الجمعة، 19 يونيو 2015

خطبة الجمعة: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون

الخطبة الأولى : اعلموا رحمكم الله أن إدراك شهر رمضان نعمة كبرى، تستوجب الشكر لله تعالى، فالعبد إذا اغتنم هذا الشهر زادت حسناته، وارتفعت درجاته، واقتربت من الجنة خطواته، روى ابن ماجة وأحمد عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ إِسْلامُهُمَا جَمِيعًا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْ صَاحِبِهِ، فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَكَثَ الْآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، إِذَا أَنَا بِهِمَا وَقَدْ خَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الجَنَّةِ، فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الْآخِرَ مِنْهُمَا، ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ رَجَعَا إِلَيَّ فَقَالا لِي: ارْجِعْ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ، فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ فَعَجِبُوا لِذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا كَانَ أَشَدَّ اجْتِهَادًا ثُمَّ اسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدَخَلَ هَذَا الْجَنَّةَ قَبْلَهُ، فَقَالَ: " أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً؟ " قَالُوا: بَلَى. قال: " وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَهُ؟ " قَالُوا: بَلَى قال: " وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا سَجْدَةً فِي السَّنَةِ؟ " قَالُوا: بَلَى، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَلَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ "
فتأملوا - يا رعاكم الله – كيف أن الله سبحانه وتعالى رفع درجة الرجل الآخر عن الأول بأداء الصلاة وإدراك شهر الصيام، فمن أدرك ذلك علم أنه في نعمة كبرى تستوجب الاغتنام .

جماعة المسلمين: إن للمنافسة في هذا الشهر ميادين يسارع إليها أهل الإيمان ، وهي ميادين العبادات ، ففي رمضان تجتمع من العبادات ما لا يجتمع في غيره ، فمن هذه العبادات عبادة الصيام وهي الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس بنية الصيام ، فأجرها مضاعف قال النبي صلى الله عليه وسلم : كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله قال الله عز وجل إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به  فالأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد ، بل يضاعفه الله أضعافا كثيرة بغير عدد ، فإن الصيام من الصبر وقد قال الله: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ " .

ومن مواسم الخير في هذا الشهر التي تضاعف فيها سائر الأعمال ليلة القدر ، قال تعالى:"لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ "  قال أهل التفسير :العبادة فيها تعدل عبادة في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لصحابته وهو يذكرهم بهذه الفضيلة: إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ" .

ومن العبادات ذات الفضل والتي تختص بالصيام عبادة السحور ، فقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وشدد عليها فقال : السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ فَلَا تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ  " وصلاة الله عليهم بأن يذكرهم الله في الملأ الأعلى وصلاة الملائكة أي دعاؤهم لهم عند الله بالمغفرة والرحمة، فما أجمله من جزاء وأعظمه، أن يذكرك الملك الجليل ويثني عليك خيرا وتدعوا لك الملائكة لأجل أكلة أو شربة تتقرب بها إلى الله تعالى، وهذا الفضل إنما يتحصل لمن قام وتسحر . 

ومن العبادات ذات الفضل في الصيام عبادة الإفطار ، فقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم على تعجيله فضائل جمة منها : أن من عجل الفطر فقد سار على سنته صلى الله عليه وسلم فقال :" لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم " ومنها ظهور الدين وعلوه على غيره قال صلى الله عليه وسلم : لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون " ، بل رتب حصول الخير في الناس في تعجيلهم للفطر وتأخيرهم للسحور فقال :" لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " ، فاستحضروا هذه المعاني –رحمكم الله- عند تأديتكم لهذه العبادة الجلية.

ومن العبادات الرمضانية ذات الأجر تفطير الصائم ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا " 

 ومن العبادات ذات الأجر العظيم في رمضان أداء العمرة ، قال صلى الله عليه وسلم " عمرة في رمضان كحجة معي " 

ومن ميادين التنافس في هذا الشهر قراءة القرآن ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجوَدَ الناسِ بالخَيرِ وكَان أجودَ مَا يَكُون فِي رَمَضانَ حِينَ يَلقاهُ جِبريلُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانَ جِبريلُ يَلقَاهُ فِي كُلِ لَيلةٍ مِن رَمضانَ يَعرضُ عَليهِ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القُرآنَ، فَإذا لَقِيهُ جِبريلُ كَانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجودَ بالخَيرِ مِن الرِّيحِ المُرسَلةِ " 
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحُثُّ عَلَى تَعَاهُدِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَقِرَاءَتِهِ، وَخَاصَّةً فِي رَمَضَانَ، فَيَقُولُ:« الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ، وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: رَبِّ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، فَيَشْفَعَانِ»
فاغتنموا رعاكم الله أيام هذا الشهر ولياليه بالطاعات ، وتنافسوا في الحصول على الحسنات ، وأسالوا الله قبول الأعمال والعتق من النار  . 

الخطبة الثانية : عباد الله من العبادات في هذا الشهر المبارك عبادة قيام الليل وهي صلاة التراويح ، فقد حث عليها نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله ، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنَ الشَّهْرِ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ نَحْوٌ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ، ثُمَّ كَانَتْ سَادِسَةٌ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ نَفَلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ"، قَالَ: ثُمَّ كَانَتِ الرَّابِعَةُ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا بَقِيَ ثُلُثٌ مِنَ الشَّهْرِ أَرْسَلَ إِلَى بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ، وَحَشَدَ النَّاسَ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ، قَالَ دَاوُدُ: قُلْتُ: مَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السُّحُورُ .

وأما أجر صلاة التروايح فهو مغفرة الذنوب ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ فَيَقُولُ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ .

وعدد ركعاتها فهو إحدى عشرة ركعة فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا " 

والسنة في صلاة القيام هو الإطالة لا تقصير الصلاة ، على هذا جرى عمل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده ، فعن السائب بن يزيد قال : أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة قال : وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر . 

وأما ما يحصل في زماننا الحاضر من التسابق في صلاة القيام ، فأفضل المساجد صلاة أسرعهم انصرافا ، وهو أكثرهم جماعة ، خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي صحابته الكرام ، بل ما سميت صلاة القيام بالتراويح إلا لأنهم كانوا يرتاحون بين كل أربع ركعات من طول القيام.

فلا يكن همك أخي الصائم الانتهاء من الصلاة بل ليكن همك إتقانها ومجاهدة النفس على الخشوع والطمأنينة فيها ، فنحن نصلي لنتقرب إلى الله فيرضى عنا ويثيبنا عليها ، ولا نصلي لأنها من قبيل العادات أو هي ثقل على المسلم يجب أن يؤديه بأي وسيلة . 

جماعة المسلمين : حَثَّ الإِسْلاَمُ عَلَى اكْتِسَابِ الرِّزْقِ وَالْعَمَلِ، لِيَعِفَّ الْمَرْءُ نَفْسَهُ، وَيَقُومَ بِحَوَائِجِ أَهْلِهِ، فَلاَ يَسْأَلُ أَحَدًا، لأَنَّ التَّسَوُّلَ يُسِيءُ إِلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ، يَقُولُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:« لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ أَحْبُلًا، فَيَأْخُذَ حُزْمَةً مِنْ حَطَبٍ، فَيَبِيعَ، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهِ وَجْهَهُ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، أُعْطِيَ أَمْ مُنِعَ». وَلْنَعْلَمْ أَنَّ التَّسَوُّلَ مَمْنُوعٌ، فَلْنَتَعَاوَنْ مَعَ الْجِهَاتِ الْمُخْتَصَّةِ فِي الإِبْلاَغِ عَنْهُمْ.


الخميس، 4 يونيو 2015

محاسبة النفس وعدم الاغترار بالعمل

الخطبة الأولى : أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى تَعَاقُبَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمُضِيَ السِّنِينَ وَالأَعْمَارِ، وَفِي ذَلِكَ أَبْلَغُ عِبْرَةٍ، وَأَجَلُّ عِظَةٍ لأُولِي الأَلْبَابِ وَالأَبْصَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا). أَيْ: جَعَلَ كُلاًّ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَخْلُفُ صَاحِبَهُ، وَيَأْتِي بَعْدَهُ، لِيَسْتَطِيعَ مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ بِاللَّيْلِ أَنْ يَتَدَارَكَهُ بِالنَّهَارِ، وَمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ بِالنَّهَارِ أَنْ يَتَدَارَكَهُ بِاللَّيْلِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الدُّنْيَا مَزْرَعَةً لِلآخِرَةِ، وَجَعَلَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِيهَا تِجَارَةً رَابِحَةً، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ:( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا). فَهَنِيئًا لِمَنِ اغْتَنَمَ أَوْقَاتَهُ، وَاسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهُ، وَأَخَذَ مِنْ حَاضِرِهِ لِمُسْتَقْبَلِهِ، فَكَانَ فِي سَعْيٍ مستمر فِي طَاعَةِ رَبِّهِ، وَالرُّقِيِّ بِنَفْسِهِ، وَنَفْعِ أُسْرَتِهِ وَمُجْتَمَعِهِ وَوَطَنِهِ.

عِبَادَ اللَّهِ: قالَ الله سبحانه وتعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، قال أهل التفسير:"وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها" فالسَّعِيدُ مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ، وَرَاجَعَ عَمَلَهُ، فَإِنْ رَأَى خَيْرًا حَمِدَ اللَّهَ وَاسْتَكْثَرَ، وَإِنْ رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ بَادَرَ بِالتَّوْبَةِ وَاسْتَغْفَرَ، فَبَابُ الْخَيْرَاتِ مَفْتُوحٌ، وَطَرِيقُ الإِنَابَةِ مُمَهَّدٌ مَيْسُورٌ، يَقُولُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا؛ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ، قَالَ تَعَالَى:( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ). فَمَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ اسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُ، وَصَلُحَتْ أَعْمَالُهُ، لأَنَّهُ أَيْقَنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْصَى أَعْمَالَ الْعِبَادِ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَجْزِيَهُمْ بِهَا يَوْمَ الْمِعَادِ، قَالَ سُبْحَانَهُ:( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) أَيْ: كَتَبْنَا عَلَى النَّاسِ كُلَّ شَيْءٍ عَمِلُوهُ، وَسَنَجْزِيهِمْ بِمَا فَعَلُوهُ، إِنْ كَانَ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَشَرٌّ. وَقَالَ جَلَّ وَعَلاَ مُقَرِّرًا هَذَا الْمَعْنَى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) وقال سبحانه في الحديث القدسي: " يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ " . 

عن إبراهيم التيمي قال : مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أىْ نفس، أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أُردَّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً، قال: قلت: فأنت فى الأمنية فاعملي.

روى ابن ماجة بإسناد حسن عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: "أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ" 

وإِنَّ مِنَ الاِسْتِعْدَادِ لِلآخِرَةِ اسْتِثْمَارَ الأَعْمَارِ، وَتَقْدِيرَ قِيمَةِ الأَوْقَاتِ، وَالنَّظَرَ فِيمَا قَدَّمَهُ الْمَرْءُ لآخِرَتِهِ، فَإِنَّ الْعُمْرَ بِضَاعَةٌ يَسِيرَةٌ، يُسَافِرُ بِهَا إِلَى دَارِ الْبَقَاءِ، وَالتَّسْوِيفُ وَالتَّأْجِيلُ يَحْرِمُهُ مِنَ اغْتِنَامِ الصَّالِحَاتِ، فَالإِنْسَانُ قَدْ يُمَنِّي نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ، فَيَحُولُ دُونَهُ الأَجَلُ، قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ:( وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، وَوَعَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً فَقَالَ لَهُ:« اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ». 

فاغتنم وقتك وحياتك، فالسنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجَدَاد يوم المعاد؛ فعند الجَدَاد يتبين حلو الثمار من مرها.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الإِنْسَانَ عُرْضَةٌ لِلْخَطَإِ وَالزَّلَلِ وَالنِّسْيَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا). وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : « كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ». وَالْعَاقِلُ يُنَمِّي مَا عِنْدَهُ مِنْ خَيْرٍ، وَيُكْمِلُ مَا عِنْدَهُ مِنْ نَقْصٍ، فَإِذَا قَصَّرَ فِي حَقِّ رَبِّهِ بَادَرَ بِالاِسْتِغْفَارِ، وَلَجَأَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَائِبًا، وَلِرَحْمَتِهِ رَاغِبًا، وَإِذَا قَصَّرَ فِي حَقِّ أَهْلِهِ وَأَرْحَامِهِ بَادَرَ إِلَى بِرِّهِمْ وَصِلَتِهِمْ، وَوَصَلَ مَا انْقَطَعَ، وَإذَا ظَلَمَ أَحَدًا فِي شَيْءٍ اسْتَحَلَّهُ مِنْهُ، وَطَلَبَ عَفْوَهُ وَمُسَامَحَتَهُ، يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ». 

وَهَكَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِ يَجْبُرُ الثَّغَرَاتِ، وَيُصْلِحُ مَا فَاتَ، لِيَكُونَ مُسْتَعِدًّا بِذَلِكَ لأُخْرَاهُ، مُتَأَهِّبًا لِمَوْقِفِ الْعَرْضِ الأَكْبَرِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، فَفَوْزًا لِمَنِ اسْتَعَدَّ لِهَذَا الْمَوْقِفِ الْجَلِيلِ، فَرَاعَى حُقُوقَ اللَّهِ كَمَا أَمَرَ، وَأَدَّى حُقُوقَ الْبَشَرِ، وَاسْتَكْثَرَ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَابْتَعَدَ عَنِ السَّيِّئَاتِ، يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ».

الخطبة الثانية : جماعة المسلمين حذر الله سبحانه عباده المؤمنين من نسيان الآخرة والاستعداد لها فقال : "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " فإن الغفلة عن اليوم الآخر موجبة للهلاك والعقوبة، فمن نسي ربه أَنْسَاهُ مَصَالِحَ نفسِه فَعَطَّلهَا، بأن يهمل في تحصيل سعادة نفسه وفلاحها وما تكمل به، وينسى عيوبَ نفسه ونقصَها وآفاتِها، فلا يخطر بباله إزالتها وإصلاحها، وينسى أمراض نفسه وقلبه وآلامَها، فلا يخطر بقلبه مداواتُها،  وَلَيْسَ بَعْدَ تَعْطِيلِ مَصْلَحَةِ النَّفْسِ إِلَّا الْوُقُوعَ فِيمَا تَفْسَدُ بِهِ وَتَتَأَلَّمُ بِفَوْتِهِ غَايَةَ الْأَلَمِ. 

أيها المسلمون: لقد حذرنا الله -سبحانه وتعالى- من عدو لدود يسعى لإضلال العباد قال تعالى "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ" ، ومن مكايد الشيطان ووسوسته على العبد أن يدخل العجب والرضا بعمله إلى نفسه، فيوهمه بأنه طائع لربه، قد صلى وصام وحج وزكى ماله، فهو من أولياء الله الصالحين، وهذا بداية الضلال. 

فمن صفات عباد الله الصالحين الخوف من عدم قبول عملهم مع اشتغالهم بالعمل، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ " قَالَتْ عَائِشَةُ أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ قَالَ « لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ». وليس خوفهم من أن لا يوفيهم الله أجرهم، بل خوفهم من عدم أداء العمل على وفق ما أراد الله سبحانه. 

فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها، وقد أرشدنا الله إلى الاستغفار بعد العمل، لاستدراك الخلل، فأمر عباده بالاستغفار بعد إفاضتهم من عرفات وهو من أجل المواقف وأعظمها عند الله قال تعالى " فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ،  ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"   ، وقال تعالى : "وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ" قال الحسن البصري:" مَدُّوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل" وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا ..، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله بعد الفراغ من وضوئه فكان يقول :سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " فهذا شأن من عرف ما ينبغي لله ويليق بجلاله من حقوق العبودية وشرائطها.
 كما قد يغتر العبد بحسن ظنه بالله وأن الله سبحانه غفور رحيم، كما قال صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه: أنا عند حسن ظن عبدي بي.." فيتهاون في العمل  ويترك المحاسبة، وهذه في الحقيقة مكيدة شيطانية يكيد به إبليس العباد. 
والصحيح أن حسن الظن بالله مع رجاء رحمته إنما يكون بحسن العمل، قال الحسن البصري: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل. 
قال ابن القيم: حسن الظن بالله هو حسن العمل..، فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسنُ ظنه بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عليها ويتقبلها منه، .. فكلما حسن ظنه بربه حسن عمله.." 
فعلى المسلم أن لا يغتر بعمله الذي عمله، بل عليه أن يقارن العمل بخوف ورجاء، خوف من الله وعذابه، ورجاء لرضاه ونعيمه. 
قال تعالى: " فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا "