الخميس، 14 أبريل 2016

خطبة جمعة : عظم شأن الفتوى في الإسلام (القول على الله بغير علم - التصدر للفتوى- خطورة الفتوى بغير علم )

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين : قال الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: "وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" في الآية وعيد شديد لمن يتجرأ على القول في دين الله بغير علم ولا برهان، فإنه موصوف بالكذب والافتراء، ومتوعد بعدم الفلاح مع العذاب الشديد يوم القيامة، قال ابن القيم-رحمه الله- : "  فَتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ بِالْوَعِيدِ عَلَى الْكَذِبِ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِهِ، وَقَوْلِهِمْ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ: هَذَا حَرَامٌ، وَلِمَا لَمْ يَحِلَّهُ: هَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا بَيَانٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ إلَّا بِمَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحَلَّهُ وَحَرَّمَهُ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُولَ: أَحَلَّ اللَّهُ كَذَا، وَحَرَّمَ كَذَا، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْت، لَمْ أُحِلَّ كَذَا، وَلَمْ أُحَرِّمْ كَذَا؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ وُرُودَ الْوَحْيِ الْمُبِينِ بِتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ أَحَلَّهُ اللَّهُ وَحرمه اللَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ أَوْ بِالتَّأْوِيلِ.

عباد الله: لقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ، بَلْ جَعَلَهُ فِي الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا مِنْهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فَرَتَّبَ الْمُحَرَّمَاتِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ، وَبَدَأَ بِأَسْهَلِهَا وَهُوَ الْفَوَاحِشُ، ثُمَّ ثَنَّى بِمَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْهُ وَهُوَ الْإِثْمُ وَالظُّلْمُ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا مِنْهُمَا وَهُوَ الشِّرْكُ بِهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ رَبَّعَ بِمَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ، وَهَذَا يَعُمُّ الْقَوْلَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِلَا عِلْمٍ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَفِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ.

معاشرَ المسلمين، التّصدُّر للفتوَى في دين الله أمرٌ عظيمٌ وشأنٌ كَبير، لا يجوزُ الإقدامُ عليه إلاَّ لمن كان ذا عِلمٍ ضَليعٍ وعقلٍ سَديد، جثَا بالرُّكَب أمامَ العلَماءِ الربانيِّين، وسَهرَ الليالي لتحصيل أدلةّ الوحيَين والتبصُّرِ بقواعد ومقاصد الدين.

وعلى هذا المنهجِ تربّى السلَف الصالحون، وتواصى عليه العلماءُ الربانيون، قال أبو بكرٍ رضي الله عنه: (أيُّ سماء تُظِلُّني وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني إن أنا قُلتُ في كتاب الله ما لا أعلم)، ويقول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: "أدركتُ عشرين ومائةً من أصحابِ رسول الله ، فما كان مِنهم مُحدِّثٌ إلاَّ ودَّ أنَّ أخاه كفاه الحديث، ولا مُفتٍ إلاَّ ودَّ أن أخاه كفاه الفُتيا".

وَكَانَ الْعُلَمَاءُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَعْرِفُونَ لِلْفُتْيَا قَدْرَهَا وَيَهَابُونَهَا، وَيَوَدُّ أَحَدُهُمْ أَنْ تَبْتَعِدَ عَنْهُ بِأَجْرِهَا وَوِزْرِهَا، قَالَ أَصْحَابُ الإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ مَالِكٌ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ كَأَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَيَحِقُّ لِلْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ, وَقَدْ جَعَلَهُ السَّائِلُ الْحُجَّةَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ, يَعْمَلُ بِمَا قَالَ, وَيَصِيرُ إِلَى فَتْوَاهُ، وَهَذَا مَقَامٌ خَطِرٌ, وَطَرِيقٌ وَعِرٌ. كَيْفَ لاَ؟ وَهُوَ سَيُسْأَلُ عَنْهُ أَمَامَ اللَّهِ جَلَّ فِي عُلاَهُ؛ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْلاَ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَضِيعَ الْعِلْمُ مَا أَفْتَيْتُ أَحَدًا, يَكُونُ لَهُ الْمَهْنَأُ وَعَلَيَّ الإِثْمُ" ، وقد روى أبو داود عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ" .

يا معاشر طلبة العلم والأئمة والوعاظ: لا يخجلن أحدكم أن يقول لما لا يعلم لا أعلم، فقد قالها من هو خير منك، فلقد استفتي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المسائل والأحوال، وكان يؤخر الجواب لحين نزول الوحي عليه من الله، ومن ذلك ما رواه مسلم عن جَابِر بْنَ عَبْدِ اللَّهِ-رضي الله عنهما- قَالَ: مَرِضْتُ فَأَتَانِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ يَعُودَانِى مَاشِيَيْنِ فَأُغْمِىَ عَلَىَّ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّ عَلَىَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَأَفَقْتُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَقْضِى فِى مَالِى؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَىَّ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلاَلَةِ) . 

وها هو ابن عمر رضي الله عنه وقد عدّه أهل العلم من المكثرين في الفتوى، يسأله السائل فيجيبه بلا أعلم، فعَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قال: خَرَجْنَا مَعَ ابْنِ عُمَرَ نَمْشِي، فَلَحِقَنَا أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: سَأَلْت عَنْك فَدُلِلْت عَلَيْك، فَأَخْبِرْنِي أَتَرِثُ الْعَمَّةُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، قَالَ: أَنْتَ لَا تَدْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ؛ اذْهَبْ إلَى الْعُلَمَاءِ بِالْمَدِينَةِ فَاسْأَلْهُمْ. وهذا الصحابي الجليل والعالم البحر عبد الله بن مسعود الذي قال عن نفسه:" وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ سُورَةٌ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ حَيْثُ نَزَلَتْ، وَمَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَا أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا هُوَ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْت إلَيْهِ" يقول موصيا أهل العلم: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيَقُلْ بِهِ؛ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيَقُلْ: " اللَّهُ أَعْلَمُ " فإن من علم المرء أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم . فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} وقال كذلك: " مَنْ أَفْتَى النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ فَهُوَ مَجْنُونٌ " 

وَسُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ  – وهو إمام دارالهجرة-: عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهَا مَسْأَلَةٌ خَفِيفَةٌ سَهْلَةٌ، فَغَضِبَ، وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْعِلْمِ شَيْءٌ خَفِيفٌ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} .، وها هو الإمام أحمد بن حنبل- إمام أهل السنة- أمير المؤمنين في الحديث يقول عنه ابنه عَبْدُ اللَّهِ: كُنْت أَسْمَعُ أَبِي كَثِيرًا يُسْأَلُ عَنْ الْمَسَائِلِ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي وَيَقِفُ إذَا كَانَتْ مَسْأَلَةٌ فِيهَا اخْتِلَافٌ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُولُ: سَلْ غَيْرِي، فَإِنْ قِيلَ لَهُ: مَنْ نَسْأَلُ؟ قَالَ: سَلُوا الْعُلَمَاءَ، وَلَا يَكَادُ يُسَمِّي رَجُلًا بِعَيْنِهِ"

فما بال الناس يتسابقون في الفتوى ويتصدرون لها ولما يحسنوا العلم، وحالهم كما قال :"َبُو حُصَيْنٍ الْأَسَدِيُّ: إنَّ أَحَدَهُمْ لِيُفْتِيَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ وَرَدَتْ عَلَى عُمَرَ لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ.

فالقول على الله بلا علم من المهالك التي يردي فيها الشيطان الناس قال تعالى "وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ"


الخطبة الثانية : أيها المسلمون: لا يتجرأ على الكلام في دين الله بلا علم إلا الجهلة ودعاة الفتن والضلال، الذين يسعون جاهدين إلى إضلال الناس كما قال صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا »

ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الفئة التي تفتي الناس بغير علم فيضلونهم، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « سَيَأْتِى عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ فِى أَمْرِ الْعَامَّةِ » وفي رواية : " الفويسق يتكلم في أمر العامة " والرجل التافه يقصد به أهل البدع ومن لا علم عنده فيتكلم في أمور المسلمين العامة وما يتعلق بأمنهم وبلادهم، وقد أمرنا بردها إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الحكم والعلم لا إلى مثقفي الفضائيات والتويتر ، قال تعالى : "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا" ، وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَإِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إِلَّا الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ" .

جماعة المسلمين: إن عليكم مسؤولية عظيمة تتمثل في طلبكم العلم الشرعي لما تحتاجونه من أمور العقيدة والفقه والمعاملات، فإن جهلتم شيئا فقد جعل الله لكم سبيلا ترجعون إليه وهم أهل العلم فقال سبحانه: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" وقال صلى الله عليه وسلم "أَلَا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا، إنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» " فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الجهل بالحكم الشرعي مرضاً وشفاؤه في سؤال أهل العلم.

والواحد منا في أمور دنياه يبحث عن المتخصصين وأهل الخبرة، فعلام يستهين بأمر دينه فيسأل من لا علم له، أو من لا يُعرف بعلم، قال محمد بن سيرين رحمه الله: إن هذا العلم دين فاعرفوا عمن تأخذون دينكم. 

ولا تبرأ الذمةُ بسؤالِ أي أحد بل لا بد من اختيارِ أصحابِ العلم من المفتين قال ابن القيم رحمه الله " ولا يظنُ المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن سواء تردد أو حاك في صدره لعلمه بالحال في الباطن ...أو لعمله جهل المفتي أو محاباته في فتواه أو عدم تقييده بالكتاب والسنة أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة " أ.هـ كلامه يرحمه الله  

وإن من خطورة الفتوى بغير علم تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، واستحلال الأعراض بغير دليل ولا برهان صحيح، والجرأة على التكفير والخروج عن طاعة الإمام، وسفك الدماء.


الخميس، 7 أبريل 2016

خطبة الجمعة : الشبهات ( خطرها - أسباب انتشارها- طريق النجاة منها )

الخطبة الأولى: قال الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل:"يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" في الآية  تحذير من الله العزيز الحكيم لعباده المؤمنين من يوم القيامة، الذي يحشر الناس فيه إلى ربهم، ثم توفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون، ففي ذلكم اليوم لا ينتفع العبد بمال ولا ببنون، ثم بين سبحانه صفة الناجين بقوله (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) والقلب السليم هو قلب المؤمن السالم من كل شبهة في الدين كالشرك بالله والبدع والرياء، والسالم من كل شهوة في الدنيا من الذنوب والمعاصي.

والفتنة في الدين إنما تقع في هذين الأمرين :شبهة تحرف المسلم عن الحق والصراط المستقيم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وشهوة تورثه غفلة تنسيه ربه ولقاءه، فيقع العبد في الخسران المبين، وإنما يسلم العبد من الشبهات بالعلم واليقين بالله وبآياته وأحكامه، ويسلم من الشهوة بالصبر على تركها والإعراض عنها والإقبال على ما أحله الله له من الطيبات، لذلك جعل الله نيل الإمامة في الدين بأمرين: اليقين والصبر ، فقال الله سبحانه : " وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ"

وخطر الشبهات على الدين عظيم جدا، لأنها تفضي بالعبد إلى الكفر بالله والنفاق والوقوع في البدعة وتحريف الشريعة، ومن خطرها أنها تظهر للناس في صورة آية قرآنية، أو حديث نبوي، أو قول لعالم ولكن يستدل بها على غير الطريقة الصحيحة، فيغتر بها من لا علم له ولا بصيرة، لذلك حذرنا الله ورسوله من اتباع الشبهات وترك المحكمات الواضحات، قال تعالى : "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" ، ولما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية قال : « إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ».

وفتنة الشبهات تنشأ تارة من فهم فاسد وتارة من نقل كاذب وتارة من حق فائت خفي على الرجل فلم يظفر به وتارة من غرض فاسد وهوى متبع فهي من عمى في البصيرة وفساد في الإرادة .

ومن يلجأ إلى المتشابهات ويترك المحكمات فقد حكم عليه ربه بأنه من أهل الزيغ فقال :" فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ" قال ابن كثير رحمه الله :" أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، ... فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال: { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } أي: الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجة عليهم لا لهم " 

جماعة المسلمين: لانتشار الشبهات بين الناس أسباب منها علماء السوء ودعاة الفتن الذين يسعون لإضلال الناس، وقد حذر منهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لحذيفة بن اليمان لما سأله: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ « نَعَمْ ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا » . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا . قَالَ « هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا »، وفي رواية لمسلم "وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِى جُثْمَانِ إِنْسٍ " فقصدهم إضلال الناس عن دين الله، وجاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه – أنه قال : (( لا يأتي عليكم زمان إلا وهو شر من الذي قبله ، أما إني لا أقول أمير خير من أمير ولا عام أخصب من عام ، ولكن بذهاب العلماء ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه ".

وربما كان إظهار الشبهات والدعوة إليها من أجل طلب الشهرة والعلو بين الناس، روى عبد الرزاق في مصنفه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: تَكُونُ فِتَنٌ يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ الْقُرْآنُ، حَتَّى يَقْرَأَهُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ وَالْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَيَقْرَأَهُ الرَّجُلُ فَلَا يُتَّبِعُ، فَيَقُولَ: وَاَللَّهِ لَأَقْرَأَنَّهُ عَلَانِيَةً، فَيَقْرَأَهُ عَلَانِيَةً فَلَا يتبعه أحد، فيقول: قد قرأته علانية فلا أراهم يتبعوني، فَيَتَّخِذُ مَسْجِدًا وَيَبْتَدِعُ فيه قولا أو حديثا، ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَكُلُّ مَا لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُ فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ ".

ومن أسباب انتشار الشبهات وظهورها جهل الناس بأحكام الشرع، وإعراضهم عن طلب العلم على العلماء وطلبة العلم من أهل السنة والجماعة، وإقبالهم على القصاصين والوعاظ ومفسري الأحلام ممن لا علم لهم، فيسألونهم فيفتوهم بالضلال، قال صلى الله عليه وسلم - (( إنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزعهُ مِنَ النَّاسِ،وَلكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً ، فَسُئِلُوا فَأفْتوا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأضَلُّوا )).

وبسبب القَصَصِ وانتشار القُصَّاص اندس كثير من أصحاب الفكر المنحرف في صفوفهم حتى أقبل الناس عليهم، فصاروا يدسون السم في العسل،  فلما تمكنوا من قلوب الناس وعقولهم، ووقعت الفتن، أظهروا عقائدهم الفاسدة، وتكلموا بمقالاتهم المخالفة، فأثروا في فكر كثير من الناس، قَالَ البربهاري –رحمه الله- : "مثل أصحاب البدع مثل العقارب يدفنون رؤوسهم وأبدانهم فِي التراب ويخرجون أذنابهم فَإِذَا تمكنوا لدغوا، وكذلك أهل البدع هم مختفون بين الناس فَإِذَا تمكنوا بلغوا ما يريدون " ، ومما سهل ظهورهم في زماننا وبكثرة وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي أظهرتهم في صورة المعتدلين الوسطيين، وهم أهل إفراط وانحراف. 

الخطبة الثانية : جماعة المسلمين ، أهل السنة والجماعة ينقادون لنصوص الشرع ويعظمونها، ويردون ما أشكل عليهم منها إلى المحكمات الواضحات، وإلى سؤال أهل العلم الراسخين، قال تعالى : " وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" ، أما أهل الزيغ والانحراف فلهم موقف آخر من النص الشرعي، وإن كانوا في الظاهر متمسكين وقائلين به، فيغتر بهم العامة، حيث جعلوا النص الشرعي تابعا لهم ولآرائهم وأهوائهم، فإذا جاء النص موافقا لما معهم ذكروه اعتضادا لا اعتمادا ، وإذا خالف النص ما هم عليهم حرفوا معناه بمعاول التأويل، وقد ذم الله هذا المسلك فقال : " أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " ، وفي وصية عمر بن عبد العزيز-رحمه الله - لابنه إذ قال له : ( ولا تكن ممن يقبله إذا وافق هواه، ويدعه إذا خالف هواه، فإذا أنت لم تؤجر فيما قبلت منه، ولم تنج من الإثم فيما دفعت منه إذا خالفك" 

وبسبب اتباع أهل الزيغ لهوائهم وقصدهم السيء في فتنة الناس عن دينهم عمدوا إلى قواعد وتأصيلات فاسدة، ونسبوها إلى الدين قال النخعي – رحمه الله- في وصف حالهم : دققوا قولا واخترعوا دينا من قبل أنفسهم، ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا هو الحق وما خالفه باطل "

ثم حرفوا الاستدلال بالنصوص الشرعية لتوافق ما قرروه وقعدوه للناس، قال ابن تيمية رحمه الله في بيان طريقته : وطريق أهل الضلال والبدع بالعكس يجعلون الألفاظ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصل ويجعلون ما قاله الله ورسوله تبعا لهم فيردونها بالتأويل والتحريف إلى معانيهم" وهذا مسلك سوء وبدعة، قال وكيع بن الجراح رحمه الله : من طلب الحديث كما جاء فهو صاحب سنة، ومن طلبه ليقوي به رأيه فهو صاحب بدعة " 

ومن طريقة أهل الزيع الذين يتبعون المتشابه كتمانهم للنصوص المحكمات التي تبين فساد أقوالهم، قال ابن تيمية في وصف حالهم : فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها ويبغض من يفعل ذلك كما قال بعض السلف ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه" ومن أمثلة ذلك ما رواه البخاري -رحمه الله- في كتاب خلق أفعال العباد بسنده أن جهما قرأ في المصحف، فلما أتى على هذه الآية {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} -وهو ينكر الاستواء- فقال: "والله لو قدرت لحككتها من المصحف" ،  وأما لا يستطيعون كتمه وإخفاءه فإما أن يضعفوا إسناده أو يحرفوا معناه بما يخدم عقائدهم المنحرفة .

عباد الله : إن سبيل النجاة من مهالك الشبهات والشهوات يكون باللجوء إلى الله تعالى وسؤاله الهداية، ولذلك شرع الله للعبد أن يسأله الهداية في اليوم والليلة أكثر من سبع عشرة مرة في قوله تعالى " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" ثم بسلوك سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه رضوان الله عليهم، ثم بلزوم العلماء من اهل السنة والجماعة الذين يعلمون الناس العقيدة الصحيحة ويربونهم على تعظيم النصوص واتباعها، مع الحذر من الاستماع لأهل الزيغ والانحراف ولو كانوا يبكون الناس بكلامهم، ويخشعون القلوب بأقوالهم فإن عاقبة اتباعهم وخيمة، مع الإعراض عن الشبهات والاستماع لها قال صلى الله عليه وسلم: فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ " .

ومما ينجي العبد من الشبهات لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، فهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم عند ظهور الشبهات فلما قال لحذيفة : دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا » . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا . قَالَ « هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا » . قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ قَالَ « تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ » . قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ قَالَ « فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا ، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ ، وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ » فهي وصية عظيمة، ومنهج نجاة .

ثم علينا يا عباد الله أن نهتم بغرس هذه القيم في أبنائنا وأسرنا، لنقيهم بإذن الله من شر الشبهات والشهوات ويسلموا في الدنيا والآخرة