الثلاثاء، 30 أغسطس 2016

مقال : مظاهر التوحيد في الحج

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد

إن من أعظم الأمور التي جاءت الشريعة لتقريرها توحيد الله سبحانه وتعالى، فهو أهم المهمات، وأعظم ما دعا إليه الرسل والأنبياء والدعاة من بعدهم، قال تعالى: " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" [النحل:36]، كما قرر الله التوحيد في أحكام شريعته ومقاصدها، ومن ذلك عبادة الحج .

فقد شرع الله الحج لتحقيق مقاصد عظيمة ، وإن من أعظم مقاصد الحج إعلان التوحيد لله تبارك وتعالى وتصفية الاعتقاد وإفراده بالقصد والطلب والتوجه والإرادة .

 ومن تدبر وتأمل آيات الحج وأذكاره وأعماله وجدها مشتملة على تأكيد هذا المقصد بتوحيد الله تعالى وعدم الإشراك به .

ومن ذلك قول الله سبحانه و تعالى : " وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ " ، وقوله " وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا" [آل عمران:97] فالله سبحانه وتعالى لما أمر بإتمام المناسك، وفرض الحج على الناس جعل الأمر كله لله، ففي الأولى إتمام المناسك لله، وفي الثانية أداء الفريضة لله، وفي ذلك إشارة صريحة إلى مقصد توحيد الله وإفراده بهذا العمل. 

ومن مظاهر التوحيد في الحج : إعلان الحاج لنسكه المشتمل على التوحيد قائلا : لبيك اللهم حجا لا رياء فيه ولا سمعة "  فاحتوى هذا الإهلال على الإخلاص للمولى عز وجل مع البراءة من مظاهر الشرك – الرياء والسمعة – فالرياء مبطل للعمل وموجب للعقاب ،عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ " قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً " ، و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ فيتبرأ الحاج من الرياء والسمعة في أول دخوله في النسك .

ومن مظاهر التوحيد في الحج : التلبية التي تتضمن إعلان التوحيد ونفي الشرك ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ) ، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حين لبى النبي صلى الله عليه وسلم : فأهل بالتوحيد . فسمى التلبية توحيداً.

 والكون كلّه يردِّد توحيدَ الخالق ويسبِّح بحمده، مع تلبية الحجاج ،  فتلبِّي الأحجار ويهتف المدر والشجر، قال صلى الله عليه وسلم : ((ما من مسلمٍ يلبِّي إلاّ لبَّى من عن يمنيه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرضُ من ها هنا وها هنا .

قال ابن القيم – رحمه الله – في حاشيته على سنن أبي داود : "قد اشتملت كلمات التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة ، منها : أنها تتضمن المحبة لله تعالى ، فلا يقال لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه  ، ومنها : أنها تتضمن التزام دوام العبودية لله و تمام الخضوع والذل اللذان هما من أركان العبودية لله تبارك وتعالى . ومن فوائدها أنها تتضمن الإخلاص الذي هو روح الحج ومقصده بل روح العبادات كلها والمقصود منها . " ا . هـ ملخصا 

وأما أهل الإشراك وعباد الأصنام فكانوا يدخلون آلهتهم مع الله في تلبيتهم فيقولون : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك " فخالف أهل الإسلام أهل الأوثان بإعلانهم التوحيد والإخلاص لله تعالى . 

فعلى الملبي الذي أكرمه الله بالتلبية أن يستحضر معانيها وأن يعي دلالاتها، وأن يسعى لتحقيق مقتضياتها، فلا يسأل إلا الله ولا يستغيث إلا بالله ولا يتوكل إلا على الله ولا يذبح إلا لله،  شعاره :" إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ " 

ومن مظاهر التوحيد في الحج: الطواف حول الكعبة واستلام الركنين وتقبيل الحجر الأسود ، تحقيقاً للعبودية في قوله تعالى : " فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ " [قريش: 3]  ، وقوله " ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ " [الحج:29]  واتباعاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال : خذوا عني مناسككم " وفي ذلك كمال التوحيد ، عبودية لله ومتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: "  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا "  ، عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ.  

قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد : وليس على وجه الأرض بقعةٌ يجب على كل قادرٍ السعيُ إليها والطوافُ بالبيت الذي فيها غير مكة، وليس على وجه الأرض موضعٌ يُشرع تقبيلُه واستلامُه، وتُحط الخطايا والأوزار فيه غيرَ الحجر الأسود، والركن اليماني " 

ومن مظاهر التوحيد في الحج : شرعية صلاة ركعتين بعد الطواف ، وقراءة سورتي الكافرون والإخلاص لتضمنهما توحيد العبادة ، تنبيها للطائف أنه في عبادة لله وطاعة لأمره .

ومن مظاهر التوحيد في الحج: السعي بين الصفا والمروة حيث يتذكر العبد موقف أم إسماعيل حينما نفذ ماؤها وغذاؤها في جوف لاهب ، فصارت تهرول بين الصفا والمروة قد أنهكها العطش وأضعفها الجوع ، وقد تعلق قلبها بالله، فتوكلت عليه وفوضت أمرها إليه، وقد قالت لزوجها إبراهيم :يَا إبْرَاهِيمُ ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهذَا الوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أنِيسٌ وَلاَ شَيْءٌ ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَاراً ، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا ، قَالَتْ لَهُ : آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَتْ : إذاً لاَ يُضَيِّعُنَا ؛ ثُمَّ رَجَعَتْ " وإذا برحمة الله تتداركها ، فالله لا يضيع عباده فإذا هي بالنبع يتدفق ، فيتذكر المسلم تذللها وتضرعها لله تعالى ، فيكون بذلك على يقين من أن الملجأ هو الله وحده فهو كاشف الكرب ومجيب دعوة المضطر . قال تعالى  " أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أإله مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ " [النمل:62]

وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم للحاج إذا صعد على الصفا أن يكبر الله ثلاثا ويقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ثم يدعو بعد ذلك بما شاء . 

ومن مظاهر التوحيد في الحج: الوقوف في عرفة الذي شعاره قول النبي صلى الله عليه وسلم (خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) ففيه إظهار التوحيد في قوله (لا إله إلا الله وحده ) وبراءة من الشرك في قوله (وحده لا شريك له ) واعتراف بالملك والثناء على الله في قوله (له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )  
فجميع مناسك الحج شاهدة على توحيد رب البرية سبحانه وتعالى ، يُظهر فيها العبد ذله وتعظيمه وخوفه ورجاءه واستعانته بالله وحده دون سواه . 

لذلك كان جزاء الحاج الجنة قال صلى الله عليه وسلم : الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة . 

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه . 

الاثنين، 29 أغسطس 2016

مقال : فضل العشر الأوائل من ذي الحجة

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،   أما بعد

إخواني الأفاضل : 

تطلّ على الأمّة الإسلاميّة مواسمُ عظيمة، هي للمؤمنين مغنَمٌ لاكتساب الخَيرات ورفعِ الدّرجات، وفُرصة لتحصيل الحسناتِ والحَطّ من السيِّئات. إنّها أيّام العشرِ الأول من ذي الحجّة، فهي أعظمُ الأيّام عند الله فضلاً وأكثرها أجرًا، روى ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((ما مِن أيّام العمل الصّالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيّامَ العشر، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرج بنفسه ومالِه ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء)) .

وفي رواية للبيهقي " مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الأَضْحَى.." 

وعن ابن عمر –رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم – قال : " مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ.." وفي رواية عند ابن حبان "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ" 

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ , وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ , قَالَ: " وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ , إِلَّا مَنْ عَفَّرَ وَجَهَهُ فِي التُّرَابِ "

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وصف هذه الأيام بجملة من الصفات تبين فضلها على باقي الأيام، فهي " أفضل الأيام" وهي " أعظم الأيام عند الله" وهي أيام العمل الصالح فيها أحب  إلى الله سبحانه وتعالى وأزكى من سواها.

ومن شدة تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم- لهذه الأيام سأل الصحابة رضوان الله عليهم عن تفضيل العمل فيها على الجهاد في سبيل الله، الذي هو من أفضل العمل، فقالوا : " ولا الجهادُ في سبيل الله؟ " 

فكان الجواب منه - صلى الله عليه وسلم- : " ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرج بنفسه ومالِه ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء" 
فدل الحديث على أن العمل الصالح في هذه الأيام المباركة يفضل الجهاد في سبيل الله، إلا لمن خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء، فهو مستثنى من هذه الأفضلية.

ومن فضائل هذه الأيام المباركة :

أن الله سبحانه وتعالى أقسم بها في القرآن الكريم فقال : " وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ" ( الفجر :1-2) قال ابن كثير –رحمه الله- في التفسير: " والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة. كما قاله ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف ." 

وقال ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف ص 595: " وأما الليالي العشر فهي عشر ذي الحجة، هذا الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين من السلف وغيرهم وهو الصحيح عن ابن عباس.." .

ومن فضائل هذه الأيام المباركة :

أنها تحتوي على يوم عرفة، وهو يوم عظيم عند الله، إذ أقسم به في قوله تعالى : " وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ " (البروج:3) وروى الترمذي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ..". 

ومن فضائل هذه الأيام المباركة:

أنها تحتوي على يوم النحر، وهو من أعظم الأيام عند الله سبحانه وتعالى، فروى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ –رضي الله عنه - عَنِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ" 

ومن فضائل هذه الأيام المباركة:

أنّها تجتمع فيها أعظم الأعمال ومنها الصلاة والنحر، وقد أمر الله بها في كتابه فقال : "  فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ" ( الكوثر:2) ، قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في التفسير: " خص هاتين العبادتين بالذكر، لأنهما من أفضل العبادات وأجل القربات، ولأن الصلاة تتضمن الخضوع في القلب والجوارح لله، وتنقلها في أنواع العبودية، وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من النحائر، وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به."

وكذلك تجتمع فيها أصول العبادات، قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: (والذي يظهَر أنّ السببَ في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازاتِ لِمَكان اجتماع أمّهات العبادة فيها، وهي الصّلاة والصّيام والصّدقة والحجّ وغيرها، ولا يتأتّى ذلك في غيرها" انتهى.

ومن فضائل هذه الأيام المباركة:

أنها أيام وفود المسلمين على بيت الله تعالى، مستجيبين لنداء الله بالحج، في قوله تعالى : "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ" (الحج:27-28) ، وفي الحديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :"الحجاج و العمار وفد الله ، دعاهم فأجابوه ، سألوه فأعطاهم " .

فعلى المسلم أن يبادر إلى الأعمال الصالحات في هذه الأيام من زيادة في النوافل وقراءة القرآن وذكر الله وكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .

 وإن أفضل ما تقرب به العبد من الأعمال فرائض الله قال الله تعالى في الحديث القدسي :"  وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ " 

وإن مما يشرع فعله في هذه الأيّام الصيام ،  فروى أبو داود عن بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم أنّه صلى الله عليه وسلم كان يصوم تسعَ ذي الحجة. " 

وآكد الأيام صياماً في هذه العشر يوم عرفة، فإنه يوم مشهود معظم عند أهل السماء والأرض، وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في صيامه فقال : "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ .

ومن العبادات في هذه العشر الإكثار من التكبير، قَالَ تَعَالَى:( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على اغتنام هذه الأيام المباركة بالذكر، فروى أحمد وغيره عَنِ ابْنِ عُمَرَ-رشي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: " مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ "

وقال البخاريّ في صحيحه: (كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السّوق في أيّام العشر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتكبيرهما" 

والتكبيرُ  مطلقٌ ومقيّد، فالمطلق يكونُ في جميع الأوقات في الليل والنهار من مدّة العشر، والمقيّد هو الذي يكون في أدبارِ الصّلواتِ ، مِن صُبح يومِ عرفة إلى عصرِ آخر أيّام التشريق. 

ومن العبادات في هذه الأيام الدعاء وخصوصا يوم عرفة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"

ومن أنواع العبادات التي تؤدى في هذه الأيام المباركة عبادة النحر وهي الأضحية ، والأضحية كما قال أهل العلم من أفضل العبادات المالية ولهذا جمع الله بينها وبين الصلاة التي هي أجل العبادات البدنية في آية واحدة فقال تعالى " {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر:2) 

والسلف رحمهم الله لما عرفوا قدر هذه الأيام الفاضلة عند الله اغتنموها بالعمل صالح، فعند البيهقي أن سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادا شديدا, حتى ما يكاد يقدر عليه.

فاغتنِموا ـ رحمكم الله ـ هذه الأيامَ بالاجتهاد في العبادةِ بشتّى أنواعها والأعمال الصالحة بمختلف صوَرِها، فنبيُّكم صلى الله عليه وسلم  يروي عن ربِّه عزّ وجلّ قوله: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمَد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه)).

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .

والحمد لله رب العالمين .