الجمعة، 27 مايو 2016

خطبة جمعة : من أحكام الزكاة

الخطبة الأولى : عبادَ الله، من أركان الدين وفرائضه الزَّكَاةُ قَالَ تَعَالَى آمرا بها:( وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»، فالزكاة فريضة معلومة من الدّين بالضّرورة، فرضيتُها ثابتة بالآيات القرآنيّة والسنّة المتواترةِ وإجماعِ الأمّة كلِّها، يوصَم بالفسق من منعَها، ويُحكم بالكفر على من أنكرَ وجوبَها.  

معاشرَ المسلمين، الزّكاة سببٌ للنّجاة من كلّ مرهوب، وطريقٌ للفوز بكلّ مرغوب قال تعالى: "فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ، لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى،  الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى،  وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى،  الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى "  وسَبِيلٌ للرحمةِ والغُفْرانِ، قالَ تباركَ وتعالَى "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ" 
ونبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم يقول موجِّهًا للأمّة ومبشرا: ((اتقوا الله ربَّكم، وصلّوا خمسَكم، وصوموا شهرَكم، وأدّوا زكاةَ أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنّة ربّكم)) . 

ومن فوائد الزكاة أن لها تأثيرا على  السلوك وتهذيبا  للنفوس والقلوب من أمراض البخل والشح قال تعالى :" خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " ، فقوله (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) قال أهل التفسير: أي تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة، وتزيد في أخلاقهم الحسنة . 

إخوةَ الإيمان، لقد وجّه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الوعيدَ الشديد لمانِعي الزّكاة والمتهاونين فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاتَه مُثِّل له يومَ القيامة شجاعًا أقرع -أي: كناية عن أخبث الحيّات - له زبيبتان، يطوّقه يومَ القيامة، ثمّ يأخذ بلهزمَتَيه - يعني بشدقيه ، والشدق هو جانب الفم- ثمّ يقول: أنا مالك، أنا كنزك))، ثم تلا النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله جلّ وعلا: " وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَة " ، وتأثير منع الزكاة والعقوبة عليه لا تشمل الفرد وحده بل يعم المجتمعات، فمتى ما منع قوم زكاة أموالهم ابتلاهم الله بالقحط وقلة المطر قال صلى الله عليه وسلم : (وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا) .

واحذروا رحمكم الله من وسوسة الشيطان فإنه يغري العبد بجمع المال وكنزه، ويخوفه من الفقر، يريد بذلك إهلاكه قال تعالى :" الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" . وقوله تعالى : (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) أي يأمر العباد بالبخل الذي هو من أقبح الفواحش وأسوأ الصفات الممقوتة في العبد. 

جماعة المسلمين : للزكاة أحكام لا بد للمسلم أن يتعلمها ويتفقه فيها ليكون على بينة من دينه، فالزكاة تجب على المسلم بتوافر شرطين هما ملك النصاب ملكا تاما مستقرا ، وأن يحول حول هجري كامل على المال الذي بلغ نصابا في حوزة مالكه لقول رسولِ  اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :«مَنِ اسْتَفَادَ مَالاً فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ، حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ»، وهذا الشرط خاص ببهيمة الأنعام والنقدين وعروض التجارة ، وأما الزروع والثمار فلا يشترط لها الحول لقوله تعالى : "وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ " 

وأما الأموال التي تجب فيها الزكاة فهي بهيمة الأنعام وتشمل الإبل والبقر والغنم ، والنقدان وهما الذهب والفضة وما يقوم مقامهما من العملات الورقية المتداولة اليوم ، وتشمل عروض التجارة وهي كل ما أعد للبيع والشراء لأجل الربح ويدخل فيها الأسهم التجارية ، وتشمل الخارج من الأرض كالحبوب والثمار .

وأما زكاة النقدين من الذهب والفضة والأوراق النقدية ، فتجب بملك النصاب ، ونصاب الذهب ما يساوي خمسة وثمانون جراما من الذهب الخالص، ونصاب الفضة تبلغ خمسمائة وخمسة وتسعين جراما ،ونصاب الأوراق النقدية يكون ببلوغها نصاب الذهب ويخرج منها ربع العشر ( 2.5) . 

ولا خلاف بين أهل العلم في وجوب الزكاة في الحلي المعد للادخار والإيجار وفي الحلي المحرم كالرجل يتخذ خاتما من ذهب ، وأما الذهب والفضة المعد للاستعمال والزينة فالصحيح وجوب الزكاة فيه لعموم النصوص الواردة في وجوب زكاة الذهب والفضة  . 

أما زكاة بهيمة الأنعام فتشمل الإبل والبقر والغنم ، وهي على أقسام ؛ القسم الأول أن تكون معدة للتجارة والبيع والشراء فهذه فيها زكاة ولو كانت أقل من نصابها الشرعي وسواء كانت معلوفة من قبل صاحبها أو ترعى من المرعى  ، والقسم الثاني  أن تكون معدة للحم والتوالد ، فإن كانت سائمة ترعى من المرعى الذي أنبته الله في الجبال والوديان ففيها الزكاة ، أما إذا كان صاحبها هو الذي يشتري لها العلف أو يزرعه لها فليس عليها زكاة  

القسم الثالث: وهي التي تأكل من المرعى ويعلفها صاحبها فالعبرة برعيها أكثر الحول ، فإن كان أكثر رعيها خلال العام من المرعى ففيها زكاة، وإن كان أكثر أكلها من العلف المشترى والمزروع فلا زكاة فيها. 

ونصاب الغنم والضأن أن من ملك أربعين شاة إلى مائة وعشرين شاة فيخرج  شاةً واحدة لا يقل عمرها عن سنة، فمن زاد إلى مائتين فيخرج شاتين ، ونصاب الإبل من ملك  من الإبل خمسا إلى العشرين ففي كل خمس شاة، فمن ملك خمسا أخرج شاةً واحدة ، وفي العشر شاتان، فإن بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض وهي البكرة التي أتمت سنة.  وأما البقر فمن ملك ثلاثين بقرة فيخرج تبيعا وهو ما أتم من البقر سنة من عمره ودخل في الثانية ذكرا كان أو أنثى، ومن ملك أربعين فيخرج مسنة وهي البقرة التي أتمت سنتين ودخلت في الثالثة 

وأما زكاة الزروع الثمار فلا يراعى الحول في زكاة الزروع ، بل يراعى الموسم والمحصول لقوله تعالى { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } ، ونصابها كما قال صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) متفق عليه وهو ما يعادل تقريبا ستمائة وثلاث وخمسون كيلو جرام ، ويختلف مقدار زكاة الزروع بحسب الجهد المبذول في السقي ، ففي حال الري بماء المطر والعيون والآبار دون استخدام الآلات ففيها العشر من المحصول ، فإن استخدمت الآلات ففيه نصف العشر من المحصول وإن تم السقي بالمناصفة ففيه ثلاثة أرباع العشر 


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : مما يكثر السؤال عنه زكاة  الدين ، فإذا أقرضت شخصا مبلغا من المال على أن يسدده بعد فترة معينة ، فعند إخراج زكاة مالك هل تحسب مبلغ الدين مع مبلغ الزكاة ؟
قال بعض أهل العلم : والصحيح أنه تجب فيه الزكاة كل سنة ، إذا كان على غني باذل (بمعنى إن الدين مضمون السداد لكون المقترض لديه ما يسدد به ) فهو في حكم الموجود عندك .

أما إذا كان على مماطل أو معسر ( بمعنى أنه لا يستطيع السداد أو يتهرب من سداد القرض ) فلا زكاة عليه لأنه عاجز عنه ، ولكن إذا قبضه يزكيه مرة واحدة في سنة القبض فقط ولا يلزمه زكاة ما مضى.

وتجب الزكاة في الأموال المعدة للتجارة كالمحلات التجارية التي تحتوي بضاعة، بأن يحصى ما فيها مما هو معروض للتجارة، ويقوم بسعر السوق عند تمام الحول ثم تزكى مع الربح لأنه تابع لحول أصله، وكذلك تجب الزكاة في الأسهم المباحة، على تفصيل يسأل ملاكها عنها أهل العلم  .

للزكاة مصارف ثمانية تصرف فيها دون غيرها قال تعالى: " إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"  

ولا تعطى الزكاة إلى الأقارب الذين يلزم المسلم الإنفاق عليهم كالأب والأم والأبناء ذكورا أو إناثا ولا الزوجة ، أما إذا كان الزوج فقيرا أو مسكينا والزوجة غنية فلها أن تعطيه من الزكاة، وتُعطى الزكاة للأخ والعم وغيرهم من الأقارب في حال كونهم مستحقين لها.

وتُؤَدَّى الزكاةُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ:« فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ». فَإِنْ فَاضَ عَنْ حَاجَةِ الْبَلَدِ نُقِلَ إِلَى بَلَدٍ غَيْرِهِ أَشَدَّ حَاجَةٍ عَبْرَ الْجِهَاتِ الرَّسْمِيَّةِ الَّتِي حَدَّدَهَا الْحاكم

ويجب إخراج الزكاة على الفور مع الإمكان، ولقَدْ أنشأَتْ قيادَتُنَا الرشيدةُ صندوقَ الزكاةِ، الذِي يقومُ بدوْرٍ واضحٍ فِي جمْعِ أموالِ الزكاةِ وصرفِهَا لِمُستحقِيهَا وفْقَ أُسسٍ شرعيةٍ وعلميةٍ فِي التوزيعِ والعدالةِ، فعلينَا أَنْ نتعاونَ معَهُ لأداءِ رسالتِهِ، ولتحقيقِ التكافُلِ الاجتماعِيِّ، وتقويةِ أواصِرِ المحبةِ والمودةِ بيْنَ فِئاتِ المجتمعِ. وكذلك الجمعيات الخيرية الرسمية في الدولة فكلها جهات معتبرة موثوقة ، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.


الخميس، 19 مايو 2016

خطبة الجمعة : رفع الأعمال إلى الله

الخطبة الأولى : أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى خلقنا لغاية عظمى وهي توحيده وعبادته فقال سبحانه : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" ، ووعدنا سبحانه بيوم نرجع فيه إليه لنحاسب على أعمالنا فقال : "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ"  وَأَخْبَرَنَا أَنَّهَا سَتُوزَنُ بِمِيزَانِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فقَالَ سُبْحَانَهُ:( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ). وَاسْتِشْعَارُ الْمَرْءِ وُقُوفَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِيُحَاسِبَهُ عَلَى الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، يَجْعَلُهُ يُبَادِرُ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ اسْتِعْدَادًا لِيَوْمِ الْعَرْضِ الأَكْبَرِ، ولذلك حثنا سبحانه على المسارعة في الأعمال والاستباق إليها فقال : "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ " 

وَ أَعْمَالُ النَّاسِ تُعْرَضُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كل يوم، و كُلَّ أُسْبُوعٍ يَوْمَيْ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، ثُمَّ تُرْفَعُ أَعْمَالُ السَّنَةِ كُلِّهَا فِي شَعْبَانَ، وَلِكُلِّ عَرْضٍ حِكْمَةٌ، أما العرض اليومي فروى مسلم عَنْ أَبِى مُوسَى –رضي الله عنه- قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِى لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ " ، وَيَسْأَلُ اللَّهُ تَعَالَى مَلاَئِكَتَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَنْ أَعْمَالِ عِبَادِهِ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ، وَصَلاَةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»، وَإِنَّمَا يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمَلإِ الأَعْلَى لِيُبَاهِيَ بِهِمْ مَلاَئِكَتَهُ، فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَخَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقْتَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ؛ لأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِمَا أَدَلُّ عَلَى الإِخْلاَصِ؛ لِكَوْنِهِمَا وَقْتَ اشْتِغَالٍ وَغَفْلَةٍ. 

وَقَدْ نَبَّهَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى ذَلِكَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ:( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) أَيْ: إِنَّ صَلاَةَ الْفَجْرِ تَشْهَدُهَا مَلاَئِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةُ النَّهَارِ. وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَخَصَّ الصَّلاَةَ الْوُسْطَى -وَهِيَ صَلاَةُ الْعَصْرِ- بِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ فَقَالَ تَعَالَى:( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ). 

فَمَنْ أَدَّى صَلاَتَيِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ حَازَ الأَجْرَ الْعَظِيمَ، وَاسْتَحَقَّ جَنَّةَ النَّعِيمِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ». 

فَيَا فَوْزَ مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي جَمَاعَةٍ فَبَاهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مَلاَئِكَتَهُ فِي الْمَلإِ الأَعْلَى.

عِبَادَ اللَّهِ: وَتُعْرَضُ الأَعْمَالُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عرضا أسبوعيا في يَوْمَيْ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُمَا، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامه ليومي الإثنين والخميس قَالَ:« ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ». 

أَيُّهَا الْمُصَلُّونَ: وَتُرْفَعُ أَعْمَالُ الْعَامِ كُلِّهِ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ». فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ سَبَبَ صِيَامِهِ فِي شَعْبَانَ أَنَّهُ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، قال ابن رجب –رحمه الله- : وفيه دليل على استحباب عمارة أزمان غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب إلى الله عز وجل . 

فاجتهدوا رحمكم الله في طاعة ربكم، فإنكم في مواسم عظيمة ، تكثر فيها الأعمال وتضاعف فيها الأجور،  فَيَا فَوْزَ مَنِ اغْتَنَمَ مَوَاسِمَ الْخَيْرِ، فَاسْتَغْفَرَ وَأَنَابَ، وَسَارَعَ إِلَى عَمَلِ الصَّالِحَاتِ، لِيَفُوزَ بِالْجَنَّاتِ. فَاللَّهُمَّ ارْفَعْ دَرَجَاتِنَا، وَطَهِّرْ قُلُوبَنَا، وَاغْفِرْ ذُنُوبَنَا، وَوَفِّقْنَا لِطَاعَتِكَ أَجْمَعِينَ .


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : لقد ورَدَ فِي فضل ليلةِ النّصْفِ مِن شعبانَ مِن طُرُقٍ كثيرةٍ أحاديثُ صحَّحَها بعض أهلُ العِلمِ ومن ذلك ما وَرَدَ عنْ معاذٍ بنِ جبلٍ رضيَ الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يطَّلعُ اللهُ إلى جميع ِخلقِهِ ليلةَ النصْفِ مِن شعبانَ، فَيَغْفِرُ لِجَميعِ خَلْقِهِ إلا لِمُشْرِكٍ أوْ مُشاحِنٍ))،وعن أبِي ثعلبةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((يَطَّلعُ اللهُ إلى عبادِهِ ليلةَ النصْفِ مِن شعبان، فيغفرُ للمؤمنين، ويُمْهِلُ الكافرين، ويدعُ أهلَ الحقد بِحِقدِهم حتى يَدَعُوه))

فهذه الأحاديث - أيها المؤمنون - فيها إثباتُ مغفرةِ الله تعالى فِي ليلةِ النصفِ مِن شعبانَ لِعبادِهِ إلا لِمُشْرِكٍ بأيِّ نَوْعٍ مِن أنْواعِ الشِّرْكِ ولِمُشاحِنٍ بينه وبين أخيه هجران وقطيعة.  

والشرك أمره عظيم جدا، خافه الأنبياء والصالحون، فقال إبراهيم عليه الصلاة السلام: " وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ" قال إبراهيم التيمي رحمه الله: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم. ، وخافه النبي صلى الله عليه وسلم على صحابته فقال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: (يَا أَبَا بَكْرٍ لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخر؟ قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟ قَالَ: (قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لما لا أعلم).

فعلينا أن نحاسب أنفسنا ونتوب إلى الله من شرك وقعنا فيه بجهل، ومن الشرك الحلف بغير الله، ومن الشرك الذهاب للسحرة والكهان، ومن الشرك الرياء وفعل الطاعات لأجل ثناء الناس، ومن الشرك الاستعانة بالجن والذبح لهم.

 أما الصِّنفُ الآخَرُ الذين حُرِمُوا تلكَ الليلةَ مِنْ تكفيرِ السيئاتِ ومَغفرةِ الذنوبِ فَهُمْ الْمُشاحِنُونَ وأهلُ الحقدِ؛ وهذا يدُلُّ على خطورةِ الشحناءِ والتباغُضِ بين المسلمين، فاحْرِصُوا عَلَى سَلاَمَةِ الصُّدُورِ، وَصَفَاءِ الْقُلُوبِ.

وَيَدْخُلُ في قوله صلى الله عليه وسلم: «أو مُشَاحِنٍ»: مخالفةُ سَبيلِ المؤمنينَ بالإعراضِ عن سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والخُرُوجِ عَنْ هَدْيِهِ، قالَ الإمامُ الأوزاعيُّ: المشاحِنُ كلُّ صاحِبِ بِدْعَةٍ فارَقَ عليها الأُمَّةَ.اهـ.

ولا شَكَّ أنَّ طريقَ الإحْداثِ في الدِّينِ عاقِبَتُهُ وَخِيمَةٌ سَيِّئَةٌ على صاحِبِهِ، فَقَدْ يَصِلُ به الحالُ إلى الحِقْدِ على السُّنَّةِ وأَهْلِها، وَكذلكَ مَنْ نَقَلَها إِلَيْنا مِنْ صَحَابةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعيدٍ: مَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً إِلا غَلَّ صَدْرُهُ عَلَى الْمُسْلِمين.اهـ، وقد تَتَشَرَّبُ البِدَعُ قَلْبَ العَبْدِ –والعِياذُ بِاللهِ-؛ حَتَّى تَصِلَ إلى حَمْلِهِ عَلَى اسْتِباحَةِ أَعْراضِ المـُسْلِمِينَ وأَمْوالِهم ودِمائِهِم، قال ابنُ ثَوْبانَ: المشاحِنُ: هو التَّاركُ سُنَّةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، الطَّاعِنُ على أُمَّتِهِ، السَّافِكُ دِماءَهُم.اهـ.

فأفضلُ الأعمالِ: سَلامَةُ الصَّدْرِ مِنْ أَنْواعِ الشَّحْناءِ كُلِّها، وَأَفْضَلُها: السَّلامَةُ مِنْ شَحْناءِ الأَهْواءِ والبِدَعِ التي تُوْدِي بِأَهْلِها إلى الطَّعْنِ على الصَّحابَةِ رضيَ الله عنهم وبُغْضِهِمْ والحِقْدِ عَلَيْهِمْ، ثم يَلِي ذلكَ: سَلامَةُ القَلْبِ مِنَ الشَّحْناءِ تُجاهَ مَنْ يتَّبعُ سَبِيلَهُم مِنَ المؤمنينَ، وإرادةُ الخَيْرِ لهم وإعانَتُهُم عليه، وَالنَصِيحَةُ لَهُم، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعالى المؤمنينَ بِأَنَّهُمْ يَقُولون: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) .

ومن الشحناء الهجر الذي يقع بين المسلمين، فلا يكلم الأخ أخاه أو عمه وخاله أو صديقه وصاحبه، قال صلى الله عليه وسلم : لا يَحلُ لمُسلمٍ يُصارم مُسلماً –أي يهجر- فَوق ثلاثِ ليالٍ، فإنَّهُما مَا صَارمَا فَوق ثلاثِ ليالٍ فَإنَّهُمَا نَاكِبان عَنِ الحَق مَا دَامَا عَلَى صَرامِهما، وَإِنَّ أَولَهُما فَيئاً يَكون كَفارةً لَه سَبقُهُ بِالْفَيْءِ، وَإِنْ هُما مَاتا عَلى صِرامِهما لَم يَدخلا الجنَّة جَميعاً " 



الجمعة، 13 مايو 2016

خطبة جمعة : ذكر الله تعالى

 جماعة المسلمين قال ربنا سبحانه وتعالى : "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ " قال ابن القيم رحمه الله: مبنى الدين على قاعدتين : الذكر والشكر، قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ :إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ . فَقال: وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ " . ا.هـ فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح.

وقد رغب الله سبحانه وتعالى في الإكثار من ذكره فقال : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا " ، وبين جلّ وعلا أن من صفات أولي الألباب كثرة الذكر فقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" 

فمن أفضل الأعمال التي يتقرب بها العباد إلى ربهم مع يسرها  ذكر الله سبحانه وتعالى،روى الترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ قَالُوا بَلَى . قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى.

الله أكبر ! ما أعظمها من عبادة وما أيسره من تعبد ، " فإن حركة اللسان أخفُ من حركات الجوارح وأيسرها ولو تحرك عضو من الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشق عليه غاية المشقة بل لا يمكنه ذلك " 

ولأجل ذلك ورد في بعض الآثار أن أهل الجنة على ما هم فيه من النعيم الدائم فإنهم يتحسرون على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها، لأن ذكر الله غراسُ الجنة ، فكلما أكثرت من ذكر الله زاد غِراسك في الجنة ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ وَأَنَّهَا قِيعَانٌ وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ  , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر غرس له بكل واحدة منهن شجرة في الجنة .

جماعة المسلمين : لذكر الله فوائد جمة تعود على العبد ، منها أنه يورث ذكر الله للعبد،  فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ مِنْ النَّاسِ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَطْيَبَ " قال ابن القيم " ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى به شرفا وفضلا  .

أيها المسلم أيعجز لسانك أن يقول وقت فراغه سبحان الله ،والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ، أتعجز عن هذا ونبينا صلوات الله وسلامه عليه يقول  " لَأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ "  ، وروى ابن ماجة بسند صحيح عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِمَّا تَذْكُرُونَ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّحْمِيدَ يَنْعَطِفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ تُذَكِّرُ بِصَاحِبِهَا أَمَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ لَا يَزَالَ لَهُ مَنْ يُذَكِّرُ بِهِ . 

وتأمَّلوا هذا الثواب العظيم المترتِّب على هؤلاء الكلمات، عمل قليل وأجر كبير ، ومثله ما رواه مسلم عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ، كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟» فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: «يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ» 

ذِكر الله – يا عباد الله - هو حياة القلوب فلا حياة لها إلا به ، روى البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)) . فليس للقلوب قرار ولا طمأنينة ولا هناءة ولا لذة ولا سعادة إلا بذكر الله تعالى " الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ " 

ذكر الله تعالى هو الفرج بعد الشدَّة ، واليسر بعد العسر ، وفيه تفريج الكربات ، فما عولج كربٌ ولا أزيلت شدَّةٌ بمثل ذكر الله تبارك وتعالى ، وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يقول في الكرب : ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ )) . 

بذكر الله يحفظ الله العبد من عدوه ومكائده وهو الشيطان الرجيم، قال تعالى : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ"

إِذَا دَخَلَ الْمَرْءُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ؛ نَعِمَ أَهْلُ الْبَيْتِ بِالْحَيَاةِ الْهَانِئَةِ الطَّيِّبَةِ، وَبِالطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ، لأَنَّ الشَّيَاطِينَ قَدْ طُرِدَتْ وَوَلَّتْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :« إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لاَ مَبِيتَ لَكُمْ وَلاَ عَشَاءَ. وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ. وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ». 

وَصَدَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذْ يَقُولُ :« مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لاَ يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ». فَإِذَا خَرَجَ الإِنْسَانُ مِنْ بَيْتِهِ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ خُرُوجِهِ هَدَاهُ اللَّهُ إِلَى مَا فِيهِ الْخَيْرُ لَهُ، وَكَفَاهُ مَا أَهَمَّهُ، وَوَقَاهُ مِنْ شُرُورِ غَيْرِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ» فَأَصْبَحَ مِنَ الْمُطْمَئِنِّينَ، وَبِعِنَايَةِ اللَّهِ مِنَ الْمَحْفُوظِينَ، وَ« إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، لَنْ يَزَالَ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ»

وقال النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم-  « إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا ... فَجَمَعَ النَّاسَ فِى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَامْتَلأَ الْمَسْجِدُ وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرَفِ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ : وذكر منهن " وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِى أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لاَ يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلاَّ بِذِكْرِ اللَّهِ 

عباد الله : إن فضائل الذكر كثيرة جدا ولا يتسع المقام لذكرها، فاجتهدوا رحمكم الله في ذكر ربكم، فإن في قلب العبد حاجة وخلة لا يسدها شيء إلا ذكر الله، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.


الخطبة الثانية : روى الإمام أحمد في المسند وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَىَّ فَأَنْبِئْنِى مِنْهَا بِشَىْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ ، وفي رواية قال : " فبَابٌ نَتَمسَّكُ به جامعٌ"  فقَالَ صلى الله عليه وسلم « لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ». 
فعلى  العبد المسلم أن يذكر الله بنية خالصة مستحضرا لعظمة الله حاضر القلب ، يقول ابن القيم رحمه الله " وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلب اللسان ، وكان من الأذكار النبوية وشهد الذاكر معانيه ومقاصده " ، ولذلك فمن النافع جدا للذاكر أن يتعرف على معاني الأذكار ليستشعر دلالاتها فتستقر في القلب وتثمر ثمارها المرجوة ، وعدم معرفة معاني الأذكار تورث هجر الذكر وتركه .

واعلموا رحمكم الله : أن فضائل الذكر لا تتحصل للعبد المسلم إلا بشرطين هما إخلاص الذكر لله، ثم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فمن أدى ذكر الله على غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه لقوله صلى الله عليه وسلم: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.

واعلموا رحمكم الله  أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها بل كل عامل لله تعالى بطاعة فهو ذاكر لله، قال عطاء " مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام : كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح وتطلق وتحج وأشباه ذلك " 
فيدخل في مجالس الذكر حضور مجالس تعليم العلم كحلقات تحفيظ القرآن والتجويد ، ودروس الفقه ،التي يدرس فيها أحكام العبادات والعقائد ، والمحاضرات الشرعية ونحوها.

ولمجالس الذكر فضائل عظيمة ومن ذلك ما رواه روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ قَالَ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا . قَالَ : فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِي ؟ قَالُوا : يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ . قَالَ فَيَقُولُ هَلْ رَأَوْنِي ? قَالَ فَيَقُولُونَ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ . قَالَ فَيَقُولُ وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي ؟ قَالَ يَقُولُونَ :لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا . قَالَ يَقُولُ فَمَا يَسْأَلُونِي ؟ قَالَ يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ ،قَالَ : يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ : يَقُولُونَ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ : يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا قَالَ:  يَقُولُونَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً قَالَ : فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ قَالَ : يَقُولُونَ مِنْ النَّارِ قَالَ : يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً قَالَ فَيَقُولُ فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ قَالَ : يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ قَالَ هُمْ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ  .