الجمعة، 30 أكتوبر 2015

خطبة جمعة : تأملات في سورة الكهف

الخطبة الأولى : قال الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل :"  كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ "  قال بعض أهل التفسير (السعدي) : هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها، ويتأملوا أسرارها وحكمها، .. وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود "  وقد أنكر الله على الذين يقرؤون كلامه ولا يتدبرونه ويتفهمون معانيه فقال :"أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" ، ومن السور ذات الفضل والتي يستحب للمسلم أن يقرأها كل جمعة سورة الكهف. 

أيها المسلمون: سورة الكهف سورة مكية نزلت جملة واحدة، مثل سورة يوسف، احتوت على جملة من القصص والأخبار الماضية التي جعلها الله موعظة للمؤمنين كما قال سبحانه " وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ "  

وأما فضلها فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على قراءتها في يوم الجمعة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِى يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ  " ، وحث صلوات الله وسلامه عليه على تعلمها وحسن قراءتها لأجل نيل ذلكم الأجر فقال: (مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ كَمَا أُنْزِلَتْ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .

ومن فضل هذه السورة العظيمة أنها سبب لحفظ العبد  من فتنة الدجال، قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ) وقال صلى الله عليه وسلم : من قرأ سورة الكهف كانت له نورا يوم القيامة من مقامه إلى مكة ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يضره ) . 

أيها المسلمون : لقد حوت سورة الكهف على عظات وعبر وأحكام يستنير بها المؤمن في حياته، فقد احتوت على أربع قصص من أخبار الماضين، يثبت الله بها قلب نبيه صلى الله عليه وسلم، وقلوب المؤمنين. 

وأول قصة ذكرها الله –عز وجل- هي قصة أصحاب الكهف التي سميت السورة بها، قال تعالى: "أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا " ، والرقيم هو اللوح الذي كتب فيه أسماء أصحاب الكهف ، ومن فوائد هذه القصة أن الإيمان الصحيح يتضمن أمرين : أولا البراءة من الشرك وأهله . ثانيا : إثبات العبودية لله وحده ، وهذا ما حكاه الله عن فتية الكهف لما قال سبحانه : "وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا "  فلما تبرؤوا من الكفر وأهله فروا إلى الله بدينهم  وذلك في قوله تعالى : " وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا "  وهكذا دأب الأنبياء والصالحين من قبل ومن بعد، وهذا هو ركن شهادة أن لا إله إلا الله ، براءة من عبادة غير الله، مع إثبات العبودية لله وحده دون سواه. 
ومن فوائد هذه القصة أن العبد المؤمن بالله صدقا، يوفقه الله تعالى إلى الهداية والزيادة في الإيمان كما قال :" نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى" ، قال المفسر الشنقيطي رحمه الله  : يفهم من هذه الآية أن من آمن بربه وأطاعه زاده ربه هدى لأن الطاعة سبب للمزيد من الهدى والإيمان . كما قال تعالى :" وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" . 

أيها المسلمون: ومن القصص التي ذكرها الله في سورة الكهف قصة رجلين متصاحبين، جعل الله "لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا"، ومن فضل الله عليه أن :"كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ " ولكنه قابل نعمة الله عليه بالتكبر والافتخار بنفسه "فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا  " ثم زاد في إعجابه بنفسه بأن أنكر البعث وادعى الخلود، فقال سبحانه:"وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً" ولو افترض أنه سيرد إلى الآخرة فإن الله سيعطيه خيرا مما عنده فقال : "وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا" ، فنصحه صاحبه ووعظه وذكره بأصل خلقه ، "قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا " ثم حذره من عقوبة الله تعالى فقال:فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا" ، وبالفعل حلت عقوبة الله تعالى بهذا المتكبر قال سبحانه :" وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا".

ففي هذه القصة من الدروس والعبر أن الكفر بنعمة الله وعدم شكرها من أسباب زوالها، وأن العبد ينبغي له إذا أعجبه شيء من ماله وولده أن يضيف النعمة إلى موليها وهو الله فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

  أيها المسلمون : ضرب الله في سورة الكهف مثلا للدنيا سرعة زوالها قال تعالى " وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا " ، ، فمثل الدنيا عند الله سبحانه وتعالى كمثل نبات ظهر على سطح الأرض بفضل ما أنزله الله من ماء من السماء، حتى إذا كبر هذا النبات وعلته الخضرة والنضرة والجمال، أصبح يابسا، تفرقه الرياح في كل جهة. 

وقد وصف الله هذه الدنيا في سورة الكهف بأنها زينة ثلاث مرات فقال سبحانه " إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا " ،  وقال : " وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" ، وقال :" الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " ، والزينة هي الزخرف الذي يبرق أمام الأعين فيغريها ، ثم يندثر ويتلاشى . ولا تتخذ الزينة إلا لسد النقص وإخفاء العيب، ولوصف الحياة الدنيا بالزينة فوائد منها الحذر من الاغترار بها ، فإنها تتزين في عين الناظر فتروقه بزينتها وتعجبه فيميل إليها ويهواها اغترارا منه بها قال تعالى "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ"  حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبينها ، وبين سبحانه أن هذه الزينة الدنيوية مآلها إلى زوال فقال : " وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا "  ، أي مضمحلة زائلة . والصعيد الجرز : أي الأرض البيضاء التي لا نبات فيها .

وكما ذكر الدنيا وحالها ذكر الآخرة وما يكون فيها من تغير الدنيا والعرض على الله والحساب، فقال سبحانه مذكرا وواعظا : "وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا،  وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَنْ لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" فعلى العباد أن يستعدوا لذلك اليوم بالعمل الصالح ولا يركنوا إلى الدنيا وزينتها فما عند الله خير لهم لو كانوا يعلمون قال تعالى : "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا "

وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه وجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه ..

الخطبة الثانية : جماعة المسلمين ذكر الله في سورة الكهف ثواب أهل الإيمان والعمل الصالح، وعقاب أهل الكفر والعصيان فقال سبحانه :" إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا "  
وفي ذلك ترغيب في الإيمان بالله والإقبال على العمل الصالح المبني على الإخلاص والمتابعة، وترهيب من الكفر بالله تعالى والإشراك في عبادته، قال تعالى في آخر السورة "فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا " .

عباد الله:  ومن الدروس والعبر التي نتعلمها الصبرُ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْمُثَابَرةَ فِي تَحْصِيلِهِ، مِنْ خِلاَلِ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَعَ الْخَضِرِ: فَقَدْ سَافَرَ إِلَيْهِ، لِيَتَعَلَّمَ عَلَى يَدَيْهِ: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً). فَكَانَ نِعْمَ الْمُتَعَلِّمُ الْمُتَأَدِّبُ، وَنِعْمَ الْقُدْوَةُ فِي الْحِرْصِ وَالتَّوَاضُعِ: (قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا). فَطَالِبُ الْعِلْمِ يَكُونُ مُتَأَنِيًا صَابِرًا، بَلْ مُصَابِرًا مُتَحَمِّلاً عَنَاءَ طَلَبِ الْعِلْمِ, مُتَوَاضِعًا لِلْمُعَلِّمِ موقِّراً له، متأدِّباً بين يديه، حريصاً على الاستفادة، حَتَّى يَكْتَسِبَ الْمَعْرِفَةَ النَّافعة، فَإِنَّ الْعِلْمَ عِصْمَةٌ مِنَ الْفِتَنِ، وَحَصَانَةٌ مِنَ الضَّلاَلِ.

ومن القصص ذات الدروس العبر قصة ذي القرنين الذي مَكَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَرْضِ، فَنَشَرَ الأَمَانَ، وَأَقَامَ الْعَدْلَ، وَرَفَعَ الظُّلْمَ، وَنَصَرَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ اسْتَنْجَدُوا بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا). فَلَبَّى نِدَاءَهُمْ، وَهَبَّ لِنَجْدَتِهِمْ، بِلاَ تَرَدُّدٍ وَلاَ تَأَخُّرٍ قَائِلاً: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا). فَنُصْرَةُ الْمَظْلُومِ وَاجِبَةٌ, وَمُسَاعَدَتُهُ لاَزِمَةٌ لِرَدْعِ الْمُفْسِدِينَ, وَحِمَايَةِ الدِّينِ وَالأَرْضِ وَالْعِرْضِ.




الجمعة، 23 أكتوبر 2015

خطبة جمعة : أسس بناء الأسرة .

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدِ اهْتَمَّ دِينُنا الْحَنِيفُ بِالأُسْرَةِ اهْتِمَامًا كَبِيرًا، وَدَعَا إِلَى تَقْوِيَتِهَا، وَدَوَامِ تَرَابُطِهَا؛ لِتَكُونَ أُسْرَةً مُتَمَاسِكَةً سَعِيدَةً،  ينعم أَفْرَادُهَا مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ وَأَوْلاَدٍ وَمَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ مِنَ الأقَارِبِ وَالأَرْحَامِ بالْمَحَبَّةِ والْوِئَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). فَبِالْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ بَنَى الإسلام  الأُسْرَةَ الْمُسْتَقِرَّةَ الْهَانِئَةَ، وقدوتنا في هذا الجانب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، قال سُبْحَانَهُ:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). فقد أَكَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ الأُسْرَةَ هِيَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْخَيْرَ فَقَالَ:« خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي». فَكَانَ صلى الله عليه وسلم جَمِيلَ الْعِشْرَةِ، يَتَلَطَّفُ بِأَهْلِهِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ يَسْمَرُ مَعَ أَهْلِهِ قليلاً قَبْلَ أَنْ يَنَامَ. وفي هذا تنبيه للأزواج أن يجعلوا لزوجاتهم وأولادهم وقتا يجالسونهم فيه ويحاورونهم ويسمع بعضهم لبعض، وهذا مما يزيد الألفة بين الزوجين ، فَلَيْسَ الْبَيْتُ لِلْمَبِيتِ فَقَطْ.

عِبَادَ اللَّهِ: ومن أسس البيت السعيد  التَّشَاوُرُ فِي نِطَاقِ الأُسْرَةِ بَيْنَ الأَبِ وَالأُمِّ وَالأَوْلاَدِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، فالشورى مَبْدَأٌ رَاسِخٌ أَصِيلٌ، وَأَثَرُهُ نَافِعٌ جَلِيلٌ، فَهُوَ يُشِيعُ فِي الْبَيْتِ التَّفَاهُمَ وَالتَّحَابُبَ، وَيُعَزِّزُ التَّوَاصُلَ وَالتَّقَارُبَ، أَرْشَدَنَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ عَنِ التَّشَاوُرِ فِي فِطَامِ الطِّفْلِ:( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا). أَيْ: إِنِ اتَّفَقَ الأَبُ وَالأُمُّ عَلَى فِطَامِ الطِّفْلِ، وَتَشَاوَرَا فِي ذَلِكَ، وَأَجْمَعَا عَلَيْهِ، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا، وَلاَ يَجُوزُ لأَحَدِهِمَا أَنْ يَسْتَبِدَّ بِرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةِ الآخَرِ.

فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الرَّضَاعَةِ؛ فَإِنَّهُ مِنَ الأَوْلَى التَّشَاوُرُ فِي قَضَايَا تَرْبِيَةِ الأَوْلاَدِ؛ والحرصِ على احتوائِهِم، وَتَوْجِيهِ سُلُوكِهِمْ، وَتَهْذِيبِ أَخْلاَقِهِمْ، وَتَوْعِيَتِهِمْ، وحثِّ الأبناءِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ، والإكثارِ منِ التَّطوّعِ والأعمالِ المُسْتَحَبَّات.

وَممّا يجبُ على الوالديْنِ: تَنْبِيهُ الأبناءِ إِلَى تَرْشِيدِ اسْتِخْدَامِ التَّقْنِيَاتِ الْحَدِيثَةِ، بِمَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مُجْتَمَعِهِمْ بِالْخَيْر، وَيُحَصِّنُهُمْ مِنَ الْمُؤَثِّرَاتِ السَّلْبِيَّةِ، وَتَحْذِيرُهُمْ مِنْ رُفَقَاءِ السُّوءِ، وَالأَفْكَارِ الْمُتَطَرِّفَةِ، وَالتَّوَجُّهَاتِ الْمُنْحَرِفَةِ، والمَواقعِ المشْبوهةِ على الأنترنت.

وَينبغي الحرصُ على التشاورِ فِي كُلِّ مَا يُهِمُّ الأُسْرَةَ، مِنَ التَّخْطِيطِ لِمُسْتَقْبَلِ الأَوْلاَدِ، وَمُتَابَعَةِ شُؤُونِهِمْ، لِلْوُصُولِ فِي ذَلِكَ إِلَى رَأْيٍ سَدِيدٍ.

جماعة المسلمين: ومن الأسس التي تقوم عليها الأسرة السعيدة السعي فِي تَجَنُّبِ التَّبَاغُضِ وَالتَّخَاصُمِ، صِيَانَةً لِلأُسْرَةِ مِنَ التَّفَكُّكِ وَالتَّمَزُّقِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ لِلأَزْوَاجِ:( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) ، وَيَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». أَيْ لاَ يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ أَنْ يُبْغِضَ زَوْجَتَهُ؛ لأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يَكْرَهُهُ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا آخَرَ يَرْضَاهُ، وَإِنِ انْتَفَتِ الْمَوَدَّةُ أَيِ: الْمَحَبَّةُ- فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِيهَا، وَيُعَامِلَهَا بِالرَّحْمَةِ وَالإِحْسَانِ.

جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي بِنْتًا أُحِبُّهَا وَقَدْ خَطَبَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ، فَمَنْ تُشِيرُ عَلَيَّ أَنْ أُزَوِّجَهَا؟ قَالَ: زَوِّجْهَا رَجُلاً يَتَّقِي اللَّهَ، فَإِنَّهُ إِنْ أَحَبَّهَا أَكْرَمَهَا، وَإِنْ لَمْ يُحِبَّهَا لَمْ يَظْلِمْهَا.

كَمَا حَثَّ الإِسْلاَمُ الزَّوْجَةَ عَلَى الإِسْرَاعِ إِلَى الصُّلْحِ وَاحْتِوَاءِ الْخِلاَفِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِنِسَائِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ:الْوَدُودُ الْوَلُودُ، الْعَؤُودُ عَلَى زَوْجِهَا، الَّتِي إِذَا آذَتْ أَوْ أُوذِيَتْ جَاءَتْ حَتَّى تَأْخُذَ بَيْدَ زَوْجِهَا، ثُمَّ تَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَذُوقُ غُمْضًا-أَيْ:لاَ أَذُوقُ نَوْمًا-حَتَّى تَرْضَى».

ومن الأسس التي تقوم عليها الأسرة المسلمة التعاون على تربية الأبناء، قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " فيتعاون الزوجان على َحِمَايَةِ الأولادِ مِنْ مُخْتَلَفِ الأَخْطَارِ، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى طُرُقِ الْخَيْرِ، وغرسِ مخافةِ اللهِ في قلوبهم، وأنّه سبحانه سميعٌ لهم بصيرٌ عليمٌ بهم، كما قال لقمان لابنه وهو ينصحه : " يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ" وتربية الأبناء على مخافة الله ومراقبتة أعظم وسائل التربية نفعا وأثرا في تقويم سلوك الأبناء.

كما على الزوجين أن يجتهدوا في تَعْلِيم أبنائهم الْحَلاَلَ وَالْحَرَامَ، وَآدَابَ الْحِوَارِ وَالْكَلاَمِ، وَحَثِّهِمْ عَلَى الصَّلاَةِ؛ فَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لاِعْتِنَائِهِ بِأُسْرَتِهِ فَقَالَ عَنْهُ:( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا). وَقَالَ لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا).

وَمِنْ حُسْنِ تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ الْجُلُوسُ مَعَهُمْ، وَالاِسْتِمَاعُ إِلَيْهِمْ، وَعَدَمُ الاِنْشِغَالِ عَنْهُمْ، وَمُتَابَعَةُ شُؤونِ دِرَاسَتِهِمْ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُمْ، وَمَعْرِفَةُ أَصْدِقَائِهِمْ، ومعرفةُ المواقع التي يَزُورُونَها على الأنترنت، وتَنْمِيَةُ مَهَارَاتِهِمْ في الخير، وَدَعْمُ مَوَاهِبِهِمْ وَتَشْجِيعُهُمْ عَلَى كُلِّ نَافِعٍ مُفِيدٍ.

وَممّا ينبغي كذلك: توجيهُ الأبناء إلى ارتيادِ بيوتِ الله -تعالى- وتحبيبُهُم فيها، للاستماعِ إلى المُحاضراتِ المفيدة والدُّروسِ الدِّينيةِ النافعة، والمشاركةِ في حلقات تحفيظ القرآن، وينبغي للوالديْنِ أَنْ لا يَغْفَلا عن التأسِّي بأنبياءِ اللهِ -عليهم الصلاةُ والسلامُ- في دعائهم لربِّهم بِصَلاحِ الأبناء، فمن ذلك دعاءُ زكريا عليه السلامُ: (ربِّ هبْ لي من لَدُنْكَ ذُريَّةً طيِبةً إنَّكَ سميعُ الدُّعاء) ، والحرصِ على الاتِّصافِ بصفاتِ عبادِ الرحمنِ؛ التي منها دعاؤُهم: (ربَّنا هَبْ لنا مِنْ أَزْواجِنا وذُّرِّياتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلْنا للمُتَّقِينَ إماماً) .


 الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : إن الناظر في حال كثير من الأسر في بلادنا ليرى العجب، إذ كثرت حالات الطلاق ولأتف الأسباب، وهذا يرجع إلى عدم تقهم الزوج والزوجة لمقاصد الزواج في الإسلام، وطريقة التعامل مع بعضهما البعض، فإذا عرف الزوج الحقوقَ والواجباتِ التي عليه تجاه زوجته وقام بها ، وعرفت الزوجةُ الحقوقَ والواجبات تجاهَ زوجها وبيتها وأدتها على حسب استطاعتها ، دام الزواج واستمر وكانت نتيجته بيتا مسلما وذرية طيبة تخدم الدين والوطن . 

وإذا ما تنكر أحد الزوجين للآخر فأهمل في واجباته وحقوقه حصل الخصام والشقاق حتى يصل الأمر إلى الفراق والطلاق ، وهذا الذي يفرح به الشيطان ويسعى له .

عباد الله : ومما يجدر التنبيه عليه سماح الكثير من الأسر لأولادهم باستخدام  الانترنت دون رقيب عليهم، والدخول إلى مواقع الفيديو أو وسائل التواصل الاجتماعي كالفيس بوك والتويتر والانستغرام ونحوه، وبعض الأسر تعطي أبناءها الصغار أجهزة الآيباد والهواتف الذكية الأجل أن يتخلصوا من إزعاجهم وينشغلوا بما يلهيهم، وهذا خطأ كبير، فمن يفعل ذلك فكأنه يلقي بأبنائه إلى حظيرة الذئاب لنهش فكره وعقله.

كم من حالة ابتزاز جنسي وقع فيها الولد أو البنت بسبب حديثهم مع آخرين لا يعرفونهم، ويطلبون منهم تصوير أجسادهم.

كم من فكر انحرف إلى التطرف والتشدد بسبب محاورة الأبناء للخوارج عبر الألعاب الالكترونية وما يسمى بألعاب الأون لاين ومحاكاة القتل والتفجير، فأعجبوا بأفعالهم ، وأقنعوهم بفكرهم .

كم من حالة وللأسف الشديد وقعوا في الفكر الإلحادي، والكفر بالله تعالى نتيجة الدخول في غرف الحوارات الإلحادية وما يسمى بالأفكار التنويرية، فأنكروا وجود الله وتركوا واستهزؤوا بشعائره.

نحتاج أن نراجع سياساتنا في تربيتنا لأبنائنا، وأن نفرق بين الرعاية والتربية، فتوفير الماديات للأبناء لا يغني عن تربيتهم وتقويم سلوكهم، ومراقبتهم لتحقيق النفع لهم.

إخواني المسلمين : إنَّ ممّا لا يَخْفى على أحدٍ ما للتَّعاون على الخيرِ بينَ الناسِ من أثرٍ محمودٍ على المجتمعِ بأَسْرِه، فهو ممّا أَمَرَنا ربُّنا بِهِ وحثَّنا عليه في كتابِهِ فقال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).

ولا شكَّ أنَّ مِنْ أعظم صورِ التَّعاون على الخيرِ والبرِّ: التعاونَ مع ولاة الأمر -حفظهم الله تعالى- فيما يقومونَ به ويوجِّهونَ إليه من قراراتٍ وتوجيهاتٍ رشيدةٍ؛ يُقْصَدُ بها مصلحةُ العباد وتنميةُ البلاد،ومن صورِ ذلك التَّعاونِ: التعاونُ مع موظَّفي دائرةِ الإحصاءِ على تحقيقِ ما وَجَّهَ به صاحبُ السموِّ حاكمُ الإمارة حفظه الله من القيام بإحصاءٍ شاملٍ لجميع الأفرادِ الذين يعيشون على أرضِ إمارةِ الشارقةِ، يُرادُ به الوصولُ إلى ما فيه سعادةُ العبادِ ورخاءُ البلاد.

فاحْرِصوا -عبادَ الله- على المشاركةِ بصورةٍ إيجابيةٍ لتحقيقِ هذا التَّعدادِ على أكملِ وَجْهٍ وأحسنِ صورة، واحتسبوا الأجرَ والثوابَ مِنَ اللهِ -تعالى- بذلك؛ يَكْتُبُ اللهُ لكمُ الأثرَ الحسنَ في الدنيا والعاقبةَ الطيّبة في الآخرة، إنَّهُ سبحانَهُ جوادٌ كريمٌ سميعٌ مجيبٌ.

  

الخميس، 8 أكتوبر 2015

خطلة الجمعة : الاستعداد لليوم الآخر - مبادرات الدولة في أعمال الخير

الخطبة الأولى: جماعة المسلمين قال ربنا سبحانه وتعالى : "اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ" وقال صلى الله عليه وسلم:"اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ , وَلَا يَزْدَادُ النَّاسُ عَلَى الدُّنْيَا إِلَّا حِرْصًا، وَلَا يَزْدَادُونَ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا" فيخبر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن اقتراب الساعة، التي سيحشر الناس فيها إلى ربهم من قبورهم حفاة عراة غرلا غير مختونين كما خلقهم الله أول مرة قال تعالى " وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ " ثم سيحاسبون على أعمالهم قال تعالى :"وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" ولكن الناس عن هذا اليوم غافلة، منّاهم الشيطان بطول العمر، وأنساهم لقاء ربهم، فتركوا العمل ،وهذا من أسباب الهلاك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل".

عباد الله: لقد أمرنا الله سبحانه بالاستعداد ليوم القيامة  بالإيمان بالعمل الصالح، فقال سبحانه : " "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" وحذرنا من نسيانه فقال : " وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " فإن الغفلة عن اليوم الآخر موجبة للهلاك والعقوبة، فمن نسي ربه أَنْسَاهُ مَصَالِحَ نفسِه فَعَطَّلهَا، بأن يهمل في تحصيل سعادة نفسه وفلاحها وما تكمل به، وينسى عيوبَ نفسه ونقصَها وآفاتِها، فلا يخطر بباله إزالتها وإصلاحها، وينسى أمراض نفسه وقلبه وآلامَها، فلا يخطر بقلبه مداواتُها،  وَلَيْسَ بَعْدَ تَعْطِيلِ مَصْلَحَةِ النَّفْسِ إِلَّا الْوُقُوعَ فِيمَا تَفْسَدُ بِهِ وَتَتَأَلَّمُ بِفَوْتِهِ غَايَةَ الْأَلَمِ ، ولذلك فإن العاقل الفطن هو الذي يحاسب نفسه، ويتدارك نقص.

أيها المسلمون : لقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى اغتنام العمر بما ينفع يوم القيامة فعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: " اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ " ولا يقال لشيء اغتنمه إلا وهو يخشى فواته، فأعظم ما يعتني به العبد هو تخليص نفسه من الخسارة التي هي صفة لازمة له لا تنفك عنه، كما قال سبحانه : " وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ" ولا ينجي من هذه الخسارة إلا قوله تعالى في نهاية سورة العصر : " إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " 

والعبد سيعاين هذه الخسارة في موقفين، ولكنه لا يقدر على النجاة منها، لفوات الأوان، أما الموقف الأول فهو عند الموت، إذا ما شاهد ملائكة الموت يجلسون عند رأسه، وإذا ما عاين سكرة الموت وشدته، تذكر تفريطه وخسارته، فيتمنى الرجوع، ولكن حيل بينه وبين ما يتمنى قال تعالى:حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" . 

وأما الموقف الآخر فهو يوم القيامة إذا عاين العبد الموقف وكربته، والحساب وشدته، ورأى النار لها سبعون ألف زمام مع كل زمان سبعون ألف ملك يجرونها، وسمع زفرتها في أرض المحشر، كما قال كعب رضي الله عنه: إن لجهنم يوم القيامة لزفرة ما من ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لركبتيه حتى إن إبراهيم خليل الله ليقول رب نفسي نفسي حتى لو كان لك عمل سبعين نبيا إلى عملك لظننت أن لا تنجو" آنذاك يتمنى العبد الرجوع قال تعالى : " وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ "
روى ابن ماجة بإسناد حسن عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: "أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ"


الخطبة الثانية : إِنَّ الْحَيَاةَ مَيْدَانٌ لِلْخَيْرِ عَظِيمٌ، تَتَنَوَّعُ فِيهِ الطَّاعَاتُ و الأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ، لِتَشْمَلَ الإِحْسَانَ بِجَمِيعِ صُوَرِهِ، وَقَدْ ثَمَّنَ الإِسْلاَمُ الْمُبَادَرَاتِ الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُهَا لِلآخَرِينَ، وَجَعَلَهَا مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْقُرُبَاتِ، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :« مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ»

وقَدْ أَسْبَغَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا الأمن، وَهو مِنْ أَعْظَمِ الْمِنَنِ فِي الدُّنْيَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :«مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا». فَبَذَلَتِ الإِمَارَاتُ مِنْ أَمْوَالِهَا، وَدِمَاءِ أَبْنَائِهَا، لاِسْتِقْرَارِ أَشِقَّائِهَا.

وَقَدْ تَعَدَّدَتْ فَسَائِلُ الْخَيْرِ مِنَ الإِمَارَاتِ، وَتَنَوَّعَتْ أَيَادِيهَا الْبَيْضَاءُ فِي مَجَالاَتِ التَّعْلِيمِ وَالاِهْتِمَامِ بِالْمُتَعَلِّمِينَ، وَاحْتِضَانِ الْمُبْتَكِرِينَ، وَرِعَايَةِ الْمَرْضَى وَالْمَسَاكِينِ، وَمُسَاعَدَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، مِنْ أَجْلِ التَّنْمِيَةِ وَالْبَقَاءِ وَالاِرْتِقَاءِ، لِيَعِيشَ النَّاسُ على الأرض بِخَيْرٍ وَنِعْمَةٍ، وَهَذَا مِمَّا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ.

كما  نَهَضَتْ دَوْلَتُنَا الْمُبَارَكَةُ فِي الْجَانِبِ التَّعْلِيمِيِّ وَالْمَعْرِفِيِّ نَهْضَةً كَبِيرَةً، وَخَطَتْ خُطُوَاتٍ وَاسِعَةً، فَأَنْشَأَتِ الْمَدَارِسَ وَالْمَعَاهِدَ وَالْجَامِعَاتِ، وَدَعْمت التَّعْلِيمِ فِي الْبُلْدَانِ الأُخْرَى، اهْتِمَامًا بِالْعِلْمِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَبَبًا لِرِفْعَةِ الإِنْسَانِ وَرُقِيِّهِ .

 وَعَمِلَتِ الإِمَارَاتُ عَلَى مُكَافَحَةِ الْمَرَضِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلاَدِ الْمُحْتَاجَةِ شُكْرًا لِلهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ مِنْ مُسْتَوًى رَاقٍ فِي الصِّحَّةِ الْعَامَّةِ، فَأَنْشَأَتْ لَهُمُ الْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمُ الْقَوَافِلَ الْعِلاَجِيَّةَ وَالْمُسَاعَدَاتِ الإِغَاثِيَّةَ، ضِمْنَ مُبَادَرَاتٍ إِنْسَانِيَّةٍ عَدِيدَةٍ والتي تزرع الأمل في قلوب الناس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا، أَوْ تُطْرَدُ عَنْهُ جُوعًا». وَهَذِهِ الأَعْمَالُ الإِنْسَانِيَّةُ تُعَبِّرُ عَنِ الرَّحْمَةِ الَّتِي تُظْهِرُ مَا لِلإِسْلاَمِ مِنْ وَجْهٍ مُشْرِقٍ فِي صِنَاعَةِ الْحَيَاةِ، وَمَا تَتْرُكُهُ مِنْ آثَارٍ عَظِيمَةٍ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ، فَهِيَ تُعَلِّمُ الْجَاهِلَ، وَتُدَاوِي الْمَرِيضَ، وَتُطْعِمُ الْجَائِعَ، وَتَجْبُرُ الْمِسْكِينَ، وَتَرْحَمُ الضَّعِيفَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :« الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ». وَبِذَلِكَ أَصْبَحَتْ دَوْلَةُ الإِمَارَاتِ مَظَلَّةً لِلأَمَلِ، وَمَثَلاً لِلْعَمَلِ الإِنْسَانِيِّ، حَتَّى تَبَوَّأَتِ الصَّدَارَةَ وَالرِّيَادَةَ فِي الأَعْمَالِ الْخَيِّرِيَّةِ الْمُتُجُدِّدَةِ. 

فَيَا سَعَادَةَ مَنْ  أَوْدَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ حُبَّ الْخَيْرِ، فَأَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ، وَبَذَلَ الْمَعْرُوفَ, وَسَاعَدَ الْمُحْتَاجِينَ، وَوَاسَى الضُّعَفَاءَ وَالْمَحْرُومِينَ، مُبْتَغِيًا بِذَلِكَ الأَجْرَ وَالثَّوَابَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَقُولُ رَبُّنَا تَعَالَى فِي بَيَانِ جَزَاءِ الْمُنْفِقِينَ:( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) .