الخميس، 31 مارس 2016

خطبة جمعة: ومنهم سابق بالخيرات

الخطبة الأولى: جماعة المسلمين قال ربنا عز وجل في محكم التنزيل: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير" قال بعض أهل التفسير هذه الآية من أرجى آيات القرآن حيث امتن الله على هذه الأمة بالكتاب وهو القرآن، وفي ذلك دلالة واضحة على اصطفاء اله لهذه الأمة، ثم بين عز وجل انقسام الأمة إلى ثلاثة أقسام، فمنهم ظالم لنفسه وهو الذي يطيع الله، ولكنه يعصيه، فهو الذي قال الله فيه "خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم "، والثاني المقتصد وهو الذي يطيع الله، ولا يعصيه، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعات، والثالث السابق بالخيرات: وهو الذي يأتي بالواجبات والمفروضات، ويجتنب المحرمات والمكروهات، ويتقرب إلى الله بالمندوبات والمستحبات.

ومن فضل الله عليهم جميعا أن وعدهم ربهم بوعد عظيم فقال: "جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير" قال المفسر الشنقيطي رحمه الله: "والواو في يدخلونها شاملة للظالم، والمقتصد والسابق على التحقيق، ولذا قال بعض أهل العلم : حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين، فوعده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة، وأولهم الظالم لنفسه يدل على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة "

جماعة المسلمين: لقد حث الله عباده المؤمنين على التنافس في فعل الخيرات، والتزود من الطاعات، قبل الممات، لأنهم سيرجعون إلى ربهم وإلههم فجازيهم على أعمالهم، فقال الله سبحانه: "فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون"، وقال سبحانه في الحديث القدسي: "يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".

وأوحى الله لأنبيائه ورسله بذلك فقال: "وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين" وقد لبى الأنبياء الكرام نداء الله سبحانه، واستجابوا لوحيه، وسلكوا هذا الميدان فقال تعالى عنهم :( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ). وسار خلفهم الصالحون في كل العصور والقرون فقال تعالى في وصفهم :( ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين). وقال تعالى :( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون * أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون).

والعبد إذا مات وانتقل من الدنيا يتمنى الرجوع، لا ليجمع مالا، ولا ليكاثر في الأولاد والزوجات، وإنما ليعمل الصالحات ويستكثر من الخيرات، قال تعالى "حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون، لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون "، وروى ابن ماجة بإسناد حسن عن ابن عمر، أنه قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاءه رجل من الأنصار فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟ قال: "أحسنهم خلقا" قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: "أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم لما بعده استعدادا، أولئك الأكياس"، وعن إبراهيم التيمي-رحمه الله- قال: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي نفس، أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا، قال: قلت: فأنت في الأمنية فاعملي.

عباد الله: ومن تيسير الله على عباده، وفضله عليهم أن فتح لهم أبوابا للخير كثيرة بحسب قدرتهم وطاقتهم، ولن يعجز أحد أن يكون مبادرا إلى الإحسان والنفع كل في مكانه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (على كل مسلم صدقة). قالوا: فإن لم يجد؟ قال :( فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق). قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل قال: (فيعين ذا الحاجة الملهوف). قالوا: فإن لم يفعل قال :( فيأمر بالخير أو قال بالمعروف). قالوا: فإن لم يفعل قال :( فليمسك عن الشر فإنه له صدقة) رواه البخارى.
ولقد شغل الناس في عصرنا بأمور الدنيا من الوظائف والتجارات والأولاد عن فعل الخيرات، حتى صارت الدنيا أصلا، وأمور العبادة فرعا، متى ما فرغ العبد من شؤونه أدى ما استطاع منها، وهذا ما خافه النبي صلى الله عليه وسلم علينا فقال: فوالله ما الفقر أخاف عليكم، ولكن أخاف عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوا فيها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم " 

فاغتنم -يا عبد الله - وقتك وحياتك، فالسنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجداد يوم المعاد، فعند الجداد يتبين حلو الثمار من مرها. "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد"

ومن صفات المتسابقين في الخيرات الخوف من عدم قبول عملهم مع اشتغالهم بالعمل، فلا يغترون بأعمالهم، بل يتعبدون ربهم ويسألونه قبول الطاعات، ويستغفرونه من التقصير، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية "والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون "قالت عائشة أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال« لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون ». وليس خوفهم من أن لا يوفيهم الله أجرهم، بل خوفهم من عدم أداء العمل على وفق ما أراد الله سبحانه. 


الخطبة الثانية: جماعة المسلمين: خلق الله الخلق لعبادته وطاعته، ولكنه سبحانه قسم وفاوت بينهم في الاجتهادات فيها، وفتح لهم من أبواب الطاعات من نوافل العبادات وفروض الكفايات ما يتنافس فيه المتنافسون ويتمايز به المتسابقون. فمن كان حظه في طاعة أكثر كان ذلك منزلته في الجنة ودرجته.

وتأملوا حفظكم الله ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أنفق زوجين من شىء من الأشياء فى سبيل الله دعى من أبواب - يعنى الجنة - يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعى من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد دعى من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة دعى من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعى من باب الصيام ، وباب الريان ». فقال أبو بكر ما على هذا الذى يدعى من تلك الأبواب من ضرورة ، وقال هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله قال « نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر »وجاء عند أحمد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح:" لكل أهل عمل باب من أبواب الجنة، يدعون منه بذلك العمل "

وجاء في السير أن عبد الله العمري العابد كتب إلى الإمام مالك بن أنس -إمام دار الهجرة- يحضه على العزلة والتفرغ للعبادة، فكتب إليه الإمام مالك رحمه الله: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم "، قال مالك:" ونشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على بر وخير "، وقد قال عبد الله بن المبارك:" ما رأيت أحدا ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة "، ويستدرك على ذلك الإمام الذهبي رحمه الله فيقول:" ما كان عليه مالك من العلم ونشره أفضل من نوافل الصلاة والصوم لمن أراد به وجه الله ".

أيها المسلمون، طرق الخير كثيرة، وأبواب العمل الصالح مشرعة، وقد كان أصحاب رسول الله ورضي الله عنهم أجمعين من شدة حبهم للخير وحرصهم على العمل الصالح يسألون رسول الله: أي الأعمال أفضل؟ ويسألونه: أي الأعمال أحب إلى الله؟ وقد كان جواب رسول الله متعددا في أوقات مختلفة وفي أحوال مختلفة أيضا، من أجل اختلاف أحوال السائلين واختلاف أوقاتهم، فأعلم كل سائل بما يحتاج إليه، أو بما له رغبة فيه، أو بما هو لائق به ومناسب له.

فلنسارع إلى الخيرات؛ لننال السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، ولا نؤخر، فالتسويف والتأخير في ذلك من القواطع، قال الحكماء: إياك والتسويف لما تهم به من فعل الخير، فإن وقته إذا زال لم يعد إليك. قال تعالى :( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) قال عز وجل :( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا). 

الجمعة، 25 مارس 2016

خطبة جمعة : أسباب تحقيق السعادة

جماعة المسلمين: اعلموا رحمكم الله أن السعادة مطلب كل عاقل، يتمنى عيشا هائنا، وحياة طيبة، ولكن تتباين أنظار الناس في وسائل تحقيق السعادة، ولقد جاء ديننا الإسلامي بجميع الوسائل التي تحقق السعادة للعبد في جميع مراحل حياته، في الدنيا وفي القبر ويوم القيامة.

فمن أعظم أسباب تحقيق السعادة للعبد في الدنيا والآخرة تحقيق الإيمان بالله تعالى اعتقاداً وقولاً وعملاً، فلا تقرّ العين، ولا يهدأ القلب، ولا تطمئن النفس إلا بإيمانها بإلهها ومعبودها الذي هو الله سبحانه.

 فالمؤمن المخلص لله من أطيب الناس عيشًا، وأنعمهِم بالًا، وأشرحهِم صدرًا، وأسرّهِم قلبًا. وهذه جنة عاجلة قبل الجنّة الآجلة،  قال الله تعالى :" مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" فضَمِن لأهل الإيمانِ والعملِ الصالحِ الجزاءَ في الدنيا بالحياة الطيّبة وبالحسنى يوم القيامة، فلهم أطيب الحياتين، وهم أحياء في الدارين، قال تعالى "لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ "

فإن سأل سائل: ما المقصود بقوله تعالى " فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً" هل هي التنعم فِي أَنْوَاع المآكل والمشارب والملابس والمناكح أوْ لَذَّة الرياسة وَالْمَال وقهر الأعداء والتفنن بأنواع الشَّهَوَات؟ 

الجواب: لا ، ليس هذه الحياة الطيبة التي يصبوا إليها المؤمن، بل الحياة الطيبة حياة القلب لما يخالطه الإيمان الصحيح، فيكون رضا الله همه ومطلبه، ولو فقد لذات الدنيا بأسرها، يقول بعض السلف مع فقره: "لَو علم الْمُلُوك وأبناء الْمُلُوك مَا نَحن عَلَيْهِ لجالدونا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ، وقال  ابن تيمية-رحمه الله- :إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" إنها جنة الإيمان والعمل الصالح.

وتعالوا بنا نتأمل حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد ابتلي بلاء عظيما، ومع ذلك رأى سعادته في عبادة ربه وطاعته، فكان يقول :"جعلت قُرَّةُ عيني في الصلاة " وكان يقول لبلال: " يَا بِلاَلُ أَقِمِ الصَّلاَةَ أَرِحْنَا بِهَا "، وربما قام من الليل حتى تورمت قدماه فَيَقُولُ « أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا »، وربما صام وواصل دون أن يفطر ويقول: "إِنِّى لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ إِنَّ رَبِّى يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِى" قال ابن القيم-رحمه الله- :" هَذَا طَعَام الأرواح وشرابها وَمَا يفِيض عَلَيْهَا من أَنْوَاع الْبَهْجَة واللذة وَالسُّرُور وَالنَّعِيم الَّذِي رَسُول الله فِي الذرْوَة الْعليا مِنْهُ وَغَيره إِذا تعلق بغباره رأى ملك الدُّنْيَا وَنَعِيمهَا بِالنِّسْبَةِ اليه هباء منثورا بل بَاطِلا وغرورا"

هذه سعادة النبي صلى الله عليه وسلم، ولو نظرنا إلى بيته لرأينا عجبا، يقول عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَالَ فَجَلَسْتُ فَإِذَا عَلَيْهِ إِزَارٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِى جَنْبِهِ وَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوَ الصَّاعِ وَقَرَظٍ فِى نَاحِيةٍ فِى الْغُرْفَةِ وَإِذَا إِهَابٌ مُعَلَّقٌ فَابْتَدَرَتْ عَيْنَاىَ فَقَالَ « مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ». فَقُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ وَمَا لِىَ لاَ أَبْكِى وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِى جَنْبِكَ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لاَ أَرَى فِيهَا إِلاَّ مَا أَرَى وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِى الثِّمَارِ وَالأَنْهَارِ وَأَنْتَ نَبِىُّ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ. قَالَ « يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الآخِرَةُ وَلَهُمُ الدُّنْيَا ». قُلْتُ بَلَى.

هذا هو أسعد الخلق، وهذه حياته وهو القائل: "فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة" ولكنه علم مصدر السعادة الحقيقية فلزمه.

عباد الله : ومن النماذج التي تبين لنا أثر الإيمان في تحقيق السعادة رغم ضيق العيش وقسوة الحياة ما ذكر ابن القيم رحمه الله من حياته شيخ الإسلام ، فلما سجن ابن تيمية في سجن القلعة بدمشق كان يقول: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: {فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه.

وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة" ا.هـ

عباد الله : وَمِنْ أَهَمِّ مُقَوِّمَاتِ سَعَادَةِ الْفَرْدِ وَرَاحَتِهِ، وَسَكِينَةِ فُؤَادِهِ وَطُمَأْنِينَتِهِ؛ الإِيمَانُ بِالقضاء والْقَدَرِ، فَهُوَ أَحَدُ أُصُولِ الإِيمَانِ، فيعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ».

وقال الله -عز وجل-: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"
قال علقمة: " هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من قِبل الله فيسلم ويرضى، ومن رضي عن الله رضي الله عنه، والرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين وقرة عيون المشتاقين.. "
فلا خروج للعبد عما قُدر له، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو راضٍ محمودٌ ملطوفٌ به، وإلا جرى عليه القدر وهو مذمومٌ مسخوط.

فترى المؤمن يستقبل المصائب والآلام بنفسٍ رضيةٍ ونفسٍ مطمئنةٍ وسكينةٍ عجيبة، فالإيمان بالقدر يفلح في تهدئة الأعصاب أكثر مما تفلح كل المسكنات والعقاقير الطبية.

ومَنِ امْتَلأَ قَلْبُهُ رِضًا بِالْقَدَرِ، فَاضَ قَنَاعَةً وَطُمْأَنِينَةً، وَغِنًى وَأَمْنًا، فَإِنَّ الْقَنَاعَةَ مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ، وَحَقِيقَتُهَا الرِّضَا وَالتَّعَفُّفُ، وَتَرْكُ السُّؤَالِ وَالتَّشَوُّفِ، فَذَلِكَ هُوَ الْغِنَى الْحَقِيقِيُّ، قَالَ صلى الله عليه وسلم :« وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ». فَإِنَّ مَنْ قَنَعَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، وَلَمْ يَطْمَعْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ؛ أَصْبَحَ غَنِيًّا عَنْهُمْ.


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين ومن أسباب تحقيق السعادة للعبد في دنياه وأخراه اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ففيها النجاة من كل اختلاف وشر، وفيها سلوك طريق الجنة والنجاة من النار، قال صلى الله عليه وسلم:  " كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، إِلاَّ مَنْ أَبَى » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ « مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى » ، وقال الإمام مالك رحمه الله: السنة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك" 
وعند الاختلاف أمر صلى الله عليه وسلم بلزوم سنته واقتفاء نهجه، فقال :مَنْ يعش منكم بعدي ، فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسُنَّتِي وسنَّةِ الخُلفاءِ الرَّاشدين المهديِّين من بعدي" 

ومن أسباب تحقيق السعادة للعبد في دنياه وأخراه الإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن، قال تعالى :"الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"  وقال عز وجل: " مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى"  فسعادة القلب وطمأنينته إنما تكون بذكر الله تعالى والإقبال على كتابه قراءة وتدبرا وعملا.

ومن أسباب تحقيق السعادة للعبد في دنياه وأخراه الإحسانُ إلى الآخرين وإسْعادُهُم، وتَفْرِيجُ كُرَبِهِم، وإعانَتُهُم بَدَنِيَّاً ومادِّياً ومَعنويَّاً، وجَزاءُ الإحْسانِ إِحْسانُ اللهِ تَعالى لعَبْدِهِ المـُحْسِن، ولا شَكَّ أنَّ ذلكَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ سَعادةِ العَبْد؛ قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) . 
وَالْبَخِيلُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِحْسَانٌ أَضْيَقُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَنْكَدُهُمْ عَيْشًا، وَأَعْظَمُهُمْ همًّا وَغَمًّا.

ومن أسباب تحقيق السعادة للعبد في دنياه وأخراه تجنب الفتن وعدم استشرافها والدخول فيها، قال صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ وَلَمَنِ ابْتُلِىَ فَصَبَرَ فَوَاهًا" ، وأخرج الإمامان البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًاً فَلْيَعُذْ بِهِ )).
فسعادة العبد تتحقق باجتناب الفتن وعدم الخوض فيها.

ومن أسباب تحقيق السعادة للعبد في دنياه وأخراه ترك فضول النظر والكلام والاستماع، والتدخل فيما لا يعني العبد من أمور الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم : " مِنْ حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُهُ ما لا يعنيه" ، مع طرح الحسد والحقد تجاه الناس.

ومن الأسباب التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لتحقيق السعادة قوله : أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ»

عباد الله : إن أسباب السعادة تنحصر إجمالا في تحقيق تقوى الله، بفعل ما أمر الله واجتنباب ما عنه نهى وزجر، والشقاوة إنما تكون بالإعراض عن شرع الله ودينه وذكره، فمن كانت هذه حاله فهو من أشقى الناس ولو حصل من الدنيا جميع لذاتها وشهواتها، قال تعالى : فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى  وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى  قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى"
وأما السعادة الحقيقة أيها المؤمنون فهي يوم القيامة لما يؤتى العبد كتابه بيمينه قال سبحانه " فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا "  فيقول فرحا مسرورا: فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ . 
عاقبة السعادة الحقيقة قوله تعالى : " وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ"



الجمعة، 18 مارس 2016

خطبة جمعة: التراحم في المجتمع- أحكام وقت الصلاة

الخطبة الأولى عِبَادَ اللَّهِ:  إِنَّ الإِسْلاَمَ دِينُ تَكَافُلٍ وَتَلاَحُمٍ، وَتَعَاطُفٍ وَتَرَاحُمٍ، دَعَا إِلَى الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَجَعَلَ التَّرَاحُمَ مِنْ أَخَصِّ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْعَامِلِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾. أَيْ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ يَرْحَمُونَ الْيَتِيمَ وَالْمِسْكِينَ وَالْخَلْقَ أَجْمَعِينَ، سَيَكُونُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ﴿أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ﴾. فَالرَّاحِمُونَ مَوْعُودُونَ بِنَيْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَرُضَوَانِهِ، وَعَفْوِهِ وَغُفْرَانِهِ، يَقُولُ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم : «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ». وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللَّهُ لَكُمْ».

لَقَدْ حَرَصَ الإِسْلاَمُ بِمَبَادِئِهِ السَّامِيَةِ، وَتَشْرِيعَاتِهِ الْحَكِيمَةِ عَلَى بِنَاءِ مُجْتَمَعٍ مُتَكَاتِفٍ مُتَرَاحِمٍ، يَقُومُ عَلَى التَّعَاوُنِ وَالتَّآزُرِ على الخير ونبذِ الشَّرِّ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان). فالتَّرَاحُمَ الْمُجْتَمَعِيَّ يَقْتَضِي بَذْلَ الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ الْمَعْنَوِيِّ وَالْمَادِيِّ لِمَنْ هُوَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ, وَيُحِبُّ الْمَرْءُ الْخَيْرَ وَالْفَضْلَ لِغَيْرِهِ كَمَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ, يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، يَأْلَمُ الْمُؤْمِنُ لأَهْلِ الإِيمَانِ كَمَا يَأْلَمُ الْجَسَدُ لِمَا فِي الرَّأْسِ». فَيَتَرَاحَمُ الْمُجْتَمَعُ وَيَتَعَاوَنَ؛ وَيَشْتَدَّ بِنَاؤُهُ، وَيَقْوَى تَمَاسُكُهُ؛ وَيَتَرَابَطَ أَبْنَاؤُهُ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :«الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». وَشَبَّكَ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصَابِعِهِ.

عباد الله: من صور التراحم التي أكدها الله في القرآن, قول اللَّهُ سُبْحَانَهُ:( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ). ففِي الآيَةِ أَمْرٌ بِالإِحْسَانِ إِلَى الأَهْلِ وَالأَقْرِبَاءِ، وَالْجِيرَانِ وَالأَصْدِقَاءِ، وَالْمُحْتَاجِينَ وَالضُّعَفَاءِ، وَأَكَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي السَّامِيَةِ؛ فَكَانَ صلى الله عليه وسلم فِي التَّكَافُلِ مَعَ أَهْلِهِ وَالأَقْرَبِينَ أُسْوَةً يُقْتَدَى، وَمِثَالاً يُحْتَذَى، فرَغَّبَ صلى الله عليه وسلم فِي التَّصَدُّقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ؛ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم :« خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ». 

وَحَثَّ الشَّرْعُ الْحَنِيفُ عَلَى التَّكَافُلِ الْمَادِيِّ مَعَ ذَوِي الأَرْحَامِ، فَضَاعَفَ الأَجْرَ لِمَنْ وَصَلَهُمْ، أَوْ تَكَفَّلَ بِهِمْ، أَوْ تَضَامَنَ مَعَهُمْ عَلَى مُتَطَلَّبَاتِ الْحَيَاةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ». وَتَتَّسِعُ دَائِرَةُ التَّكَافُلِ الاِجْتِمَاعِيِّ لِتَشْمَلَ الْجِيرَانَ، وَذَلِكَ بِحُسْنِ مُعَامَلَتِهِمْ، وَمُشَارَكَتِهِمْ أَفْرَاحَهُمْ، وَمُؤَازَرَتِهِمْ فِي أَحْزَانِهِمْ، وَالإِهْدَاءِ إِلَيْهِمْ، فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارَيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :« يَا أَبَا ذَرٍّ: إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَها وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ». وَذَلِكَ لِمَا لِلْهَدِيَّةِ وَالْهِبَةِ مِنْ دَوْرٍ مُهِمٍّ فِي تَقْوِيَةِ النَّسِيجِ الاِجْتِمَاعِيِّ، وَإِشَاعَةِ رُوحِ الأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ بَيْنَ النَّاسِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« تَهَادَوْا تَحَابُّوا». 

وَتَمْتَدُّ مَظَلَّةُ التَّكَافُلِ فِيهِ لِتَشْمَلَ الْعَطْفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَالرَّحْمَةَ بِالْمَسَاكِينِ وَالضُّعَفَاءِ وَالأَيْتَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ). وتتسع دائرة التراحم  لِتَعُمَّ الْمُجْتَمَعَ كُلَّهُ، فَيَتَعَاوَنَ أَفْرَادُهُ عَلَى الْخَيْرَاتِ، وَيَتَّحِدُوا فِي مُوَاجَهَةِ الأَزَمَاتِ، وَيَبْذُلُوا وُسْعَهُمْ لِتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَمِنْ تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ وَالتَّكَافُلِ فِي الْمُلِمَّاتِ التَّبَرُّعُ بِالدَّمِ لِلْجَرْحَى وَالْمَرْضَى وَالْمُصَابِينَ، فَذَلِكَ فِيهِ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَثَوَابٌ عَظِيمٌ، فَقَدْ تُنْقِذُ بِهِ حَيَاةَ إِنْسَانٍ، وَتُغِيثُهُ قَبْلَ الْفَوَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). 

وثَمَرَاتُ التراحم عَظِيمَةٌ فِي الْعَاجِلِ وَالآجِلِ، يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي». 

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ». فَلْنَحْرِصْ عَلَى التَّرَاحُمِ فِي أُمُورِنَا كُلِّهَا.

نَفَعَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبِسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


الخطبة الثانية : عباد الله من الأحكام التي ينبغي للمسلم مراعاتها في صلاته قوله تعالى "إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا" فمن شروط الصلاة المفروضة أن يصليها العبد في وقتها، ولا يجوز له أن يؤخرها عن وقتها بلا سبب شرعي صحيح، ولنا وقفات مع هذا الحكم

الوقفة الأولى: لا تصح الصلاة قبل الوقت، فإن صلى قبل الوقت متعمدا فصلاته باطلة مع الإثم، وإن كان غير متعمد لظنه أن الوقت دخل ولم يدخل، ثم تبين له فتعتبر صلاته قبل الوقت نافلة، وعليه أن يعيد صلاته ولا إثم عليه.

الوقفة الثانية : لا يجوز تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها بدون عذر شرعي صحيح، ومن أخرها عن وقتها بلا عذر فقد وقع في كبيرة من الكبائر، تُوِعِدَ فاعلُ ذلك بالويل والعذاب قال تعالى " فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ،الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ" ، عن مصعب بن سعد قال : قلت لأبي : يا أبتاه أرأيت قوله تبارك وتعالى (الذين هم عن صلاتهم ساهون) أينا لا يسهو أينا لا يحدث نفسه ؟ قال : ليس ذاك إنما هو إضاعة الوقت يلهو حتى يضيع الوقت . وقال صلى الله عليه وسلم: (من فاتته صلاة فكأنما وتر أهله وماله). 

ومن هنا نعلم خطأ كثير من الناس الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها لغير عذر شرعي كمن يلعب الكرة بعد العصر حتى يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العشاء أو من يلهيه العمل حتى يخرج وقت الصلاة ، أو من ينام عن الصلاة المكتوبة وخصوصا صلاة الفجر التي تعود الناس تركها والنوم عنها فهؤلاء متوعدون بالعذاب ،  قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّهُ أَتَانِي، اللَيْلَةَ، آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي: انْطَلِقْ وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ، فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتَهَدْهَدُ الْحَجَرُ ههُنَا، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ، فَيَاْخُذُهُ، فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى.قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: سُبْحَانَ اللهِ مَا هذَان فقالا: أمّا الرجل الذي أتيتَ عليه يُثلغ رأسه بالحجر فإنّه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة))

الوقفة الثالثة: من نام عن صلاةٍ حتى خرج وقتها أو نسيها فإنه يصلي الصلاة مباشرة بعد أن يقوم أو يتذكر ويتطهر للصلاة، قال صلى الله عليه وسلم:من نامَ عن صلاةٍ أو نسيها ، فليُصَلِّها إذا ذكرها ، لا كفَّارةَ لها إلا ذلك " ، وليس بصحيح ما يفعله البعض من تأخيرها إلى وقتها من اليوم التالي.

الوقفة الرابعة: من التيسير في الصلاة أن شرع الله الجمع بين وقتين من أوقات الصلاة إما جمع تقديم أو جمع تأخير، وهما الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فيصليها العبد في وقت إحداهما، ولا يشرع له أن يجمع بين الفجر والظهر، ولا العصر والمغرب، ويشرع الجمع للحاجة من سفر أو مشقة كمرض ونحوه.

الوقفة الخامسة : وقت الفجر ينتهي بطلوع الشمس، قال صلى الله عليه وسلم: " ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تتطلع الشمس" رواه مسلم، ووقت الظهر ينتهي بدخول وقت العصر، وللعصر وقتان الأول ما لم تصفر الشمس، قال صلى الله عليه وسلم: ووقت العصر ما لم تصفر الشمس" وأما الوقت الثاني فهو وقت ضرورة لمن كان له عذر من اصفرار الشمس إلى أن تغرب قال صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْعَصْرِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ"، ولا يجوز تأخير صلاة العصر إلى هذا الوقت دون عذر ، قال صلى الله عليه وسلم " تِلْكَ صَلاَةُ الْمُنَافِقِ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَىِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لاَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً " .

ووقت صلاة المغرب ينتهي بمغيب الشفق وهي الحمرة في الأفق، ووقت العشاء ينتهي بانتصاف الليل، وليس إلى طلوع الفجر، قال صلى الله عليه وسلم " ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط" ويعرف ذلك بحساب الساعات من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فنصفها هو نصف الليل الذي ينتهي فيه وقت صلاة العشاء.

علينا أن نتعلم أحكام ديننا لتصح عباداتنا ونكون من المفلحين

الخميس، 10 مارس 2016

خطبة جمعة : القلب السليم

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين قال تعالى : "يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " في الآية  تحذير من الله العزيز الحكيم لعباده المؤمنين من يوم القيامة، الذي يحشر الناس فيه إلى ربهم، ثم توفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون، ففي ذلكم اليوم لا ينتفع العبد بمال ولا ببنون ولا بسلطان وجاه.

ثم بين الحق سبحانه صفة الناجين يوم القيامة بقوله (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) فصاحب القلب السليم هو الناجي من هول ذلكم اليوم، والقلب السليم هو قلب المؤمن السالم من كل شبهة في الدين كالشرك بالله والبدع والرياء، والسالم من كل شهوة في الدنيا من الذنوب والمعاصي، قال ابن القيم –رحمه الله- (ولا تتم له سلامته مطلقا حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والاخلاص" ا.هـ 

فإذا علمنا أهمية صلاح القلب لأجل النجاة يوم القيامة علمنا أن أمر الاعتناء به عَظِيمٌ, وَأَثَرُهُ عَمِيمٌ، فالقلب مَلِكُ الأَعْضَاءِ، وَتَتْبَعُهُ الْجَوَارِحُ صِحَّةً وسقما، قال الرَسُولُ صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ». فَإِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ صَلَحَتِ النِّيَّةُ وَالْعَمَلُ, وَصَلَحَ اللِّسَانُ وَسَائِرُ الْجَوَارِحِ، وَقَدِ اعْتَنَى الشَّرْعُ الْحَكِيمُ بِالْقُلُوبِ، وَدَعَا إِلَى تَطْهِيرِهَا وَتَنْقِيَتِهَا, فَهِيَ مَحِلُّ نَظَرِ عَلاَّمِ الْغُيُوبِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ». 

وَالْقَلْبُ – يا عباد الله -  مَوْطِنُ التَّقْوَى وَالإِيمَانِ, قَالَ صلى الله عليه وسلم :« التَّقْوَى هَا هُنَا». وَأَشَارَ صلى الله عليه وسلم إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَالْقَلْبُ الْمُطْمَئِنُّ مُشْرِقٌ بِالإِيمَانِ، يَنْسَاقُ دَائِمًا إِلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْخَيْرِ وَالْفَضْلِ. 

وَأَصْحَابُ الْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ هُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وأقربُهُم إلى ربِّهم سبحانه, فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ:« كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ». قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ:« هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ بَغْيَ، وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ». فمن أسباب سَلاَمَة الْقَلْبِ تَخَلُّصُهُ مِنْ أَغْلاَلِ الْحَسَدِ وَالْبَغْضَاءِ، وَالْغِشِّ وَالرِّيَاءِ، وَالْكِبْرِ وَالْغُرُورِ وَغَيْرِهَا، قَالَ أَحَدُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا مِنْ عَمَلِي شَيْءٌ أَوْثَقُ عِنْدِي مِنَ اثْنَتَيْنِ: أَمَّا إِحْدَاهُمَا فَكُنْتُ لاَ أَتَكَلَّمُ فِيمَا لاَ يَعْنِينِي، وَأَمَّا الأُخْرَى فَكَانَ قَلْبِي لِلْمُسْلِمِينَ سَلِيمًا. 

ومِنْ أَسْبَابِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ إِقْبَالُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالتَّضَرُّعُ إِلَيْهِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ». 

ولأجل ذلك اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بصلاح القلب، فكان يسأل ربه في دعائه قلبا سليما ، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم -: " يَا شَدَّادُ بْنَ أَوْسٍ، إِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ قَدِ اكْتَنَزُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَاكْنِزْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ , وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ , وَأَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ , وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ , وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ , وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ , وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا , وَلِسَانًا صَادِقًا , وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ , وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ , وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ , إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ " ، كما كان صلى الله عليه وسلم يسأل ربه ثبات قلبه على الحق والإيمان ،فعَنْ أَنَسٍ –رضي الله عنه - قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللّه : آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا قَالَ نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ . 

واهتم الصالحون من عباد الله بسلامة قلوبهم مما يفسدها فكانوا يسألون الله ثبات قلوبهم على طاعته حتى الممات، ومن ذلك قول الله تعالى حاكيا قول أهل الصلاح:" رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ"  

عباد الله : والقلوب تمرض، وأمراضه على نوعين:
الأول: أمراض شبهات، وهي أشد النوعين، ويدخل فيها جميع الاعتقادات الباطلة من شرك ونفاق، قال سبحانه عن المنافقين:" فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا"
والثاني: أمراض شهوات، وهي المعاصي والسيئآت، ومن أمثلة ذلك الحسد والغل والبخل والحقد وشهوة الزنا والنظر الحرام، قال سبحانه: "فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ"

ومن أكبر أسباب مرض القلب وضعفه الإقبال على الدنيا ونسيان الآخرة ، فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ». فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ « بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ».


الخطبة الثانية : أَيُّهَا الْمُصَلُّونَ: إِنَّ لِحَيَاةِ الْقَلْبِ وَصِحَّتِهِ طُرُقًا وَأَسَبَابًا، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ إِقْبَالُ صَاحِبِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ قِرَاءَةً وَتَدَبُّرًا، وَفَهْمًا وَتَفَكُّرًا, فَفِيهِ الشِّفَاءُ وَالْهُدَى، وَالنُّورُ لِمَنِ اهْتَدَى، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ). فَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِيهِ أَبْلَغُ الْمَوَاعِظِ وَأَجَلُّهَا, وَأَنْفَعُ الأَدْوِيَةِ لِلْقُلُوبِ وَأَصَحُّهَا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). 

ومن وصايا ابن مسعود رضي الله عنه قوله" إنما هذه القلوب أوعية فأشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره" ، فشبه رضي الله عنه القلوب بالوعاء والآنية التي إما أن تبقى فارغة أو تملأ بما يشغلها، فليكن ما يملؤها هو القرآن الكريم ، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: أسألك بكل اسم هو لك سمَّيْتِ به نفسَك، أو أنزلتَه فيِ كتابك، أو عَلّمته أحدِاً من خَلْقك، أو استأثرت به في علم الغيبِ عندك، أن تجعل القرآنَ ربيع قلبي، ونور صدري.. " فشبه القرآن بالربيع للدلالة على أنه سبب لحياة القلب كما أن الربيع سبب لحياة الأرض، وذم صلى الله عليه وسلم  القلب الخالي من القرآن فقال : إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ، كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ " 

قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لو طهرتْ قلوبنا لما شبعَتْ  من كلام الله  " ، وكيف يشبع المحِبُّ من كلام محبوبه، وهو غاية مطلوبه . 

قال ابن القيم رحمه الله مبينا صفات القلب الذي يقبل على القرآن:فالقلب الطاهر، لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث، لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذى لم يطهره الله تعالى.

ومن أسباب وطرق سلامة القلب الإكثار من ذكر الله ، قَالَ سُبْحَانَهُ في صفة المؤمنين:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ). فَالذِّكْرُ يُقَوِّي الإِيمَانَ فِي الْقَلْبِ, وَيَبْعَثُ فِيهِ السَّكِينَةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ). وَالذِّكْرُ يَبْعَثُ الْحَيَاةَ فِي الْقُلُوبِ, وَيَشْفِيهَا مِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ, قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :« مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ». 

وَالدُّعَاءُ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ ثَبَاتِ الْقُلُوبِ وَاسْتِقَامَتِهَا، وَقِلَّةِ تَقَلُّبِهَا، فَمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا إِلاَّ لِتَقَلُّبِهِ, قَالَ صلى الله عليه وسلم :« لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَسْرَعُ تَقَلُّبًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا». وَلِذَلِكَ كَانَ رَسُولُنا صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:« يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ». 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مُجَالَسَةَ الأَخْيَارِ، وَمُصَاحَبَةَ الأَبْرَارِ مِنْ أَسْبَابِ سَلاَمَةِ الْقَلْبِ؛ فَهُمْ يَنْتَقُونَ أَطَايِبَ الْكَلاَمِ، كَمَا تُنْتَقَى أَطَايِبُ الثَّمَرِ، فَتَنْزِلُ كَلِمَاتُهُمْ عَلَى الْقُلُوبِ بَرْدًا وَسَلاَمًا، فَتَزِيدُهَا صَفَاءً وَإِيمَانًا، وَقَدْ أَوْصَى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِالْتِزَامِ الصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ؛ فَقَالَ:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا). فَالصَّالِحُونَ يَدُلُّونَكَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَيُعِينُونَكَ عَلَى مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ وَالإِحْسَانِ. 

وَحُبُّ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ، وكف اللسان عن الوقيعة في أعراضهم، وحفظه عن الزلات من أسباب سلامة القلب قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»

ومن أسباب سلامة القلوب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ لا يُغِلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم : إخلاصُ العمل لله ، ومُناصحةُ وُلاةِ الأمورِ، ولزومُ جماعةِ المسلمينَ، فإنّ دعوتَهُم تُحيطُ مِنْ ورائهم ))، قال ابن القيم: "أي لا يبقى في القلب غل ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غله، وتنقيه منه، وتخرجه منه؛ فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل. وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلال. فهذه الثلاثة تملؤه غلاً ودغلاً. ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه، بتجريد الإخلاص والنصح، ومتابعة السنة.



الخميس، 3 مارس 2016

خطبة : ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ و الخوف من أسباب العقوبات

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

 فَهَذِهِ الآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُبَيِّنُ الْفَرْقَ الْكَبِيرَ بَيْنَ الإِحْسَانِ وَالإِسَاءَةِ، فَإِنْ أَسَاءَ أَحَدٌ إِلَيْكَ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِ وَسَامِحْهُ، كَمَا قَالَ الخليفَةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:" مَا عَاقَبْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ". فَإِنَّكَ إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ قَادَهُ إِحْسَانُكَ إِلَى مَوَدَّتِكَ وَمَحَبَّتِكَ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ صَدِيقٌ حَمِيمٌ، وَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَصَبَرَ عَلَى أَذَى غَيْرِهِ، وَمَا يَنَالُ أَجْرَ ذَلِكَ إِلاَّ ذُو نَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ السَّعَادَةِ وَالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، لأَنَّهُ قَابَلَ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ، وَهَذَا مِنْ أَخْلاَقِ أُولِي الأَلْبَابِ وَالْحِكْمَةِ، الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ). ومن أخلاق وشيم عباد الرحمن الذين قال الله في وصفهم:( وإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً). 

أَيُّهَا الْمُصَلُّونَ: لَقَدْ قَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَثَلَ الرَّاقِيَ فِي مُقَابَلَةِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، وَالتَّعَامُلِ الأَخْلاَقِيِّ مَعَ النَّاسِ قَوْلاً وَعَمَلاً، فَحِينَ سُئِلَتِ أُمُّ المؤمنينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَلاَ صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ. 

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه قَالَ كُنْتُ أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِىٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِىٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً ، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ مُرْ لِى مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ . فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ ، فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ .

وَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ من أَفْضَلَ الفَضائِلِ مُقَابَلَةُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، فَعَنْ الصحابي الجليلِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِفَوَاضِلِ الأَعْمَالِ، فَقَالَ:« يَا عُقْبَةُ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ»، وَفِي ذَلِكَ حَثٌّ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، قَالَ سُبْحَانَهُ:( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ). أَيْ: لاَ يَضِيعُ أَجْرُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ. فَأَثَابَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ، وَمَدَحَهُمْ وَزَكَّاهُمْ، وَأَظْهَرَ مَحَبَّتَهُ لَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى:( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). أَيِ: الَّذِينَ إِذَا ثَارَ بِهِمُ الْغَيْظُ كَتَمُوهُ، وَعَفَوْا عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ، والتَّغَاضِيَ عَنِ الإِسَاءَةِ؛ وَمُقَابَلَتَهَا بِالإِحْسَانِ يُحَوِّلُ الْبَغْضَاءَ إِلَى مَحَبَّةٍ، وَالْعَدَاوَةَ إِلَى مَوَدَّةٍ، وَسَبَّ رَجُلٌ أَحَدَ أَقَارِبِهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ قَائِلاً: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَغَفَرَ اللَّهُ لِي، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ. وَقِيْلَ: إِنَّ رَجُلاً خَاصَمَ الأَحْنَفَ بن قيس وَقَالَ: لَئِنْ قُلْتَ وَاحِدَةً، لَتَسْمَعَنَّ عَشْراً. فَقَالَ: لَكِنَّكَ إِنْ قُلْتَ عَشْراً لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً . فَيَا لَهُ مِنْ خُلُقٍ قَوِيمٍ، وَسُلُوكٍ رَفِيعٍ، يَتَحَلَّى بِهِمَا الْمَرْءُ ممتثلا قول ربه:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ). لِتَسُودَ الرَّحْمَةُ بَيْنَ الأَنَامِ، وَتَحِلَّ السَّعَادَةُ وَالْوِئَامُ، وَتَصْفُوَ قُلُوبُنَا، فَنَفُوزَ بِجَنَّةِ رَبِّنَا.

جماعة المسلمين : إنَّ لِكَظْمِ الغَيْظِ أَجْراً عَظِيماً، وفَضْلاً كبيراً؛ فاحْرِصوا عَلَى عَدَمِ تَفْويتِهِ أَوِ التَّفْريطِ بِهِ؛ فَعَنْ مَعاذِ بْنِ أَنَسٍ الجُهَنيِّ رضي الله عنه قال: قال رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ؛ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ".

وهذا إن كانَتِ الإساءَةُ في حَقِّ الإنْسانِ، أمَّا أنْ تُنْتَهَكَ محارِمُ اللهِ فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معها شأنٌ آخرُ؛ فَعَنْ أمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضي الله عنها قالت: مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ، إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا . 

وَكَذلِكَ لا يَنْبَغِي العَفْوُ عَمَّنْ يَزِيدُهُ العَفْوُ والحِلْمُ عُتُوَّاً وضَرراً وإفْساداً، فللعَفْوِ شَرْطٌ بيَّنَهُ اللهُ في كِتابِهِ فقال: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) ، فشرطُ العَفْوِ أَنْ يُثْمِرَ إصْلاحَ الأُمُورِ وإِيقافَ المعْتَدِي عند حَدِّهِ، وإلا فَالعُقُوبَةُ في حَقِّه أولى.


الخطبة الثانية : أيها المسلمون: كل البشر يسعَون إلى الحياةِ الهانِئة السعيدة، ويُسخِّرون كل إمكاناتهم وطاقاتهم لتجنُّب أسباب الشقاء والعذاب؛ فضلاً عن الفناءِ والهلاكِ .

وكم من أمةٍ كانت آمنةً مُطمئنَّةً تُجبَى إليها ثمراتُ كلِّ شيءٍ، ويأتيها رزقُها رغدًا من كل مكانٍ، انقلبَت أحوالُها في طرفةِ عينٍ، فإذا بالنعمةِ تزول، وإذا بالعافيةِ تتحوَّل، وإذا بالنِّقمةِ تحِلُّ.

وكم حكَى الزمانُ عن دولٍ وأممٍ وأفرادٍ وجماعات أتَت عليهم عقوباتٍ تستأصِلُ شأفتَهم، وتمحُو أثرَهم، لا ينفعُ معها سلاحٌ ولا تُغني معها قوَّةٌ.

ولله مع خلقهِ أيامٌ وسُنن؛ فأين ثمود وعاد؟! وأين الفراعِنةُ الشِّدادُ؟! أين من نحَتوا الجبال، وحازوا أسباب القوة واحتاطوا للنوائِب؟! لما نسُوا اللهَ أوقعَ بهم بأسَه، فصاروا بعد الوجودِ أثرًا، وأصبحوا للتاريخ قصصًا وعِبرًا: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون) 

عباد الله: إن سنةَ الله لا تُحابِي أحدًا، وليس لفردٍ ولا لمُجتمعٍ حصانةٌ ذاتيةٌ، وحين تُقصِّرُ أمةٌ في توقِّي أسباب المصائب العامة فإن عليها أن تتقبَّل نتيجةَ التقصير، والسعيدُ من اتَّعَظَ بغيره، وليست أمةٌ بمنأَى عن العذابِ إذا عقَدَت أسبابَه، ولذلك أكثرَ الله تعالى من وعظِ هذه الأمةِ بمصارعِ الأمم الغابِرة، فقال -عز وجل قال عز وجل(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُون * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُون * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون * أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون) 

ولهذا كان أعرفُ الخلقِ بربِّه وأخشاهم له -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِف ذلك في وجهه، فسُئِل عن ذلك فقال: "ما يُؤمِّنُني أن يكون فيه عذابٌ، قد عُذِّبَ قومٌ بالريح، ورأى قومٌ العذابَ فقالوا: (هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا) ". متفق عليه.

أيها المسلمون: لقد أخبرَ -عليه الصلاة والسلام- عن أنواع المصائب التي كان يخشَى أن تنزل بأمَّته، وحذَّرَهم من أسبابِ نزولها، لنتقيها ونحذر ونُحذِّر منها، فالمسؤولية في المُجتمع على كلِّ فردٍ فيه، وجاء الأمرُ باتقاءِ المصائب العامة مُوجَّهًا إلى كل أحدٍ، كلٌّ بحسَبِه، قال الله -عز وجل(وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً) 

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أمرَ اللهُ المؤمنين أن لا يُقِرُّوا المنكرَ بين ظهرانَيهم، فيعُمَّهم اللهُ بالعذابِ، يُصيبُ الصالحين منهم ما أصابَ الناسَ، يهلِكون مهلكًا واحِدًا، ويصدُرون مصادر شتَّى، يبعثُهم الله على نيَّاتهم".

عباد الله: إن اتقاءَ هذه المصائب العامة لا يكونُ إلا بتوقِّي أسبابها، وفعل الأمور التي تدفعها، ومنها الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكر فإنه أمَنَةٌ من العذابِ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون) ؛ فما أعظمَ بركةَ المُصلِحين، وما أقبحَ أثرَ الناسِ عليهم!

ومن سُنَّةِ اللهِ في عباده: أن المُنكَر إذا فشَا فيهم ولم يُغيِّروه فإن العقوبةَ تشملُهم والعذابَ يعُمُّهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن اللهَ -عز وجل- لا يُعذِّبُ العامةَ بعملِ الخاصَّة حتى يرَوا المُنكَرَ بين ظهرانَيهم، وهم قادِرون على أن يُنكِروه فلا يُنكِروه، فإذا فعَلوا ذلك عذَّبَ اللهُ الخاصةَ والعامةَ". 

وعن حُذيفةَ بن اليمان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده؛ لتأمرنُّ بالمعروف ولتنهَوُنَّ عن المُنكَر، أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أن يبعثَ عليكم عقابًا منه، ثم تدعُونَه فلا يُستجابُ لكم".

اللهم إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتك، وتحوُّل عافيتِك، وفُجاءة نِقمتك، وجميعِ سخَطك