الخميس، 23 يونيو 2016

خطبة الجمعة : الحث على اغتنام العشر الأواخر من رمضان

الخطبة الأولى : اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى خلقنا لعبادته وطاعته، وجعل هذه الدنيا دار ممر إلى الآخرة  وجعلها ودار امتحان يختبر الله فيها عباده قال سبحانه :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"  ثم جعل للعباد يوما يرجعون فيه إلى ربهم فيجازيهم على أعمالهم وعبادتهم قال تعالى :" وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ"  ولأجل ذلك حثنا الله عز وجل ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم على اغتنام هذه الحياة الدنيا بما ينفع العبد فقال تعالى:" وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ "  . 

والعبد الموفق هو الذي يستغل مواسم الخيرات التي تكثر فيها الأعمال وتضاعف فيها الأجور لأجل التقرب إلى ربه ومولاه قال سبحانه مبينا فرح أهل الجنة بأعمالهم " وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ "  ، قال المفسر السعدي رحمه الله " الذين اجتهدوا بطاعة ربهم في زمن قليل منقطع؛ فنالوا بذلك خيرا عظيما باقيا مستمرا "  

وها أنتم أيها المسلمون تعيشون أفضل الشهور والليالي ، فأفضل الشهور شهر رمضان ، وتقبلون على ليالي العشر الأخير من شهر رمضان التي هي من أفضل ليالي الدنيا، وقد أقسم الله بها في القرآن بقوله تعالى: " وَالْفَجْرِ،  وَلَيَالٍ عَشْرٍ "  قال أهل التفسير "وهي على الصحيح : ليالي عشر رمضان ، أو عشر ذي الحجة ، فإنها ليال مشتملة على أيام فاضلة ، ويقع فيها من العبادات والقربات ، ما لا يقع في غيرها" .

 وهذه الليالي كان نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه يحييها بالعبادة أكثر من غيرها، فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ . رواه البخاري ، وفي رواية لمسلم قالت : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَجْتَهِدُ فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِى غَيْرِهِ. 

أيها المسلمون : من الأعمال التي كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر  الاعتكاف في المسجد لأجل التفرغ للعبادة ،ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله " .

ومن الأعمال إحياء الليل بالسهر فيه والانشغال بالطاعة والصلاة وقراءة القرآن والدعاء والإكثار منه ،ومن الأعمال أنه صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله أي للصلاة والعبادة واستغلال هذه العشر من رمضان ، فعن أَبِى ذَرٍّ قَالَ صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنْهُ حَتَّى بَقِىَ سَبْعُ لَيَالٍ فَقَامَ بِنَا لَيْلَةَ السَّابِعَةِ حَتَّى مَضَى نَحْوٌ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ ثُمَّ كَانَتِ اللَّيْلَةُ السَّادِسَةُ الَّتِى تَلِيهَا فَلَمْ يَقُمْهَا حَتَّى كَانَتِ الْخَامِسَةُ الَّتِى تَلِيهَا ثُمَّ قَامَ بِنَا حَتَّى مَضَى نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ. فَقَالَ « إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَإِنَّهُ يَعْدِلُ قِيَامَ لَيْلَةٍ ». ثُمَّ كَانَتِ الرَّابِعَةُ الَّتِى تَلِيهَا فَلَمْ يَقُمْهَا حَتَّى كَانَتِ الثَّالِثَةُ الَّتِىتَلِيهَا.قَالَ فَجَمَعَ نِسَاءَهُ وَأَهْلَهُ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ. قَالَ فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلاَحُ. قِيلَ وَمَا الْفَلاَحُ قَالَ السُّحُورُ  . 

ومن أفضل ما تعمر به هذه الليالي العظيمة من العبادة الصدقة و قيام الليل والتهجد لله تعالى والتضرع والدعاء وقراءة القرآن .

عباد الله :  وفي هذه الليالي العشر ليلة عظيمة جدا من حرم أجرها فهو المحروم وهي ليلة القدر ، عن أنس بن مالك :قال دخل رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر من حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم "

فلنغتنم هذه الأيام والليالي الباقية من رمضان فلا يدري أحد منا هل يتمها ويدرك رمضان القادم أم ينقضي أجله ويواريه الموت.

الخطبة الثانية : فَيَا أَيُّهَا الْمُصَلُّونَ، إِنَّ أَوَّلَ مَا نَتَوَاصَى بِهِ تَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وأَنْ نُحَافِظَ عَلَى قِيمَةِ الْعَطَاءِ وَالتَّطَوُّعِ الْخَيْرِيِّ لِنُعَزِّزَ وَجْهَ الإِمَارَاتِ الْمُشْرِقَ، وَدَوْرَهَا الإِنْسَانِيَّ الْمَشْهُودَ، فإِنَّ يَوْمَنا هذا هو يَوْمُ زَايد لِلْعَمَلِ الإِنْسَانِيِّ، نَسْتَذْكِرُ فِيهِ الْمَآثِرَ الْجَلِيلَةَ، وَالْقِيَمَ النَّبِيلَةَ، الَّتِي غَرَسَهَا مُؤَسِّسُ دَوْلَةِ الإِمَارَاتِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُتَّحِدَةِ، وَبَانِي حَضَارَتِهَا الشَّيخ/ زايد بن سلطان آل نهيان-طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ -وَإِخْوَانُهُ الْمُؤَسِّسُونَ، ولَقَدْ تَعَلَّمْنَا فِي مَدْرَسَةِ زَايد قِيمَةَ الْعَطَاءِ بِكُلِّ أَبْعَادِهَا الإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي تَجَاوَزَتْ عَوَائِقَ الْحُدُودِ وَالْبُلْدَانِ، وَاخْتِلاَفَ الأَعْرَاقِ وَالأَلْوَانِ، فَشَمِلَ عَطَاءُ الإِمَارَاتِ كُلَّ بِقَاعِ الأَرْضِ،تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ». فَصَارَ الْعَطَاءُ الإِنْسَانِيُّ سُنَّةً إِمَارَاتِيَّةً عُرِفَتْ بِهَا، قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ»

الجمعة، 17 يونيو 2016

خطبة الجمعة : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين : من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم التي تحتوي توجيهات نافعة للمؤمن ما رواه أبو هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه – عن رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال « الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ».

يبين صلوات الله وسلامه عليه جانبا مهما من جوانب شخصية المؤمن وهو القوة، فالمؤمنون يتفاوتون في القوة، وعلى قدر هذا التفاوت يتفاوتون في الدرجة والمنزلة.

والقوة في قوله صلى الله عليه وسلم " الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ" تشمل أولا قوة الإيمان والتمسك بالإسلام وشرائعه، والضعف يشمل كذلك ضعف الإيمان والتمسك بشرائع الإسلام. 

ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالذنوب والسيئات، فمن زاد إيمانه بالله، وزاد تمسكه بخصاله وشعبه كان أحب إلى الله سبحانه وتعالى ممن نقص إيمانه وبدأ يتهاون في شعب الإيمان وشرائع الإسلام.

وقد أمر الله بعض أنبياءه ورسله بأن يتمسكوا بهذا الدين بقوة قال تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: " وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ " قال ابن كثير رحمه الله : "{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أَيْ: بِعَزْمٍ عَلَى الطَّاعَةِ " وقال سبحانه آمرا بني إسرائيل : "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" قال مجاهد-رحمه الله- :" بِقُوَّةٍ: بِعَمَلٍ بِمَا فِيهِ " .

ومن القوة الإيمانية القوة في دراسة العقيدة الصحيحة  وتفهمها والعمل بمقتضياتها والرد على المخالفين فيها، قال تعالى لنبيه يحيى عليه الصلاة والسلام: "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا " قال المفسر عبد الرحمن السعدي رحمه الله :  فلما وصل إلى حالة يفهم فيها الخطاب أمره الله أن يأخذ الكتاب بقوة، أي: بجد واجتهاد، وذلك بالاجتهاد في حفظ ألفاظه، وفهم معانيه، والعمل بأوامره ونواهيه، هذا تمام أخذ الكتاب بقوة، فامتثل أمر ربه، وأقبل على الكتاب، فحفظه وفهمه، وجعل الله فيه من الذكاء والفطنة، ما لا يوجد في غيره ولهذا قال: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} ".

أيها الصائمون: ومن القوة المحمودة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ" القوة في الحق والأخذ به، وترك الباطل وتجنبه، رغم المغريات والعوائق وربما الظروف القاسيات ، فيصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بضوابطه الشرعية دون تهور ولا طيش ولا عواطف جياشة، بل هدفه الحق والعمل به والدعوة إليه، بغض النظر عن كثرة أتباع الباطل، قال تعالى آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم : "وَلَا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا "
فاتباع الهوى سبب للضلال والانحراف عن شريعة الله وصراطه المستقيم، قال تعالى :"وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "   

ومن اتباع الحق ورد الباطل ترك العادات والتقاليد التي تخالف شريعة الإسلام وأحكامه، وترك الأفكار التي تبين ضلالها و التي ينادي بها أرباب الفكر المنحرف ولو ذاع صيتهم وعلت مناصبهم، روى الترمذي عن عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِى سُورَةِ بَرَاءَةَ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ « أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ ».
عباد الله : ومن القوة المحمودة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ" القوة في ضبط انفعالات النفس ورغابتها، فالنفس قد تأمر بالسوء، وترغب في الشهوات وتميل إليها، فمن قويت عزيمته جمحها ومنعها وصرفها إلى ما فيه منفعتها، ومن ضعفت نفسه وقع في شراك أهواء نفسه وشهواتها فيهلك، قال تعالى :وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى".

ومن القوة في ضبط النفس كظم غيظها، وتنفيس غضبها، والعفو عمن ظلمك مع مقدرتك على الانتقام منه، قال تعالى :" ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ "  ، وقال صلى الله عليه وسلم :"لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ ». وقال كذلك : " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ - دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ "

إخوة الإيمان : ومن القوة المحمودة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ" القوة العسكرية التي ترهب العدو وتجعل الدولة المسلمة مهيبة الجانب كما قال تعالى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ "

وأنواع القوة المحمودة الداخلة في الحديث كثيرة جدا، ثم قال صلى الله عليه وسلم " وفي كل خير" ليبين فضل الإيمان بالله، وأنه من أسباب محبة الله للعبد وخيريته عنده، ولكن يتفاوت الناس في هذه المحبة وهذه الخيرية على حسب عملهم واعتقادهم .


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : ثم قال صلى الله عليه وسلم موجها ومعلما : " احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ" فهذه وصية جامعة نافعة، محتوية على سعادة الدنيا والآخرة، والأمور النافعة قسمان: أمور دينية، وأمور دنيوية، والعبد محتاج إلى الدنيوية كما أنه محتاج إلى الدينية. فمدار سعادته وتوفيقه على الحرص والاجتهاد في الأمور النافعة منهما، مع الاستعانة بالله تعالى، فمتى حرص العبد على الأمور النافعة واجتهد فيها، وسلك أسبابها وطرقها، واستعان بربه في حصولها وتكميلها: كان ذلك كماله، وعنوان فلاحه. ومتى فاته واحد من هذه الأمور الثلاثة: فاته من الخير بحسبها.

وإذا سلك العبد الطرق النافعة، وحرص عليها، واجتهد فيها: لم تتم له إلا بصدق اللجوء إلى الله ; والاستعانة به على إدراكها وتكميلها وأن لا يتكل على نفسه وحوله وقوته، بل يكون اعتماده التام بباطنه وظاهره على ربه. فبذلك تهون عليه المصاعب، وتتيسر له الأحوال، وتتم له النتائج والثمرات الطيبة في أمر الدين وأمر الدنيا

ثم ختم صلى الله عليه وسلم وصيته بقوله : " وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " وفي ذلك حض على الرضا بقضاء الله وقدره، بعد بذل الجهد، واستفراغ الوسع في الحرص على النافع من الأمور.

 فإذا أصاب العبد ما يكرهه، فلا ينسب ذلك إلى ترك بعض الأسباب التي يظن نفعها لو فعلها، بل يسكن إلى قضاء الله وقدره ليزداد إيمانه، ويسكن قلبه وتستريح نفسه ; فإن " لو " في هذه الحال تفتح عمل الشيطان بنقص إيمانه بالقدر، واعتراضه عليه، وفتح أبواب الهم والحزن المضعف للقلب. 

عباد الله : في هذه الوصايا التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم  أعظم الطرق لراحة القلب، وأدعى لحصول القناعة والحياة الطيبة، وهو الحرص على الأمور النافعة، والاجتهاد في تحصيلها، والاستعانة بالله عليها، وشكر الله على ما يسره منها، والرضى عنه بما فات، ولم يحصل منها.

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الإيمان بالقضاء والقدر، والعمل بالأسباب النافعة، وهذان الأصلان دل عليهما الكتاب والسنة في مواضع كثيرة، ولا يتم الدين إلا بهما، بل لا تتم الأمور المقصودة كلها إلا بهما، لأن قوله «احرص على ما ينفعك» أمر بكل سبب ديني ودنيوي، بل أمر بالجد والاجتهاد فيه والحرص عليه، نية وهمة، فعلا وتدبيرا.

وقوله: «واستعن بالله» إيمان بالقضاء والقدر، وأمر بالتوكل على الله الذي هو الاعتماد التام على حوله وقوته تعالى في جلب المصالح ودفع المضار، مع الثقة التامة بالله في نجاح ذلك.

الخميس، 9 يونيو 2016

خطبة جمعة : الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان

الخطبة الأولى : قال الله عز وجل في محكم التنزيل : "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ" ، فمن فضائل شهر رمضان أن أنزل الله فيه القرآن ، لذلك كان السلف رحمهم الله يقبلون على قراءة القرآن فيه أكثر من غيره ، فعن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.

وقد دل هذا الحديث كما قال النووي – رحمه الله – على " استحباب الإكثار من القراءة في رمضان وكونها أفضل من سائر الأذكار ، إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويا لفعلاه " .

ويدل قوله رضي الله عنه " وكان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان " على استحباب الإكثار من التلاوة ليلا ، فإن الليل تنقطع فيه الشواغل ويجتمع فيه الهم ويتواطأ فيه القلب اللسان على التدبر كما قال تعالى:" إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا "  قال ابن كثير رحمه الله: " وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ هُوَ  أَشَدُّ مُوَاطَأَةً بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَأَجْمَعُ عَلَى التِّلَاوَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} أَيْ: أَجْمَعُ لِلْخَاطِرِ فِي أَدَاءِ الْقِرَاءَةِ وَتَفَهُّمِهَا مِنْ قِيَامِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ انْتِشَارِ النَّاسِ ولَغَط الْأَصْوَاتِ وَأَوْقَاتُ الْمَعَاشِ.

ويدل على ذلك ما رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه :  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَىْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِى فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِى فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ. وقال صلى الله عليه وسلم : " وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ . فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي ؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ.  فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ .فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ، هَذًّا كَانَ، أَوْ تَرْتِيلًا "

جماعة المسلمين : تلاوة القرآن وصية نبينا صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْصِنِي. قَالَ: " أَوْصَيْتُكَ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ أَزْيَنُ لِأَمْرِكَ كُلِّهِ " قُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ: " عَلَيْكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ ذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ وَنُورٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ "

ولقد جعل الله لنا بكل حرف حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها قال صلى الله عليه وسلم " مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» فكم من الحسنات ضيعت وكم من الأوقات في القيل والقال أهدرت مما سيندم عليه العبد يوم القيامة .  

وقد أنثى الله عز وجل في كتابه على من يتلو كتاب الله عز وجل ووعدهم بالأجر العظيم فقال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ "  قال أهل التفسير في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ ) أي : يتبعونه في أوامره ، فيمتثلونها ، وفي نواهيه  فيتركونها، وفي أخباره فيصدقونها ويعتقدونها ، ولا يقدمون عليه ما خالفه من الأقوال . ويتلون أيضا ألفاظه بدراسته معانيه، بتتبعها واستخراجها .

وقد أقبل السلف رحمهم الله على كتاب الله تلاوة وتدبرا وعلما وعملا حتى صار ذلك من صفاتهم قال الإمام الأوزاعي رحمه الله : كان يقال : خمس كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان : لزوم الجماعة واتباع السنة وعمارة المسجد وتلاوة القرآن والجهاد في سبيل الله". وسبب ذلك طهارة قلوبهم وخلوها من العوائق التي تصد عن ذكر الله وكلامه ، قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : " لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عز وجل " وقال ابن القيم رحمه الله ( فالقلب الطاهر لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث لا يشبع من القرآن ولا يتغذى إلا بحقائقه ولا يتداوى إلا بأدويته بخلاف القلب الذي لم يطهره الله تعالى فإنه يتغذى من الأغذية الفاسدة التي تناسبه بحسب ما فيه من النجاسة )

والعبد إذا لم يشعر بحلاوة القرآن في قلبه وضعف إقباله عليه فليحاسب نفسه، فإن في قلبه ما يصده عن الله وكلامه ، فعن الحسن البصري قال : تفقدوا الحلاوة في ثلاث : في الصلاة وفي القرآن وفي الذكر، فإن وجدتموه فامضوا وأبشروا وإن لم تجدوها فاعلم أن بابك مغلق" 

فتأثر القلب بكلام الله من صفات المؤمنين قال تعالى : " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ  

فينبغي على المسلم أن يسارع باغتنام هذه الأيام المباركات ، وباستغلالها قبل الفوات ، فإنما هي أيام معدودات ، تمضي وتفوت ، فالسعيد الموفق من اغتنم الفرصة ، وفاز بالخير الكثير ، والخاسر المخذول من ضيع أيامه ولياليه ، في اللعب والتسلية. 


الخطبة الثانية : عباد الله ، من فضائل قراءة القرآن أن من جلس في المسجد يتلو كتاب الله ويتدارسه وعده الله بالرحمة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " مَا اجْتَمَعَ قوم في بيت من بيوتِ اللهِ يَتْلُونَ كتابَ اللهِ تعالى ، ويتَدَارَسُونَهُ بينهم إِلا نَزَلَتْ عليهم السكينةُ ، وَغَشيَتهم الرحمةُ ، وحَفَّتهمُ الملائكةُ ، وذَكَرهُمُ اللهُ فيمن عِندَهُ "  فلم التكاسل عن هذا الخير يا عباد الله 
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ، أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ ( والناقة الكوماء هي الناقة العظيمة السنام وهي من أفضل أنواع النوق ) فِي غَيْرِ إِثْمٍ، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟»، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: «أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ»
فلنستغل أوقاتنا في بيوت الله، بتلاوة كتابه لنغنم هذا الأجر العظيم .

أيها المؤمنون : لقد رغبنا الله سبحانه في تلاوة القرآن بتدبر وتفهم، فقال سبحانه: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ"  والتدبر هو أن يتفهم التالي معاني الآيات والحِكم الواردة فيها، وليس مجرد قراءة خالية من الفهم والتعقل، وقد كان الواحد من السلف إذا قرأ القرآن أيقن أنه هو المخاطب بآياته وأوامره ونواهيه، وليست مجرد كلمات تهذ وتقرأ كما يقرأ الشعر، قال ابن مسعود- رضي الله عنه- إذا سمعت في القرآن يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك، فإما خير تؤمر به وإما شر تنهى عنه.

وهكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم، فكان يتأثر بالقرآن إذا قرأه أو قرئ عليه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ عَلَيَّ .  قُلْتُ أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟  قَالَ: إِنِّي أحب أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي . قَالَ: فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتُ (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤلاَءِ شَهِيدًا) قَالَ لِي: كُفَّ أَوْ أَمْسِكْ. فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ .   فقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو المخاطب في هذه الآية، فتأثر بها حتى بكى صلوات الله وسلامه عليه. 

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يتدبر الآيات وهو في صلاته، فروى مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة... ـ إلى أن قال: ـ فإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ. رواه مسلم.

وهذه طريقة السلف رحمهم الله في تعاملهم مع كتاب الله، يتلونه ويتدبرونه ويعملون بما فيه، فها هو أبو بكر الصديق رضي عنه الله كان لا يتمالك نفسه عند قراءته للقرآن من تأثره به ، قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أبا بكر يصلي بالناس: " إن أبا بكر رجل أسيف إن يقم مقامك يبكي فلا يقدر على القراءة" ، والخليفة الراشد عمر رضي الله عنه قرأ مرة بسورة يوسف في صلاة الفجر، فلم يسمع من كان في أواخر الصفوف صوته من بكائه خصوصا لما قرأ قوله تعالى : "قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ " ، وعن نافع مولى ابن عمر قال : ما قرأ ابن عمر بهاتين الآيتين قط من آخر سورة البقرة إلا بكى (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "  ثم يقول : إن هذا  الإحصاء شديد " 

وعن أبي حمزة قال: قلت لابن عباس إني سريع القراءة، إني أقرا القرآن في ثلاث. قال رضي الله عنه: لأن اقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ" وعن ابن مسعود قال : لاَ تَهُذُّوا الْقُرْآنَ كَهَذِّ الشِّعْرِ ، وَلاَ تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ ، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ وَلَا يَكُونُ هَمُّ أَحَدِكُمْ مِنَ السُّورَةِ آخِرَهَا . 

ومما يعين على تدبر الآيات قراءة ما كتبه أهل التفسير في تفسير كلام الله، فإن المفسر يجلي لك معاني الآيات فيسهل عليك تدبرها وفهم معناها.

قال ابن القيم: فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر... فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها ...، فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب " 

الجمعة، 3 يونيو 2016

خطبة الجمعة : نعمة إدراك شهر رمضان المبارك

الخطبة الأولى: أيها المسلمون خلق الله الخلق وأمرهم بعبادته وحده دون سواه فقال سبحانه " يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ "  ، ووعدهم على عبادتهم وتوحيدهم له بالجنة فقال:"وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"، وأمرهم بالمسارعة في فعل الخيرات للتزود ليوم القيامة فقال سبحانه:"فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" ، ومن رحمة الله بعباده أن هيأ لهم مواسم تكثر فيها الخيرات وتضاعف فيها الحسنات، وقد جاء في الأثر : " افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده " ، ومن هذه المواسم موسم شهر رمضان الذي سيحل علينا بعد أيام قلائل.

إخوة الإيمان: إن إدراك المسلم لشهر رمضان فيصومه متقربا لله تعالى، مغتنما أيامه ولياليه، من أكبر النعم التي يمنها الله عليه، لأنه موسم فضائله متنوعة، وعباداته سهلة يسيرة، ولأجل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر به أصحابه ويبين فضائله لتعلو هممهم، ويتسابقوا في فعل الخيرات، ويتنافسوا في القربات، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ ». 

ما أعظمها من فضائل، وما أغنمها من فرص، أبواب السماء مفتحة لكم أيها الصائمون، وتغلق فيه أبواب النيران، ويعان فيه المسلم على الطاعة إذ تحبس مردة الشياطين فيخف شر العدو عليك أيها الصائم، ثم يكافؤ المؤمن الحريص والمشمر المسابق بليلة واحدة العبادة فيها خير من عبادة في ألف شهر إنها ليلة القدر.

ومن عجيب القصص والأخبار، مما يدلنا على أن إدراك رمضان من الفرص الكبار، ما جاء عن طلحة بن عبيد الله-رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخِّرَ الآخَرُ بَعْدَ الْمَقْتُولِ سَنَةً ثُمَّ مَاتَ. قَالَ طَلْحَةُ: رَأَيْتُ الْجَنَّةَ فِي الْمَنَامِ، فَرَأَيْتُ الآخَرَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الأَوَّلِ، فَأَصْبَحْتُ فَحَدَّثْتُ النَّاسَ بِذَلِكَ فَبَلَغْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ وَصَلَّى بَعْدَهُ سِتَّة آلَاف رَكْعَة وَكَذَا كَذَا رَكْعَة ".
فتأملوا يا رعاكم الله : أسلما جميعا، ومات أحدهما شهيدا، ومات الثاني بعده بسنة، ولكن فضل عليه بمزيد عمل عمله، ومنه إدراكه لشهر رمضان. 

فهذه النعمة بإدراك شهر رمضان تستوجبُ الشكرَ للباري، وتقتضي اغتنام هذا الشهر، بما يكونُ سبباً للفوزِ بدارِ القرارِ، والنجاةِ من النار، فمن حرم فضل هذا الشهر فهو المحروم ، وأي خسارةٍ أعظمُ من أن يدخلَ المرءُ فيمن دعا عليهم جبريلُ عليهِ السلام ، وأمنَّ على دعائهِ نبيُّ الأنامِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم حيثُ قال جبريل : ((من أدركَ شهرَ رمضانَ فلم يغفر له، فدخلَ النارَ فأبعدهُ الله قل: آمين، فقلت: آمين))

أيها المؤمنون : من الفضائل العظيمة لشهر رمضان أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن فقال تعالى " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ". وقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِأَنَّهُ الشَّهْرُ الذِي كَانَتِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ تَنْزِلُ فِيهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فصح عَنْ وَاثِلَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ لِثَلَاث عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ "

ومن فضائله العظيمة قوله صلى الله عليه وسلم " إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ"

ومن فضائل هذا الشهر أنه مكفر للذنوب والخطايا وسبب للمغفرة قال صلى الله عليه وسلم" من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفرَ له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" 

قال الخطابي رحمه الله :قوله " إيمانا واحتسابا " أي نية وعزيمة وهو أن يصومَهَ على التصديقِ والرغبةِ في ثوابهِ طيبةً بهِ نفسهُ غيرَ كارهٍ له ولا مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه ، لكن يغتنم طول أيامه لعظم ثوابه "

ومن فضائل هذا الشهر المبارك ما رواه البزار بسند صحيح عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال :  جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا قال من الصديقين والشهداء" 

فما أعظمه من أجر ، فمن جمع هذه العبادات اليسيرة كان من الصديقين والشهداء الذين يكونون مع أفضل الخلق قال تعالى : " وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ، ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا" 

فاغتموا رحمكم الله هذا الشهر بالطاعات والعبادات، فإنكم لا تدرون هل تدركونه في مستقبل أعماركم أم يضمكم التراب، وتصيرون إلى أعمالكم . 



الخطبة الثانية : يقول الله جل وعلا :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا  كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)  فالصيامَ من أكبرِ أسبابِ تحقيق التقوى؛ لأن فيهِ امتثالاً لأمرِ اللهِ واجتناباً لنهيه ، فالصائمَ يتركُ ما أحل الله له من الأكلِ والشربِ والجماعِ ونحوها التي تميلُ إليها نفسهُ متقرباً بذلك إلى الله راجياً بتركها ثوابهُ ، فهذا من التقوى ،  كما أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه لعلمه باطلاع الله عليه وهذا فيه تحقيق لدرجة الإحسان وهي أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . 

والصائم ليله ونهاره في عبادة ، فقد ترك شهواته لله بالنهار تقربا إليه وطاعة له ، وبادر إليها في الليل تقربا إليه وطاعة فما تركها إلا بأمر ربه ولا عاد إليها إلا بأمر ربه فهو مطيع في الحالين .

قال أهل العلم : المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه : جهاد بالنهار على الصيام وجهاد بالليل على القيام ، فمن جمع بين هذين الجهادين ووفى بحقوقهما وصبر عليهما وفِّيَ أجره بغير حساب"

أيها المؤمنون : إن عبادة الصيام التي تتقربون بها إلى الله في شهر رمضان من أجلِّ العبادات وأشرفها، فقد فضَّلهُ سبحانه على كثيرٍ من القرباتِ والطاعاتِ، ورفعَ منزلتهُ وميّزهُ على أنواعِ العباداتِ بقوله في الحديثِ القدسي ،" كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ  " وفي رواية : " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا , إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ , إِلَى مَا شَاءَ اللهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي , وَأَنَا أَجْزِي بِهِ  يَدَعُ طَعَامَهُ , وَشَرَابَهُ , وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي "  . قال ابن رجب رحمه الله : " الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد ، بل يضاعفه الله أضعافا كثيرة بغير عدد ، فإن الصيام من الصبر وقد قال الله (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)ا.هـ، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم بشهر الصبر ،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر "

والصوم له فضائل جمة منها قوله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ" 
أي رائحة فم الصائم الكريهة بسبب خلو المعدة من الطعام بالصيام ، فهي أطيب عند الله تعالى من رائحة المسك الزكية، لأنها ناشئة عن طاعة لله وابتغاء مرظاته. 

قال ابن حجر: ويؤخذ من قوله (أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) أنه أعظم من دم الشهادة، لأن دم الشهيد شبه ريحه بريح المسك، والخلوف وصف بأنه أطيب.." 

وقوله صلى الله عليه وسلم(وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ ) فالفرحة الأولى : في الدنيا وتكون في موضعين، الأول عند فطره بعد غروب الشمس لأن النفس مجبولة على الفرح إذا أبيح لها ما منعت منه ، والثاني فرح عند نهاية الشهر . بإتمام العبادة ورجاء أن يوفيه ربه أجره .
أما الفرح الثاني فهو عند لقاء الصائم ربه سبحانه وتعالى ، يفرح لأنه يقال له "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ  " ورد عن مجاهد قال: نزلت في الصائمين، يفرح الصائمون لأن ريحهم تفوح مسكا ، ولأن لهم بابا في الجنة لا يدخل منه غيرهم قال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ فِى الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ » يفرحون لأن جزاؤهم من جنس عملهم، فكما أنهم أجاعوا أنفسهم في الدنيا لنيل مرضاة الله ، فكذلك يجازيهم الله بأن يشبعهم يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: فإن أطولكم جوعا يوم القيامة أكثركم شبعا في دار الدنيا " 

فافرحوا –رحمكم الله- بإدراككم شهر رمضان، واسألوا الله سبحانه وتعالى أن يعينكم على صيامه وقيامه، وانشغلوا فيه بأداء العبادات، فإنه شهر العبادة، فَاللَّهُمَّ سَلِّمْنَا إِلَى رَمَضَانَ, وَسَلِّمْ لَنَا رَمَضَانَ, وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا مُتَقَبَّلاً،واجعلنا فيه من عتقائك مِنَ النِّيرَانِ