السبت، 30 يناير 2016

مقال : الخوارج هم العدو فاحذروهم ( 8 )

بسم الله الرحمن الرجيم 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد

فقد ذكرت في المقالات السابقة خطر الفكر الخارجي على الدين والدنيا، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر منهم في أحاديث مستفيضة، وذكر صفاتهم وأشهر ما يتميزون به عن غيرهم، لأجل أن يحذرهم المسلمون، ويتجنبوا الانضمام إليهم.

ثم ذكرت نقطة محورية هامة جدا وهي : من هو الخارجي ؟

وبينت بعض الصفات التي تجمع بين الخوارج قديما وحديثا ، وسأتابع ذكر أخص الصفات التي يشتهر بها الخوارج، ومن من الجماعات المعاصرة أو الأشخاص قد سار على نهجهم واتصف بصفاتهم.

فمن الصفات المشتركة بين الخوارج قديما وحديثا : 

كذبهم واتباعهم أي وسيلة لنصرة مذهبهم وجماعتهم.

فعندهم الغاية تبرر الوسيلة، ومن أفعالهم الدالة على ذلك ما حصل في فتنة عثمان رضي الله عنه، قال ابن كثير في البداية والنهاية (7/ 218) : قالت عائشة حين قتل عثمان: تركتموه كالثوب النقي من الدنس ثم قتلتموه. وفي رواية: ثم قربتموه ثم ذبحتموه كما يذبح الكبش؟ فقال لها مسروق: هذا عملك، أنت كتبت إلى الناس تأمريهم أن يخرجوا إليه، فقالت: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.
قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها.
وهذا إسناد صحيح إليها.
وفي هذا وأمثاله دلالة ظاهرة على أن هؤلاء الخوارج قبحهم الله، زوروا كتبا على لسان الصحابة إلى الآفاق يحرضونهم على قتال عثمان، كما قدمنا بيانه ولله الحمد والمنة."  

وأما أهل السنة والجماعة فلا يرفعون شعار " الغاية تبرر الوسيلة" فالصدق شعارهم والأمانة في التعامل أساس ينطلقون منه في تعاملاتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : "
أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ " رواه أبوداود.

ومن الصفات المشتركة بين الخوارج قديما وحديثا : 

رفعهم لشعارات شرعية مستقاة من الكتاب والسنة، للتمويه على الناس واستدراجهم، فالخوارج زمن علي بن ابي طالب رفعوا شعار : لا حكم إلا لله، فروى مسلم في صحيحه  عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ، وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، قَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ نَاسًا، إِنِّي لَأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلَاءِ، «يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لَا يَجُوزُ هَذَا، مِنْهُمْ، - وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ - مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللهِ إِلَيْهِ .." 

فمن شعاراتهم في زماننا مصطلح ( الحاكمية) ، وجعلوه قسما من أقسام التوحيد الثلاثة وسموه توحيد الحاكمية، وقرره المودودي في كتبه، ونصره سيد قطب في مؤلفاته، حتى جعلها أخص خصائص الألوهية، وجعل الخارج عنها مشركا شركا أكبر. 

وإذا أتينا إلى واقعهم عرفنا كذبهم في دعاواهم، فتمكنوا برهة من الزمن في بعض البلدان، ووصل بعضهم إلى كرسي الحكم، فهل طبقوا الشريعة والحاكمية ؟

الجواب : قال القرضاوي – وهو من منظري الخوارج في زماننا – في مقابلة معه في البي بي سي : "الحرية مقدمة على تطبيق الشريعة " . 

فالقوم من أبعد الناس عن شرع الله، ومن أكثرهم مخالفة له، فيسفكون الدم الحرام  باسم الشرع، وينتهكون الأعراض باسم الشرع، ويخفرون الذمم باسم الشرع، والشرع برئ من ذلك.  

وقد حذر السلف رحمهم الله من طريقة الخوارج في رفع الشعارات التي يضللون بها الناس ومن الاغترار بها، قال الآجري رحمه الله في كتابه الشريعة 1/49 : " لم يختلف العلماء قديما وحديثا أن الخوارج قوم سوء عصاة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وإن صلوا وصاموا ، واجتهدوا في العبادة ، فليس ذلك بنافع لهم ، نعم ، ويظهرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليس ذلك بنافع لهم ؛ لأنهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون ، ويموهون على المسلمين ، وقد حذرنا الله تعالى منهم ، وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم ، وحذرناهم الخلفاء الراشدون بعده ، وحذرناهم الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان"

ومن الصفات المشتركة بين الخوارج قديما وحديثا : 

السرية في أعمالهم قال ابن كثير في البداية والنهاية (7/317) : "  فكتبوا كتابا عاما إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يدا واحدة على الناس، ثم خرجوا يتسللون وحدانا لئلا يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج، فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسموات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه مما زينه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السموات، الذي نصب العداوة لأبينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات، والله المسؤول أن يعصمنا منه بحوله وقوته إنه مجيب الدعوات، وقد تدارك جماعة من الناس بعض أولادهم وإخوانهم فردوهم وأنبوهم ووبخوهم فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنه من فر بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة.."

فتأملوا حالهم التي ذكرها ابن كثير رحمه الله، وحال أتباع الإخوان المسلمين والقاعدة والدواعش وأمثالهم، تعلم درجة التقارب والتشابة بين القوم.
وفي زماننا ألف بعض منظري الخوارج رسالة بعنوان: " الدعوة والتنظيم بين السرية والجهر" يحث أتباعه على العمل السري في بلاد المسلمين. 

وأما أهل السنة والجماعة  فإن الأصل في أعمالهم العلن، والسرية وإنما تكون لمصلحة الدين لا لمصلحة الحزب، روى الإمام اللالكائي في اعتقاد أهل السنة حديث نافع عن ابن عمر قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أوصني قال: اعبد الله ولا تشرك به شيئا، وأقم الصلاة، وآت الزكاة، وصم رمضان، وحج البيت واعتمر، واسمع وأطع، وعليك بالعلانية وإياك والسر" قال عنه الألباني إسناده جيد.
وقد روى الدرامي في السنن  عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: " إذا رأيت قومًا يتناجون في دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة "

ومن الصفات المشتركة بين الخوارج قديما وحديثا : 

طعنهم في علماء أهل السنة والجماعة الذين بينوا خطرهم، وحذروا الناس من شرهم، مع وصفهم بالجبن والضعف.

ولما بَعَثَ عَلِيّ بن أبي طالب عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ إلى الخوارج ليناظرهم، قامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ – رجل من الخوارج - يَخْطُبُ النَّاسَ، فَقَالَ: يَا حَمَلَةَ الْقُرْآنِ، إِنَّ هَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ فَأَنَا أُعَرِّفُهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَا يَعْرِفُهُ بِهِ، هَذَا مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ وَفِي قَوْمِهِ: "بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ" فَرُدُّوهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلا تُوَاضِعُوهُ كِتَابَ الله " رواه أحمد في المسند. 

وفي عصرنا يتكرر الأمر فيصف الخوارج علماء أهل السنة وطلاب العلم بالمرجئة والجامية والمدخلية  وغيرها من الألفاظ التي يقصد بها تنفير الناس عنهم، وهذه طريقة أهل البدع الوقيعة في أهل السنة والنيل منهم.

وأما طريقة أهل السنة والجماعة فهي احترام العلماء وتوقيرهم، قال الإمام الطحاوي رحمه الله في عقيدته: "وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل".  

ومن الصفات المشتركة بين الخوارج قديما وحديثا : 

تركهم للصلاة في المساجد خلف الأئمة، ويعتبرون مساجد المسلمين مساجد ضرار، فيتقربون إلى الله بترك الجماعة والجمعة.

ورد في مقالات الإسلاميين (1/103) عن طائفة من الخوارج وهم البيهسية أنهم قالوا: " الدار دار شرك، وأهلها جميعا مشركون، وتركت الصلاة، إلا خلف من تعرف "

وفي زماننا ألف أبو قتادة الخارجي رسالة بعنوان " مساجد الضرار" واعتبر جميع مساجد البلاد الإسلامية مساجد ضرار، وحث على ترك الصلاة فيها، حيث قال : "ومما تدخل في معنى مسجد الضرار وينطبق عليها الوصف الشرعي، تلك المساجد التي بناها الطواغيت لتذكر فيها أسماؤهم وتسمى بهم ..."

وثبت من كلام أصحاب سيد قطب أنه لم يكن يصلي الجمع ولا الجماعات في مساجد المسلمين بل يعتبرها معابد جاهلية .

قال سيد قطب في تفسير قول الله تعالى: {واجعلوا بيوتكم قبلة}: (يرشدهم الله إلى اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي)،
في ظلال القرآن: (3/1816) 

ووصَفَ سيد قطب بيوت الله في بلاد المسلمين اليوم بأنها (معابد الجاهلية)، ووصفها بأنها (مساجد الضرار) وأوصى أتباعه باعتزالها والصلاة في البيوت مخالفا صريح الكتاب وصحيح السنة وسبيل المؤمنين القدوة، قال الله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه}.

وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال:" من سره أن يلقى الله تعالى غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن "

 وأهل السنة والجماعة فيصلون خلف كل بر وفاجر من أهل هذه القبلة، وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ « كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاَةَ عَنْ وَقْتِهَا أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلاَةَ عَنْ وَقْتِهَا ». قَالَ قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِى قَالَ « صَلِّ الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ »، وبوب البخاري في صحيحه بابا :  باب إِمَامَةِ الْمَفْتُونِ وَالْمُبْتَدِعِ، ثم أورد أثر الحسن :   وَقَالَ الْحَسَنُ صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ  


أخي القارئ: هذه بعض الصفات التي تعرفك على أصحاب هذا الفكر المنحرف، لتتجنبهم وتنجو من طريق هلكتهم.
سيكون موضوع الحلقة القادمة –بإذن الله - عن خطر الخوارج على الإسلام والمسلمين.
وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه، ووقانا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن .

كتبه أبو محمد سعيد بن سالم الدرمكي 

الخميس، 28 يناير 2016

خطبة الجمعة : فضل الصحابة

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين : اعلموا رحمكم الله أن الله جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ أَصْحَابًا، يُؤَازِرُونَهُ فِي إِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِ الصَّوَابِ، وَيُبَلِّغُونَ مَنْ بَعْدَهُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ شَرِيعَةٍ أَوْ كِتَابٍ، وَاخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ خَيْرَ الأَنْجابِ، فَأَيَّدُوهُ وَنَصَرُوهُ وَكَانُوا لَهُ أَزْكَى رُفْقَةٍ وأطيبَ صِحاب، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : «مَن كانَ مُسْتَنًّا ، فَلْيَسْتَنَّ بمن قد ماتَ ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَةُ ، أولئك أصحابُ محمد - صلى الله عليه وسلم -كانوا أفضلَ هذه الأمة ،أبرَّها قلوبًا، وأعمقَها علمًا،وأقلَّها تكلُّفًا، اختارهم الله لصحبة نبيِّه، ولإقامة دِينه، فاعرِفوا لهم فضلَهم، واتبعُوهم على أثرهم، وتمسَّكوا بما استَطَعْتُم من أخلاقِهم وسيَرِهم، فإنهم كانوا على الهُدَى المستقيم».

وَوَعَدَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالْخَيْرَاتِ، وَضَمِنَ لَهُمُ الرِّضْوَانَ وَالْجَنَّاتِ؛ فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، فَهُمْ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، زَكَّاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"  فَهُمْ أَرْسَخُ النَّاسِ عِلْمًا، كَانُوا فِي الدُّنْيَا لِهَِلف أَوْلِيَاءَ، وَلِعِبَادِ اللَّهِ نُصَحَاءَ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ بِسِيرَتِهِمُ الْعَطِرَةِ أَحْيَاءً.

بَايَعُوهُ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الشَّجَرَةِ؛ فَبَارَكَ اللَّهُ تَعَالَى فِي عَلْيَائِهِ بَيْعَتَهُمْ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ، فَسُمِّيَتْ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ:( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا). فَهُمْ أَهْلُ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَالطُّهْرِ وَالنَّقَاءِ، قال تعالى في وصف الصحابة الكرام:" مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" .

 أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَعْرِفَ لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَحَذَّرَنَا مِنَ انْتِقَاصِهِمْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم :« لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ». أَيْ: لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ ثَوَابُهُ ثَوَابَ نَفَقَةِ أَحَدِ أَصْحَابِي مُدًّا، وَلَا نِصْفَ مُدٍّ.

قال الطحاوي في عقيدته : "وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نُفَرِّطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُمْ، وَبِغَيْرِ الْخَيْرِ يَذْكُرُهُمْ، وَلَا نَذْكُرُهُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَحُبُّهُمْ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ"

هم نقلة الدين إلى الأمة، ولذلك كان الطعن فيهم طعنا فيما ينقلونه من القرآن والسنة والفقه، قال أبو زرعة الرازي – وهو من العلماء الأجلاء توفي سنة 264 هـ : ((إذا رأيت الرجلَ ينتقصُ أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنَّه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حقٌّ والقرآن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليُبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى وهم زنادقةٌ" ، ولأجل ذلك شدد النبي صلى الله عليه وسلم في أمر من سب صحابته فقال: "مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا "

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرُونَ بِالْجَنَّةِ، ثم المهاجرون ، ثُمَّ الْبَدْرِيُّونَ الذين شهدوا بدار، ثم الأنصار ثُمَّ أَصْحَابُ أُحُدٍ، ثُمَّ أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، ثم من أسلم قبل الفتح ثُمَّ بَقِيَّتُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا، وَكُلُّهُمْ وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجَنَّةَ؛ قَالَ تَعَالَى:(وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) .

وَأَوَّلُ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ الخليفةُ الرَّاشِدُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ، وَلُقِّبَ بِالصِّدِّيقِ لأَنَّهُ لَمْ يَتَرَدَّدْ فِي تَصْدِيقِ حَادِثَةِ الإِسْرَاءِ، وَكَانَ أَحَبَّ الرِّجالِ إِلَى قَلْبِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَدْ سُئِلَ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ:« عَائِشَةُ». قِيلَ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ:«أَبُوهَا». 

وَالثَّانِي فِي الْفَضْلِ: الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ أميرُ المؤمِنين أبو حَفْصٍ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ». وَهُوَ أَحَدُ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، أَعَزَّ اللَّهُ تَعَالَى بِإِسْلاَمِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَصَاهَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَزَوَّجَ ابْنَتَهُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَتَزَوَّجَ عُمَرُ مِنَ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا، قَالَ فِيهِ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عِلْمِي فِيهِ أَنَّ سَرِيرَتَهُ خَيْرٌ مِنْ عَلاَنِيَتِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِينَا مِثْلُهُ. 

عباد الله ثَالِث الخلفاء الراشدين الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ أميرُ المؤمِنين عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَوَائِلِ الصَّحَابَةِ إِسْلاَمًا، بَشَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ، وَبَايَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيِيًّا تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ:« أَلاَ أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ». وَزَوَّجَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَتَهُ رُقَيَّةَ، فَلَمَّا تُوفِّيَتْ زَوَّجَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ، فَلُقِّبَ بِذِي النُّورَيْنِ، وَهُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، وَكَانَ مِثَالاً فَرِيدًا فِي خِدْمَةِ مُجْتَمَعِهِ، وَالْمُشَارَكَةِ الْفَعَّالَةِ فِي حَلِّ مَشَاكِلِهِ، فَاشْتَرَى بِئْرَ رُومَةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَزِيدُ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ؟». فَكَانَ الَّذِي زَادَ فِيهِ: عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَجَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :« مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ»، قتل شهيدا رضي الله عنه يوم الدار إذ تسور عليه الثوار فقتلوه وسال دمه على المصحف.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَرَابِعُ الصَّحَابَةِ مَكَانَةً وفَضْلاً الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ أميرُ المؤمِنينَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ابْنُ عَمِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مِنَ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْفِتْيَانِ، وَزَوْجُ فَاطِمَةَ بِنْتِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ يُؤَازِرُهُ، كَمَا كَانَ كَذَلِكَ مَعَ عُمَرَ، وَيَعْرِفُ لَهُمَا فَضْلَهُمَا وَتَقَدُّمَهُمَا، فَعَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي ـ يعني: عَلِيّاً ـ : مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ. قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. 

وَدَافَعَ عَلِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَالِمًا حَكِيمًا، شُجَاعًا مِقْدَامًا، تَصَدَّى لِفِتْنَةِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ كَفَّرُوا الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُمْ، وَوَقَى الْمُجْتَمَعَ مِنْ شَرِّهِمْ وَخَطَرِهِمْ، فرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ بَقِيَّةِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ الأَجِلاَّءِ: طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ ابنِ العَوّام، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدِ ابْنِ زَيْدٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ مَوَاقِفُ جَلِيلَةٌ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ.

الخطبة الثانية : عباد الله: مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ نَتَواصى بِهِ مَعْرِفَةُ سِيَرِ صَحَابَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَحُبُّهُمْ وَتَقْدِيرُ مَكَانَتِهِمْ، وَتَعْظِيمُ مَنْزِلَتِهِمْ، وَالاِقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي اتِّباعِهِم النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم .

كما يَحْسُنُ بِنَا أَنْ نَغْرِسَ مَحَبَّتَهُمْ فِي قُلُوبِ أَبْنَائِنَا وَبَنَاتِنَا مِنْ خِلاَلِ تَعْرِيفِهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَسِيَرِهِمْ وَمَوَاقِفِهِمْ، وَتَعْلِيمِهِمْ الدُّعَاءَ لَهُمْ، فَهُمْ قُدْوَةٌ لَنَا بَعْدَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وهم نقلة الدين. قَالَ الحافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى مَعْرِفَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَوْكَدِ الْعِلْمِ، وَمَا أَظُنُّ أَهْلَ دِينٍ مِنَ الأَدْيَانِ إِلاَّ وَعُلَمَاؤُهُمْ مَعْنِيُّونَ بِمَعْرِفَةِ أَصْحَابِ أَنْبِيَائِهِمْ؛ لأَنَّهُمُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَبَيْنَ أُمَّتِهِ"

وَحِرْصًا مِنْ حُكُومَتِنَا الرَّشِيدَةِ عَلَى تَعْزِيزِ مَكَانَةِ الصَّحَابَةِ فِي نُفُوسِ الأَجْيَالِ؛ ضَمَّنَتْ الْمَنَاهِجَ التَّعْلِيمِيَّةَ وَالدُّرُوسَ الْوَعْظِيَّةَ نَمَاذِجَ مُشْرِقَةً مِنْ سِيرَتِهِمُ الْعَطِرَةِ، تَقْدِيرًا لِمَكَانَتِهِمْ، وَقَدْ نَصَّ قَانُونُ مُكَافَحَةِ التَّمْيِيزِ وَالْكَرَاهِيَةِ عَلَى تَجْرِيمِ التَّطَاوُلِ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم أَوْ زَوْجَاتِهِ وَآلِهِ، أَوْ أَصْحَابِهِ، أَوِ السُّخْرِيَةِ مِنْهُمْ.



الخميس، 21 يناير 2016

خطبة الجمعة : من محاسن الأخلاق النزاهة في الأقوال والأفعال

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الإِسْلاَمَ دِينُ الأَخَلاَقِ الْعَالِيَةِ، وَالأَقْوَالِ الْفَاضِلَةِ، وَالْمُعَامَلاَتِ الرَّاقِيَةِ، فَقَدْ حَثَّنَا عَلَى أَنْ نَتَحَلَّى بِأَرْفَعِ الشِّيَمِ، وَأَجْمَلِ الْخِصَالِ وَالْقِيَمِ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ وَمَعَالِيَ الأَخْلاَقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا»، ومن الأخلاق العالية التي ينبغي للمسلم أن يتحلى بها خلق النزاهة.

وَالنَّزَاهَةُ مِنْ أَهَمِّ الصِّفَاتِ وَأَجَلِّهَا، وَأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ وَأَكْمَلِهَا، فهي تدعوا  للبُعْدِ عَنِ كل سوء، وَالتَّرَفُّعُ عَنِ كل نقَصٍ. 

وأول من يُنزه عن كل نقص ويُمدح بكل كمال هو الله سبحانه وتعالى، فإن له الكمال المطلق، وله الأسماء الحسنى التي كملت في حسنها، وله من الصفات أعلاها فلا يشابهه فيها مخلوق قال تعالى : "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"، وكلما احتوى الذكر على تنزيهِ الله وتمجيدِه كلما ارتفع أجرُه وعلا قدرهُ قال النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ، ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ » ، فالتسبيح تنزيه لله تعالى عن كل نقص وسوء، والحمد إثبات الكمال لله تعالى، ولذلك ثقلت هذه الكلمات في الميزان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والأمر بتسبيحه يقتضي تنزيهه عن كلِّ عَيبٍ وسُوءٍ، وإثباتَ المحامد التي يُحمد عليها، فيقتضي ذلك تنزيهه وتحميده وتكبيره وتوحيده"

وأهل السنة والجماعة منهجهم في هذا الباب العظيم: هو إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال، دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تمثيل، ونفي ما نفاه الله عن نفسه وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب، ولا يتجاوزون في ذلك القرآن والحديث.

 عباد الله : من مجالات النزاهة النزاهة في المال أخذا وإعطاء، وقد كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي نَزَاهَتِهِ وَتَرَفُّعِهِ خَيْرَ قُدْوَةٍ يُتَّبَعُ، وَأَفْضَلَ أُنْمُوذَجٍ يُحْتَذَى؛ فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « إِنِّى لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِى فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِى ثُمَّ أَرْفَعُهَا لآكُلَهَا ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا ». دل هذا الحديث على أن المسلم يتنزه عن الشبهات وما لا يعلم حكمه من حل أو حرمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك التمرة لخشيته أن تكون من الصدقة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا تحل له الصدقة، لذا فقد حثَّنا صلى الله عليه وسلم على لزوم جانب الورع، وحَذَّرنا من خَوْضِ غِمار الشُّبهات؛ فقال: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» ، ويقول نبيُّنا صلى الله عليه وسلم مبيّناً الثِّمارَ الطيّبةَ التي يَجْنِيها مَنْ يتَّصفُ بالعِفَّةِ والنَّزاهةِ: «ومن يستعفِف يُعِفَّهُ الله، ومن يستغنِ يُغنِه الله»

وَقَدْ عَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمُ النَّزَاهَةَ، فَكَانُوا نَمَاذِجَ فَرِيدَةً، ومن ذلك ما رواه البخاري عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ لأَبِى بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ ، وَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ ، - أي يأتيه بما يكسبه والخراج ما يقرره السيد على عبده من مال يحضره له من كسبه-  فَجَاءَ يَوْمًا بِشَىْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلاَمُ تَدْرِى مَا هَذَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا هُوَ قَالَ كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإِنْسَانٍ فِى الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ ، إِلاَّ أَنِّى خَدَعْتُهُ ، فَلَقِيَنِى فَأَعْطَانِى بِذَلِكَ ، فَهَذَا الَّذِى أَكَلْتَ مِنْهُ . فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَىْءٍ فِى بَطْنِهِ " فدل فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه على الورع والتنزه عن أكل الحرام، فإن أخذ الأجر على الكهانة محرم، ثم الخديعة في ذلك محرمة، فتغلظ الأمر بأنه خدع في الحرام، فبادر أبو بكر رضي الله عنه إلى بذل جهده من  كونه أخرج ما حصل في بطنه من ذلك.

وَهَذَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْوِي لَنَا كَيْفَ عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّزَاهَةَ في طلب المال فَيَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ:« يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَاـ أَيْ: لاَ أُنْقِصُ مَالَ أَحَدٍ ـ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى، وَكَذَلِكَ دَعَاهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى... فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ. 

وإنما امتنع حكيم من أخذ العطاء مع أنه حقه؛ لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئًا، فيعتاد الأخذ، فتتجاوز به نفسه، إلى ما لا يريده، فقطعها عن ذلك.

وَكَذَلِكَ مِنْ أَبْرَزِ صُوَرِ النَّزَاهَةِ التَّرَفُّعُ عَنِ الْمَكَاسِبِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَشْبُوهَةِ، وَيُسْتَعَانُ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَنَاعَةِ، فَهِيَ كَنْزٌ لاَ يَفْنَى، لِأَنَّ الإِنْفَاقَ مِنْهَا لَا يَنْقَطِعُ، وَكُلَّمَا تَعَذَّرَ عَلَى الْقَانِعِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا قَنِعَ بِمَا دُونَهُ وَرَضِيَ. يَقُولُ صلى الله عليه وسلم :« أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ». 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَالطَّهَارَةُ مِنْ صُوَرِ النَّزَاهَةِ، كَطَهَارَةِ الْبَدَنِ مِنْ أَدْرَانِهِ، وَطَهَارَةِ النَّفْسِ وَنَزَاهَتِهَا عَنِ النَّقَائِصِ، وَأَهَمُّ ذَلِكَ وَأَوَّلُهُ، وَأَعْلاَهُ وَمُقَدَّمُهُ: طهارة العبد من أدران الشرك، فإن الشرك نجاسة معنوية تصيب القلب والبدن وإنما يكون التنزه منها بتحقيق التوحيد والإخلاص لله تعالى، ممتثلا قوله تعالى: " قل إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" 

ثم يسعى المسلم إلى طَهَارَةِ قلبه وَنَزَاهَتِهِ مِنْ أَمْرَاضِهِ، مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَالْكَرَاهِيَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَقَدْ حَذَّرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا، وَحَثَّنَا عَلَى أَنْ نُنَزِّهَ قُلُوبَنَا عَنْهَا، وَوَصَفَ لَنَا دَوَاءَ هَذَا الدَّاءِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ، أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ». 
عباد الله : مِنْ أَبْرَزِ صُوَرِ النَّزَاهَةِ وَأَشَدِّهَا أَثَرًا عَلَى الْمُجْتَمَعِ النَّزَاهَةُ فِي أَدَاءِ الْوَظَائِفِ ،  وَذَلِكَ بِتَعَفُّفِ الْمُوَظَّفِ عَمَّا لاَ يَلِيقُ؛ كالتَّعَفُّفِ عَنِ الْمِسَاسِ بِالأَمْوَالِ الْعَامَّةِ، فَهَذَا عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ تُسْرَجُ عَلَيْهِ الشَّمْعَةُ مَا كَانَ فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِيْنَ، فَإِذَا فَرَغَ أَطْفَأَهَا، وَأَسْرَجَ عَلَيْهِ سِرَاجَهُ. أَيْ كَانَ يُضِيءُ الشَّمْعَةَ الْخَاصَّةَ بِبَيْتِ الْمَالِ طَالَمَا كَانَ فِي قَضَاءِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا انْتَهَى أَضَاءَ مِصْبَاحَهُ الْخَاصَّ بِهِ. 

وَلاَ يُقَصِّرُ الْمُوَظَّفُ النَّزِيهُ عَنْ أَدَاءِ وَاجِبٍ، وَلاَ يُقْدِمُ عَلَى فِعْلِ مَحْظُورٍ، فَهُوَ أَنْزَهُ مِنْ أَنْ يَقْبَلَ رِشْوَةً، أَوْ أَنْ يَأْخُذَ هَدِيَّةً مِنْ وَرَائِهَا مَآرِبُ أُخْرَى .

وَإِنَّ التَّاجِرَ يَتَنَزَّهُ عَنْ أَنْ يَبِيعَ مَا يَضُرُّ النَّاسَ، وَلاَ يُغْرِيهِ كَثْرَةُ الرِّبْحِ، وَيَقْتَدِي بِالصَّالِحِينَ، وَالتُّجَّارِ الصَّادِقِينَ، فَيَفُوزُ بِبُشْرَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقَائِلِ:« التَّاجِرُ الأَمِينُ الصَّدُوقُ الْمُسْلِمُ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَالنَّزَاهَةُ تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ أَنْشِطَةِ الْحَيَاةِ، وَكُلُّ مَجَالٍ لَهُ صُوَرُ نَزَاهَتِهِ، وَمَظَاهِرُ عِفَّتِهِ. فَاللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا، وَزَكِّ نُفُوسَنَا، وَاجْعَلْنَا بِالنَّزَاهَةِ قَائِمِينَ .


الخطبة الثانية : إنَّ أعظمَ ما يحثُّ المسلمَ على الاتِّصافِ بالنَّزاهةِ والعِفَّة: حياءه من اطّلاعِ اللهِ العليمِ الخبيرِ عليه وهو يرتكب ما نهاهُ عنهُ وحرَّمه عليه، لذا حثَّنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم  على الحياءِ من اللهِ تعالى، فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ!». قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ! قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ»

ومن أشدِّ ما يَحْملُ الإنسانَ على تَرْكِ لزومِ سبيلِ النَّزاهة والعِفّة: اللسانُ والبطنُ والفَرْج.

فاللسانُ إن لم يتصف بالنَّزاهةِ عن الكذبِ والغِيبةِ والنَّمِيمةِ والخوضِ في الأعراض والتعدّي على المسلمين بالسِّباب والشتم وفاحش الكلام وغير ذلك أَهْلكَ صاحِبَهُ، عن معاذٍ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بلسانه وقال: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ».

والبطنُ إن لم يتصفْ بالنَّزاهةِ عن التَّغذي بالحرام من رِبَاً ورِشوةٍ وسرقةٍ وغُلولٍ وأكل لأموالِ اليَتامى ظُلْماً وغيرِ ذلك أَوْدى بصاحبِهِ سبُلَ الرَّدى، قال تعالى: "وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) ، وعن عبد الله ابن عمرٍو رضي الله عنهما قال: لعنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي .

والفَرْجُ إن لم يتَّصف بالنَّزاهةِ عن الحرامِ أَهْلَكَ صاحبَه وأَرْداهُ، قال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي: انْطَلِقْ. وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا...[وذكر الحديثَ فكان مما قال:] فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ؛ فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ، فَاطَّلَعْنَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا [أي: ارتفعَ زَعِيقُهم واختلط]، قال: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَؤُلاَءِ؟!... قالا: أَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ العُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي...» 

فاتقوا الله عباد الله في أَنْفُسِكُم وأهليكم وعيالكم، واحْرِصوا على تحقيقِ القِيَمِ النَّبيلةِ التي دعانا إليها دينُنا الحنيف، واحذروا التَّرَدِّي في دَرَكاتِ الحرام؛ فإنَّ من وراءِ ذلك فساداً عظيماً للعبادِ والبلادِ، وحساباً عسيراً ونَدَماً كبيراً يومَ المعاد؛ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) 

الخميس، 14 يناير 2016

خطبة الجمعة : خطر التكفير وآثاره على الإسلام والمسلمين

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين لقد بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من ظلمات الكفر والجاهلية إلى نور الإيمان والهداية ، فأكمل الله به الدين، وأتم به النعمة، وبين أسس الدين وأركانه، فلم يبق خير إلا وقد دل أمته عليه، ولم يبق شر إلا وحذر أمته منه، ومن جملة ما حذر منه صلى الله عليه وسلم فتنة التكفير، وذلك بإطلاق حكم الكفر على المسلمين بلا بينة شرعية، بل تبعا للأهواء والانتماءات الحزبية.

عباد الله : إن قضية تكفير أفراد المسلمين أو مجموعهم ومجتمعاتهم سبب كل فتنة واختلاف وشر، فبالتكفير قامت الثورات، وسفكت الدماء، وانتهكت الأعراض، واعتدي على الدين وثوابته، قال الشوكاني رحمه الله مبينا خطورة فتنة التكفير: " ها هنا تسكب العبرات، ويناحُ على الإسلامِ وأهلهِ بما جناه التعصبُ في الدينِ على غالبِ المسلمينَ، من الترامي بالكفر، لا لسنة ولا لقرآن ولا لبيان من الله ولا لبرهان، بل لما غلت مراجلُ العصبيةِ في الدين، وتمكنَ الشيطانُ الرجيمُ من تفريقِ كلمةِ المسلمين، لقنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء، والسراب بقيعة، فيا لله وللمسلمين من هذه الفاقرة التي هي من أعظم فواقر الدين، والرزية التي ما رزي بمثلها سبيل المؤمنين" ا.هـ

ويعظم الخطب لما يصدر التكفير ممن تزيى بزي العلم وأهله، وذاع صيته وأمره، فيقلده من لا علم به ولا بصيره، وهذا مما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رِدْئًا لِلْإِسْلَامِ، غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟ قَالَ: «بَلِ الرَّامِي»  

عباد الله : ولأجل خطورة التكفير بلا موجب شرعي صحيح  حذر النبي صلى الله عليه وسلم من إطلاق لفظ الكفر على المسلم في أحاديث متضافرة متوافرة ، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابْن عُمَرَ-رضي الله عنهما- قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ " ، وفي رواية" إذا كفر الرجل أخاهُ فقد باءَ بها أحَدُهُما " أي احتملها أو رجعت عليه، وما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ – رضي الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ " 
بل قد جعل النبي صلى الله عليه وسلم تكفير المؤمن كقتله، فعند البخاري ومسلم من حديث  ثَابِت بْن الضَّحَّاكِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « َمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ» 
قال الشوكاني : " ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير"

ولقد أدرك  الصحابة رضوان الله عليهم خطورة التكفير المبني على الأهواء والعصبيات فنفروا عنه وحذروا منه، فَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: هَلْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَيْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: كَافِرٌ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَكُنْتُمْ تَقُولُونَ: مُشْرِكٌ؟ قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ

و حذر العلماء من تكفير المسلمين وبينوا عظيم الأمر وآثاره السيئة على الأفراد والجماعات، قال ابن أبي العز الحنفي : " إنه لمن أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلده في النار فإن هذا حكم الكافر بعد الموت " وقال القرطبي في المفهم : وباب التكفير باب خطير، أقدم عليه كثير من الناس فسقطوا، وتوقف فيه الفحول فسلموا، ولا نعدل بالسلامة شيئا"

والحكم على مسلم بالكفر يتضمن الحكم عليه بالعظائم والموبقات، كوجوب اللعنة والغضب وحبوط الأعمال وعدم المغفرة، والخلود في النار، مع وجوب مفارقة الزوجات، واستحقاق القتل ، وعدم الميراث، وتحريم الصلاة عليه وعدم دفنه في مقابر المسلمين إلى غير ذلك من الأحكام المتعلقة بالكافر الأصلي والمرتد، ولأجل خطورة هذه الآثار قال أبو حامد الغزالي : "والذي ينبغي الاحتراز منه التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم "

أيها المسلمون:ينبغي أن يعلم المسلم أن التكفير حق لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، لا يطلق في مسألة أو على معين إلا بدليل من الكتاب أو السنة، فلا مجال للاجتهاد فيه والرأي، وقال ابن تيمية : " فإن الكفر والفسق  أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل . فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما".

وقد يحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الأمر بأنه كفر، ولكن لا يكفر فاعل ذلك الشيء حتى تتحقق فيه الشروط التي استنبطها العلماء من الكتاب والسنة، وتنتفي الموانع .

ومن المتقرّر عندَ أهل السنّة والجماعة أنّ الكفرَ شعَبٌ متعدِّدة، وله مراتبُ، منها ما يخرِج من الملّة، ومنها ما لا يخرِج من الملّة، ولا يلزَم من قيام شعبةٍ من شعبِ الكفرِ بالعبدِ أن يصيرَ كافرًا الكفرَ المطلَق، حتّى تقومَ به حقيقةُ الكفر، فإذا تقرر هذا فإن الذي يستطيع أن يقرر ذلك هم العلماء ممن لهم قدرة على استنباط الأحكام وتنزيلها على المعينين، وللقضاة وولاة الأمر وليس لغيرهم. 

أيها المسلمون : إن للفكر التكفيري أثار سيئة جدا على الأفراد والمجتمعات، ومن ذلك :
أن خطر هذا الفكر يتعدى إجمالا إلى مقاصد الإسلام الخمسة : الدين  والنفس والعقل و النسل و المال 
فيكفر أصحاب هذا الفكر الأفراد والمجتمعات ولا يخرجون من دائرة التكفير إلا جماعتهم، وأول من يكفرون من المسلمين حكامهم،  ثم يستبيحون قتل الأنفس بحجة أنها كافرة مرتدة كحال الخوارج الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: " يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " 

ومن أثار الفكر التكفيري إحداث التفجيرات في بلاد المسلمين وما تؤدي إليه من ترويع الناس وسفك دمائهم وخراب أموالهم ، وقد نهى الله تعالى عن الإفساد في الأرض، قال الله تعالى: { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } . بل قد يتقرب التكفيري إلى الله بقتل نفسه بالتفجير أو بغيره بحجة أنه في جهاد ضد العدو الكافر. 

ومن آثار الفكر التكفيري  الخروج على الحكام والسلاطين ، لأنهم كفار في نظرهم، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع قاعدة عظيمة في الحكم على الإمام بالكفر والخروج عليه وهي قوله "وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ قَالَ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ " 
فلنحذر من التكفير فإن عاقبته أليمة ..


الخطبة الثانية : اعلموا رحمكم الله أن الأصل في الحكم على الناس هو الظاهر ، والله يتولى السرائر، ولقد علمنا أن دخول العبد في الإسلام يكون بنطقه الشهادتين وإتيانه بشرائع الإسلام، فإذا قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فهو مسلم له ما للمسلمين من حقوق، وعليه ما على المسلمين من واجبات، ثم يطالب بشرائع الإسلام بعد ذلك، روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " أُمرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمنْ قالَها فقدْ عصَمَ منِّي مالَهُ ونفْسَه إلا بحقِّهِ، وحسابُهُ على الله" فقد جاء في رواية " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به" ، ومعنى حسابه على الله: قال النووي " أي فيما يستترون به ويخفونه دون ما يُخِلُّون به في الظاهر ، وهذا قول أكثر العلماء" 

وتأملوا –رحمكم الله - إلى هذا تطبيق هذا الأمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ف روى البخاري عَنْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ - رضى الله عنهما - قَالَ:بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالَ: فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، قَالَ: وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، قَالَ: فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِىُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِى حَتَّى قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا، بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَقَالَ لِي:"يَا أُسَامَةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟! ".قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ:"أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟! " قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

وتأملوا رحمكم الله في حال هذا الرجل : فقد جاء محاربا ولم يأت مسالما، بل قتل من المسلمين عددا ففي رواية : " فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل قصد له فقتله " ، ومع ذلك عنفه النبي صلى الله عليه وسلم ووبخه ولامه أشد اللوم لقتله إياه، نقل ابن حجر عن ابن التين قوله : في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحد على قتل من تلفظ بالتوحيد، وقال القرطبي: في تكريره ذلك والإعراض عن قبول العذر زجر شديد على مثل ذلك" 

ومما يدل على معاملة العبد بظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يكفر من يعلم كفره مع إظهاره الإسلام كالمنافقين، بل كان يعاملهم بظاهرهم مع علمه بكفرهم ، ومع ما صدر منهم من أقوال وأفعال تدل على بغضهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللإسلام فلم يكفرهم ولم يأمر بقتلهم بل شعاره معهم : "دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" قال ذلك لعمر لما قال عبد الله بن أبي بن سلول : وَاللَّهِ لَإِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ،  فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ.

بل أصر صلى الله عليه وسلم على الصلاة عليه لما مات، فجَذَبَهُ عُمَرُ [بن الخطاب]- رضى الله عنه - فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ قد نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّىَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟ (وفي روايةٍ: تصلي عليه وهو منافقٌ، وقد نهاك الله أن تستغفرَ لَهُمْ فقالَ: "أنا بينَ خِيرتَينِ: قالَ الله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، [فقالَ: سأزيده على سبعين". قال: فصلَّى عليهِ وصلينا معه. فنزَلتْ: "وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا [وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ" 

ففي هذه الأحاديث والوقائع وغيرها بيان حرمة عرض العبد إذا نطق بالتوحيد وأننا نأخذه بظاهر قوله، ثم يستفصل منه بعد ذلك، فكيف بحال من يكفر المسلم لأدنى شبهة وأقل سبب مع أنه يشهد بالتوحيد ويقيم العبادات المفروضة منه.

جماعة المسلمين : وإن لانتشار الفكر التكفيري أسباب كثيرة من أبرزها الغلو في الدين، وقد حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ .

ومن أسباب ظهور التكفير الجهل بالعلم الشرعي، فجهلوا أحكام الكتاب والسنة ، وجهلوا أحكام العقيدة وخصوصا حقيقة الإيمان وعلاقته بالأعمال ، وجهلوا أحكام الكفر وانقسام الكفر إلى أكبر وأصغر 

قال صلى الله عليه وسلم عن الخوارج المكفرين: " يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ (وفى طريقٍ: حُلوقَهُم)، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ " وهذا أدى إلى اتباعهم للمتشابه من النصوص فعمدوا إلى نصوص الوعيد فأجروها على ظاهرها فكفروا بها المسلمين ، قال تعالى : " فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ "

ومن أسباب ظهور الفكر التكفيري عدم إتباعهم لمنهج السلف رحمهم الله في فهم النصوص ، فإن نصوص الكتاب والسنة إنما تفهم بفهم السلف، عدم رجوعهم إلى العلماء الربانيين في النوازل والمستجدات كما أمر الله تبارك وتعالى فقال : وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا" 

الخميس، 7 يناير 2016

خطبة جمعة : تحمل المسؤولية

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الإِنْسَانَ، وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ، وَمَنَّ عَلَيْهِ بِالْعَقْلِ وَالإِرَادَةِ، وَسَخَّرَ لَهُ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا؛ لِيَقُومَ بِوَاجِبِ إِعْمَارِهَا وَبِنَائِهَا، قَالَ تَعَالَى:( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).  وَحَتَّى يُحْسِنَ الإِنْسَانُ أَدَاءَ الأَمَانَةِ الَّتِي حَمَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهَا، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْجَلَدِ وَالتَّحَمُّلِ، وَالاِسْتِمْرَارِ بِفَاعِلِيَّةٍ فِي الأَدَاءِ، وَالإِحْسَانِ وَالإِتْقَانِ، الَّذِي حَثَّنَا عَلَيْهِ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:« إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ». وَإِنَّ الإِتْقَانَ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَمَلِ يَتَطَلَّبُ مِنَ الإِنْسَانِ تَحَمُّلَ الْمَصَاعِبِ وَالْمَشَاقِّ، وَالصُّمُودَ لِتَحْقِيقِ أَهْدَافِهِ بِرُغْمِ التَّحَدِّيَاتِ، وَمُوَاجَهَةَ ضُغُوطَاتِ الْحَيَاةِ، وَحَمْلَ النَّفْسِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَالصُّعُوبَاتِ، وَالتَّغَلُّبَ عَلَى الشَّهَوَاتِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم« حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ». 
عباد الله : روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته ،  والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم ، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ،ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته –"
فببين لنا نبينا صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث المسؤوليات الملقاة على العباد مبتدأ بأعلى المسؤوليات وهي مسؤولية الإمام والحاكم ومنهيا بمسؤولية العبد والخادم لتعلم أيها المسلم " أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه " فلا يخلو عبد من مسؤولية ، فالناس على اختلاف مستوياتهم المعيشية والوظيفية عليهم مسؤوليات يجب عليهم أن يقوموا بها على أكمل وجه و إلا حاسبهم الله عز وجل، ويدخل في هذه المسؤولية العبد المنفرد الذي لا زوج له ولا خادم ولا ولد ، فإنه راع على جوارحه حتى يعمل بالمأمورات التي أمر الله بها ورسوله ، ويجتنب المنهيات التي نهى الله عنها ورسوله
عباد الله :إن هذه التوجيهات النبوية هي أصل من الأصول التي يقوم عليها المجتمع في وقتنا المعاصر ، فمتى استشعر العبد مسؤوليته أمام الله ، قام بالأمر الموكل إليه خير قيام دون رقيب أو محاسبة، وإذا ما حصل ذلك فإن النتيجة هي بناء مجتمع قوي منيع متماسك يسوده العدل في الحكم والمعاملة، وإذا ما أهمل كل مسئول لمسؤوليته واهتم برغباته الشخصية ومنافعه الخاصة تفككم المجتمع وساد الظلم بين الناس.
أَيُّهَا الْمُصَلُّونَ: ومن المسؤوليات الملقاة على العبد مسؤولية الدعوة إلى الله، ولَقَدْ تَحَمَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَشَاقَّ وَالْمَتَاعِبَ فِي هِدَايَةِ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَصَبَرَ عَلَى إِيذَاءِ قَوْمِهِ طِيلَةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَقَدْ آذَوْهُ أَشَدَّ الإِيذَاءِ، ثُمَّ آذَوْهُ فِي أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَقَاطَعُوا عَشِيرَتَهُ جَمِيعًا؛ حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إِلَى الإِقَامَةِ فِي شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ ثَلاَثَ سِنِينَ، أَكُلَوا فِيهَا أَوْرَاقَ الشَّجَرِ وَهُمْ مُتَحَمِّلُونَ صَابِرُونَ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَابِرًا، مُتَحَمِّلاً مُثَابِرًا، فَمَا فَارَقَ الدُّنْيَا حَتَّى أَدَّى الأَمَانَةَ، وَوَحَّدَ النَّاسَ، وَحَقَنَ دِمَاءَهُمْ، وَصَانَ أَعْرَاضَهُمْ، وَحَفِظَ حُقُوقَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَتَمَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الأَمْرَ، وَخَتَمَ بِهِ الرِّسَالاَتِ، وَهَكَذَا يَقْتَدِي الْمُسْلِمُ بِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَتَحَلَّى بِالصَّبْرِ وَالتَّحَمُّلِ، وَيُقَابِلُ الإِسَاءَةَ بِالإِحْسَانِ، وَيُوَاجِهُ الْغِلْظَةَ بِالْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ، فَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم وَاسِعَ الصَّدْرِ، حَسَنَ الْعِشْرَةِ، طَيِّبَ الْقَوْلِ، لَطِيفَ الْمُعَامَلَةِ، رَؤُوفًا رَحِيمًا، لاَ يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ، مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. 
ومن المسؤوليات الملقاة على العبد مسؤولية الأسرة فيَتَحَمَّلُ الْوَالِدَانِ الْمَسْؤُولِيَّةَ فِي الْحَيَاةِ الأُسَرِيَّةِ، فَيَتَعَامَلاَنِ بِثَبَاتِ قَلْبٍ، وَقُوَّةِ إِرَادَةٍ، وَحُسْنِ تَدْبِيرٍ، لِلْحِفَاظِ عَلَى تَلاَحُمِ الأُسْرَةِ، وَتَمَاسُكِ بُنْيَانِهَا، فَيَتَحَمَّلُ كُلٌّ مِنْهُمَا ضُغُوطَ الْحَيَاةِ وَمَشَاقِّهَا، مَعَ التَّحَلِّي بِالصَّبْرِ فِي تَرْبِيَةِ الأَوْلاَدِ، وَتَوْجِيهِ سُلُوكِهِمْ، وَتَصْوِيبِ أَخْطَائِهِمْ.
قال الله تعالى آمرا الرجال بصيانة الأسر وحمايتها عن سبل الهلاك " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" قال أهل التفسير " ووقاية الأهل والأولاد بتأديبهم وتعليمهم وإجبارهم على أمر الله ، فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه وفيما يدخل تحت ولايته من الزوجات والأولاد وغيرهم ممن هو تحت ولايته وتصرفه " أ هـ

من المسؤوليات التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم على أفراد المجتمع قوله " والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم "  فالمرأة مسئولة أولا عن نفسها بأن تؤدي حق الله عليها بأداء ما فرضه الله وأن تنتهي عما نهاها عنه فتكن بذلك من أهل الفوز والسعادة ، قال صلى الله عليه وسلم (إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ ) ، ثم تأتي مسئولية طاعة الزوج ، فإن أعظم الناس على المرأة حقا بعد حق الله عز وجل هو الزوج قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ) ، ومن مسؤولية المرأة في الإسلام مشاركتها لزوجها في تربية الأبناء وإعدادهم الإعداد السليم ليتحملوا أمانة الخلافة في الأرض . .

ومن المسؤوليات الملقاة على العبد مسؤولية الوظيفة، ولقد أمرتنا الشريعة الغراء بإتقان العمل الذي يكسب منه المسلم رزقه ، وعدم إضاعته والتهاون فيه ، بل على المسلم أن يجدّ في عمله ، لأن الأجر الذي يستوفيه نظير ما يقوم به من عمل هو مقابل هذا العمل ، فإن كان عمله ناقصا ، أو أحدث فيه غشا أو خيانة ، فلا يستحق العامل كامل الأجر ، بل قد لا يستحق الأجر كله ، وإن أخذه كان أخذه إياه بالحرام والسحت وأكل أموال الناس بالباطل.
ومن مسؤولية الموظف الإحسان إلى الناس، قال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم من ولى من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولى من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)) فالمسوؤل الذي يُوقع الناس في المشقة بالإساءة إليهم ومنعهم من حقوقهم وتحميلهم ما لا يطيقون معرض نفسه لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم .

وَلَقَدْ بَرَزَ مَعْنَى التَّحَمُّلِ فِي مَسِيرَةِ مُؤَسِّسِ دَوْلَتِنَا الشَّيْخِ/ زايد بن سلطان آل نهيان طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ، الَّذِي تَحَمَّلَ الْمَسْؤُولِيَّةَ حَتَّى غَدَتْ دَوْلَتُنا دَوْلَةً قَوِيَّةً شَامِخَةً يَنْعَمُ شَعْبُهَا بِالسَّعَادَةِ وَالرَّخَاءِ.
ولا نَنْسى في هذا المـَقامِ أنْ نَتَوَجَّهَ بالشُّكرِ لِقِيَادَتِنَا الرَّشِيدَةِ الَّتِي تَحَمَّلَتْ مَسْؤُولِيَّاتِهَا فِي بِنَاءِ هَذَا الْوَطَنِ، وَتَقْدِيمِ أَرْقَى الْخَدَمَاتِ لِشَعْبِهَا، فَمِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْنَا أَنْ وَهَبَنَا قِيَادَةً حَكِيمَةً رَشِيدَةً، تُقِيمُ الْعَدْلَ فِينَا، وَتَرْعَى مَصَالِحَنَا، وَتَسْهَرُ عَلَى رَاحَتِنَا، وَتُهَيِّئُ لَنَا سُبُلَ الْعَيْشِ الْكَرِيمِ، فِي رخاءٍ واسْتِقْرَارٍ وَأَمَانٍ، وَقَدْ تَوَجَّهَ صَاحِبُ السُّمُوِّ الشَّيْخُ/ خليفة بن زايد آل نهيان رَئِيسُ الدَّوْلَةِ حَفِظَهُ اللَّهُ بِالشُّكْرِ وَالتَّقْدِيرِ إِلَى أَخِيهِ صَاحِبِ السُّمُوِّ الشَّيْخِ/ محمد بن راشد آل مكتوم نَائِبِ رَئِيسِ الدَّوْلَةِ، رَئِيسِ مَجْلِسِ الْوُزَرَاءِ، حَاكِمِ دُبَي رَعَاهُ اللَّهُ بِمُنَاسَبَةِ مُرُورِ عَشْرِ سَنَوَاتٍ عَلَى حُكْمِهِ وَحُكُومَتِهِ، قَامَ خَلاَلَهَا بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بتَحْقِيقِ النَّجَاحَاتِ وَالإِنْجَازَاتِ، وَإِطْلاَقِ الْعَدِيدِ مِنَ الْمُبَادَرَاتِ الْوَطَنِيَّةِ الْمُتَمَيِّزَةِ الَّتِي تُسْعِدُ الشَّعْبَ، وَتَخْدِمُ الْوَطَنَ.


الخطبة الثانية : عباد الله :  في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" تأصيل لمبدأ تحمل المسؤولية على جميع أفراد المجتمع، وهذه المسؤولية أمانة تحملها الإنسان، ومن ثم فإنه سيحاسب عليها، فالعبد مسؤول يوم القيامة على هذه المسؤوليات التي ألقيت على عاتقه هل أحسن فيها أم ضيع ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته" "ومن ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم :لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن علمه ما عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه"

وقالَ سبحانه: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)، وسَتَنْطِقُ أعضاؤُكَ، وستشهدُ عليكَ أَمامَ ربِّكَ جَلَّ جلالُهُ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ، فَقَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟» قَالَ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنِّي لاَ أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلاَّ شَاهِدًا مِنِّي، قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا، قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلاَمِ، قَالَ فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ».

واللهُ سبحانه هو العليمُ الخبير، السَّميعُ البصير، الذي لا تَخْفى عليهِ خافيةٌ في الأرضِ ولا في السماء، يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصُّدور، فاحْذَرْ أن يطَّلِعَ عليكَ وأنت تَعْصِيه، وكُنْ مُدَاوِماً على فعل ما يُحبُّهُ ويُرْضِيه.

وكُنْ مُسارعاً إلى التَّوبةِ مُواظباً على الاستغفار، وطلبِ العَفْوِ والصَّفْحِ من العَزِيزِ الغَفّار.

عباد الله: لقد حذَّرَنا ربُّنا عزّ وجلَّ في كتابهِ فقال: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) ؛ قال الفُضَيْلُ ابنُ عِياضٍ: "أَتَوْا بأَعْمالٍ ظَنُّوها حَسَنات، فإذا هِيَ سَيِّئات".
فاحرِصْ على الإخلاصِ في عباداتِكَ وطاعاتِكَ، وكُنْ لها مُخْفِياً، واحْذَرِ الرِّياءَ والتطلُّعَ إلى ثناءِ الناسِ ومَديحِهم، وكن في عباداتِكَ مُتَّبِعاً سُنَّةَ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم وهَدْيَهُ، بذلك تُقْبَلُ أعمالُكَ عندَ اللهِ تعالى، فتكونَ من النَّاجِين المـُفْلِحِين.

خطبة جمعة : الإحسان في العبادة

لخطبة الأولى : جماعة المسلمين اعلَموا رحمني الله وإياكم أنَّ الدّنيا ممرٌّ وأنّ الآخرةَ هي المستقرّ، فاستبِقوا الخيرات قبل فواتها، وحاسبوا أنفسَكم على زلاّتها وهفواتها، وكفّوها عن الإغراقِ في شهواتها، فالكيِّس من دان نفسَه وعمِل لما بَعد الموت، والعاجِز من أتبع نفسَه هواها وتمنى على الله الأماني، ومن أصلح سريرتَه أصلَح الله علانيتَه، ومن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينَه وبين الناس، فاللهَ اللهَ في السرائر، فما ينفعُ في فسادِها جمالُ الظاهر.

أيّها المسلمون، في زحمةِ الحياة ومع تراكُم مشاغلِ الدنيا وتواليها قد يغفَل الإنسانُ عن وظيفته الأساسِ التي من أجلِها وُجد والغايةِ التي لها خلِق ووُلِد، ألا وهي عبادةُ الله سبحانه وطاعته، قال سبحانه " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" فأرسلَ الله الرسلَ وأنزل الكتبَ وخلق للإنسانِ وسخَّر له ما في السّموات والأرض كلُّ ذلك لأجلِ القيام بحقِّ العبودية ومقتضياتِها لله سبحانه، ووعَد بالجنّة من أطاعه، وتوعَّد بالنار من عصاه، وأخبر جلّ في علاه أنه سيأتي يومٌ تعرَض الخلائقُ فيه على الله وتُنشَر الصحف وتوزَن الأعمال، فينظر كلٌّ لميزانه بإشفاقٍ ووجَل، يتمنَّى كمالَ عملِه وحُسنَ ما قدَّم، علّ ميزانَه أن يَثقُلَ بالحسنات. سيأتي يومٌ يكون الحساب والجزاءُ فيه بالأعمال، وللذّرّة قيمةٌ وميزان، وللحَسَنة تأثيرٌ يشحّ بها المرءُ على أمّه وأبيه وزوجِه وبنيه وأخيه، قال سبحانه " وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى  يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي "، فما مِن أحدٍ إلاَّ سَيندَم، فالمقصِّر يندَم على تقصِيره، والعامِل يندَم أن لم يكن قد ازدادَ.

في يومِ القيامةِ مواقِفُ وعرَصاتٌ وأهوال وكُرُبات ووزنٌ للحسناتِ والسيّئات، لن ينجوَ منها إنسٌ ولا جانّ إلاَّ برحمة الرحيم الرحمن وهذه الرحمة إنما تنال بالاعتقاد السليم والعمل الصالح قال تعالى "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ " ، فماذا قدّمت لحياتك الأخرى يا عبدَ الله؟! ما مقدارُه ونوعُه؟! وما مدى كَمالِه وتمامِه؟!

رَوى لنا معاذُ بن جبلٍ رضي الله عنه أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذ بيدِه وقال: ((يا مُعاذ، والله إنِّي لأحبّك، أوصيكَ يا معاذ: لا تدعنَّ في دبُر كلِّ صلاة تقول: اللهمّ أعنِّي على ذكرِك وشُكرك وحسنِ عبادتك)). فهذا إرشادٌ نبويّ كريم بأن ندعوَ الله بعد الفراغِ من الصلاة ونسألَه حُسنَ عبادته، وقبل ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً "، فحسن العبادةِ مرتَبَةٌ زائدةٌ على مجرَّد أدائِها، ولأجلِ ذلك فإنّ العبادةَ الكامِلة الحسنةَ تؤتي ثمارَها وتبلُغ بالعبدِ منازلَ عظيمة من القَبول والمثوبةِ والمغفرة والجزاءِ الحسن.

وفي صحيح مسلِم أنّ عثمانَ بن عفان رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله  يقول: ((ما مِن امرئٍ مسلم تحضرُه صلاةٌ مكتوبة فيُحسِن وضوءَها وخشوعَها وركوعَها إلاَّ كانت كفّارةً لما قبلَها من الذنوبِ ما لم تُؤتَ كبيرةٌ، وذلك الدهرَ كلَّه))، ولئن كان الكثيرُ من المسلمِين حريصين على أَداءِ عباداتهم وما افترَضَه الله عليهم، فإنّ القليلَ منهم هم الحرِيصون على أدائِها بإحسانٍ، كاملةَ السُّنَن والواجباتِ والأركانِ، سالمةً من الخلَلِ والنقصان. و إنّ المسلمَين ليخرُجان متوضِّئين للصلاة ساعِيَين إلى المسجدِ يصلِّيان خلفَ إمامٍ واحد ينصرِفان من صلاتَيهِما وبَينهما كما بين السماءِ والأرض في المثوبةِ والجزاء، واسمَعوا حديثَ عمّار بنِ ياسر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله  يقول: ((إنَّ الرّجلَ لينصرِف وما كُتِب له إلاَّ عُشرِ صلاتِه، تُسعها، ثُمنها، سُبعُها، سُدسُها، خُمسها، ربعُها، ثُلثُها، نِصفُها)) بل إنّ من المصلَّين من يستحق أن يقال له ((ارجِع فصلِّ؛ فإنّك لم تصلِّ)) كما قالها النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته، مع أنّه أتى بأفعالِها الظاهرة.

أيّها المسلمون، إنّ مما ينبغي للمسلِم معرفتَه واستحضاره أنّ للواجباتِ والمفروضات من العبادات جانبَين: جانب الإجزاء وجانب الجزاء، فإذا أدّى المسلمُ عبادتَه الواجبة برِئت ذمّتُه منها وأجزأَته وأصبحَ غيرَ مطالَبٍ بها، أما الجزاء فهو المثوبة والأجرُ المترتِّب على أداء هذه العبادة، فقد يتساوَى عابدان في الإجزاء ويختلِفان كما بين المشرقِ والمغرب في الجزاء، وهذا الاختلاف والتباينُ مردُّه إلى حِرصِ أحدهما على حسن عبادته وتمامها وتقصيرِ الآخر فيها.

عباد الله، حقٌّ على كلِّ مسلِمٍ أن يسعَى لإحسانِ عمَله في تمامٍ وكَمال يسُرّه ويُنجيه يومَ تبيَّض وجوهٌ وتسوَّد وجوه، ومن الأمور التي تعين على الإحسان في العبادة الإخلاصُ لله والمتابعةُ لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فذالكم هو مقتضَى الشهادتين. والمرادُ بالإخلاص نوعاه العامّ والخاص:

فالعامّ أن لا يكونَ العبدُ متلبِّسًا بشيء من الشّرك في حياته كدعاءِ غيرِ الله أو الاستغاثةِ أو الاستعانة بغيرِه أو صَرف شيءٍ من العبادات لغيرِ الخالق الواحِد سبحانه وتعالى، قد قال الله تعالى لرسوله الكريم: "وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ  بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ". فهو دليلٌ على أنّ الشركَ لا ينفع معه عملٌ، فالواجب على المسلم أن يتفقَّد نفسَه دومًا وأن يوحِّدَ الله في كل شؤونه.

وأمّا النوع الثاني وهو الخاصّ مما ينبغي العنايةُ به في جانبِ الإخلاص فهو أن تكونَ العبادةُ المؤدّاة سالمةً منَ الرّياء مُرادًا بها وجه الله وحدَه، وفي الحديث القدسيّ: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشّركاء عن الشركِ، من عمِل عملاً أشرك فيه معِيَ غيري تركتُه وشركه)).

أمّا الشرط الثاني من شروطِ صحّة العبادةِ فهو المتابعةُ لرسول الله ، والمراد بها تأديةُ العبادة على الصّفةِ التي جاءت عن النبيّ  مِن غير زيادةٍ ولا نقصان. ومعنى هذا أنه لا يجوزُ أن يُعبَد الله إلاَّ بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم  مبلِّغًا عن ربه، فالتعبّد بما لم يشرعه الله ولم يرِد صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  هو البدعة التي قال عنها النبي  في حديثِ عائشة رضي الله عنها: ((من عمِل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رد)) ، وفي رواية البخاريّ: ((من أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) 

والعابدُ قد يؤدِّي عبادتَه كما أمِر لكنه ينقص من سننِها ويجتزِئ من واجبها، وقد تتخلَّلُها بعضُ المكروهات أو يداخِلها شيء من المحرَّمات، فهذه العبادةُ وإن أجزأت إلاّ أنّه ينقُص من ثوابها بمقدارِ ما نقَص من حسنِها. 

وربما فعَل العبدُ فعلاً يريدُ به التقرب إلى الله على هيئةٍ لم يشرعْها الله تعالى ولم ترِد عن رسولِه الكريم صلى الله عليه وسلم، فيقصِيه الله بهذا العمل، ويكتبه في عِداد المبتدعِين شبيهًا بالضّالين، قال تعالى "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا"


الخطبة الثانية : أيّها المسلمون، ومما تحسُن به العباداتُ الواجباتُ تكميلُها بالنوافلِ التي من جِنسِها، فأركانُ الإسلام مثلاً عباداتٌ متحتِّمات، ومِن جنسها نوافلُ ومستحبَّات، كنوافلِ الصلاة ونوافل الصيامِ والحج ونحو ذلك ، فهذه النوافل تجبر ما نقَص من الفرائض والواجباتِ كما في الحديثِ القدسيّ ((أنّ الله عزّ وجلّ يقول يومَ القيامة: انظروا هل لعبدي من تطوّع، فيُكمَّل بها ما انتقَص من الفريضة)).

 ومَن إحسان العمل حَفظُ الحسنات من الضياع وتجنُّب ما يبطِل الثوابَ وينقص الجزاء، وقد قال الله سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ "، في إشارةٍ إلى أنّ المعصيّةَ قد تبطل العمل، وقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى"، وفي الصحيحين أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الرجلَ ليتلَّكم بالكلِمةِ ما يتبيَّن فيها يزلّ بها في النّارِ أبعدَ مما بينَ المشرقِ والمغرِب)). فهل يعِي هذا من أطلقَ لسانَه وأرخى للكلامِ عنانَه، لا يبالي بما قال وكتَب؟! هل يعي هذا من يتخوَّضون في دينِ الله بلا عِلم ويعترِضونَ شريعتَه وحكمَه بما استحسَنوه من منطقهم؟! إنّ آفاتِ اللسانِ كثيرةٌ وخطيرة، ومن أخطرِها ما يحمِل لَفظًا شركيًّا أو تسخُّطًا على أقدار الله واعتراضًا على حكمه.

ومما يضيعُ الحسناتِ ويجلِب الحسرات الظلمُ والتعدّي على عباد الله بغير حق وأكلِ أموال الناس بالباطل، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله : ((أتدرونَ منِ المفلِس؟)) قالوا: المفلِس فينا من لا دينارَ ولا درهمَ له ولا متاع، فقال: ((المفلسُ من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيامٍ وزكاة، ويأتي وقد شتَم هذا وقذف هذا وأكَل مالَ هذا وسفكَ دمَ هذا وضرَب هذا، فيعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه، فإن فنِيت حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه أخِذ من خطاياهم فطُرِحت عليه، ثمّ طرِح في النار)) 

ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله، وأحسِنوا فيما تقدِّمون، وحافِظوا على أعمالكم، ولا تكونوا كأقوامٍ لا يرضَون أن تنتقَصَ دنياهم شعرةً لا يبالون بما ينقُص مِن دينِهم مهمَا كان من القلّة والكثرَة، أَرَضوا بالحياةِ الدُّنيَا من الآخرَة؟! فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ "

نسأل الله تعالى أن يكتبَنا في المحسنين الذين قال عنهم: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ "، وقال:" فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ "




ملاحظة: الخطبة للشيخ صالح بن محمد آل طالب، وقد قمت باختصارها وزيادة بعض الأمور عليها

الأحد، 3 يناير 2016

مقال : تشابهت قلوبهم - خوارج الأمس واليوم -

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد 

       لقد حذر العلماء رحمهم الله من مسلك الخوارج منذ القدم، وذلك لعظيم شرهم وأثرهم على البلاد والعباد، ومن هؤلاء العلماء الأجلاء وهب بن منبه وهو تابعي جليل توفي عام 114 هـ ، وصف الخوارج في زمنة بوصف يطابق واقع الخوارج في زماننا، مما يدلك أخي القارئ على وحدة مسلكهم وسوء عاقبتهم وأنهم هم الذين حذر منهم السلف رحمهم الله وإن أظهروا شعار الجهاد والخلافة. 

ومن أقواله في ذلك :

أولا : الخوارج سبب للإفساد في الأرض

قال رحمه الله : " وما اجتمعت الأمة على رجل قط من الخوارج ولو أمكن الله الخوارج من رأيهم لفسدت الأرض وقطعت السبل وقطع الحج من بيت الله الحرام وإذا لعاد أمر الإسلام جاهلية حتى يعود الناس يستغيثون برؤوس الجبال كما كانوا في الجاهلية"

وهذه فرق الإخوان والقاعدة وأفراخها من الدواعش وغيرهم يعيثون في الأرض الفساد ويقطعون السبل ويخيفون الناس حتى فروا بأنفسهم وخرجوا من ديارهم.

ثانيا : تفرقهم وعدم اتحاد كلمتهم، وكل فرقة تدعو لنفسها بالخلافة.

قال رحمه الله : " إذا لقام أكثر من عشرة أو عشرين رجلا ليس منهم رجل إلا وهو يدعو إلى نفسه بالخلافة

وتأملوا حال زعيم القاعدة الذي يدعو لنفسه بالخلافة، وزعيم داعش يدعو لنفسه بالخلافة، وزعيم بوكو حرام يدعو لنفسه بالخلافة ثم تنازل وبايع أمير داعش.

ثالثا: مع انقسام الخوارج فيما بينهم فإنهم يكفرون بعضهم بعضا.

قال رحمه الله : " ومع كل رجل منهم أكثر من عشرة آلف يقاتل بعضهم بعضا ويشهد بعضهم على بعض بالكفر حتى يصبح الرجل المؤمن خائفا على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله لا يدري أين يسلك أو مع من يكون"

وتأمل أيها الموفق هذه الصورة وقارنها  بخوارج العصر من الإخوان والقاعدة وأفراخهم، فإنهم انقسموا وكفروا بعضهم بعضا.

رابعا : عاقبة الخوارج واحدة وهي الانقطاع والبتر.

قال رحمه الله : " أني قد أدركت صدر الإسلام فوالله ما كانت للخوارج جماعة قط إلا فرقها الله على شر حالاتهم وما أظهر أحد منهم رأيه قط إلا ضرب الله عنقه وما اجتمعت الأمة على رجل قط من الخوارج

والتاريخ شاهد على وخيم عاقبتهم، وتمكن أهل السنة من رؤوسهم.

فاللهم احفظ لنا ديننا وأدم الأمن علينا وعلى أوطاننا، ووفق ولاة أمرنا لما تحبه وترضاه.

جمعه أبو محمد سعيد بن سالم الدرمكي