السبت، 18 نوفمبر 2017

مقال: النصائح والتوجيهات المفيدة لمحبي الرحلات البرية

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد ..

فمن سماحة ديننا أن أعطى لكل ذي حق حقه بوسطية واعتدال لن يوجد مثله عند عقلاء العالم، وذلك أن أحكام هذا الدين من لدن حكيم بالأمور ومواضعها، فيضع كل حكم في محله الذي يناسبه، خبير بأحوال الناس وما يصلح لهم وما يصلحهم.

ولذلك راعت أحكام شريعتنا الإنسان، واهتمت بجميع جوانبه الروحية والمادية، ليحيى حياة طيبة، وليتفرغ لتحقيق الغاية التي لأجلها خلق وأوجد وهي عبادة الله وطاعته، فجاءت قواعد الدين بما يحقق للنفس الإنسانية سعادتها واستقرارها، قال سلمان الفارسي لأبي الدرداء رضي الله عنهما:إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال : 
صَدَقَ سَلْمَانُ. رواه الترمذي . وقال حنظلة -رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم :" نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا، فقال صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً  " رواه مسلم . 

فالترويح عن النفس من متطلباتها حتى لا تقع في الملل وتترك العمل، ولذلك أباحت الشريعة للناس الترويح عن أنفسهم بالمباحات لتعود أنشط للطاعات.

وفي هذه الأيام – أيام الشتاء- يكثر خروج الناس للتنزه في البرية، خصوصا أيام الإجازات وبعد سقوط الأمطار، وهذا أمر مباح ولا شيء فيه، ولكن توجد بعض التوجيهات التي لا بد من مراعاتها لتكون هذه المباحات معينة لنا على الطاعات وسببا لاكتساب الحسنات.

الأول : استحضار نية الترفيه عن النفس لأجل تشجيعها على الإقبال على الطاعات وطلب العلم والقيام بخدمة العباد والبلاد.

فالنفس من عادتها الملل، وإذا ترفهت وانتعشت ودخل السرور إليها زاد نشاطها وإقبالها على مهمات الأمور، وبعض أصحاب الهمم العالية يستغل هذه الرحلات وهذا الترفيه للازدياد في العبادات وطلب العلم.

ومن العبادات التي يمكن للعبد أداؤها في البر عبادة التفكر في خلق الله، كما قال تعالى في وصف عباده المؤمنين: " الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" [آل عمران:191].

 وبعض أصحاب الهمم العالية يستغل هذه الرحلة في مدارسة بعض مسائل العلم مع إخوانه، على أن لا تطغى هذه المدارسة على الهدف الحقيقي من الرحلة.

ويمكن للمسؤول في هذه الرحلة والآباء في الرحلات العائلية إعداد مسابقات دينية وثقافية، إذ بها تحصل المعرفة والتعلم، ويتحقق ترفيه النفس واستجمامها. 

الثاني : حسن التنظيم والترتيب، وإذا كانت المسافة مسافة سفر أمّروا عليهم أحدهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "  إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ " رواه أبوداود، على أن يكون هذا الأمير من أهل الخبرة في تسيير الأمور وتنظيمها، وعلى إخوانه معاونته والالتزام بما تم الاتفاق عليه بما يتعلق بأمر الرحلة. 

ومن الأخطاء التي تقع من بعضهم التأخر عن موعد الخروج المتفق عليه، أو الاعتذار في آخر لحظة لغير سبب جديّ، أو نسيان وإهمال ما تم تكليفه به، وهذا يؤدي إلى عرقلة الخروج وتأخيره وإيقاع الحرج ببقية إخوانه، ومن صفات المؤمن الوفاء بالوعد والعهد وعدم إخلافه.  

وإن كانت الرحلة عائلية فالأب هو المسؤول عن الرحلة وتنظيمها وعلى أفراد الأسرة معاونته والالتزام بالمهام التي توكل إليهم، وعلى الأب أن يستغل مثل هذه الرحلات في غرس قيمة تحمل المسؤولية في أبنائه، فيوزع عليهم الأدوار حسب أعمارهم ومهاراتهم.

كما تستطيع الأم في مثل هذه الرحلات تعليم البنات ما يتعلق بإعداد الطعام وتجهيزه ونحو ذلك . 

الثالث : الاهتمام بأمر الصلاة والاستعداد لها والتحقق من دخول وقتها، والأذان لها مع استحضار عظيم الأجر فيه ،    فأبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- يقول لرجل ناصحا: إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ لِلصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيءٌ ، إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم  رواه البخاري، مع المحافظة على صلاة الجماعة في البر، وفي ذلك أجر عظيم كذلك كما ذكره بعض أهل العلم مستدلا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَإِذَا صَلَّاهَا بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَأَتَمَّ وُضُوءَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا؛ بَلَغَتْ صَلَاتُهُ خَمْسِينَ دَرَجَةً" صحيح الجامع .

ويستطيع الأب أن يوكل أمر الصلاة والأذان إلى بعض أبنائه الذكور ليغرس فيهم قيمة حب الصلاة والاهتمام بها، ويعلمهم الأذان والإقامة، وطريقة الاقتصاد في الوضوء وعدم الاسراف في استعمال الماء.

كما يمكن تطبيق بعض سنن الصلاة في البر والتي لا يستطاع فعلها في المسجد كالصلاة بالنعال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " صَلُّوا فِي نِعَالِكُمْ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ " صحيح الجامع .

كما عليهم أن يتعلموا أحكام القصر والجمع إن كانوا على سفر، وبعضهم يجمع بين الصلاتين في البر من غير سفر أو عذر يبيح الجمع، وهذا لا يصح .

كذلك تعلم أحكام الطهارة وطريقة الاستجمار والتيمم عند فقد الماء .

الرابع: حسن اختيار المكان، مع إعطاء الجيران الذين سبقوهم بالجلوس حقهم، فلا يزعجوهم أو يفعلوا من الأمور ما يضايقهم، وإن كانوا رجالا فلا يجلسون بجانب من خرج مع عائلته، بل يختارون مكانا بعيدا عنهم حتى لا يتأذى النساء بقرب الرجال. 

ومن المخالفات المعاصرة إيذاء الجالسين بأصوات الدراجات العالية، والتسابق بها في أمكان جلوس الناس، وربما وقعت حوادث دهس وتصادم بسبب ذلك، فمن أراد استعمال هذه الدراجات فعليه اختيار المكان المناسب المعد من قبل البلديات، أو الأماكن الخالية من العائلات والجالسين. 

الخامس : حسن اختيار الصحبة في الرحلات، من ذوي الصلاح والتقوى والاستقامة والأخلاق الحسنة، لما لهم من أثر بالغ في تحقيق مقصد الرحلة والخروج إليها.

وعدم الخروج مع من لا يُعرف حاله، أو الخروج مع أصحاب الأفكار المنحرفة من أهل الجماعات والتحزبات، ومن يطلبون السرية في أعمالهم، فإنهم على شر وسوء، ومن يتكلم على ولاة الأمور ويحرض عليهم، ويروج لدعاة الفتنة، فإن صحبتهم وبال على الخارج معهم . 

والخروج إلى المزارع والجبال للتنزه كان من طريقة بعض الخوارج في عصرنا، ليتقربوا للشباب بواسطتها، ويجمعوا أكبر عدد منهم بالأنشطة المصاحبة والمسابقات والألعاب، ثم يدسون السم في العسل، فيحرضونهم على ولاة أمرهم وعلى أوطانهم.

ولا يخرج كذلك مع أصحاب الشهوات من المضيعين لحقوق الله وحدوده، لما قد يرتكبوه من معاصي، تضر الخارج معهم في دينه ودنياه .  

السادس : المحافظة على نظافة المكان بعد تركه، وتجميع النفايات والمخلفات في أمكان مخصصة لأجل وضعها في مكب النفايات، وذلك مبدأ شرعي راق، وشعبة من شعب الإيمان، تدل على سماحة الإسلام وعنايته بالبيئة وصحة الإنسان، قال صلى الله عليه وسلم: الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ" رواه مسلم .

وترك هذه المخلفات فيه إلحاق ضرر بالإنسان والحيوان، بسبب ما تحدثه من روائح كريهة، تجلب الذباب والهوام، فيتأذى من يريد الجلوس في هذا المكان، وربما أكل بعض الحيوانات المخلفات البلاستيكية فماتت، كما حدثني بذلك بعض أصحاب الإبل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا ضرر ولا ضرار " رواه ابن ماجه.

وفي جمع النفايات ورميها في المكان المناسب طاعة لولي الأمر الذي أمر بذلك وحث عليه.

ومن المحافظة على المكان عدم قضاء الحاجة في الأماكن التي يمكن للناس أن يرتادوها ويجلسوا فيها، حتى لا يُعرّضَ الناس للأذى، ولا يُعرّض نفسه لدعاء الناس عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ . قَالُوا وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
 قَالَ:  الَّذِى يَتَخَلَّى فِى طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ . رواه مسلم

السابع : المحافظة على الأذكار الشرعية في البر، خصوصاً أذكار الصباح والمساء، وذكر النزول كما قال صلى الله عليه وسلم: " مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً ثُمَّ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. لَمْ يَضُرُّهُ شَيءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ" رواه مسلم 
وذلك أن هذه الأمكنة قد يسكنها بعض الجن والشياطين، وتوجد  بها بعض الهوام الضارة كالأفاعي والعقارب، خصوصاً فترة دخول الليل فإنها تظهر وتنتشر ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ - أَوْ أَمْسَيْتُمْ - فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ وَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ »." متفق عليه وفي رواية عند البخاري : " وَاكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ عِنْدَ الْعِشَاءِ ، فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً " 

الثامن : لا تنس عائلتك من الخروج في مثل هذه الرحلات، فإن بعض الرجال يكثرون من الذهاب مع أصحابهم إلى البر للنزهة ويترك زوجته وأولاده دون أن يخرج بهم ومعهم، فحسن العشرة مع الأهل والذرية يقتضي الترفيه عنهم بما يدخل السرور على أنفسهم.

التاسع: التخلق بمحاسن الأخلاق في التعامل مع الإخوة والأصحاب في الرحلات، وذلك من كمال الإيمان، ومما يزيد العبد رفعة عند الله وعند الناس، فلا يتكبر على إخوانه بل يتواضع، ويسعى لخدمة إخوانه ومساعدتهم، فإن بعضهم يجلس في مكانه آمراً ناهيا ً دون أن يقوم بأي عمل، والصحيح أن يشارك أصحابه عملهم .

وإذا وَجد المرء منكراً في أثناء الرحلة أُنكره بالمعروف، فإن لم يَستطع إنكاره رَفع الأمر للمسؤول دون أن يثير الخلافات التي تؤدي للتفرقة والتحزب. 

أخيرا لا ينس العبد الهدف الأسمى من وجوده في الحياة وهو عبادة الله سبحانه وتعالى وتوحيده، فعليه أن يستعمل كل ما خلقه الله له في هذه الدنيا لتحقيق هذا الهدف. 

وفقا الله جميعا لما يحبه ويرضاه . 

الأحد، 29 أكتوبر 2017

مقال : الألباني وبراءته من الفكر الثوري - رد على ما ذكره ( د ) جمال السويدي من تأثر جهيمان التكفيري بفكر الألباني السلفي-

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد ..

فإن من أشرف الناس بعد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والصحابة رضوان الله عليهم العلماء، فإنهم ورثة الأنبياء، وحملة الدين بعدهم، ومن يدافع عنه بالحجة والبرهان، ويرد كيد أهل الزيغ والبهتان، فما انحرف زائغ عن الشرع إلا وكانوا ضده مجتمعين، ولشبهاته كاشفين، ولدين الله ناصرين، لذلك لا يحبهم ويواليهم إلا أهل الحق.

ومن العلماء الذين شهد العالم بجهودهم في خدمة الدين والرد على أهل البدع والمحدثات، ودحض شبهات أهل التكفير والتنفير، الشيخ العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله وغفر له وأجزل له المثوبة .

ولأجل جهوده العظيمة فقد ابتلي رحمه الله كما ابتلي العلماء قبله بالنقد والتجريح بلا حجة ولا دليل صحيح، فاتهمه أهل الشبهات بالإرجاء، وتطاول عليه بعض الأصاغر فرموه بالتجهم، فدافع عنه أهل العلم، وبينوا مكانته وجهوده،  ولا يعرف لأهل الحق مكانتهم إلا أهله، ففي عام 1419 هـ تم تكريمه رحمه الله في المملكة العربية السعودية بأن حصل على جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية.

ومن رفعة الله سبحانه وتعالى لهذا الإمام أنك لا تكاد تجد دراسة علمية دينية إلا وكتبه عمدة في التصحيح والتضعيف، والاعتناء بحديث النبي صلى الله عليه وسلم رواية ودراية، فمثل هذا الإمام محله التوقير والإجلال لا الإهانة والإذلال.

وبالأمس قرأت – ولأسف – تغريدات في تويتر للدكتور جمال سند السويدي مؤلف كتاب السراب، عرّض فيها بالشيخ الألباني   - رحمه الله – واتهمه بما هو منه براء، إذ قال في تغريدة له : " الجماعه السلفيه المحتسبه نشأت في المدينه المنوره في منتصف ستينات القرن الماضي وتأثرت بأفكار الألباني،بما فيها الوهابيه.

وما ذكره د جمال عن تأثر جهيمان بفكر الألباني والوهابية على حد زعمه كلام عار عن الصحة تماما،  ولا يليق أبدا بالدكتور أن يقحم نفسه في هذا الاتهام، وهو الخبير – على ما يدعي- في الفرق والجماعات الإسلامية أو ما يسميه بالإسلام السياسي، وألف في موضوعه كتاب السراب، على ما فيه من ملاحظات حول نظرته للإسلام والسياسة، سأبين بعضها لاحقا بإذن الله . 

فالألباني رحمه الله وأئمة الدعوة في المملكة العربية السعودية - والذين يلمزهم ( د ) بالوهابية اتباعا لأعداء دعوتهم القائمة على محاربة البدع والشركيات- منهجهم منهج أهل السنة والجماعة، وهو منهج أهل الوسط والاعتدال، القائم على اتباع الهدي النبوي صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضوان الله عليهم وأئمة الهدى والنور من الأئمة والعلماء، وهذا المنهج من أهم أسسه التحذير من التكفير وحفظ دماء المسلمين وأموالهم واعراضهم، وتحريم الثورات بكافة أنواعها، ولا يرونها سبيلا للإصلاح والتغيير .

ولو استمع ( د ) لمناظرات الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله للتكفيريين، والتي امتدت لأيام وساعات لم ينهها في كل يوم إلا أذان الفجر لعلم منهج الشيخ وعقيدته القائمة على التحذير من التكفير والخروج على الحكام والثورات.

بل من أرّخ لفتنة المدعو جهيمان وأحداث فتنته ذكر أن الشيخ الألباني رحمه الله قد ناصحه وبين له عوار فكره وانحرافه، وكذلك الشيخ ابن باز رحمه الله وغيرهم من العلماء الأجلاء.

فلا يجوز أن ننسب انحراف جهيمان وفتنته للشيخ الألباني أو الشيخ ابن باز – رحمهما الله -فقط لأنه كان يحضر دروسهما، ويقرأ في كتبهما، فهذا ظلم وفيه مجانبه للمنهج العلمي الأكاديمي القائم على الموضوعية. 

ولا يجوز أن ننسب انحراف جهيمان وفتنته للدعوة السلفية النقية القائمة على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثر صحابته لأنه سمى جماعته باسم ( السلفية المحتسبة) فالعبرة بالمعاني لا بالمباني.

ولا ينبغي أبدا أن يكون الانترنت وموسوعاته وما يكتبه بعضهم في المنتديات مصدر التلقي في الحكم على الآخرين خصوصا أهل العلم ومن لهم مقام شريف في العالم، فهذا يتعارض مع الموضوعية في الطرح والنقد.

فهل يستطيع  ( د ) جمال أن يبرهن للقراء وجه التشابه بين فكر جهيمان التكفيري وعقيدة الشيخ الألباني  ومنهجه الذي بثه في كتبه وأشرطته ؟ 

ولو كلف ( د ) نفسه النظر في كتب الشيخ الألباني رحمه الله لرأى نقد الشيخ لجهيمان وفتنته، ومن ذلك قوله : " ومثل جماعة (جهيمان) السعودي الذي قام بفتنة الحرم المكي على رأس سنة (1400) هجرية، وزعم أن معه المهدي المنتظر، وطلب من الحاضرين في الحرم أن يبايعوه، وكان قد اتبعه بعض البسطاء والمغفلين والأشرار من أتباعه ، ثم قضى الله على فتنتهم بعد أن سفكوا كثيرا من دماء المسلمين، وأراح الله تعال العباد من شرهم" ينظر : سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/235)

ومن الأدلة المعاصرة على عقيدة الشيخ -رحمه الله- ومنهجه تجاه التكفير والثورات موقفه من الثورة المسلحة التي حدثت في الجزائر أيام الفتنة، فحذر - رحمه الله - منها وكشف شبهات الثوريين والتكفيريين، وكذلك إخوانه من العلماء كالشيخ ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله، حتى أن حكومة الجزائر أذاعت هذه الفتاوى للمشايخ الثلاثة عبر مكبرات الصوت في الشوارع وفي وسائل الإعلام المختلفة، الأمر الذي كان له أثر فعال في إنهاء الثورة ورمي السلاح والاستسلام للحكومة.

فمثل هذه العقيدة لهؤلاء الأئمة تكون سببا في خروج جهيمان وحدوث فتنته ؟ 

واستغرب من ( د ) جمال ثناؤه على دعوة جمال الدين الأفغاني في كتابه السراب، وهذه الشخصية عرفت بأنها شخصية ثورية سياسية منحرفة، ومع ذلك قال ( د) عنها في ص 66 : " ولماذا أجهضت حركة الإصلاح الديني الواسعة التي بدأت على يد العديد من الفقهاء والمفكرين المسلمين من أمثال الشيخ حسن العطار وقاسم أمين والأئمة محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي ، وغيرهم من رواد النهضة في العالمين العربي والإسلامي منذ الثورة الفرنسية .." 

فاعتبر ( د)  حركة جمال الدين الأفغاني حركة إصلاح ديني، مع أنه المؤسس الحقيقي لما يسمى بالحاكمية والإسلام السياسي الثوري الذي انتقده ( د ) جمال في كتابه السراب.

قال خامئني المرشد الأعلى في إيران في كتاب خليفة الإمام الراحل ص .348 : " إن مسألة الحاكمية والبعث الإسلامي الجديد طُرحتا للمرة الأولى في القضاء العالمي على يدي السيد جمال الدين " ، وقال عنه تلميذه ميرزا حسين خان دانش الأصفهاني نزيل الآستانة : " ولهذا أقول : إن السيد لم يكن شيئا سوى رجل ثوري المقصد ، ناري الطبع ، على بصيرة وعلم ، وكان داعية للهياج ، فلسفي المشرب ، غليظ القلب ، شديد البطش ، ولم يكن مؤمنا بإمكان رقي شعب في سلم التطور والتكامل " ينظر : حقيقة جمال الدين الأفغاني 1/ 108 .

فرجل مثل هذا تصفه بأنه من رجال الإصلاح الديني، وتنسب فكر جهيمان الثوري للشيخ الألباني، الذي حذر من الثورات وصرح بحرمتها في كتبه ومحاضراته، إن هذا لشيء عجاب .

كذلك من العجيب عند ( د ) جمال في كتابه السراب ثناؤه على الثورة الفرنسية - وأنا أسميها الثورة الفرنسية البائسة-  وثناؤه على مفكريها، واستشهاده بآراهم وأفكارهم، مع ما تحتويه الثورات – ومنها الثورة الفرنسية البائسة – من قيم الضياع والهلاك والدمار، الذي ثبت للعالم بدليل واقعي شهد به الجميع.

أما الشيخ الألباني رحمه الله وأئمة الدعوة النجدية الذين يلمزهم ( د ) بالوهابية فهم ضد منهج جمال الدين الأفغاني ومنهج الثورة الفرنسية البائسة، لأنه منهج ثوري مشابه لمنهج وطريقة جهيمان. 

فمن الذي تأثر بفكر الآخر  ؟ 

ولكن أقول : لو تأثر جهيمان التكفيري بفكر الألباني والوهابية -كما يسميهم الدكتور- لما خرج ولا حدثت هذه الفتنة، ولكنه خالف عقيدتهم ونصحهم فأصبح من الهالكين.


أخيرا أذكر ( د ) جمال بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : "إن الله قال: من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب.." 

أخي ( د ) جمال : هذه نصيحة مريد للخير لك، فليتسع صدرك لها، فإن كانت حقا فاتباعها اتباع للحق وليس لقائلها، وإن كانت مجانبة للحق والصواب لم تضرك.

فاللهم ارحم الشيخ الألباني وعلماء الأمة واجزهم خير الجزاء .

وفقني الله وإياك أخي ( د ) جمال لما فيه الخير وهدانا لمعرفة الحق واتباعه، وصرف عنا مضلات الهوى، إنه على كل شيء قدير .

الاثنين، 2 أكتوبر 2017

مقال : التنبيهات اللطيفة على مقال ( قبوريون ولكن..) للكاتب عبد الله الشويخ

                    بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد ..

فمن المعلوم عند العقلاء أن الحكم على أي موضوع يعتمد على ثلاثة أمور، لا يصح الحكم بدونها مجتمعة .

الأول : تصور الموضوع تصورا صحيحا، فلا يدخل فيه ما ليس منه، ولا يخرج عنه ما كان فيه، وقديما قيل : الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

الثاني : الدليل الصحيح الذي يناسب الموضوع.

الثالث: الاستدلال الصحيح بهذا الدليل، وتنزيله على الموضوع المراد الحكم عليه من خلاله.

فمن فاته شيء من هذه الأمور جانبه الصواب في حكمه، ووقع في الخطأ من حيث لا يدري وهو يظن أنه يحسن صنعا، فكيف لو فاتته الأمور الثلاثة مجتمعة .

ومن الأمثلة الواقعية التي جاء الحكم فيها مجانبا للحق والصواب، مقال بعنوان : قبوريون ولكن ... للكاتب عبد الله الشويخ ، نشر في صحيفة الإمارات اليوم بتاريخ 1/10/2017.

تعرض فيه الكاتب لمسألة رآها مسلية، وهي قضية القبور والاهتمام بها، والتي أدت إلى حروب فكرية بين صنفين متطرفين وهما : متطرفي اليمين وهم حسب ترتيب كلامه من يحاول تطبيق السنة المطهرة، ومتطرفي اليسار وهم ضد التيار الأول.

وهذا التقسيم – تيار اليمين وتيار اليسار – ليس معروفا لدى المسلمين، خصوصا وأن المقال يبحث الخلاف في مسألة شرعية، وإنما عرف لدى الغرب والنظام الديمقراطي الذي يقسم الأحزاب إلى حزب اليمين وحزب اليسار.

ثم من الخطأ البين أن يصف الكاتب من يسعى لتطبيق السنة في القبور بالمتطرف، حيث قال : " لطالما  شكلت القبور والأضرحة حيزا مسليا لمشاهدة الحروب الفكرية بين متطرفي اليمين ومتطرفي اليسار" ثم فسر متطرفي اليمين بقوله " فطائفة تريد أن تكون القبور على السنة المطهرة" وبين التطرف في تصرفهم بقوله : " تندفع إلى تطبيق تلك الرغبة بأسلوب لا يزعج الأموات فقط، بل ويزعج الأحياء .." ولنا مع هذه العبارات والأوصاف وقفات:

الأولى: الأولى بالكاتب أن يصور الموضوع تصويرا صحيحا قبل أن يخوض في الحكم والتصنيف، فكلامه على مسألة ذكرها علماء الإسلام في كتب السنة والعقيدة، وإذا كانت بهذه الأهمية فلا مجال لوصف الخلاف حولها بالمسلي .

الوقفة الثانية : الخلاف الفقهي المعتبر القائم على الاجتهاد محترم بين أهل العلم وتتسع صدورهم للمخالف، والخلاف الشاذ أو الضعيف القائم على غير دليل صحيح يرد . والقول بالمنع في هذه المسألة مبني على أدلة شرعية،  ومن ذلك ما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه»، وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم ما ارتفع من البناء عليه، فعن أبى الهياج الأسدي قال: قال لي على بن أبى طالب ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته. رواه مسلم 

وهذا هو الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم، فطبقوا ذلك على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، مع عظم مكانته في نفوسهم، فعن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحد له لحد، ونصب اللبن نصبا، ورفع قبره من الأرض نحوا من شبر). 

وروى مسلم أن  ثمامة بن شفى قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس – جزيرة في البحر المتوسط حاليا-  فتوفى صاحب لنا فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوى ثم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بتسويتها.

وهو كذلك ما حكم به الأئمة الأعلام من المجتهدين والمفتين، قال محمد بن رشد القرطبي المالكي: كره مالك البناء على القبر، وأن يجعل عليه البلاطة المكتوبة؛ لأن ذلك من البدع التي أحدثها أهل الطول إرادة الفخر والمباهاة والسمعة، فذلك مما لا اختلاف في كراهته "  ينظر البيان والتحصيل (2/2019-220)

وقال النووي الشافعي رحمه الله : " قال الشافعي والأصحاب : يكره أن يجصص القبر، وأن يكتب عليه اسم صاحبه أو غير ذلك، وأن يبنى عليه، وهذا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال مالك وأحمد وداود وجماهير العلماء .." المجموع  5/266

مع العلم أن الكراهة عند العلماء المتقدمين تحمل على كراهة التحريم والمنع .

فهل هؤلاء الأئمة يدخلون في قسم متطرفي اليمين ؟



الوقفة الثالثة : قول الكاتب : " المبالغة في قياس إيمان المرء وعقيدته وكفره وصلاحه بمجرد الخلاف معه على نظرته لهذه القضية "  هذه من المبالغات التي لا سند لها، وإلا فإن بناء الأضرحة على القبور مخالف للهدي النبوي ولما كان عليه الصحابة رضوان لله عليهم، ولا يصل الأمر إلى تكفير فاعله .

وأما الكفر الذي تشير إليه فهو ما ذكره أهل العلم من صرف العباد العبادة لغير الله تعالى، فيتوجه بسؤاله ودعائه ورغبته ورجائه للولي أو الصالح في القبر، وهذا لا شك أنه كفر، كما دلت عليه النصوص .

قال تعالى : " وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ،وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ" الأحقاف 5-6

و عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال « قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل لي عملا أشرك فيه غيرى فأنا منه برىء وهو للذي أشرك ».


وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك قبل وفاته واشتد نكيره على من فعله.


فروى البخاري في صحيحه عن عائشة وعبد الله بن عباس قالا : لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه ، فقال وهو كذلك « لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » . يحذر ما صنعوا.

مع التنبيه على أن الفعل قد يطلق عليه أنه كفر، ولا يطلق اسم الكفر على من فعله، إلا بعد قيام الحجة، وبيان الدليل، وإزالة المانع، ولا يكون ذلك إلا للعالم ولولي الأمر والقضاة، وليس لأفراد الناس . 

ثم نرى الكاتب قد انتقل نقلة نوعية كبيرة في حديثه عن الأضرحة والخلاف المسلي فيها بين تيار اليمين وتيار اليسار، فتحدث عن أهمية الأضرحة في حفظ التاريخ والأحداث المتعلقة بالأسر، وقد أصيب بالإحباط لما نظر إلى المقبرة وإلى القبور فلم ير أي معلومة تاريخية مسجلة على القبور تدل على أصحابها وعلى الأحداث التاريخية والأسباب التي أدت إلى وفاتهم .

وهذا الأمر يدل دلالة واضحة على عدم تصور الكاتب لصورة المسألة التي ذكر الخلاف المسلي فيها.

وإلا فمتى كانت القبور وما بني عليها سجلات تحفظ لنا التاريخ ؟ 
 زيارة القبور – إخواني القراء – شرعت لأخذ العبرة والعظة وتذكر الآخرة، وليس لدراسة تاريخ من مضى ومعرفة أسباب فناء الأسر وزوالهم، قال صلى الله عليه وسلم : " إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة " 

وأخيرا أقول : أخي الكاتب وفقني الله وإياك والقراء للخير ، مسائل الخلاف الشرعي لا تطرح بهذه الصورة التي ذكرتها في مقالك، خصوصا إذا تعلق الأمر بمسائل تكلم فيها جهابذة العلماء، والخلاف فيها له وجهه، ولا نحكم على المسائل من تصرفات الأفراد وممارساتهم، بل نقرر الحق الذي نعتقده، وننتقد الممارسات الخاطئة ونسعى لتصحيحها، مع سعة الصدر في المسائل الخلافية المعتبرة التي تتسع فيها دائرة النظر وتختلف، لاحتمالية الدليل. 

وحفظ التاريخ والتراث متعين ومهم، ولكن ليس على حساب الدين وأسسه، فكما ذكرت أنت فقلت : " هناك 1000 طريقة وطريقة لحفظ المعلومات دون الخوض في قضايا خلافية.
" فلو التزمت بما سطرته يمينك لأحسنت الصنع .


والحمد لله رب العالمين .

كتبه د . أبو محمد سعيد بن سالم الدرمكي 
  

الجمعة، 21 يوليو 2017

مقال : المخرج من الفتن ( 2 )

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، أما بعد ..

إخواني الأفاضل 

قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ" رواه مسلم ، وإنّ مما بينه لنا النبي صلى الله عليه وسلم الفتن وطريق النجاة منها ليسلم المسلم على دينه ونفسه وعقله وعرضه ونسله وماله.

ومن الأحاديث التي بين فيها النبي صلى الله عليه وسلم الفتن وحذر منها والطريق المنجي منها ما رواه البخاري ومسلم عن حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ – رضي الله عنه – قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟
قَالَ: « نَعَمْ » . 
قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ ؟
 قَالَ: « نَعَمْ ، وَفِيهِ دَخَنٌ » .
 قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ ؟
قَالَ : « قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْىٍ ، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ » . 
قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟
قَالَ « نَعَمْ ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا » . 
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا . 
قَالَ: « هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا » . 
قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ ؟
قَالَ: « تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ » . 
قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ.
قَالَ « فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا ، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ ، وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ ».

فما أوضحه من بيان، وأدقه من تعبير .

فذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم الفتنة وطريق الخلاص منها بأوجز عبارة، وجعلها قاعدة كلية، تبين للمسلم الطريق الواجب سلوكه عند اختلاف الأمور واختلاط الأحوال وكثرة الشبهات.

والفتنة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث فتنتان:

الأولى : فتنة الشبهات والتحريف والاختلاف في أحكام الدين، حتى لا يُعرف حق من باطل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا، هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا" وفي رواية عند أبي داود : " فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ عَلَيْهَا دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ النَّارِ" أي تعمي وتصم عن اتباع الحق، أو أنّ الناس لا يعرفون الحق فيما من الباطل لكثرة الاختلاف والافتراق، وفي تمام الحديث قال صلى الله عليه وسلم: " فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا" فدل على وجود أحزاب وفرق مختلفة.

الثانية : فتنة الخروج على ولاة أمر المسلمين، ولذلك قال : " تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا .. " 

ثم ذكر صلى الله عليه وسلم العلاج من هاتين الفتنتين المتمثل في :

العلاج الأول : لزوم جماعة المسلمين وإمامهم. 

والجماعة جماعتان : جماعة الدين والحق وأهله ،  فالاجتماع المأمور به هو الذي يكون على الكتاب والسنة على طريق سلف الأمة رحمهم الله من الصحابة والتابعين والعلماء الربانيين .

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجماعة في حديث الافتراق، فقال : " وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ في النَّارِ وَوَاحِدَةٌ في الْجَنَّةِ وَهِىَ الْجَمَاعَةُ" رواه أبوداود.وفي رواية عند الترمذي " ما أنا عليه وأصحابي" 

الجماعة الثانية : الاجتماع على إمام المسلمين وجماعته مهما كانت صفة هذا الإمام من حيث العدل أو الفسق والظلم، فقد وردت رواية في صحيح مسلم بين فيها النبي صلى الله عليه وسلم صفة لبعض هؤلاء الأئمة الذي حث على لزومهم فقال : يَكُونُ بَعْدِى أَئِمَّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَاي وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِى جُثْمَانِ إِنْسٍ" فصفتهم مخالفة الشرع، وعدم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لما سأله حذيفة: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ ؟
فذكر له العلاج من هذه الفتنة فقالَ له « تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ » . 

العلاج الثاني: اعتزال هذه التحزبات والفرق كلها وعدم اتباع واحد منها، وفي رواية عند أبي داود قال صلى الله عليه وسلم: " فَإِنْ تَمُتْ يَا حُذَيْفَةُ وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جِذْلٍ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَتَّبِعَ أَحَدًا مِنْهُمْ " 

 فدل الحديث النبوي على أن لزوم جماعة المسلمين وإمامهم الذي عليهم، وترك الخروج عليه، وعدم اتباع التحزبات والفرق الخارجة على جماعة المسلمين وإمامهم هو الطريق المنجي من الفتن ومن سوء عاقبتها.

فأين دعاة الفتن والثورات والربيع العربي من هذا التوجيه النبوي وهم يفرقون المجتمعات إلى أحزاب تسمى بأحزاب المعارضة، وأحزاب دينية، وأحزاب دنيوية، تتقاتل فيما بينها للوصول إلى الحكم، وكل مها يكيد للآخر .

أين دعاة الفتن والثورات والربيع العربي من هذا التوجيه النبوي وهم يدعون الشعوب للخروج عن جماعة المسلمين والخروج على الحاكم بحجة عدم صلاحيته للحكم والسلطة، والنبي صلى الله عليه وسلم بينّ في الحديث حالتين لا ثالث لهما :

الأولى : وجود حاكم على الجماعة المسلمة، فأرشد إلى لزومه وعدم الخروج عليه، مهما كانت صفته وحاله.

الثانية: عدم وجود حاكم على الجماعة المسلمين، فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ترك هذه الأحزاب كلها، وعدم اتباع واحد منها دينية – بدعية -  كانت أو دنيوية.

وقد دل الواقع المرير في أحداث ثورات الربيع العربي التي خالفت فيها الشعوب هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن سوء عاقبة مخالفة الهدي النبوي، فوقعت في الذل والمهانة والقتل والتشريد والنهب . 

فمن أراد النجاة فليزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام .

 وفقنا الله لما يحيه ويرضاه . 

الاثنين، 17 يوليو 2017

مقال : المخرج من الفتن ( 1 )

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ، أما بعد ..

إخواني الأفاضل 

     روى الطبراني وغيره عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي، قَالَ: تَرَكْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ، إِلَّا وَهُوَ يُذَكِّرُنَا مِنْهُ عِلْمًا، قَالَ: فَقَالَ: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَقِيَ شَيْءٌ يُقَرِّبُ مِنَ الْجَنَّةِ، ويُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ، إِلَّا وَقَدْ بُيِّنَ لَكُمْ» ومما قد بينه لنا النبي صلى الله عليه وسلم الفتن، فحذر منها وبين أسبابها والطريق المنجي منها، وفي هذا الزمان رأينا مخالفة الناس للهدي النبوي في التعامل مع الفتن، فضيعوا دنياهم وأخراهم، ومكنوا عدوهم منهم، وأضعفوا أنفسهم وبلدانهم حتى أصبحوا لعبة يتحكم بها الأعداء والأحزاب المتعاونة مع العدو.

وإذا تأملنا النصوص الشرعية الصحيحة الواردة في الفتن والاختلاف، نجد النبيّ صلى الله عليه وسلم يحذر منها ويذكر العلاج والمخرج منها.

ولا شك ولا ريب أن العلاج والمخرج الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم هو سبيل النجاة.

فلنتأمل بعض هذه الأحاديث التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها الفتن وطريقة النجاة منها .

روى مسلم في صحيحه عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ ... إِذْ نَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلاَةَ جَامِعَةً. فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا في أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا.  وَتَجِىءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي. ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ. فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ »

 فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ لَهُ أَنْشُدُكَ اللَّهَ آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ وَقَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي. فَقُلْتُ لَهُ :هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا وَاللَّهُ يَقُولُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) قَالَ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. 

فتأمل معي -أيها الموفق- حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقد حذر من الفتن، وبين اختلاف درجاتها، وأن بعضها أهون من بعض، وبين أن هذه الفتن تقود إلى النار بقوله : " فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ " وأن النجاة منها سبب لدخول الجنة، ثم ذكر العلاج وهو : 

أ - فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ . 

ب -وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ.

ج -وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ.

فجعل العلاج في أمور ثلاثة، أولها تحقيق الإيمان وهو أداء حق الله، وثانيها حسن التعامل مع الخلق وهو حق الغير، وثالثا السمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، والدفاع عنه ومناصرته.

فإن حقق العبد هذه الثلاثة فقد نجا من الفتن، وفاز بإذن الله بالجنة ونجا من النار، ومن أخلّ بواحدة منها وقع في الفتنة ولا بدّ .

ثم أورد في تمام الحديث اعتراضا، يكثر ذكره في هذه الأيام، فقال عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ  لعبد الله بن عمرو راوي الحديث : " هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا وَاللَّهُ يَقُولُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) .

فذكر الاعتراض واستدل عليه بآية من القرآن، فالحاكم – كما يزعم – يأمر بما نهى الله عنه من عدم أكل أموال الناس بالباطل، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ففي هذه الأوامر معصية لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

فجاء الرد من الصحابي رضي الله عنه الفقيه بالفتن وعلاجها : " أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ

فأين دعاة الفتن والثورات والربيع العربي من هذا التوجيه النبوي، الذي يضمن للأمة السلامة والنجاة من مهلكات تنغص عليهم دنياهم وأخراهم.

أين دعاة الفتن والثورات والربيع العربي من هذه التوجيهات النبوية وهم يحثون الشعوب على الخروج على حكامهم والخروج في مظاهرات شعارها الحقيقي رفض الشعوب للبيعات التي في أعناقهم لحكامهم، والمطالبة بعزلهم عن الحكم تحت شعار : ارحل ارحل ، والشعب يريد إسقاط النظام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ. " 

ثم يحتج دعاة الفتن والثورات بأن هذا الحكم خاص بالإمام العدل الثقة، مع أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر كلمة ( إمام) وهي نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط من الصيغ الدالة على العموم، فتشمل أي أمام له سلطة وشوكة، وكذلك الصحابي لما سُئل عمن يفعل المعاصي من الأئمة ويخالف الشرع قال : " أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ " 

فإذا أردنا السلامة لنا ولأبنائنا ومجتمعنا في الدراين والنجاة من الفتن فلنتمسك بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم .

وفقنا الله جميعا لطاعته 


الأربعاء، 12 يوليو 2017

مقال : حصاد ثورات الربيع العربي المر

الحمد لله رب العالمين
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله... أما بعد : 

فإنّ الناظر في الثورات على الحكام على مر الأزمان، لا يرى فيها إلا التهلكة وضياع النعم والأمان.

فلو قلبت ناظريك -أخي الموفق - في التاريخ الغابر والواقع المعاصر المرير لوجدت العجب وما يشيب له رؤوس الصغار من عواقب السوء التي ألمت بالشعوب جراء تطاولهم على حكامهم، ومخالفتهم لهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم في التعامل معهم.

لنتأمل هذا الحصاد المر الذي عانت منه شعوب الربيع العربي خلال الفترة من 2010م ولغاية 2014م .









دماء تسفك فقد قتل وجرح في ثورات الربيع العربي خلال الفترة من 2010 إلى 2014م ما يزيد على مليون ونصف مسلم ومسلمة .

أموال تنتهب، حيث بلغت الخسائر ما يزيد على 834 مليار دولار .

عوائل وأسر شردت ، فبلغ عدد اللاجئين ما يزيد على 14 مليون لاجئ .

عقول تطيش، حتى لا يدري القاتل لم قتل، ولا المقتول لماذا قتل.
ضيعت البلاد وهدمت البيوت والبنايات والجسور والطرقات.

تأملوا فيما وقع في مصر الحبيبة ، وما وقع في ليبيا التي لا زالت تنزف ومنذ سنين، وما وقع في اليمن السعيد، وأخيرا ما وقع ويقع في سوريا الخضراء التي تحولت لساحة يتقاتل فيها العدو.

وفي المقابل نسأل : 

هل حققت ثورات الربيع العربي  لشعوبها ما رجوه منها، وهم يصرخون في وجه حكامهم : ارحل ارحل ... الشعب يطالب بإسقاط النظام ؟

أين العزة والكرامة التي كانوا يأملونها ؟

أين الحريات التي زعموا أنهم قد حرموا منها ؟

خالفوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الحاكم، ولو قلنا إنه فاسق ظالم، فما هم فيه أعظم من ظلم الحاكم وفسقه وجوره.

ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ .

قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟

فقال: " لاَ؛ مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلاَتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ وَلاَ تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ.

فالنبي صلى الله عليه وسلم  أخبر عن صفة صنف من الأئمة، ووصف علاقتهم برعيتهم أنها من أسوأ العلاقات لدرجة البغض المتبادل بينهم، ودعاء كل منهم على الآخر، ومع ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرعية عن نزع يدهم من بيعتهم، مع بغض ما هم عليه من المعاصي والظلم، ما داموا مصلين آمرين بها.


فالزموا -حفظكم الله- هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم وحافظوا على دينكم ودمائكم ومكتسبات بلادكم وأمنكم لتأدوا الغاية من خلقكم وهي تحقيق العبودية له سبحانه . 

وفقكم الله لما يحبه ويرضاه . 



الاثنين، 3 يوليو 2017

مقال : من سبل النجاة من الفتن وتحقيق السعادة في الدراين

الحمد لله رب العالمين 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ...، أما بعد 


فمن المعلوم قطعا عند كل مسلم أنّ شريعتنا الإسلامية جاءت بتحقيق كل ما يكفل السعادة والراحة والطمأنينة للعباد في الدارين، ولأجل ذلك أمر الله سبحانه وتعالى العباد باتباع هذه الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أن ذلك من أسباب تحقيق الحياة الطيبة، فقال سبحانه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ " سورة الأنفال :24 . فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هي بما يدعونا إليه الله والرسول من العلم والإيمان وأن جميع أحكام الشريعة غايتها مصلحة العبد وسعادته.

ومن الأحكام التي جاءت بها الشريعة السمحة الغراء السمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين من الحكام والأمراء في غير معصية الله، لما يحققه ذلك من مصالح عظيمة للأفراد والمجتمعات والدول.

ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يقرر هذا الحكم في أعظم الوصايا وأعظم المناسبات، يقول العرباض بن سارية رضي الله عنه: وعظنا النبي صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب "

فتأمل - أيها الموفق - وصف الصحابي لتأثير هذه الموعظة عليهم، وكيف أنها بلغت فيهم مبلغاً عظيماً. 

فقال قائل يا رسول الله: كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟

فوصف الموعظة بأنها موعظة مودع، والمودع يوصي أحبابه بما يحقق نجاتهم وسعادتهم من بعده، وطلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يعهد إليهم بوصية جامعة تحقق لهم النجاة في الدراين.

فما هي هذه الوصية  ؟ 

تأمل معي أخي الحبيب وصية النبي صلى الله عليه وسلم :
-أوصيكم بتقوى الله.
- والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا .
-فإنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافا كثيرا.
-فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ.
-وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

فمن ضمن هذه الوصايا النبوية الأمر بالسمع والطاعة وإن كان الحاكم غير مستجمع لصفات الحكم، ولكنه اكتسبها بالقوة مثلا، فهو عبد حبشي، ومع ذلك تأتي الوصية للصحابة بالأمر بالسمع والطاعة له.

فما يترتب على السمع والطاعة للحاكم - ولوكان غير جامع للصفات الشرعية في الحكم- من المنافع والمصالح الشيء الكثير؛ ففيه صيانة للدماء من أن تسفك، وحماية للأموال من أن تنهب، وتحقيق للأمن في البلاد وبين العباد.

ولما خالفت الشعوب الإسلامية هذه الوصية بأن قامت بما يسمى بثورات الربيع العربي وقعت في الفتن وتحولت طلبات الحريات والحقوق إلى عبودية وذل ومهانة.

وهذه سنة ماضية في كل ثورة مخالفة للهدي النبوي في التعامل مع الحاكم عدلا كان أو ظالما، حتى قال ابن تيمية - رحمه الله - في منهاح السنة (3/391) وهو الخبير بالفتن وآثارها : 

" ولعله لا يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان، إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته"

وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (3/ 4) :

" الإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر" 

ومن تأمل كلام الأئمة في التحذير من الثورات والخروج على الحكام بحجة ظلمهم، ورأى الواقع المرير الذي تعيشه شعوب الربيع العربي، أيقن بصدق وصية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها المخرج من الفتن، والسبيل لتحقيق النجاة.

قال ابن القيم -رحمه الله- في تمام كلامه السابق : " ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على المنكر، فطلب إزالته، فتولد منه ما هو أكبر منه"  

فهلا أخذنا بوصية نبينا صلى الله عليه وسلم لننجو من مظلات الفتن ونحصل على الأمن والسعادة في الدارين .

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه . 

السبت، 1 يوليو 2017

مقال : مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم سبب للوقوع في الفتن

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد 

قال الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: " فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "  سورة النور: 63

يقرر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنّ من أسباب وقوع الفتن مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم بترك أمره أو فعل نهيه.

ولعل من الأحداث والأمثلة التي تبين هذا الأمر ما وقع للصحابة رضوان الله عليهم في غزوة أحد، حيث خالف الرماة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يلزموا أماكنهم على الجبل ولا ينزلوا منها مهما جرى من أمر، ولكنهم لما رأوا هزيمة المشركين، تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، وقالوا: يا قوم الغنيمة. فذكرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يسمعوا، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة.

فماذا كانت النتيجة ؟

أحاط المشركون بالمسلمين، وقتلوا منهم سبعين شهيدا، وجُرح النبي صلى الله عليه وسلم وسال الدم من وجهه، وأشيع أنه قتل، وفر بعض الجيش، ووقعت فتنة عظيمة .

ما السبب ؟ 

مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم .

والناظر في الفتن التي وقعت في بلاد المسلمين المعروفة ببلاد الربيع العربي يرى أثر مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا.

فالشريعة حرمت الخروج على الحاكم المسلم عدلا كان أو ظالما جائرا فاسقا، وأمرت بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين ما لم يأمر بمعصية، حقنا لدماء الرعية، وحفظا لأموالهم، وصيانة لدينهم وأعراضهم.

 ووضعت للخروج على الحاكم الكافر شروطا وموانع، لا يجوز الخروج عليه إلا بتحقق هذه الشروط وانتفاء هذه الموانع، ولكن لما خالفت الشعوب هذه السنة النبوية المتواترة وقعت في الفتن التي نعايشها ونرى أثرها.

والعلاج يمكن في رجوع المسلمين حكاماً ومحكومين إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فنهضة الأمة والدول لن تتحقق إلا باتباع السنة . 



وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه