ديننا وأعرافنا، وتحررها من أحكام الشرع في ذلك، وهم في ذلك إنما يتبعون أسلافهم من أرباب الفكر التحرري كقاسم أمين ومن نحا نحوه.

 وقد بين قاسم أمين في كتابه "تحرر المرأة" وكتاب " المرأة الجديدة " ، الصورة التي يريدها دعاة التحرير للمرأة المسلمة.

لنتأمل هذه النقاط : 

 1 – يريد أن يصل بالمرأة المسلمة عموما والمصرية خصوصا للحرية التي وصلت لها المرأة الغربية، وأن تتحرر من أحكام الشرع .

يقول مادحا المرأة الغربية في كتابه المرأة الجديدة ص 68 : " بلغ من أمر احترام الرجل الغربي لحرية المرأة أن بنات في سن العشرين يتركن عائلاتهن ويسافرن من أمريكا إلى أبعد مكان في الأرض وحدهن ..ويقضين الشهور والأعوام متغيبات في السياحة ....
كان من حرية المرأة الغربية أن يكون لها أصحاب غير الزوج ... والرجل في كل ذلك يرى أن زوجته لها الحق في أن تميل إلى ما يوافق ذوقها وإحساسها وأن تعيش بالطريقة التي تراها مستحسنة في نظرها .."  

هل هذا هو التحرر الذي يحب أن يفخر به  دعاة التحرر في بلادنا ؟  

هل يريدون لبنات بلدنا أن يصلوا لهذه الدرجة من الانحطاط الأخلاقي، لأجل أن نحقق التحرر الذي يدعى أنه يقود للتطور. 

لقد تطور المسلمون، وبنوا حضارة رائدة امتدت لأكثر من ثمانية قرون مع محافظتهم على أحكام شرعهم، فلم يتنازلوا عنها ، بل افتخروا بها .
واستمدوا منها روح البحث العلمي والتجديد الفكري والريادة الحضارية التي جمعوا فيها بين الأصالة والمعاصرة، جمعوا فيها بين الميراث النبوي الشريف والانطلاق في آفاق التطور العصري في مختلف المجالات، فكان تمسكهم حق التمسك بدينهم وقيمهم ومبادئهم هو رائدهم نحو التطور والازدهار؛ لأن دينهم دين إيمان وعلم وتفكر، يحثهم على تسخير نعم الله في كونه في مصلحة الإنسان وخدمته. 

2 – تهجم قاسم أمين في كتبه على الحجاب الشرعي وتمنيه لو أن يستطيع تمزيقه لأجل أن تتحرر المرأة من عبوديتها .

3- يرى أن الحجاب عادة وليس عبادة .

وقد رد عليه كثير من العلماء والمثقفين، وبينوا خطورة فكره على نساء المسلمين والمجتمع المسلم. 

  ثانيا : للأسف الشديد نجد من أرباب هذا الفكر التحرري من يصف دعاة الحشمة والعفاف والستر بأنهم أصحاب فكر داعشي، يعيشون في القرون الوسطى !!!

أقول : 

إن الدعوة إلى الستر والاحتشام والعفة لم تكن يوما أغلالا داعشية كما يدعون، ولم تعق التقدم، ولم تكن فكرا متطرفا يهدد السلم والاستقرار، بل حكم شرعي اتفقت عليه كلمة العلماء، وإن اختلفوا في جزئيات منه.

الدعوة إلى الحجاب وإلى الستر والعفة هي نص قول الله تعالى : يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما "   

الدعوة إلى التحرر والعري الذي دعا إليه قاسم أمين في كتبه هو الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منه إذ قال :صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا ...وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا" رواه مسلم .
والمعنى : أي: لا يدخلنها ابتداءً؛ لأنهن بسبب هذا الجرم تحت المشيئة: إن شاء الله عذبهن ثم أدخلهن الجنة، وإن شاء غفر لهن، لا أنهن لا يدخلن الجنة أبدا .
 
فهل يسوغ لمنصف أن يعتبر هذه الأحكام الشريفة التي جاءت لتصون المرأة وتحفظ كرامتها أغلالا وتطرفا أو أنها من مخلفات العصور الوسطى ؟

ثالثا :وعندما ننظر في التاريخ فإننا نجد أن قاسم أمين حينما دعا إلى تحرير المرأة لقيت كتاباته صدى مدويا - كما يقول الزركلي في ترجمته في كتاب (الأعلام) (5/ 184) – " وقوبلت بالرفض القاطع، وانبرى كثير من العلماء والمثقفين للرد عليه، وأُلِّف في ذلك عشرات الكتب المطبوعة.

وممن رد على قاسم أمين على سبيل المثال : محمد فريد وجدي (ت: 1373هـ)، والذي ترجم له الزركلي في كتاب (الأعلام) (6/ 329) فقال: " مؤلف (دائرة المعارف)، من الكُتَّاب الفضلاء الباحثين .. تولى تحرير مجلة (الأزهر) نيفا وعشر سنين " ، وذكر من ضمن تصانيفه : " كتاب (المرأة المسلمة) في الرد على (المرأة الجديدة) لقاسم أمين ".

إلى عشرات الكتب الأخرى في هذا الصدد.

بل إن قاسم أمين نفسه صاحب دعوة تحرير المرأة أبدى ندمه على توقيت دعوته، وأقر بوجود مفاسد كبيرة من ورائها.
حيث قال في تصريح له في  صحيفة (الظاهر) في 17 أكتوبر 1906 بالعبارة الصريحة: "لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في تحرير نسائهم، وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق الحجاب، وإشراك المرأة في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم، ولكن أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس، فلقد تتبعت خطوات النساء من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال وأخلاقهن بكل أسف ما جعلني أحمد الله أنه خذل دعوتي، واستنفر الناس إلى معارضتي .. رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا عليها بألسنة البذاءة، وما وجدت زحامًا فمرت به امرأة إلا تعرضوا لها بالأيدي والألسن".

فانظر كيف أقر قاسم أمين نفسه بخطورة دعوته، وما تضمنته من المفاسد الكبيرة على المرأة، والتي جعلته يحمد الله تعالى على خذلان الله له في هذه الدعوة الخطيرة.

وتأمل قوله: "واستنفر الناس إلى معارضتي"؛ تجد فيه أوضح بيان وأعمق دلالة على الرفض الكبير الذي قوبل به تجاه دعوته إلى تحرير المرأة. 

فمن الذي تلقى كتب قاسم أمين التحررية بالفخر ؟ 
إنهم المخدوعون ودعاة التحرير المنفلت فقط، بل ترجمتها دول الغرب لأنها تحقق أهدافهم الرامية إلى غزو المسلمين في فكرهم ودينهم.

وأما علماء المسلمين وكثير من المثقفين ورجال المجتمع ونسائه، والمجامع الفقهية والمؤسسات الدينية ودور الإفتاء في الدول الإسلامية والمفتون على اختلاف اتجاهاتهم فقد وقفوا وقفة واحدة حازمة تجاه مضمون هذه الكتب الذي حاد فيه صاحبها عن جادة الصواب وخرق به الأجماع.

ونورد في هذا الخصوص فتوى الدار المصرية للإفتاء برقم (4492)، والتي هي بعنوان (الرد على من أنكر فرضية الحجاب)، والتي نصت على فرضية الحجاب، وصرحت بأن ذلك مقطوع به، ومجمع عليه، ومعلوم من الدين بالضرورة، وأن ما يخالفه قول منحرف لم يُسبق إليه صاحبه.
ومما جاء في الفتوى المذكورة:
- "من المقرر شرعا بإجماع الأولين والآخرين من علماء الأمة الإسلامية ومجتهديها وأئمتها وفقهائها ومحدِّثيها: أن حجاب المرأة المسلمة فرض على كل من بلغت سن التكليف".
- "وقد بلغ من أهمية حجاب المسلمة أن ارتبط في الشريعة ارتباطا وثيقا بالصلاة، بحيث إنها لا تقبل بدونه، أي إنه فرض ديني إسلامي".
- "وأما الإجماع فقد أجمعت الأمة الإسلامية سلفا وخلفا على وجوب الحجاب، وهذا من المعلوم م الدين بالضرورة".
- "وجوب ستر المرأة جسدها ما عدا وجهها وكفيها وقدميها وبعض ذراعيها هو من الأحكام الشرعية القطعية التي أجمع عليها المسلمون عبر العصور على اختلاف مذاهبهم الفقهية ومشاربهم الكفرية، ولم يشذ عن ذلك أحد من علماء المسلمين سلفا ولا خلفا، والقول بجواز إظهار شيء غير ذلك من جسدها لغير ضرورة أو حاجة تنزَّل منزلتها هو كلام مخالف لما عُلم بالضرورة من دين المسلمين، وهو قول مبتدَع منحرف لم يُسبق صاحبه إليه، ولا يجوز نسبة هذا القول الباطل للإسلام بحال من الأحوال".
- "إن موقف الشريعة الإسلامية بمصادر تشريعها كافة من فرضية الحجاب منذ فرضه الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه المسلمون سلفا وخلفا منذ عصر النبوة وحتى عصرنا الحاضر هو موقع واضح قاطع حاسم لم يجر فيه الخلاف قط بين علماء المسلمين، ولم ينقل بنفيه أحد من المسلمين على مر العصور وتتابع الأجيال، ولا هو في أصله مما هو قابل لأن يجري فيه الخلاف، ولا هو مما يتغير بتغير الأعراف والعوائد والبلدان، فلم يكن أبدا من قبيل العادات، بل هو من صميم الدين وتكاليف الشريعة التي حملها الله الإنسان دون سائر الكانئات، وهو سائله عنها يوم القيامة".
هذا ما بعض ما تضمنته هذه الفتوى من إثبات فرضية الحجاب، والتأكيد الشديد على ذلك، وبيان الأدلة القاطعة عليه من الكتاب والسنة والإجماع.
ويمكن الاطلاع على نص الفتوى كاملا من خلال الرابط الآتي:


وقد توالت تعليقات كثيرة مستنكرة من مختلف الفئات والشرائح في الصحف والمجلات وغيرها إبان ظهور دعوة قاسم أمين، منها ما يتعلق بلغة الخطاب الديني، ومنها ما يتعلق بلغة الأدب والثقافة، وكلها تدعو إلى التمسك بالهوية، ورفض التقليد الأعمى للمرأة الأوروبية.

 ومن ذلك على سبيل المثال ما نشرته مجلة الزهور المصرية منذ أكثر من قرن من الزمان في أكتوبر سنة 1910م من تعليق لإحدى الأديبات تقول فيها: "إن الذي فهمه نساء اليوم من التقدم العصري هو الموضة في مشابهة الغربيات ملبسا وسلوكا، فالفتاة لا تقنع بحياة والدها المتواضع بل تطالبه بما فوق قدرته .. نفختها روح الكبرياء، فظنت نفسها أرفع قدرا من والديها، فجاءت إليهم متحكمة آمرة,، فإذا لم يتمُّوا رغابئها خشنت أخلاقها، وأوقعت الاضطراب بالمنزل، غاضبة على هذا، ومستهزئة بتلك، فإذا رزقت بمولود رمت به إلى المراضع منصرفة إلى زينتها ولهوها .. نحن لم نتشبه بالغربية إلا في مادة الموضة وحدها، لماذا لا نأخذ عنها نشاطها وجدها، وتعلقها بلغتها؟ هل رأينا فتاة أوربية أتقنت لغة أجنبية قبل لغتها؟ أما نحن الشرقيات فنرى أن لغة الأجنبي دليل التقدم، والغربية بذلك تستخف بنا وتسخر".


إخواني الأفاضل

علينا أن لا نتلقى هذه الأفكار التي يبثها أرباب التحرر لأنهم قد أخذوها عن غير المسلمين، فاعموا بصيرتهم، وزخرفوا الباطل في أعينهم، وصوروها فكرا متطورا، وحرية من قيود موهومة . 

نعم ! لقد نجح الغرب في تحرير المرأة، ولكن في صورة متناقضة جدا ترفضها الفطرة السليمة، إذ يقف رجل وامرأة بجانب بعضهما ، أما الرجل فلا يظهر منه إلا الرأس واليد، لأنه يرتدي (البدلة ) التي تغطيه من كتفيه إلى قدمية، وأما المرأة فتظهر عارية بلباس يغطي ما عظم وفحش من العورة.

هذا الذي يريده دعاة التحرر ؟

ومما يزيد الأمر استغرابا أن الذي ينادي بالتحرر أغلبهم من الرجال، لتعرفوا الهدف من دعواهم وهو تحقيق شهواتهم .

وكما قال القائل العاقل : هم لا يريدون حرية المرأة، بل يريدون حرية الوصول للمرأة . 

وأختم مقالي بقول الله تبارك وتعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

ودمتم بخير .

الجمعة، 22 مايو 2015

خطبة جمعة : فوائد من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس

الخطبة الأولى : اعلموا رحمكم الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خصه الله بجملة من الخصائص التي تميز بها دون غيره لمكانته وعلة شأنه، ومن ذلك أنه أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا، فاللَّهَ يَجْمَعُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْأَمْرَيْنِ من كلامه صلى الله عليه وسلم فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ"

ومن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم ووصاياه العظيمة ما رواه الترمذي وأحمد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا غُلامُ، أَوْ يَا غُلَيِّمُ، أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: " احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ، فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ، فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا "
قد تضمنت هذه الكلمات على قلت حروفها وصايا عظيمة، وقواعد كلية من أصول الدين، تتعلق بعلاقة العبد بربه، وبالإيمان بالقضاء والقدر، حتى قال بعض العلماء:تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، فوا أسفى من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه.

عباد الله : لنقف مع كلمات هذه الوصية العظيمة، لننهل من معينها، وننير دربنا من معانيها، فإنها منهج حياة وطريق سلامة.

فمما دل عليه الحديث اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بغرس وتأصيل العقيدة السلمية في نفوس الصحابة خصوصا الصغار منهم، فهذا ابن عباس وقد كان صغيرا لما أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية، فابن عباس كان عمره لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قريبا من اثنتي عشرة سنة، لذلك كان على الآباء والمربين أن يعلموا أبناءهم أركان الإيمان والإسلام ومعانيها منذ الصغر، لأن العقيدة الصحيحة هي الأساس الذي تبنى عليه أعمال الجوارح، وبفسادها تفسد الأعمال ويتعرض صاحبها للهلاك، قال ابن القيم في كتابه الفذ تحفة المودود بأحكام المولود " فَإِذا كَانَ وَقت نطقهم فليلقنوا لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله وَليكن أول مَا يقرع مسامعهم معرفَة الله سُبْحَانَهُ وتوحيده وَأَنه سُبْحَانَهُ فَوق عَرْشه ينظر إِلَيْهِم وَيسمع كَلَامهم وَهُوَ مَعَهم أَيْنَمَا ... وَلِهَذَا كَانَ أحب الْأَسْمَاء إِلَى الله عبد الله وَعبد الرَّحْمَن بِحَيْثُ إِذا وعى الطِّفْل وعقل علم أَنه عبد الله وَأَن الله هُوَ سَيّده ومولاه  " 
وقد أمر الله الآباء والمربين بوقاية أهليهم من كل ما يضرهم ولا ينفعهم قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" .

إخواني الأفاضل ومن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم " احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ" فيها الوصية بحفظ العبد لربه، وذلك بمراقبته وطاعته، فيحفظ العبد حدود ربه وحقوقه وأوامره ونواهيه، فيقف عند الأوامر بالامتثال وعند نواهيه بالاجتناب وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك كان من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم في كتابه بقوله " وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ"

فَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ تَحُثُّ الْمَرْءَ عَلَى أَنْ يَحْفَظَ جَوَارِحَهُ، وَيَصُونَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ؛ فَلاَ يَسْتَمِعُ إِلَى مَا يُغْضِبُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَى مَا لاَ يُرْضِيهِ, قَالَ سُبْحَانَهُ:( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا). وَكَذِلَكَ يَحْفَظَ لِسَانَهُ؛ فَلاَ يَقُولُ إِلاَّ الْقَوْلَ الْحَسَنَ الْجَمِيلَ، ويحفظ فرجه عن الحرام فلا يضعه إلا في حلال ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ».  وَيَتَّقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي كَسْبِ مَالِهِ، فَلاَ يَأْكُلُ إِلاَّ مِنْ حَلاَلٍ، وَلاَ يُنْفِقُ إِلاَّ فِي الْحَلاَلِ، قَالَ تَعَالَى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً). وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْفَظَ حُقُوقَ الْعِبَادِ، وَيُرَاعِيَ الأَمَانَةَ، وَيَعْدِلَ وَيَلْتَزِمَ الأَخْلاَقَ الْجَمِيلَةَ، فَيَكُونَ نَقِيَّ الْقَلْبِ، حَسَنَ التَّعَامُلِ.

وإن مِمَّا يُعِينُ عَلَى حِفْظِ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتِشْعَارَ جَلاَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، وَاسْتِحْضَارَ مُرَاقَبَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَاطِّلاَعِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُو مَا حَثَّنَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقَالَ:« الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». فَاللَّهُ تَعَالَى رَقِيبٌ عَلَى مَا نَعْمَلُ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا). فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِالسَّرَائِرِ، وَقَدْ دَعَانَا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِلَى مُرَاقَبَتِهِ سُبْحَانَهُ في جميع الأحوال فَقَالَ :« اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» 

وإن مما يعين على حفظ الله دعاء العبد ربه بأن يعينه على ذلك، ولذلك كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ مِنْ دُعَاءِ رَبِّهِ، فَيَقُولُ :« اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي» وكان يقول : "اللَّهُمَّ احفظني بالإسلام قائماً ، واحفظني بالإسلام قاعداً ، واحفظني بالإسلام راقداً ، ولا تُطِعْ فيَّ عدواً ولا حاسداً " 

عِبَادَ اللَّهِ: كما دلت الوصية على أن الجزاء من جنس العمل،فمن حفظ الله حفظه الله ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه والله غني عنه، فمِنْ ثَمَراتِ حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى مَحَبَّتَهُ لِلْمَرْءِ وَرِعَايَتَهُ لَهُ، وَلُطْفَهُ بِهِ، وَتَوْفِيقَهُ وَتَسْدِيدَهُ وَتَأْيِيدَهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ». أَيْ يُعِينُكَ بِقُدْرَتِهِ، وَيَفْتَحُ لَكَ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ، وَيَرْزُقُكَ مِنْ فَضْلِهِ الْعَمِيمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، قَالَ سُبْحَانَهُ:( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وَمَنْ حَفِظَ اللَّهَ تَعَالَى فِي نَفْسِهِ حَفِظَهُ فِي بَدَنِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ، فَالرَّجُلُ الصَّالِحُ يُحْفَظُ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَتَشْمَلُ بَرَكَةُ عِبَادَتِهِ أَوْلاَدَهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى:( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) أي حفظا بصلاح أبيهما، وَمَنْ حَفِظَ اللَّهَ تَعَالَى فِي شَبَابِهِ وَقُوَّتِهِ، حَفِظَهُ اللَّهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَضَعْفِه، وَمَتَّعَهُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعَقْلِهِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذِهِ جَوَارِحٌ حَفِظْنَاهَا عَنِ الْمَعَاصِي فِي الصِّغَرِ، فَحَفِظَهَا اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْكِبَرِ.


الخطبة الثانية : عباد الله ومن وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس قوله:" تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ" فمن اتقى الله في الرخاء وقاه الله ما يكره ويسر له أموره وهوّن عليه الشدائد وكشف غمه ونفس كربته.
 ومن وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس قوله " وَإِذَا سَأَلْتَ، فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ، فَاسْتَعِنْ بِاللهِ" وفيها تحقيق التوحيد بالاستغناء بالله عن خلقه بترك سؤالهم وترك الاستعانة بهم وصرف ذلك لله وحده، فينزل العبد حوائجه بربه ويطلب العون منه .

ومن وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس قوله "قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ"  وفيها إثبات للقدر خيره وشره، وأن ما يقع من المنافع والمضار والمصائب للعبد مقدر مكتوب، قال تعالى : " مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ " وأن الخلق لا يقدرون على تغير ما سبق به القدر، وأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أصاب غيره لم يكن ليصيبه، فالله قد كتب مقادير الخلائق قبل خلقهم ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ - قَالَ - وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ " رواه مسلم 

ومن وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس قوله " وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا"  وفيها الأمر والحث على الصبر فإن العبد إذا أصابته المصائب المؤلمة المكتوبة عليه فليس أمامه إلا الصبر عليها، فإن صبر عليها كان له فيها خير كثير، وإن لم يصبر كانت المصيبة مصيبتان الأولى فيما أصابه والثانية في تسخطه وعدم رضاه، وقد أثنى الله على الصابرين عند المصائب فقال :" وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" 

وفي الوصية الإرشاد إلى حسن الظن بالله وانتظار الفرج واليسر عند الكرب، قال تعالى :" فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" وقال سبحانه " سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا" 

وفي الوصية البشارة بالنصر إذا تحقق الصبر قال تعالى " قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ"  وأن الإيمان بالقضاء والقدر يهون المصيبة ويعين على الصبر .

عباد الله : اعْلَمُوا أنّه قد أظلكم شهر مبارك، هو شَهْرُ شَعْبَان، عَظِيمُ الْمَنْزِلَةِ، جَلِيلُ الْقَدْرِ، فَهُوَ مُقَدِمَةٌ لِرَمَضَانَ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِيهِ بِالصِّيَامِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الأَجْرِ الْكَرِيمِ وَالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْراً أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ. فَلَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم :« ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ». وَفِي شَعْبَانَ تُرْفَعُ الأَعْمَالُ، وَيَغْفِرُ الهَُ ل تَعَالَى لِعِبَادِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ». فَهَنِيئًا لِمَنْ طَابَتْ سَرِيرَتُهُ، وَسَطَّرَ بِالْحَسَنَاتِ صَحِيفَتَهُ، وَاسْتَثْمَرَ شَهْرَ شَعْبَانَ فِي الصَّوْمِ، وَالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ، فَرُفِعَ عَمَلُهُ، وَغُفِرَ ذَنْبُهُ.

الجمعة، 8 مايو 2015

خطبة: الإحسان في العمل

جماعة المسلمين : قال الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل:"وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"يأمر الله عباده المؤمنين بأعلى مراتب الدين وهو الإحسان، فأهل الإحسانِ هم الفائزون بمحبة الله تعالى، هم السعداء بمعية الله تعالى ورعايته ولطفه قال تعالى "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ " موعودون بأعظم النعيم قال تعالى :" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ،آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ "  

عباد الله : للإحسانِ مفهومٌ خاصٌّ يشملُ الإحسانَ الذي هو أفضلُ منازلِ العبودية كما قال صلى الله عليه وسلم : " الإحسان: أن تعبُدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراكَ» ، وله مفهومٌ عامٌّ يعني الإنعامَ على الغير، والإحسانَ في الأفعال كلِّها بالإتقانِ والإكمال من أعمال الدين أو الدنيا. 

وقوله تعالى : "وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" يشمل جميع أنواع الإحسان، فيدخل فيه الإحسان بالمال وبالجاه وبالشفاعات و الإحسان بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم العلم النافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس، من تفريج كرباتهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالهم، ويدخل في الإحسان أيضا، الإحسان في عبادة الله تعالى،فمن اتصف بهذه الصفات، كان من الذين قال الله فيهم:"لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ" وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره.

جماعة المسلمين : الإِسْلاَمَ دِينُ بِرٍّ وَإِحْسَانٍ، وَرَحْمَةٍ بِالإِنْسَانِ، أَتَى بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ، وَمِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَالْفَلاَحِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَغَرَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْمَعْنَى الْعَظِيمَ فِي النُّفُوسِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم :«كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ». 

ومن صور الإحسان الإحسان إلى الوالدين والأرحام والأقارب، قال تعالى " وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " وعن عَبْدَ اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ قَالَ فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ قَالَ نَعَمْ بَلْ كِلَاهُمَا قَالَ فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا " 

وللإحسان صور كثيرة منها الإحسان إلى الأبناء ، عن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ، الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:« إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ». فَيَا لَهُ مِنْ فَضْلٍ عَظِيمٍ، نَالَتْ بِهِ هَذِهِ الأُمُّ الْمِسْكِينَةُ الْمُحْسِنَةُ أَعْظَمَ مَرْغُوبٍ وَأَجَلَّ مَطْلُوبٍ، وَحَظِيَتْ بِدَارِ الْكَرَامَةِ وَالْخُلُودِ،  وقال صلى الله عليه وسلم: من يلي من هذه البنات شيئا فأحسن إليهن كنَّ له سترا من النار" 

ومن الإحسانِ العفو عن الحقوق الواجبةِ للإنسان عند غيره، والتنازُل عنها لوجهِ الله - جل وعلا -؛ قال تعالى : وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

ومن الإحسان الإحسان إلى الجار قال صلى الله عليه وسلم: " وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما " 

ومن صور الإحسان الإحسان إلى الزوجات في معاملتهن قال صلى الله عليه وسلم: ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن" بل وحتى عند فراقهن وطلاقهن أمر الله بالإحسان إليهن فقال : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ " 

ومن صُوَرِ الإِحْسَانِ الإِحْسَانُ بِالْقَوْلِ، بِالتَّعْبِيرِ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، الَّتِي تُرْشِدُ الْحَيْرَانَ، وَتُسَلِّي الْمَحْزُونَ، وَتَحُضُّ عَلَى الْبِرِّ وَالإِحْسَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). وَيَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم « الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ».

وَمِنَ الإِحْسَانِ: بَذْلُ الصَّدَقَاتِ؛ لِسَدِّ الْحَاجَاتِ، وَدَفْعِ الْكُرُبَاتِ، فَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ  فِي صَدْرِ النَّهَارِ، فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ- أَيْ يَلْبَسُونَ ثِيَابًا مُشَقَّقَةً- فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ وَحَثَّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حَتَّى جَمَعُوا كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، فَتَهَلَّلَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:« مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ». 

ومن صور الإحسان الإحسان إلى الحيوان، فعن عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنْ الْعَطَشِ فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا " وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان عند ذبح الحيوان فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" وَقَالَ صلى الله عليه وسلم مُؤَكِّدًا ذَلِكَ أَيْضًا :« فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ ».

عباد الله : إنّ الإحسان يقتضي من المسلم ألّا يضيّع وقته هباء، وأن يصرف جهده إلى النّافع من الأمور، فعن الشّريد- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من قتل عصفورا عبثا عجّ إلى الله يوم القيامة –أي شكا بصوت عال مرتفع- يقول: يا ربّ إنّ فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة»

فَاللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى الْبِرِّ وَالإِحْسَانِ، وَاجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَالْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ


الخطبة الثانية : عباد الله : من صور الإحسان الإحسان في حالَ الخُصومات والمُنازَعات؛ الله - جل وعلا - يقول: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء: 53]، ويقول - جل وعلا -: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت: 34].، كما أن الإحسان مطلوبٌ في التحاوُر بين المُسلِم وأهلِ الكتابِ لتَصِلَ المُجادَلَةُ إلى الثَّمرةِ اليانِعَة والمقاصِد المُبتغَاة ، قال تعالى " وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .

إخوة الإسلام:والتجَّار ما أحوَجَهم إلى أن يأخُذوا أنفُسهم بمسْلَكِ الإحسان والرحمة؛ بأن يتَّقوا اللهَ - جل وعلا - في المُسلمين، فلا يُقدِموا على الاستِغلال الذي انتشرَ في هذه الأزمان، ولا على الاحتِكار والمُبالَغَة في الأسعار؛ بل الواجِبُ أن يتذكَّروا أن ربًّا عظيمًا يُراقِبُ نيَّاتهم وأقوالَهم وأفعالَهم؛ فعليهم أن يتذكَّروا أن المُسلمين إخوةٌ، وأن المؤمنَ يحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه، فعليهم أن يُحسِنوا إلى الناسِ، فيربَحوا رِبحًا معقولًا يُبارَك لهم فيه، ويحمَدوا العاقبةَ دُنيا وأُخرى؛ قال - جل وعلا -: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ " 

عباد الله من تأمّل الآيات الكريمة والأحاديث الشّريفة الواردة في الإحسان يتّضح بجلاء أنّ الإحسان يشكّل مع العدل- جوهر العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وأنّ دائرة هذا الإحسان تتّسع لتشمل النّفس والأسرة والأقارب ثمّ المجتمع والإنسانيّة عامّة . 

بل إن الإحسان من أسباب رقي الأمم وتطورها، فلإحسان يقتضي من المسلم إتقان العمل المنوط به، إتقان من يعلم علم اليقين أنّ الله- عزّ وجلّ- ناظر إليه مطّلع على عمله، فيتقن العبد في عمله، ويحسن من أدائه فيرتقي بنفسه وبدولته . 

عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ للهِ قَوْمًا يَخْتَصُّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَيُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا , نَزَعَهَا مِنْهُمْ , فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ "

فَيَا سَعَادَةَ مَنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْخُلُقِ الْكَرِيمِ، فَجَادَ بِالْعَطَايَا وَالْهِبَاتِ، وَأَغَاثَ الْمَلْهُوفِينَ بِالْمِنَحِ وَالْمُسَاعَدَاتِ، وَأَعَانَ الضُّعَفَاءَ وَالْمُعْوِزِينَ بِالصَّدَقَاتِ، فَفَازَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَحَظِيَ بِحُبِّ اللَّهِ وَرِضَاهُ، وَكَانَتِ الْجَنَّةُ مُسْتَقَرَّهُ وَمَثْوَاهُ.