الخميس، 25 فبراير 2016

خطبة جمعة: هدي الإسلام في الحفاظ على البيئة

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: من نعمة الله علينا أن رزقنا أَرْضًا زَاخِرَةً بِالْخَيْرَاتِ، مُنْبَسِطَةً لِلْكَائِنَاتِ، فِيهَا الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ، وَالزُّرُوعُ وَالنَّبَاتَاتُ، وَالأَشْجَارُ الْمُثْمِرَاتُ، قَالَ تَعَالَى:( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). وَكُلُّهَا عَلَى نَسَقٍ بَدِيعٍ ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). خلقها وأتقنها ( وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ). وَكُلُّ مَخْلُوقٍ لَهُ فَوَائِدُهُ وَمَنَافِعُهُ، وَعَمَلُهُ وَوَظِيفَتُهُ، (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ). 

عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ هَيَّأَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا بِيئَةً، هِيَ مَوْطِنُ حَيَاتِنَا، وَمَحِلُّ عِبَادَتِنَا، وَلَهَا تَأْثِيرُهَا الْبَالِغُ عَلَى صِحَّتِنَا، وَلِذَلِكَ وَضَعَ الشَّرْعُ الْحَكِيمُ الضَّوَابِطَ الْعَدِيدَةَ لِلْحِفَاظِ عَلَى عَنَاصِرِهَا وثَرَوَاتِهَا، وَعَدَمِ الإِخْلاَلِ بِمُكَوِّنَاتِهَا، أَوْ إِفْسَادِ نِظَامِهَا؛ لأن الإفساد في الأرض يعيق تحقيق العبودية لله تعالى، لذلك أمر الله عز وجل بعدم الإفساد في الأرض ثم أمر بعبادته وتوحيده فقَالَ تَعَالَى "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا" قال ابن كثير في تفسير الآية :" يَنْهَى تَعَالَى عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَضَرَّهُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ! فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ مَاشِيَةً عَلَى السَّدَادِ، ثُمَّ وَقَعَ الْإِفْسَادُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَانَ أَضَرَّ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِبَادِ. فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ وَالتَّذَلُّلِ لَدَيْهِ.

فنَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ اسْتِنْزَافِ الْمَوَارِدِ، بتَبْدِيدِهَا أَوِ التَّبْذِيرِ وَالإسْرَافِ فِيهَا؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ:( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُدْوَةً فِي الاِقْتِصَادِ وَعَدَمِ الإِسْرَافِ، وَخَاصَّةً فِي الْمَاءِ، لأَنَّهُ سَبَبُ الْحَيَاةِ، قَالَ سُبْحَانَهُ :(وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ). فَالْمَاءُ نِعْمَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، يَشْتَرِكُ الْجَمِيعُ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، بِتَرْشِيدِ اسْتِخْدَامِهَا فِي سَقْيِ الزَّرْعِ، أَوِ الأَغْرَاضِ الأُخْرَى كَالاِسْتِحْمَامِ وَغَسْلِ السَّيَّارَاتِ، وَغَيْرِهَا مِنْ صُوَرِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي حَيَاتِنَا الْيَوْمِيَّةِ، فَإِنَّ الدَّوْلَةَ تَبْذُلُ التَّكَالِيفَ الطَّائِلَةَ فِي تَحْلِيَةِ الْمِيَاهِ وَتَنْقِيَتِهَا، وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ الْحَكِيمُ عَنِ الإِسْرَافِ فِي الْمَاءِ مَهْمَا كَثُرَ وَلَوْ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ، وَلو كَانَ لِأجلِ ِعِبَادَةٍ، طَلَبًا لاِسْتِدَامَةِ نعمةِ الماءِ، وَحِفْظًا لِحَقِّ الأَجْيَالِ الْقَادِمَةِ فِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ « مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ ». قَالَ أَفِى الْوُضُوءِ سَرَفٌ قَالَ « نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ ».

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ رَغَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَنْمِيَةِ الزِّرَاعَةِ، وَجَعَلَ لِمَنْ يَعْتَنِي بِزِيَادَتِهَا وَحِمَايَتِهَا أَجْرَ الصَّدَقَةِ؛ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم :«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ». 

وَأَمَرَ الإِسْلاَمُ بِإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الْبِيئَةِ، حِرْصًا عَلَى نَظَافَتِهَا، وَحِفَاظًا عَلَى جَمَالِهَا؛ وَوَعَدَ فَاعِلَهَا بِالأَجْرِ الْكَرِيمِ، وَالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ- أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا: قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ». 

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا إِمَاطَةَ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ». وَالأَذَى: هُوَ كُلُّ مَا يُؤْذِي مِنْ حَجَرٍ أَوْ قُمَامَةٍ أَوْ مُخَلَّفَاتٍ أَوْ شَوْكٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِمَاطَتُهُ أَيْ: إِبْعَادُهُ. 

وَمِنَ السُّلُوكِ الْحَمِيدِ وَالثَّقَافَةِ الْحَضَارِيَّةِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى الأَمَاكَنِ الْعَامَّةِ؛ مِنْ شَوَارِعَ وَحَدَائِقَ وَشَوَاطِئَ وَأَرْصِفَةٍ، وَصَحْرَاءَ وَغَيْرِهَا؛ لِتَكُونَ خَالِيَةً مِنَ النِّفَايَاتِ وَالْمُخَلَّفَاتِ، فَنَنْعَمُ بِهَا جَمِيلَةً؛ وَنَتْرُكُهَا لِغَيْرِنَا نَظِيفَةً، فَلاَ تُلْقَى فِيهَا مُخَلَّفَاتُ الْبِنَاءِ، وَلاَ بَقَايَا الطَّعَامِ وَلاَ الْعُبُوَّاتُ الزُّجَاجِيَّةُ، وَلاَ الأَكْيَاسُ الْبِلاَسْتِيكِيَّةُ، فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ قَدْ تَبْتَلِعُهَا فَتَتَعَرَّضُ لِلضَّرَرِ أوِ المـَوْتِ، فَيَجِبُ وَضْعُ هَذِهِ الْمُخَلَّفَاتُ فِي الأَمَاكِنِ الْمُخَصَّصَةِ لِيُنْتَفَعَ بِتَدْوِيرِهَا، فَنَكُونَ قَدْ أَمَطْنَا الأَذَى عَنْ بِيئَتِنَا، وَفُزْنَا بِثَوَابِ رَبِّنَا، قَالَ نبينا صلى الله عليه وسلم: «كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ غُصْنُ شَجَرَةٍ يُؤْذِي النَّاسَ فَأَمَاطَهَا رَجُلٌ، فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ». 

جماعة المسلمين: لَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِمَا سَخَّرَهُ لَنَا مِنْ حَيَوَانَاتٍ وَأَنْعَامٍ، فَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ:( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ). وَمِنَ الْمَنَافِعِ: الاِسْتِفَادَةُ بِأَوْلاَدِهَا وَأَلْبَانِهَا وَلُحُومِهَا. وَقَالَ سُبْحَانَهُ:( وَجَعَلَ لَكُم مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ). وَلِذَلِكَ أَمَرَنا صلى الله عليه وسلم بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الثَّرْوَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ ، وَنَهَى عَنْ الإِضْرَارِ بِهَا؛ فَحِينَ مَرَّ صلى الله عليه وسلم بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ- مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ- قَالَ: « اتَّقُوا اللَّهَ فِى هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا وَكُلُوهَا صَالِحَةً ». وَجَعَلَ لِلمُحْسِنِ إِلَيْهَا الثَّوابَ، فَقَدْ سُئلَ صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ لأَجْرًا؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ». أَيْ: إنَّ فِي الإِحْسَانِ إِلَى كُلِّ حَيَوَانٍ حَيٍّ أَجْرًا، بِسَقْيِهِ وَإِطْعَامِهِ وَحِمَايَتِهِ. 

عبادَ الله: لقَدْ قامَتْ دولتُنا الرَّشيدَةُ على تَنْمِيَةِ مَوارِدِها وإدارةِ ثَرَواتها، حِفْظاً لحقِّ أَجْيالِها، فَاعْتَنَتْ بالتَّشْجيرِ وإقَامَةِ المحمِيَّاتِ الطَّبِيعيَّةِ، ونَظَّمَتِ الصَّيْدَ، وأَنْشَأَتِ المتَنَزَّهات، ووفَّرتْ عُمَّالاً للنَّظافَةِ؛ لنَهْنَأَ بِبيئَةٍ صِحِّيَّةٍ، فعَلَيْنَا أَنْ نُحَافِظَ عَلَى إِنْجَازَاتِ الدَّوْلَةِ تُجاه الْبِيئَةِ، وَنُعَلِّمَ أَوْلاَدَنَا الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا، وَعَلَى جَمَالِ مَبَانِيهَا، فَلاَ يَكْتُبُونَ عَلَى جُدْرَانِهَا، وَلاَ يُشَوِّهُونَ حَدَائِقَهَا، وَلاَ يُلَوِّثُونَ شَوَاطِئَهَا وكُثْبانِها، وَلاَ يُلْقُونَ مُخَلَّفَاتٍ فِي طُرُقِهَا وَأَمَاكِنِهَا، قَالَ رَسُولُنا صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».

فَاللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَآخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَوَفِّقْنَا لِطَاعَتِكَ.

الخطبة الثانية : اعْلَمُوا رحمكم الله: أَنَّ أَشَدَّ مَا يَضُرُّ البِيئَةَ ويَتَسَبَّبُ في فَسادِها الإصْرارُ على ارْتِكابِ الذُّنُوبِ والمـَعاصِي؛ قَالَ اللهُ تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، أَيْ: بَانَ النَّقْصُ فِي الأَمْطارِ والثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ بِسَبَبِ الْمَعَاصِي؛ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ رحمه الله: مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ صَلَاحَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِالطَّاعَةِ.

فالاسْتِمْرارُ في المـَعاصِي يُحْدِثُ فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ؛ فِي الْمِيَاهِ، وَالْهَوَاءِ، وَالزَّرْعِ، وَالثِّمَارِ، وَالْمَسَاكِنِ، وغَيْرِ ذلك.

وهذا الفَسادُ في البِيئَةِ يَسْتَمِرُّ في الازْدِيادِ كُلَّمَا ازْدَادَ النَّاسُ في الذُّنُوبِ واسْتَرْسَلُوا في المعاصي، إلى أَنْ يُنزِلَ اللهُ بَأْسَهُ الَّذِي لا يُرَدُّ عَنِ القَوْمِ المـُجْرِمِين، فعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عنه- قَالَ: قَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ [أَيْ: يُمْهِلُهُ]، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ». قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) .

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثال من الجمادات أثرت فيه المعاصي فقال :" نَزَلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ , فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ " ، وفي رواية: لَوْلَا مَا مَسَّهُ مِنْ أَنْجَاسِ الْجَاهِلِيَّةِ , مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إِلَّا شُفِيَ، وَمَا عَلَى الْأَرْضِ شَيْءٌ مِنَ الْجَنَّةِ غَيْرُهُ "

قال ابن القيم: " ومن تأثير معاصي الله في الأرض: ما يحِل بها من الخسف، والزلازل، ومَحْقِ بركتِها... 
وكذلك شؤم تأثير الذنوب في نقص الثمار وما تُرمَى به من الآفات "

ولما ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام فيملأ الأرض قسطا كما ملئت جورًا ويقتل المسيحُ المسيح الدجال، ويقيم الدين الذي بعث الله به رسولَه تُخرِجُ الأرضُ بركتَها، وتعود كما كانت، قال صلى الله عليه وسلم : " ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لاَ يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ أَنْبِتِى ثَمَرَتَكِ وَرُدِّى بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِى الرِّسْلِ – أي اللبن- حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِى الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِى الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِى الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ"

قال ابن القيم: وهذا لأن الأرض لما طهرت من المعاصي ظهرت فيها آثار البركة من الله تعالى التي محقتها الذنوب والكفر" 

فيَنْبَغِي لمن يَعْصِي اللهَ تَعالى ويُصِرُّ على المـَعْصِيَةِ أنْ لا يَغْتَرَّ بالنِّعَمِ وكَثْرِتَها، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي اللهُ عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ"، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) ".

وَعَلَى من رَأَى مِنْ أَخِيهِ ذنباً أو وقوعاً في مَعْصِيَةٍ أَنْ يُبادِرَ إلى نُصْحِهِ وإِرْشَادِهِ، بالَّتي هِيَ أَحْسَنُ، فإنَّ في ذلكَ أَماناً مِنَ العَذابِ؛ فَعَنْ قَيْسِ بن أبي حازمٍ قَالَ: قَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَؤونَ هَذِهِ الْآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ، وَإِنَّا سَمِعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغيِّرُوهُ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابِهِ".

وقد بَيَّنَ ربُّنا سبحانه وتعالى أنَّ التَّواصيَ بالحَقِّ من صِفات أَهْلِ النَّجاةِ من الخَسارةِ في الدُّنْيا والآخرة، فقال سبحانه: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، لِذَا قالَ الإمامُ الشَّافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ.

فَكُونوا عِبادَ اللهِ لرَبِّكُمْ -عزَّ وَجلَّ- مُنِيبين، وفِيما أَمَركم به مُطِيعين، ولما نَهاكُمْ عَنْهُ تاركين، وبسُنَّةِ نَبِيِّكم صلى الله عليه وسلم مُتَمَسِّكين، ففي ذلك كلِّهِ النَّجاةُ من العَذابِ، ونَيْلُ السَّعادةِ والبركَةِ في الأَرْزاقِ وفي الأُمور كلِّها، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) .

فاللهمَّ اجْعَلْنَا من عِبادكَ المؤمِنِينَ المـُتِّقِينَ الفَائِزِين.

الخميس، 18 فبراير 2016

خطبة جمعة: الترغيب في حمد الله

الخطبة الأولى :اعلموا - رعاكم الله- أنَّ حمْد الله جلَّ وعلا هو أعظمُ الدعاء ، وهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى ربِّ الأرض والسماء، فالحمدُ فضائلُه كثيرةٌ لا تُحصى، وثمارُه وآثارُه على الحمَّادين لا تُعَدُّ ولا تُستقصَى ، وثوابُه عند الله جلَّ وعلا جزيل ، فإن الله عزّ وجلّ حميدٌ يحِبُّ الحمدَ.

و حَمْد اللَّهِ تَعَالَى يتضمن شُكْرَ نِعَمِهِ، وَالإعْتِرَافَ بِفَضْلِهِ، وَالثَنَاءَ عَلَيْهِ، فَنَحْنُ نَقْرَأُ فِي كُلِّ صَلاَةٍ سُورَةَ الْحَمْدِ-أَيِ الْفَاتِحَةِ- وَنَتْلُو قَوْلَهُ تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). فَالْكَوْنُ كُلُّهُ مُذْعِنٌ لِهَِ   بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ:( وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ). وَالْحَمْدُ مِنْ أَعْظَمِ مَا مَدَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ نَفْسَهُ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:( وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). وَتُسَبِّحُ الْمَخْلُوقَاتُ بِحَمْدِهِ، وَتُرَدِّدُ الْكَائِنَاتُ بِشُكْرِهِ، قَالَ تَعَالَى:( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)، وفي هذا بيان لعظمة الله تعالى.

وَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلاَمُ بِالْحَمْدِ، فَقَالَ لَهُ:(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلاَمُ:( الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ). وَقَالَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ عَلَيْهِمَا الصَّلاةُ والسَّلاَمُ: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) ، وَأَمَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بالحَمْدِ فَقَالَ لَهُ:( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى). 

وَتَوَجَّهَ إِلى اللهِ عزَّ وجلَّ بِالْحَمْدِ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ: (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). 

جماعة المسلمين: إِنَّ لِلْحَمْدِ أَجْرًا عَظِيمًا، قَالَ صلى الله عليه وسلم :« الْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ -أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ». وَمَعْنَاهُ: عِظَمُ أَجْرِ الْحَمْدِ، وَأَنَّهُ يَمْلأُ الْمِيزَانَ ثَوَابًا، وَلَوْ قُدِّرَ ثَوَابُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ لَمَلأَ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، لِمَا اشْتَمَلاَ عَلَيْهِ مِنَ تنزيه الله تعالى عن كل سوء مع الثناء عليه بالصفات العلا والأسماء الحسنى، مع التَّفْوِيضِ وَالافْتِقَار إِلَيهِ. 

وَكَفَى بِالْحَمْدِ فَضِيلَةً أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ تُسَارِعُ إِلَى تَسْجِيلِهِ، وَتُبَادِرُ إِلَى تَدْوِينِهِ؛ فَحِينَ رَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَقَالَ:« سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ». قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ صلى الله عليه وسلم :« مَنِ الْمُتَكَلِّمُ ؟». قَالَ: أَنَا. قَالَ:« رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا- أَيْ يَتَسَابَقُونَ إِلَيْهَا- أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ». 

وَالْحَمْدُ أَفْضَلُ الدُّعَاءِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:« أَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ». وَذَلِكَ لأَنَّ الذِّكْرَ كُلَّهُ دُعَاءٌ، ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم عرفة: خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ" ثم قال : وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ " وهذا ذكر ولكنه داخل في الدعاء، وكذلك الحمد ثناء على الله متضمن للدعاء.
والحمْدُ رَأْسُ الشُّكْرِ، وَأَحَبُّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَبَّ الْكَلامِ إِلَى اللَّهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ»؛ لِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْلأُ بِالْحَمْدِ حَيَاتَهُ، وَيَسْتَثْمِرُ بِهِ أَوْقَاتَهُ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ بَدَأَ بِالْحَمْدِ يَوْمَهُ، فَقَالَ:« الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ». وَإِذَا أَكَلَ صلى الله عليه وسلم أَوْ شَرِبَ قَالَ:« الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى كَفَانَا وَأَرْوَانَا ، غَيْرَ مَكْفِىٍّ ، وَلاَ مَكْفُورٍ ». وَيُعَلِّمُنَا صلى الله عليه وسلم فَضْلَ ذَلِكَ فَيَقُولُ:« إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا». 

وكان عليه الصلاة والسلام إذا لبسَ ثوبًا جديدًا أو عِمامةً سمّاه باسمه ، ثمَّ قال: (( اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ ، أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ ))

فَإِذَا أَنْهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَهُ، وَأَخَذَ مَضْجَعَهُ، حَمِدَ رَبَّهُ عَلَى كَثِيرِ نِعَمِهِ، وَوَاسِعِ فَضْلِهِ؛ فَقَالَ:« مَنْ قَالَ إِذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي كَفَانِي وَآوَانِي، الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعِمْنِي وَسَقَانِي، الْحَمْدُ للهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيَّ فَأَفْضَلَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِعِزَّتِكَ أَنْ تُنَجِّيَنِي مِنَ النَّارِ، فَقَدْ حَمِدَ اللهَ بِجَمِيعِ مَحَامِدِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ".

 وَالْحَمْدُ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ وَالْمِحَنِ مَحْمُودٌ، وَثَوَابُهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ، فَمَنِ ابْتُلِيَ فَلَجَأَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحَمِدَهُ؛ نَالَ الرِّضْوَانَ، وَفَازَ بِالْغُفْرَانِ، يَقُولُ صلى الله عليه وسلم :« إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ. فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ». ذَلِكَ لأَنَّهُ لَمْ يَتَسَخَّطْ عَلَى قَدَرِ اللَّهِ، بَلْ حَمِدَ وَاسْتَرْجَعَ، فَكَافَأَهُ  عَزَّ وَجَلَّ بِالْجَنَّةِ.

أَيُّهَا الْمُصَلُّونَ: إِنَّ تَذَكُّرَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لاَ تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى يُعِينُ عَلَى الإِكْثَارِ مِنَ الْحَمْدِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فَمَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالأَمَانِ وَالاِسْتِقْرَارِ، وَالرَّخَاءِ وَالاِزْدِهَارِ، فَقَدْ حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا، يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا». وَكَمْ نَعِيشُ فِي نِعَمٍ عَظِيمَةٍ؛ وَمِنَنٍ كَثِيرَةٍ حُرِمَ مِنْهَا غَيْرُنَا، فَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَحْمَدَ الْمَرْءُ خَالِقَهُ، وَيَشْكُرَهُ عَلَى نِعَمِهِ: اعترافاً بِها في قَلْبِهِ، وإقراراً بها بِأَقْوالهِ، وأَداءً لها بِأَفْعالِهِ، فَاللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لَكَ شَاكِرِينَ، وَلِنِعَمِكَ حَامِدِينَ، وَبِفَضْلِكَ مُعْتَرِفِينَ، وَوَفِّقْنَا لِطَاعَتِكَ أَجْمَعِين.

الخطبة الثانية :مَن وُفِّقَ للحمدِ فقد وُفِّقَ لأعظمِ نعمةٍ ، فإنَّ نعمةَ اللهِ عزَّ وجلّ على عبدِه بالحمدِ له جلَّ وعلا أعظمُ من النعمة بالطعام والشراب والزوجة والصِّحةِ وغيرِ ذلك من النِّعمِ ، كما في ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ)) أي: أن ما أعطى العبدَ وهو الحمد لله وهو مِنّة من الله جلَّ وعلا عليه أفضلُ مما أَخذ من النعم الدنيوية من صِحّةٍ وعافيةٍ ومالٍ وولدٍ وزوجةٍ وغير ذلك. 

جماعة المسلمين : من أسماء الله الحسنى "الحميد" ، وقد ذكر جلَّ ثناؤه هذا الاسم في مواضع عديدة من القرآن ، منها قوله جلَّ ثناؤه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. والحميد اسمٌ عظيمٌ جليل دالٌّ على كمالِ اتصافِ ربِّنا جلَّ وعلا بالحمدِ واستحقاقِه له ، فهو جلَّ وعلا الحميد المستحق للحمد لما له من الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العليا ، ولِما له جلَّ جلاله من الكمال والجلال والعظمة ، وهو الحميد جلَّ وعلا على نِعَمِهِ المتوالية وآلائه المتتالية وعطاياه جلَّ ثناؤه التي لا تُعدُّ ولا تُحصى .

ونبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم إمامُ الحمَّادين ، وبيده صلواتُ الله وسلامُه عليه يومَ القيامةِ لواءَ الحمدِ؛ وهو لواءٌ حقيقي يُمسِكُه عليه الصلاة والسلام بيده ، وينْضوي تحت هذا اللواء ويجتمعُ إليه الحمَّادون من الأولين والآخرين ، ففي الترمذي من حديث أبي سعيدٍ الخُدْري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي )) ؛ فالحمّادون من الأولين والآخرين ينْضوون تحت هذا اللواءِ المبارك الكريم الذي هو بيد سيدِ إمامِ الحمَّادين صلواتُ الله وسلامُه عليه ، وكلَّما كان العبدُ أكثرَ حمداً لله كان أحظى وأولى بالقرب من هذا اللواء.

وَإِنَّ ممّا يُعِينُنَا عَلَى تَقْدِيرِ نِعَمِ اللَّهِ وَحَمْدِهِ أن نَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَنَا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :« انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ, وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ, فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَلاَّ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ»


الخميس، 11 فبراير 2016

خطبة جمعة : الشورى وفضلها وفوائدها

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اعلموا رحمكم الله أن الشُّورَى مِنْ أَهَمِّ قَواعِد الدّين وَقَوائِمِهِ، وَأُصُولِه وَثَوابِتِه؛ فَتَبَوَّأَتْ فِي دينِنا مكانةً عظيمةً؛ حَيْثُ قَرَنَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالصَّلاَةِ، إِشَارَةً إِلَى أَهَمِّيَّتِهَا، وَعِظَمِ شَأْنِهَا، فَقَالَ تَعَالَى:( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).

 قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَفِي الآيَةِ مَدْحٌ لأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لاِتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ، وَانْقِيَادِهِمْ إِلَى الرَّأْيِ الصَّادِرِ عَنِ الشُّورَى فِي أُمُورِهِمْ. وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِمُشَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ؛ لِمَا فِي الشُّورَى مِنَ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَالنَّفْعِ الْعَمِيمِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ:( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). فَكَانَتِ الشُّورَى فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَاجًا وَمَبْدَأً؛ وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لأَصْحَابِهِ مُرَسِّخًا فِيهِمْ مَبْدَأَ الشُّورَى:« يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَشِيرُوا عَلَيَّ». وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةٍ لأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. 

أَيُّهَا الْمُصَلُّونَ: لقد طَبَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الشُّورَى تَطْبِيقًا عَمَلِيًّا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاقِفِ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي غزْوة بدر وخصوصًا الأنصار فأشاروا عليْه بالقتال، وشاور الصَّحابة في أسرى بدر، فمنهم مَن أشار بالقتْل، ومنهم مَن أشار بالفداء، فأخذ الفداء.

واستشار رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابَه في غزْوة أُحُد في الخروج أو البقاء في المدينة، وكان رأيه ألاَّ يَخرجوا من المدينة وأن يتحصَّنوا بها، فإن دخلوها قاتَلَهم المسلِمون على أفْواه الأزقَّة والنِّساء من فوق البيوت، وكان بعض الصَّحابة ممَّن فاته الخروج يوم بدْر أشاروا عليه بالخروج وألحُّوا عليه في ذلك، فخرج لأحُد عملاً برأيهم.

وأخذ بمشورة سلمان الفارسي في غزوة الأحزاب بحفر الخندق، وربما شاور أصحابه في ما يخصه من الأمور ففي حديث عائشة في قصَّة الإفك: "دعا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليَّ بن أبي طالب وأُسامة بن زيد حين استلْبَث الوحي يَستشيرُهما في فراق أهله.."

وربما شاور إحدى زوجاته وأخذ برأيها، فَأَخَذَ بِرَأْيِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَدَّمَتْ أَفْضَلَ رَأْيٍ وَخَيْرَ مَشُورَةٍ.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ فِي الشُّورَى حِكَمًا بَالِغَةً، وَفَوَائِدَ جَمَّةً، فَفِيهَا امْتِثَالٌ لأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاتِّبَاعٌ لِسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَالْوُصُولُ إِلَى أَفْضَلِ الأَفْكَارِ، وَأَصْوَبِ الآرَاءِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الأَخْطَاء.

ومن فوائدها أنها تقوي الألفة بين المسلمين وتوثق الروابط بين المتشاورين جماعات وأفرادا، فيشعرون أن مصلحتهم واحدة، فيختارون أفضل السبل لتحقيقها، ومتى ما شعروا بارتباط مصالحهم قويت روابط المحبة بينهم.

و الشُّورَى تُعَزِّزُ الثِّقَةَ بَيْنَ الْحَاكِمِ وَالْمَحْكُومِ، وَتُفْسِحُ الْمَجَالَ لِلْمُشَارَكَةِ الإِيجَابِيَّةِ فِي تَقْدِيمِ النَّفْعِ لِلْبِلاَدِ وَالْعِبَادِ؛ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الشُّورَى أُلْفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ، وَمِقْيَاسٌ لِلْعُقُولِ، وَسَبَبٌ إِلَى الصَّوَابِ، وَمَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إِلاَّ هُدُوا. 

ومن فوائد الشورى أنها تؤدي إلى الحق والصواب وتبين طُرُقِ السَّدَادِ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وثبت في أمره. وقال قتادة: ما تشاور قوم يبتغون وجه الله إلا هدوا إلى أرشد أمرهم" وَلِذَلِكَ كَانَ الأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ يُوصُونَ أَبْنَاءَهُمْ بِهَا، وَيُوَجِّهُونَهُمْ إِلَيْهَا، فَهَذَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ يُوصِي ابْنَهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ فَيَقُولُ: وَلاَ تَدَعِ الْمَشُورَةَ، فَإِنَّهُ لَوِ اسْتَغْنَى عَنْهَا أَحَدٌ اسْتَغْنَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

ومن فوائد الشورى أنها تنفي عن العبد العجب والغرور بالنفس، فإن المعظم لنفسه المعجب برأيه لا يكاد يشاور أحدا ولا يلين لمن ينصحه، فيضل الحق والصواب، فعنوان العقل والتواضع كثرة المشاورة وقبول قول الناصحين، وعنوان الجهل والغرور الاستبداد ورفض نصح الناصحين

أَيُّهَا الْمُصَلُّونَ: وتختلف الشورى باختلاف موضوعها، فأمور السياسة يشاور فيها أَهْلُ الحَلّ وَالعَقْد مِنَ المَسْؤُولينَ والمستشارين، الّذينَ تَمّ اخْتِيارُهُم لِلتّصَدّي لِهَذِهِ المَسْؤُولِيّةِ الْعَظِيمةِ، وَالمهمّةِ الْجَسيمة، مِنْ ذَوي الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ، وَالأَفْهامِ السَّديدةِ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من مشاورة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكذلك أبو بكر لما ولي الخلافة شاور عمر وأهل الخبرة ، وكذلك فعل عمر وقد كانت المسألة تنزل بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فيستشير لها من حضر من الصحابة وربما جمعهم وشاورهم حتى كان يشاور ابن عباس رضى الله عنهما ، والأمور الدنيوية يشاور فيها أهل الخبرة الرأي بحسب تخصاتهم، وفي الأمور الدينية يشاور فيها أهل العلم والذكر كما قال تعالى : "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ".

ومن ألطف أنواع المشاورات الخاصة وأنفعها للإنسان الأمور المتعلقة بأسرته وعائلته، فينبغي للأب أن يشاور زوجته وأولاده في الأمور المتعلقة بهم ويستخرج آراءهم ويعودهم على تنمية عقولهم فإن في ذلك نفع وتعليم لهم. 

والشورى إنما تكون في الأُمُورِ الْمُبَاحَةِ الّتي لا نَصّ فِي تَحْديدِ حُكْمِها، وَأَمّا مَا عُرِفَ حُكْمُهُ فِي الشَّرْعْ فَلا يُتَشاوَرُ فِيه.

وتبنى الأراء في الشورى على موافقة الكتاب والسنة وليس على الهوى ، فإن ظهر للمستشير صواب رأي ما وأنه موافق للحق تعين عليه قبوله والأخذ به قال ابن تيمية : وَإِذَا اسْتَشَارَهُمْ فَإِنْ بَيَّنَ لَهُ بَعْضُهُمْ مَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أَوْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعُ ذَلِكَ وَلَا طَاعَةَ لِأَحَدِ فِي خِلَافِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . وَإِنْ كَانَ أَمْرًا قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ رَأْيَهُ وَوَجْهَ رَأْيِهِ فَأَيُّ الْآرَاءِ كَانَ أَشْبَهَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَمِلَ بِهِ .

 وَمِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا أَنْ وَهَبَنَا حُكَّامًا يَفْتَحُون لَنَا قُلُوبَهُمْ وَأَبْوَابَهُمْ، ويَسْتَمِعُونَ إِلَى أَبْنَاءِ وَطَنِهِمْ بِآذَانٍ وَاعِيَةٍ، وَقُلُوبٍ أَبَوِيَّةٍ رَاعِيَةٍ، فَالشُّورَى مَنْهَجُهُمْ وَسَمْتُهُمْ، وَيُنْشِؤُونَ الْمُؤَسَّسَاتِ الَّتِي تَخْدِمُ الْمُوَاطِنِينَ وَتُوصِلُ أَصْوَاتَهُمْ، فَمُنْذُ قِيَامِ اتِّحَادِ دَوْلَةِ الإِمَارَاتِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُتَّحِدَةِ تَشَاوَرَ الشَّيْخ/ زايد طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ مَعَ إِخْوَانِهِ حُكَّامِ الإِمَارَاتِ فِي قِيَامِ الاِتِّحَادِ، وَتَأَسَّسَ الْمَجْلِسُ الْوَطَنِيُّ الاِتِّحَادِيُّ كَصُورَةٍ مُعَاصِرَةٍ لِمَبْدَإِ الشُّورَى، وَهُو هَيْئَةٌ اسْتِشَارِيَّةٌ لِلْحُكُومَةِ، وَقَنَاةٌ لإِيصَالِ صَوْتِ الْمُوَاطِنِ، وَلِلتَّعْبِيرِ عَنْ أَفْكَارِ وَآرَاءِ أَبْنَاءِ الدَّوْلَةِ فِي مُخْتَلَفِ الْمَجَالاَتِ، وَأَبْوَابُ الْمَجْلِسِ مَفْتُوحَةٌ أَمَامَ جَمِيعِ الْمُوَاطِنِينَ، وَهُوَ يَعْكِسُ الْعِنَايَةَ الْبَالِغَةَ لِلْقِيَادَةِ الرَّشِيدَةِ بِأَبْنَائِهَا، وَالْمَجْلِسُ تَجْسِيدٌ حَيٌّ مُثْمِرٌ لِنَهْجِ الشُّورَى فِي مُجْتَمَعِ الإِمَارَاتِ، وَيَتَمَتَّعُ الْمَجْلِسُ الْوَطَنِيُّ الاِتِّحَادِيُّ بِصَلاَحِيَّاتٍ وَاسِعَةٍ؛ لِنَقْلِ الصُّورَةِ الْوَاضِحَةِ لِوَاقِعِ الْقِطَاعَاتِ الْخَدَمِيَّةِ: التَّعْلِيمِيَّةِ، وَالصِّحِّيَّةِ، وَالاِجْتِمَاعِيَّةِ وَغَيْرِهَا، حِرْصًا عَلَى رَاحَةِ الْمُوَاطِنِينَ وَإِسْعَادِ الْمُجْتَمَعِ، وَالْمَجْلِسُ عَوْنٌ لِلْحُكُومَةِ وَسَنَدٌ لَهَا، وقد قَالَ التابعيُ الجليلُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا تشَاوَرَ قَوْمٌ إلاَّ هُدُوا لأَرْشَدِ أَمْرِهِمْ.

فَاللَّهُمَّ اجْزِ عَنَّا حُكَّامَنَا كُلَّ خَيْرٍ، وَاهْدِنَا لأَفْضَلِ الأَعْمَالِ، وَأَحْسَنِ الأَقْوَالِ، وَارْزُقْنَا السَّدَادَ فِي الرَّأْيِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ . 


الخطبة الثانية : اعلموا رحمكم الله أنَّ للمَساجِدِ في دِينِنا شَأْناً كبيراً، ومَكانةً ساميةً، وحُرْمَةً عَظِيمة، أَمَرَنا اللهُ تعالى بِتَعْظِيمها، وبيّنَ لنا أنَّها إنَّما بُنِيَتْ لعِبادَتِهِ وَحْدَهُ وذِكْرِ اسْمِهِ والتَّسْبِيحِ له، قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ؛ فدلَّتِ الآيةُ على أنَّ ممّا ينبغي لمن دَخَلَ بيوتَ اللهِ تعالى أن يُفرِّغَ قَلْبَهُ من كلِّ أَمْرٍ سوى الإقبالِ على اللهِ تعالى وإجْلالِهِ وتَعْظِيمِهِ وذِكْرِه، وَوَضَّحَتْ الآيةُ أيضاً ما يترتَّبُ على ذلكَ من الفَضْلِ الكبيرِ والثَّوابِ العَظيم.

فمن الخَطَإِ المبينِ التَّعَدِّي على بُيوتِ اللهِ تعالى وحُرْمَتِها وقُدْسِيَّتِها، وإيذاءُ المصلِّين والذَّاكرينَ الله فيها، بأيِّ نَوْعٍ من أَنْواعٍ الضَّرَرِ والأذى، ممّا يترتَّبُ عليه إشغالُهُم عن كَمالِ الخشوعِ وتمامِ الإقبالِ على الله تعالى،ومن هُنا وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ السُّؤالِ عن الغَرَضِ الضَّائعِ في المسْجِد؛ قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لاَ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا".

عباد الله: إنَّ من صُوَرِ الأَذى المنتشرةِ في مَساجِدِنا اليوم: تَرْكَ الهواتفِ وهيَ تَرِنُّ، دونَ مُراعاةٍ لما تُحدِثُهُ من الأَذى للمُصَلِّينَ، والتَّشويشِ على الخُطَباءِ والوُعَّاظِ والمسْتَمِعِين، فَضْلاً عن إزعاجِ التَّالينَ كِتابَ اللهِ والذَّاكِرين.

و قد يَنْسى المصَلِّي إغلاقَ هاتفِهِ أو وَضْعَهُ على خِدْمَةِ الصَّامت، فليبادِرْ إلى ذلكَ إذا اتَّصَلَ بهِ أَحَدٌ؛ لأنَّ بعضَ الناسِ يدَعُهُ يَرِنُّ فلا يُغْلِقُهُ ولا يُسْكِتُهُ؛ خوفاً من التَّحَرُّكِ في الصَّلاة، مع أنها حَرَكَةٌ قليلةٌ متعلِّقةٌ بمصْلَحَةِ الصَّلاة، فضلاً عن كَفِّ الأذى عن المصَلِّين.

وبعضُ الناسِ يُضيفُ خَطَأً آخرَ إلى ما سَبَقَ، باختيارِ تلكَ النَّغَماتُ الموسِيقِيَّةُ المحرَّمَةُ، والأَغاني المنْكَرَةُ، ولا يُنزِّهُ بُيوتَ اللهِ تعالى عن هذا المنْكَرِ، مع أنَّ ربَّنا عَزَّ وجلَّ نهانا عن الاستماعِ إلى الأَغَانِي والمعازِفِ الموسِيقِيَّةِ، وحذَّرَنا سبحانَهُ من عاقبةِ التَّمادِي في ذلك، فقال سُبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ *وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) .

وقد سُئِلَ الصحابيُّ الجليلُ الإمامُ الفَقِيهُ عبدُ الله بنُ مَسْعُودٍ عن هذه الآيَةِ فقال: الْغِنَاءُ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إلا هو، يردِّدُها ثلاثاً.

فالواجبُ علينا عبادَ الله: الإقلاعُ عن الاسْتِماعِ لهذه المنْكَرات، طاعةً لِرَبِّ الأرضِ والسَّماوات؛ فإنَّ علامةَ محبَّةِ العَبْدِ رَبَّهُ استسلامُهُ لَهُ سُبْحانَهُ، وانقيادُهُ لما أَمَرَهُ به، وتركُهُ ما نَهاه عَنْهُ جَلَّ شَأْنُهُ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .

فاللهمَّ طَهِّرْ مَساجِدَنا وقُلُوبَنا وأَقْوالَنا وأَعْمالَنا من كُلِّ ما لا يُرْضِيك، وأَعِنَّا على ذِكْركَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبادتِكَ، وارزقنا الفَوْزَ بجنّاتِكَ، والنَّجاةَ من غَضَبِكَ ونيِرانِكَ، إنَّك على كلِّ شَيْءٍ قَدِير، وبِالإجابَةِ جَدِير.

الجمعة، 5 فبراير 2016

خطبة جمعة : عقيدة الولاء والبراء

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين إن مما ينبغي للمسلم أن يعتني به غاية العناية جانب العقيدة وما يتعلق بالإيمان بالله تعالى لأنها الأساس الذي يبنى عليه الدين، والدافع الذي يدفع العبد للعمل، ولذلك أمر الله بالإيمان فقال:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا"

ولأهمية ترسيخ العقيدة  استمر النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمها للصحابة ثلاث عشرة سنة في مكة لم يؤمر فيها بصيام ولا زكاة إلا الصلاة في آخر العهد بمكة.

وكان الوفد يفد على النبي صلى الله عليه وسلم فيأمرهم بالإيمان بالله ويشرح تفاصيله ومتعلقاته فعن ابْن عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-قال: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " مِمَنِ الوَفْدُ " قَالُوا: رَبِيعَةُ، قَالَ: " مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا، وَلا نَدَامَى " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَيْنَاكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، وَلَسْنَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فَأَخْبِرْنَا بِأَمْرٍ نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ وَنُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَسَأَلُوهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ، قَالَ: " أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللهِ؟ " قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا الْخُمُسَ مِنَ المَغْنَمِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ وَالْمُقَيَّرِ " قَالَ: " احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ "

ولم يتوفى النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد أرسى جميع مسائل الاعتقاد والإيمان بالله، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: تَرَكْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ، إِلَّا وَهُوَ يُذَكِّرُنَا مِنْهُ عِلْمًا، قَالَ: فَقَالَ: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَقِيَ شَيْءٌ يُقَرِّبُ مِنَ الْجَنَّةِ، ويُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ، إِلَّا وَقَدْ بُيِّنَ لَكُمْ»

ومن أبواب العقيدة التي بينها الله في كتابه والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته عقيدة الولاء والبراء، وهو محبة الله ورسوله ونصرة دينه بتحقيق التوحيد وإفراد الله بالعبودية مع بغض ومعاداة كل ما يعبد من دون الله من الطواغيت والآلهة والأهواء والتبرؤ منهم.

والولاء والبراء له مكانة عظيمة في الدين ففيه تحقيق لمعنى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن من معناها البراءة من كل ما يعبد من دون الله من الآلهة والطواغيت ودعاتها، قال تعالى: " فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"

كما أن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين والبراءة من المشركين وما يعبدون شرط في الإيمان، قال سبحانه :" تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" فلا يجتمع الإيمان واتخاذ الذين كفروا أولياء يُحبون ويُناصرون، قال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ".

عباد الله: لقد ذكر الله لنا في كتابه جانبا تطبيقيا للولاء والبراء، ومن ذلك ذكره الله من قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه لما كفروا بالله قال تعالى : "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"، ثم لما تبين لإبراهيم عليه السلام عناد أبيه تبرأ منه كذلك كما قال تعالى : " وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ".

وجاء في البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات عمه أبوطالب على الكفر قال : " والله لاستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله " مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ"

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي مفسرا الآية: "  النبي والذين آمنوا معه، عليهم أن يوافقوا ربهم في رضاه وغضبه، ويوالوا من والاه الله، ويعادوا من عاداه الله، والاستغفار منهم لمن تبين أنه من أصحاب النار مناف لذلك، مناقض له"

أيها المسلمون: وللمؤمن مع من يحب ويبغض أحوال وأقسام، فمنهم من يجب أن يحب محبة خالصة لا معاداة فيها وهم المؤمنون الخلص من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وفي مقدمتهم النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وزوجاته والتابعين وتابعيهم وأهل العلم وصالح المؤمنين، قال تعالى " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ" ، بل بغض بعضهم كالصحابة علامة على النفاق كما قال صلى الله عليه وسلم فيمن يبغض الأنصار:" آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ"

ومنهم من يبغض ويعادى بغضا ومعاداة خالصين لا محبة ولا موالاة معهما وهم الكفار الخلص والمشركين والمرتدين كما قال تعالى : " لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ"

ومنهم من يحب من وجه ويبغض من وجه فيجتمع فيه المحبة والعداوة وهم عصاة المؤمنين، فيحبون لما فيهم من الإيمان ويبغضون لما فيهم من المعصية التي هي دون الشرك، قال ابن تيمية : " وَالْفَاسِقُ الْمِلِّيُّ يُعْطَى مِنْ الْمُوَالَاةِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ، وَيُعْطَى مِنْ الْمُعَادَاةِ بِقَدْرِ فِسْقِهِ، فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ لَهُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ إذَا لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ"

فعلى المسلم أن يحب لله ويبغض لله وأن يقبل على تعلم أحكام دينه ليكون من الفائزين في الدارين


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : من الضوابط المهمة التي ينبغي أن تراعا في جانب الولاء والبراء أن يعلم المسلم أن الإسلام قد أقر ترك الكفار الأصليين من أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين على كفرهم بعد دعوتهم إلى الإسلام فلم يجبر أحدا منهم على الدخول في الدين ، قال تعالى : "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ"

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل معهم وهم في المدينة بيعا وشراء بل توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهوديوأعطاهم حقوقهم، قَالَ سُبْحَانَهُ:( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) قال القرطبي :الْبِرُّ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لا يكونُ بالموَدَّةِ القَلْبيَّةِ وإنَّما يَكُونُ بِالرِّفْقِ بِضَعِيفِهِمْ، وَسَدِّ خُلَّةِ فَقِيرِهِمْ، وَإِطْعَامِ جَائِعِهِمْ، وَإِكْسَاءِ عَارِيهِمْ، وَلِينِ الْقَوْلِ لَهُمْ تَلَطُّفًا وَرَحْمَةً، وَالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ إلى الحقِّ، وَصِيَانَةِ أَمْوَالِهِمْ وَعِيَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَحِفْظِ مَصَالِحِهِمْ، وَإِعَانَتِهِمْ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُمْ، وَإِيصَالِهِمْ لِجَمِيعِ حُقُوقِهِمْ"

بل منع الإسلام من التعدي عليهم وحفظ أموالهم وأعراضهم ودماءهم، وأباح الأكل من طعامهم والزواج بنسائهم، قال تعالى : وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ".

ومن الضوابط المهمة في باب الولاء والبراء أن الإسلام أباح توقيع المعاهدات مع الكفار ولو على شروط فيها ظلم على المسلمين إذا كان في ذلك مصلحة راجحة للمسلمين وهذا يقدرة الحاكم وولي الأمر، قال تعالى "إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ " والنبي صلى الله عليه وسلم صالح المشركين في صلح الحديبية على وضع القتال عشر سنين.

ومن الضوابط المهمة في عقيدة الولاء  والبراء أن الإسلام جاء بالبراءة من الكفار وأوجب نصرة المسلمين، إلا إذا وجد عهد بين المسلمين والكفار أو كان المسلمون عاجزين فلا يجب عليهم نصرة إخوانهم المسلمين، قال تعالى :"وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" .وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم نصرة كثير من المستضعفين من أصحابه في مكة لعدم القدرة على نصرتهم أو لوجود عهد بينه وبين المشركين. 

ومن الضوابط المهمة في الولاء والبراء أن الاستعانة بالكفار لمصلحة المسلمين وحماية بلادهم جائز شرعا وهو من الأمور المنوطة بولي الأمر وسياسته للبلاد.

ومن الضوابط كذلك أن الإسلام أوجب العدل في الأحكام حتى مع الكفار ممن قاتلنا وعادانا ولو اقتضى ذلك أن يحكم للكافر على المسلم فإن ذلك لا ينافي الولاء للمسلم والبراءة من الكافر قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"

ومن الضوابط كذلك أن الإسلام أمر بالإحسان إلى بعض الكفار من أهل الذمة لقرابتهم أو رحمهم كالوالدين مثلا قال تعالى : " وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا"

عباد الله : علينا أن نرجع في فهم مسائل العقيدة إلى العلماء الربانيين من أهل السنة والجماعة، وليس لعامة الناس أو القصاصين والمثقفين، فالعقيدة إنما تستقى من الكتاب والسنة على وفق فهم سلف الأمة.