الخميس، 6 ديسمبر 2018

مقال الدفاع عن السنة ج 2 ( السنة النبوية وحي من الله )


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد

فمن نعمة الله على البشرية أن أرسل إليها النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ومبشراً ونذيراً، ليدلهم على ربهم وخالقهم فيوحدوه بالعبادة، ويعرفهم الطريق الموصل إليه، والجزاء الذي يكون للطائعين، والعقاب المتوعد به المخالفين، قال تعالى : " كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ" [البقرة:151].

ولأجل تحقيق هذا المقصد أيّد الله سبحانه وتعالى نبيه بالوحي، وأنزل عليه القرآن الكريم، الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى، بواسطة جبريل عليه السلام، وجعل هذا الكتاب هادياً لأفضل الطرق وأقومها ، فقال سبحانه عنه : "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا" [الإسراء:9 ] وقال سبحانه : "الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" [إبراهيم: 1] .

وتعهد الله بحفظ هذا القرآن من التحريف والتبديل والتغيير، فقال سبحانه : " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " [الحجر:9 ].
وأوكل الله أمر بيان القرآن وتبليغه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" [المائدة:67].

فبلّغ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كما نزل، وأمر بكتابته وحث على حفظه في الصدور، كما بيّن صلى الله عليه وسلم الأحكام والعقائد التي نزلت فيه بأقواله وأفعاله وتقريراته، متبعا في ذلك الوحي الإلهي، لا يحيد  عنه ولا يخالفه.

فأنزل الله في القرآن قوله تعالى : "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" [البقرة:285] .

وينزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ويأتيه بصورة بشر ليسأله عن مراتب الدين الثلاث، الإسلام والإيمان والإحسان، وعن علامات الساعة ووقتها، وليبين للصحابة وللمسلمين أن ما ورد في الآية وفي غيرها من مثلها هو من أركان الإيمان بالله، والحديث رواه مسلم في صحيحه.

وأنزلَ الله في كتابه الأمر الرباني : " فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا"  [النساء:13] وقول الله تبارك وتعالى : " أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا" [الإسراء:78].

ثم يَنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ليبين له أوقات الصلوات الخمس في يومين متتاليين، فروى الترمذي وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أَمَّنِى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ..." 

ويُنزل الله سبحانه وتعالى الأمر بالصلاة في القرآن الكريم، فقال سبحانه : "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ" [البقرة:43]

ويَنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً أحكام هذه الصلاة وصفتها وشرائطها ومبطلاتها، فروى النسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه مواقيت الصلاة فتقدم جبريل ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلفه والناس خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ..." الحديث ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " صلوا كما رأيتموني أصلي " رواه البخاري.

ويصلي النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة وهو لابس نعليه، وفي أثناء الصلاة خلعهما، فلما قضيت الصلاة قال صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ جِبْرِيلَ صلى الله عليه وسلم أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا ، إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا".

ويُنزل الله الأمر بالحج في القرآن الكريم في قوله تعالى : "وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" [آل عمران:97].

ويَنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم يبين له مناسك الحج، ومن ذلك ما رواه البخاري عن عمر رضى الله عنه قال سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّى فَقَالَ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ"

وفي أمر التلبية ورفع الصوت قال صلى الله عليه وسلم : " أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ" رواه أحمد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للجموع الغفيرة التي حجت معه : "  لِتَأخُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُمْ" رواه مسلم.

ويُنزل الله سبحانه وتعالى تحريم الخمر في القرآن الكريم فقال سبحانه: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" [المائدة:90-91 ]

ويَنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً عظيم إثم شارب الخمر، وأنه مطرود من رحمة الله، فروى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَعَنَ الْخَمْرَ، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَمُسْتَقِيَهَا "

ويأتيه صلى الله عليه وسلم الوحي من السماء ليُعلمه بفضائل بعض سور القرآن، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيه عن  ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ" 

ويَأتيه صلى الله عليه وسلم الوحي من السماء ليبين له الطريقة التي يُتلى بها كتاب الله سبحانه وتعالى، فروى أحمد في المسند عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أَتَانِي جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ، قَالَ: اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، كُلِّهَا شَافٍ كَافٍ، مَا لَمْ تُخْتَمْ آيَةُ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ، أَوْ آيَةُ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ" 

والأمثلة على ذلك تطول، ولكنها تبين وبصدق قول الله تبارك وتعالى: " وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" [النجم:3-4]، فما كان صلى الله عليه وسلم ليعمل عملاً، أو يقول قولاً، أو يُقر أمراً دون وحي من الله سبحانه وتعالى.

ومما يدلنا على أن السنة وحي من الله إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور مستقبلية وقعت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، مع اعتقادنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وإنما هو إخبار من الله سبحانه وتعالى له عنها، ومن ذلك :

- إخباره صلى الله عليه وسلم عن خروج الخوارج وصفتهم، وقد وقع الأمر كما أخبر صلى الله عليه وسلم.

- إخباره بما سيقع لعمر ولعثمان رضي الله عنهما من القتل، وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فروى أحمد وغيره عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ، لَوْ كَانَ عِنْدَنَا مَنْ يُحَدِّثُنَا؟ " ... قَالَتْ: فَإِذَا عُثْمَانُ يَسْتَأْذِنُ، فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فَنَاجَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: " يَا عُثْمَانُ إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مُقَمِّصُكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى أَنْ تَخْلَعَهُ، فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ، وَلَا كَرَامَةَ " يَقُولُهَا: لَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا".

- إخباره بما سيقع من أشراط الساعة الصغرى، والتي قد وقعت وتحققت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كفتح بيت المقدس، وولادة الأمة ربتها، والتطاول في البنيان، واتباع سنن الأمم الماضية.


وغير ذلك كثير يصعب استقصاؤه في مقال واحد.

وكل ما ذكرت لك أخي القارئ يبين لك أن السنة النبوية من أقوال وأعمال وتقريرات إنما هي بوحي من الله تعالى، كما قال تعالى : " قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ" [الأنعام:50]

 ويتبين لك أنها مصدر من مصادر التشريع، لا يمكن الاستغناء عنها بحال، وقد بين الله في كتابه مكانتها في بيان القرآن فقال: " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" [النحل:44] ، فسمى الله السنة ذكرا، وبين المقصد منها وهو بيان ما أنزله الله إلى الناس من القرآن الكريم. 

فإذا أردنا تطبيق الإسلام وفهم أحكام القرآن فيتعين علينا العناية بالمصدر الثاني من مصادر التشريع وهو السنة النبوية، لأنها وحي من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.

عن حسان بن عطية رحمه الله (توفي عام 310 هـ) : " كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن " رواه ابن المبارك في الزهد، والمروزي في السنة

وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه .

الأربعاء، 28 نوفمبر 2018

مقال : الدفاع عن السنة ج 1

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد 

فمن سنة الله في خلقه أن جعل الصراع بين الحق والضلال مستمرا، قال تعالى: " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" 

ومن الضلال المستمر الطعن في سنة النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في كتب الحديث، واعتبارها من الموروث الثقافي.

مع أن الله سبحانه يقول : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما "

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بظهور أصحاب هذا الفكر المنحرف فقال : ألا إني قد أوتيت القرآن ومثله  ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه  وما وجدتم فيه من حرام فحرموه.

وقال صلى الله عليه وسلم: " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه وإلا فلا "

وقال صلى الله عليه وسلم: هلاك أمتي في الكتاب واللبن.
قالوا: يا رسول الله ما الكتاب واللبن؟
قال: يتعلمون القرآن فيتأولونه على غير ما أنزل الله عز وجل، ويحبون اللبن فيدعون الجماعات والجمع، ويبدون ".

وإلا لا يوجد عاقل قرأ القرآن وفهمه، وتتبع السنة وعلم مكانتها في التشريع، وعلم طريقة السلف في حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وصيانته من أي تحريف يقول بإنكار السنة وعدم صلاحيتها للتشريع والتدين .

 قال الشاطبي المالكي في الموافقات : الاقتصار على الكتاب رأي قوم لا خلاق لهم، خارجين عن السنة؛ إذ عولوا على ما بنيت عليه من أن الكتاب فيه بيان كل شيء، فاطرحوا أحكام السنة فأداهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله"

 قال الشافعي رحمه الله: " أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس" 

وقال الشوكاني : " والحاصل أن ثبوت حجية السنة المطهرة، واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الإسلام" 

كيف والذي يدعونا لترك السنة أصحاب فكر ليبرالي تنويري غربي مستورد منحرف لا يمت للإسلام بصلة بل هو عدو للإسلام.

فعلينا بأن نلزم الكتاب والسنة، ونهتدي بهدي السلف من الصحابة والتابعين والعلماء الربانيين، لنكون على الصراط المستقيم، ونحصل على رضا رب العالمين.

قال تعالى : "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" 


الأحد، 18 نوفمبر 2018

مقال : نعمة الزواج على العباد

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد

نعم الله على العباد كثيرةٌ لا تحصى، قال تعالى : " وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" [النحل:18] وإنّ من نعم الله على العبد الزواج، قال تعالى : "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" [الروم:21] ،فجعل سبحانه الزواج من آياته الدالة على قدرته ورحمته وعنايته بعباده، وجعل بينهما من المودة والرحمة ما لا يكون بينهما وبين غيرهما، فلا ألفة بين شخصين أعظم مما بين الزوجين، وبين الله سبحانه وتعالى العلة من هذا الزواج فقال : " لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا " وقال في آية أخرى : " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا" [الأعراف:189] ، والسكن يوحي بالطمأنينة والأمن والسكينة والراحة، وكل هذه المزايا متوافرة في الزواج.

وهذا السكن الذي أشار الله إليه في الآية فيه دلالة إلى قرب الزوجين من بعضهما، وقد وصف الله درجة القرب بينهما بقوله "هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ " [البقرة:178] واللباس هو أقرب ما يكون للبدن.

وبسبب هذا القرب تتولد المودة والرحمة بينهما ، فيعيشان مطمئنين سعيدين، مهما اختلفا أو تخاصما.

كما قد بين صلى الله عليه وسلم نعمة الزواج وفضله لكل من الزوجين،  فقال في الرجل يرزقه الله زوجة صالحة :" من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني " أخرجه الطبراني والحاكم ، وحسن الألباني إسناد الحديث لغيره (صحيح الترغيب ح 1916) ، فالمرأة الصالحة خير معين للرجل في دنياه، وفي تربية ولده وذريته، وفي أدائه لشعائر عبوديته لله تعالى .

ومن صفات هذه الزوجة الصالحة كما قال صلى الله عليه وسلم : خير النساء التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره " رواه أحمد والنسائي، وهو حسن ينظر السلسلة الصحيحة ح 1838

ومن صفاتها كذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم : أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِنِسَائِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْوَدُودُ، الْوَلُودُ، الْعَؤُودُ عَلَى زَوْجِهَا، الَّتِي إِذَا آذَتْ أَوْ أُوذِيَتْ، جَاءَتْ حَتَّى تَأْخُذَ بَيْد زَوْجِهَا، ثُمَّ تَقُولُ وَاللهِ لَا أَذُوقُ غُمْضًا حَتَّى تَرْضَى" رواه النسائي وهو حسن، ينظر صحيح الجامع ح 2604

وتأمل معي أخي الفاضل هذه المواقف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم التي تبين أثر المرأة الصالحة في حياة الرجل، فلما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء، وأصابه ما أصابه من الفزع، إلى أين ذهب ؟

ذهب إلى خديجة رضي الله عنها دون غيرها من أهل مكة، وكان لها رضي الله عنها الأثر البالغ في مواساة النبي صلى الله عليه وسلم وطمأنته.

ومن المواقف كذلك ما حصل في صلح الحديبية لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالتحلل من إحرامهم، فتأخروا في الاستجابة له، فدخل مغضبا على أم سلمة، فأشارت عليه برأي أذهب غضبه، وتبعه الصحابة رضوان الله عليهم .

ومن المواقف كذلك التي استفادت منها الأمة قاطبة ما نقلنه رضي الله عنهم من السنة الفعلية والقولية للأمة مما كان معهنّ في بيوتهنّ.

ولعل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على صدر زوجته عائشة رضي الله عنها يبين لك أيها الزوج مكانة الزوجة في حياة الزوج.

وفي المقابل اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الزوج الصالح من نعم الله على الزوجة ، فقال:" لعل إحداكن تطول أيمتها بين أبويها، وتعنس فيرزقها الله زوجا ويرزقها منه مالا وولدا " أخرجه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وأحمد، وهو صحيح ينظر السلسة الصحيحة ح 823 ، فسمى الزوج والولد رزقا، والرزق حقه الشكر لا الكفر، فمن شكرت بورك لها في زوجها وولدها.

والمرأة تتقرب إلى الله بطاعة زوجها، قال صلى الله عليه وسلم: إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحصنت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت" رواه أحمد .

أربعة أعمال : المحافظة على الصلاة ، وأداء الصيام، وتحصين العرض، وطاعة الزوج، والجزاء أن يقال للمرأة يوم القيامة : ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت.

ومما ورد في عظيم حق الزواج على زوجته ما رواه أحمد في المسند عن حصين بن محصن رضي الله عنه أن عمة له أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: أذات زوج أنت ؟
 قالت : نعم 
 قال فأين أنت منه؟
 قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه. 
 قال : فكيف أنت له فإنه جنتك ونارك.

إخواني القراء :

مما مضى يتضح لنا جليا نعمة الله علينا بالزواج، رجلا أو امرأة، فعلينا أن نشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة، بقلوبنا وألسنتنا وأعمالنا.

ومن شكر نعمة الزواج القيام بالحقوق والواجبات المنوطة بكل من الزوجين تجاه الآخر، وهذه الحقوق مما سيسألنا الله عنها يوم القيامة ، قال صلى الله عليه وسلم:" كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، ...والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها" رواه البخاري

والحمد لله رب العالمين 

الأربعاء، 17 أكتوبر 2018

الفكر اليبرالي والتنويري بوابة للكفر بالله والإلحاد.

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد .

نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان لا تعد ولا تحصى، وقال قال الله تبارك وتعالى : "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا" [إبراهيم:34] .

وإنّ أكبر نعمة يمتنُ الله بها على  العبدِ نعمة ُ الإسلامِ والإيمانِ واتباعِ السنة، قال تعالى : " يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" [الحجرات:17].

ولقد جاء هذا الإسلامُ بكل ما يحققُ المصالحَ للعبادِ ويدفعُ عنهم المفاسدَ في العاجلِ والآجل، ولذلك كان مهيمناً على جميع الشرائعِ التي سبقته، والتي حُرفت وبُدلت حتى صارت من وضع البشر، ففسدت.

فسعى أعداءُ الإسلامِ للنيل منه بشتى الطرقِ منذ بعثةِ النبي صلى الله عليه وسلم ولا يزالون، ولكنّ اللهَ حافظٌ دينه.

ومن جهودِ أعداءِ الإسلامِ للنيل منه نشرُ الأفكار المنحرفة التي تسعى لتحريفِ أحكامِ الإسلام، وحمل النصوصِ الشرعيةِ على غيرِ معانيها الصحيحة.

وهذا الأمر يتوصلون من خلالهِ إلى انسلاخِ المسلم من دينه ووقوعه في الكفر بالله بل والإلحاد، بكره الدين والتدين وإنكار وجود خالق.

ومن هذه الأفكار المدسوسة المنحرفةِ الفكرُ الليبرالي الغربي، وما يسميه بعض الغشاشين بالفكرِ التنويري، الذي يزعمون أنه يدعوهم لتحكيم العقلِ والبعدِ عن التقليد والموروث الديني.

والناظرُ في فكر الليبراليةِ وفكرِ التنوير يعلمُ أنهما بوابةٌ موصلةٌ للكفر بالله والإلحاد وهو ما يسمى بالفكر اللاديني.

فالليبراليةُ في أساساها تقومُ على فصلِ الدين عن الدولة، وعن حياة الأفراد، والتنويرُ يدعي أتباعهُ إعمالَ العقلِ وتحكيمه، وذلك بردِ النصوصِ الشرعية الثابتة لمخالفتها للعقل كما يزعمون، أو تحريفها عن معانيها الصحيحة والثابتة، الأمر الذي يؤدي بهم إلى الطعن في دين الله وفي أسسه وأحكامه، بل ويطعنون في ذات الله سبحانه وتعالى، مع التشكيكِ في ثبوت النصِ الشرعي وحفظه وتدوينه، مما يؤدي إلى الكفر بالله وبرسالاته أو إنكار وجودِ خالقٍ معبود، وكله تحت مسمى الحريةِ ونقدِ الموروث وعصرنة الإسلام ليكون متوافقاً مع قيم الحداثة الغربية ومنهج الفلسفة الأوروبية.

والغريب في أتباع هذا الفكرِ أنهم يحاربون ما يسمونه بالتقليدِ ويرفعونَ شعارَ نقد الموروث وعدم الوصاية الدينية للعلماء على الناسِ، ولكنهم في الوقت ذاتهِ ينعقون بقواعدَ وضعها فلاسفةُ اليونان  قبل الميلاد، وبشعاراتٍ موروثةٍ عن فلاسفةِ التنوير في العصور المظلمة في أوروبا، ويدّعون جهلاً واستكباراً أنها السبيل لتحرير عقولهم من هيمنة النص الشرعي، وفتاوى العلماء واجتهاداتهم، ويردد مفتيهم : حرر عقلك .

لقد سعى أصحابُ هذا الاتجاه إلى استنساخِ واقعِ أوروبا في العصورِ الوسطى مع الكنيسة، والثورةِ الفرنسية وما آلت إليه، واسقاطِ كل ذلك على الدين الإسلامي، متناسين الفرق الشاسع بين الإسلام المحفوظ من الله، وبين النصرانية المحرفة، وواقع الكنيسة المخالف لتعاليم الإسلام وأسسه وعقيدته.

ومن خلال هذا الطرح توصل أصحابُ هذا الفكر إلى ضربِ العقيدة الإسلامية وتحريف الأحكام الشرعية،  ومن ثم مخالفة الدين في أهمِ أركانه وأسسه، مما يؤدي إلى التحلل منه والخروج عن مضامينه. 

و اضرب لكم أمثلة منها : 

أحد التنويريين الليبراليين يدعي علما بالتفسير – وهو لا يحسن تلاوة آياته- يدعي أنّ علم الله سبحانه وتعالى علم قائمٌ على الرياضيات والاحتمالات ، فالله – تعالى عما يقول هذا الأفاك- لا يعلمُ ما سيحدث بل يضع عدة احتمالات لفعلِ الإنسان وهو يعلم الاحتمال الصحيح.

وهذا الانحرافُ العقدي لدى هذا الأفاك مأخوذٌ من بعض الفلاسفة مثل أفلاطون وجميس جنر وغيرهم ، الذين أطلقوا على الله سبحانه وتعالى (العقل الرياضي).

ألا يتعارض هذا مع عقيدة المسلمين من أنّ الله سبحانه وتعالى علمَ ما كانَ وما يكونُ وما سيكونُ وما لم يكن لو وقع كيف سيكون، وأنه قد كتب ذلك في اللوح المحفوظ.

روى أبوداود في سننه بإسناد صحيح عَنْ أَبِى حَفْصَةَ قَالَ: قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لاِبْنِهِ يَا بُنَىَّ: إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ. قَالَ رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ قَالَ اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ». يَا بُنَىَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّى »

ألا يعلم هذا الطاعن في علم الله سبحانه وتعالى اجماع الأمة على أن من أنكر علم الله أنه خارج من الملة كافر بالله وبرسالاته، قال تعالى :" وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ" [فصلت:22-23].

مثال آخر :

يقول محمد أركون – وهو من أصحاب هذا الاتجاه المنحرف- في كتاب له (الفكر الإسلامي قراءة علمية ) ص 102 : " على عكس ما تنطق المسلمة التقليدية التي تفترض وجود إله متعال ثابت لا يتغير، فإن مفهوم الله لا ينجو من ضغط التاريخية وتأثيرها، أقصد أنه خاضع للتحول والتغير بتغير العصور والأزمان" 

هذه نظرةٌ وفكرةٌ تدعم الإلحاد والكفر بالله وتعالى .

مثال آخر : 

 يخرج لنا تنويري ليبرالي ويدعي أنّ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في بيان أركان الإسلام والإيمان من الخداع والكذب، ويدعي أنّ من يعبد الأصنام والحيوانات فهو مؤمن، ويدعي أن من قال لا إله إلا الله وباليوم آخر مؤمن ولو لم يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم.

هل هذا هو الدين الذي أمر الله به ، ألم يقل الله تبارك وتعالى : " إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَ‍قًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا.

إنّ في هدم أركان الإسلام والإيمان الثابتة بالنص القطعي في كتاب الله، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم دعوة لنقض أصول الإسلام والكفر بالله وبشريعته.

وللأسف يقدم صاحب هذا الفكر في الإعلام على أنه مفسر عقلاني وعصري، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

مثال آخر :

إظهار بعض الليبراليين لبعض من عرف بالكفر والإلحاد في الإعلام والتغني بأشعارهم كرموز للتحرر العقلي، من أمثلة الحلاج وابن عربي ونزار قباني، مع مدح كتبهم وأشعارهم. 

ففي ذلك دعوة للنظر في هذه الكتب وهذه الأفكار، مما قد يتسبب في اعتناقها، والتأثر بها، وهي أفكار مخالفة للإسلام في أصول وعقيدته وأسسه.

مثال آخر :

دعوتهم لدراسة نظرية داروين، بل يتجرأ مفسرهم ليدعي أن أفضل نظرية يمكن أن تُفسر آيات الخلق في القرآن هي نظرية داروين، وينشرها ليبرالي آخر في حلقة من حلقات برنامجه ويزعم أن من لا يعترف بهذه النظرية فهو من أهل الإرهاب الفكري.

في حين أن هذه النظرية -كما يعرفها من فهمها- تعبتر بوابة للإلحاد، وإنكار الخالق -وإن لم يكن هذا هو محتواها-.

وتأثر بها كثير من النصارى بل ومن قساوستهم، فتركوا شريعتهم وأنكروا خالقهم ، وهذا أمر معلوم لا ينكره إلا مكابر.

والأمثلة كثيرة جدا وفيها إنكارهم وتحرفيهم لكثير من مسائل العقيدة التي اجمع عليها علماء الإسلام كالإيمان بالملائكة وبالكتب وبالرسل وباليوم الآخر، وبأسماء الله وصفاته .

فلا بد أن نعلم أن الفكر الليبرالي والتنويري هدفه علمنة الإسلام والطعن في محكمات الدين وأصوله وعقيدته، وهذا يفتح الباب للكفر بالله تعالى وللإلحاد وإنكار وجود خالق معبود.

فينبغي الحذر منه ومن دعاته فإنهم دعاة فتنة، ويلتبس أمرهم على الناس، حيث يتسترون بالدعوة للوسطية ومحاربة التشدد، فيدسون السم في العسل، ويحرفون الناس عن عقيدتهم ودينهم.

قال تعالى : " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" [آل عمران:7-8] 

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لعائشة « إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ » رواه مسلم .

والحمد لله رب العالمين.

الاثنين، 8 أكتوبر 2018

الفكر الليبرالي والتنويري بوابة الثورات


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد

فإنّ مما ابتلى الله به المسلمين الغزو الفكري الذي يهدف إلى زعزعة الثوابت والمسلمات من العقيدة الصحيحة الثابتة في كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى نزع الأمن الذي تعيشه بلاد الإسلام وسلب خيراتهم عن طريق الثورات والحروب الداخلية التي عانى منها الغرب قديما.

وإنّ الناظر في أحداث الثورات التي وقعت ولا تزال في بلاد العالم الإسلامي يرى دور الفكر الليبيرالي وما يسمى بالتنوير في اشعال نيران هذه الثورات.

يشعلون نيرانها باستعمال وقود الشعوب المغلوب على أمرها، والتي تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة، فيستغلونهم لتحقيق مبادئهم الخاصة والتي منها الهيمنة والسيطرة على نظام الحكم، ومنه الانطلاق نحو نشر فكرهم المنحرف، وهذا الهدف يشترك فيه أرباب الفكر الليبرالي والفكر الإخواني الذي انكشفت حقيقته للناس مؤخرا.

ولكن نجد من يقول : الفكر الليبرالي والتنويري يدعو لإعمال العقل والتطور ونبذ التشدد والغلو ...

فكر يدعو للحرية وقمع الاستبداد ...

فكر يدعو لنقد الموروث الذي يرجع الأمة لعصور التخلف والظلام.

فكر يكشف دور الظلاميين والنظام الكهنوتي في السيطرة على المجتمعات والأفراد.

وهذا في الحقيقة مثل من يقول : المخدرات تؤدي إلى راحة العقل والبال وتنسي الإنسان همومه ... الى آخر هذه المزاعم والمزاعم.

فإن ما ذكروه عن الفكر الليبرالي والتنويري كلام زائف.

وإذا أردنا أن نحكم على فكر ما فإننا نحكم عليه من خلال أراء منظريه وأتباعه ومن كتب فيه.

ومن نظر في كتب القوم من الليبرالية والتنويريين ومقالاتهم يرى أنهم بوابة كبرى للثورات، فإن كنا نحارب الفكر الإخواني والقاعدي والداعشي لأجل فكرهم الثوري، فالليبرالية والتنوير ليس بأقل خطورة منهم.

وسأبين لكم بعض الحقائق والأقوال الدالة على الفكر الثوري لدى الليبرالية والتنوير:

أولا : اطلاق مسمى الربيع على الثورات من صنع الليبرالية الغربية، جاء في موسوعة ويكيبيديا : " ربيع الشعوب أو الثورات الأوروبية عام 1848 تعرف أيضاً في بعض البلدان باسم ربيع الأمم وربيع الشعوب وعام الثورة، كانت سلسلة من الاضطرابات السياسية في جميع أنحاء القارة الأوروبية. وعدت من أكثر الموجات الثورية انتشاراً في تاريخ أوروبا .

ثانيا : جاء في نفس الموسوعة عند الكلام على عصر التنوير : كان عصر التنوير وما أنتجه من أفكار وضعية وعقلانية ملهماً لعدد من الثورات الاجتماعية والسياسية شهدتها أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أسفرت عن قيام الدولة الحديثة.

وهذا النص منشور في مقال في جريدة الاتحاد بتاريخ 23/6/2017م


ثالثا : أنقل لكم بعض المقاطع من مقالات منشورة لبعضهم : 
قال الكاتب  (د السيد ولد أباه ) في مقال منشور في صحيفة الاتحاد بتاريخ 10/12/2012م بعنوان : الفصل الليبرالي من الثورات العربية .


قال : " من الخطأ تصوير الانتفاضة الشعبية الراهنة في مصر بأنها من تحريك «فلول» النظام السابق، بل هي في عمقها المحطة الثانية الطبيعية من الربيع الليبرالي الذي هبّ على المنطقة العربية، وأرادت قوى إيديولوجية احتكار ديناميكيته التغييرية" .
ويقول كذلك في مقال آخر بعنوان : انتصار الليبرالية وانهزام الليبراليين!


" يتعين منذ البداية الإقرار أن صانعي الثورات العربية لم يكونوا في غالبهم من المنتمين إيديولوجياً وتنظيمياً للتيار الإسلامي، بل كانوا أقرب في شعاراتهم وممارساتهم الاحتجاجية للاتجاه الليبرالي، حتى ولو كان للتنظيمات الإسلامية حضورها الذي لا ينكر في هذا الحراك. " 

رابعا : تمجيد منظري الفكر الليبرالي لأرباب الفكر الثوري، فيعتبرون دعوة جمال الدين الأفغاني دعوة إصلاحية ويشيدون به وبحركته وجهوده، وهذا منشور في كتبهم، في حين أنّ جمال الدين الأفغاني من أكبر منظري الفكر الثوري، وتأثر به الاخوان وسيد قطب وحسن البنا، ومن أراد الاستزادة عن شخصية جمال الدين الأفغاني وفكره الثوري فعليه بكتاب الأخ الفاضل أحمد الشحي بعنوان : " شخصياتٌ معاصرةٌ شوَّهت الإسلام " وهو تحت الطبع، فقد أجاد في بيان فكره المنحرف وتأثر من بعده به.

خامسا : تمجيدهم للثورة الفرنسية ويسمونهما بأمّ الثورات ، ويعتبرونها سبب التخلص من التخلف والظلم والدين.
جاء في مقال في صحيحة الاتحاد بعنوان أم الثورات .


" تعد الثورة الفرنسية من الثورات الكبرى في العصر الحديث سواء على صعيد التغيير الجذري الداخلي أو التأثير الأقليمي والعالمي، وانتشار أفكارها السياسية والاجتماعية والتنويرية في كل أنحاء الأرض، بما في ذلك الشرق الأوسط.."

في حين أن هذه الثورة قضت على التدين في بلاد أروبا، وحصرته في يوم الأحد من بعض المتدينين يحضرون للصلاة في الكنيسة مع ترديد بعض الأناشيد.

يقول المفكر هيردر herder: إن الثورة الفرنسية لا يمكن مقارنتها إلا بانتصارات الشيطان الأخرى... وأن الثورة الفرنسية ليست مجرد حدث سياسي واقتصادي فحسب، بل يجب اعتبارها بداية تبديل يهود بالملوك المسيحيين.

 المرجع : حكومة العالم الخفية ص 68.

و يقول اللورد أكتون في كتابه محاضرات في الثورة الفرنسية: لم تكن هناك ثورات فرنسية وروسية وألمانية بل ثورات يهودية في فرنسا وروسيا وألمانيا ... ولم يكن الهجوم على الكنيسة خطأ فاضحا لا حاجة له وإنما كان هدفا أساسيا لكل ثورة، فالثورة إحدى وسائل اليهود لتحطيم العالم المسيحي. 

المرجع السابق ص 69.

سادسا : نظرية العقد الاجتماعي التي وضع أساسها مفكرو الليبرالية مثل هوبز و لوك
ومن الآراء في هذه النظرية : أن الحاكم إذا لم يلتزم بمقتضى العقد الذي بينه وبين الأفراد فإنه يجوز للأفراد الثورة لاسترجاع حقوقهم.

هذه بعض الأمور التي تبين حقيقة الفكر الليبرالي والتنويري ودوره في إحداث الثورات، وزعزعة الأمن في دول الإسلام. 

فإن قيل : أنت تفتري على الفكر الليبرالي ، فهنا نحن نراهم ينتقدون الفكر الثوري!!

يجيب عن ذلك الكاتب الإماراتي أحمد الشحي في مقال له بعنوان : " الثقافة الليبرالية والثورات "  فيقول :

"ولأن الربيع العربي لم يأت بما تشتهيه سفن الليبراليين ومع صعود الوعي العام بخطر الثورات اضطر بعض ليبراليي الخليج – كتكيك مرحلي – إلى ممارسة لعبة الخطاب المضاد للثورات ، وهو خطاب مراوغ ينتقد ما أفرزته الثورات من صعود الإخوان المسلمين ، دون أن ينتقد الثورات نفسها ، لأن مبدأ الفكر الثوري إحدى أساسيات الأجندات الليبرالية التي لا يمكن لليبرالي التخلي عنها ، وإلا وقع في تناقض مع أساس مذهبه في العلاقة بين الفرد والسلطة " .

فنخلص مما سبق أن خطورة الفكر الليبرالي والتنويري لا تقل عن خطورة فكر الإخوان المسلمين ومنهجهم، فالحذر منهم متعين، والعاقل لا يلدغ من جحر مرتين، فيكفينا ما تجرعته أمة الإسلام من منهج الإخوان بسبب الثقة بهم وبمنظرهيم حتى تمكنوا فخرجوا أجيالا من أبناء الوطن متشربة لأفكارهم المتطرفة.

وكذلك الليبراليون والتنويريون يستغلون الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر أفكارهم التي تصل لدرجة الإلحاد.

وفقنا الله لما يحيه ويرضاه، والحمد لله رب العالمين .


السبت، 21 أبريل 2018

مقال: ظلام التنوير ج 1

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد .

إخواني الأفاضل
ظهر على الساحة الإعلامية وفي وسائل التواصل الاجتماعي من ينادي بالتنوير وينسبه للإسلام فيقولون التنوير الإسلامي، وظهر بعض المنحرفين فكريا وعقائديا وهو يثني على بعض الجهلة ويصف أسلوبه وخطابه بأنه تنويري، مع وصفهم لمن يتمسك بالسنة بالظلامية والتشدد .

فما هو هذا التنوير المزعوم، وهل فيه شيء من نور الإسلام الذي أرسل الله به رسله؟

سنتعرف أولا على النور الذي ذكره الله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم نتعرف ثانيا على الفكر التنويري المزعوم وأصوله.

أولا : اعلم أخي القارئ الموفق أن الله سبحانه وتعالى قد بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بالنور الذي كشف به ظلام الجاهلية والكفر، ولا يَعلم بهذا النور إلا من استشعرَ نعمةَ الإسلامِ والسنة ، قال تعالى ممتناً على البشرية بنور الوحي : " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ" [المائدة:15] .


اتباع هذا النور الذي ذكره الله في كتابه ممتناً به على عباده سببٌ لسلوك الصراط المستقيم الموصل إلى الله، وسببٌ لنيل هداية الله سبحانه وتعالى، قال تعالى بعد الآية السابقة " يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" وقال سبحانه : "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا" [الشورى: 52] ، وإنما يحصّلُ العبدُ هذا النور  في الدنيا باتباعه لنبيهِ صلى الله عليه وسلم ولزومِ نهجهِ وسنتهِ، قال تعالى " فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الأعراف: 157].

واتباع هذا النور الذي أنزله الله وجاء به نبيه صلى الله عليه وسلم له أثرهُ في النورِ الذي يكون مع العبد يوم القيامة، فعلى قدر تَنوّره بنور الله في الدنيا على قدرِ ما يكون معه من النور يوم القيامة قال تعالى : " يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" وروى الطبراني وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يذكر صفة الحشر والشفاعة والصراط فقال : " فَيُعْطِيهِمْ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورًا مِثْلَ النَّخْلَةِ بِيَمِينِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورًا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَكُونَ رَجُلًا يُعْطَى نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ يُضِيءُ مَرَّةً وَيَفِيءُ مَرَّةً، فَإِذَا أَضَاءَ قَدَّمَ قَدَمَهُ فَمَشَى، وَإِذَا طُفِئَ قَامَ ... فَيَمُرُّونَ عَلَى قَدْرِ نُورِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالسَّحَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَانْقِضَاضِ الْكَوْكَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الْفَرَسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، حَتَّى يَمُرَّ الَّذِي أُعْطِيَ نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمَيْهِ يَحْبُو عَلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ تَخِرُّ رِجْلُ، وَتَعْلَقُ رِجْلٌ، وَيُصِيبُ جَوَانِبَهُ النَّارُ" 

والمنافقون يطلبون هذا النور الذي رأوه في الدنيا وتمسكوا به ظاهراً وكفروا به باطناً، فإذا رأوا أثر هذا النور يوم القيامة طلبوه وسعوا إليه ولكن أنّى لهم أن ينالوا منه نصيباً وقد أعرضوا عنه في الدنيا ، قال تعالى في وصف حالهم: " يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ، يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ."[الحديد:13-14].

فهذا هو النور الذي نعلمه من كتاب ربنا وسنة نبيا صلى الله عليه وسلم، ولكن ظهر لنا في هذه الأزمان من تسمى بالنور، وأضفى على فكره المنحرف وصف النور في مقابل الظلام، ليخدع نفسه أولا، ثم يخدع عامة الناس من المثقفين بمعسول كلامه، وحقيقته أنه يدعوهم لظلام الجاهلية التي كشفها الله بنور الوحي، مع محاربته للوحي بفكره المظلم المستورد من أعداء الإسلام،  ومحاربته لجميع الشرائع المنزلة على أنبياء الله تعالى، فأطلق على متبعي الوحيين من الكتاب والسنة لقب الظلاميين، ولقب التنوير والتنويريين على كل من قدم العقل على الوحيين، بل العجب أن ينسب التنوير للسنة فيقول التنوير السني، فمثله كمل من يقول الشرك التوحيدي والكفر الإيماني، فيجمع بين المتناقضات .

وأمثال هؤلاء في كل عصر يخرجون، فحالهم كحال أهل النفاق زمن النبي صلى الله عليه وسلم يسعون لضرب الإسلام من الداخل بمحاولة هدم الأصول التي يقوم عليها، وذلك بالطعن في الكتاب والسنة والعلماء ولكن بأسلوب خبيث، ظاهره نصرة الإسلام وباطنه العداوة والبغضاء، قال ابن تيمية -رحمه الله- ( وهو من ألد أعداء التنويريين) : " وأما هؤلاء: فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله وهم في الباطن من المحاربين لله ورسوله ويظهرون كلام الكفار والمنافقين في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين، فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمنا وليا لله فيصير منافقا عدوا لله " مجموع الفتاوى (2/360)

 فما هو التنوير المزعوم ؟

التنوير فرع عن الليبرالية، والليبرالية فرع عن العلمانية، وكل هذه المسميات هدفها الرئيس الطعن في الدين وفي جميع الشرائع التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله، مع تقديسهم للعقل والحرية، فهم في الحقيقة يخدمون الماسونية العالمية والفكر الإلحادي.

ظهر التنوير في القرن السابع عشر  عام 1671م تقريبا، ويرجعه بعضهم إلى ما يسمى بعصر النهضة، وإلى كتابات الفلاسفة من أمثال: بيكون و ديكارت وتوماس هوبز، ولوك وغيرهم من فلاسفة تلكم الحقبة البائسة.

وأما الأصول التي يقوم عليها التنوير الغربي فمنها : نقد الدين وعزله والاستقلال التام عن سلطته، لذلك نسمع بعض المتأثرين بهذا الفكر المنحرف ينادون بنقد كل ما هو موروث وقصدهم بذلك نقد الدين وأحكامه وفق ضابط الحرية والعقل المنحرف.

ويطلقون على كل من يتمسك بالدين لفظ ( الظلامي )، ولفظ ( النظام الكهنوتي) للدلالة على تمسك الكهنة النصارى في القرون المظلمة بالإنجيل المحرف .

ومن أصولهم: تعظيم العقل والحرية دون أن يقدموا أي تعريف لماهية العقل الواجب الرجوع إليه، ولا للحرية المرادة.

وبسبب نقدهم للدين وأحكامه، وتألهيهم للعقل وصلوا للإلحاد، وعجزوا عن الإجابة عن السؤال الذي أرقّ أغبياء العالم ممن يلمزون بالذكاء : من خلق الكون ؟ ولماذا خلق الله الكون؟

والتنوير هدفه هدف العلمانية وهو تنحية الدين عن الدولة أولاً، وعن الشعب ثانياً، فليس هدفهم كما يذكرون فصل الدين عن الدولة فقط، وإنما يسعون وبخطط مرسومه إلى تشويه الدين لدى الناس وإظهاره في صورة متخلفة. 

وقد نجحوا في الغرب في ثورتهم الفرنسية البائسة التي كان هدفها القضاء على الملة النصرانية، فالدول الغربية تخلصت من الملة النصرانية تماما في حكمها، وتخلى الناس عن دينهم، وحصروه في الكاهن والكنسية وفي يوم واحد هو يوم الأحد .

ومن أصولهم المناداة بالحرية والتسامح، ويقصدون بالحرية التخلص من أحكام النصرانية المحرفة التي تنادي بها كنائس العصر المظلم في أوربا، والتحرر من القيم الأخلاقية،  وبالتسامح حرية التدين وعدمه أو الإلحاد.

ولكن هذه الحرية في الحقيقة حرية كاذبة زائفة لأنها تحارب كل من ينتقد التنوير وتعاديه، ويظهرونه أمام الخاصة والعامة بأنه ظلامي ومتشدد ومحارب للعقل والحرية والتسامح.

وهذا التنوير بهذه الصورة مرفوض تماما عند المسلمين، سواء كانوا من العوام أوالمثقفين، فكان لا بد من استحداث مصطلح ينطلي على المثقفين بالذات، فيروجون له عند العامة، فظهر ما يسمى بالتنوير الإسلامي .

قال محمد عماره في كتابه " الإسلام بين التنوير والتزوير ص 34 : " فوجود تنوير غربي له السمات الخاصة التي أشرنا إلى أهمها لا يمنع من الحديث عن تنوير عربي إسلامي تتحدد مضامينه ومفاهيمه وفقا للمرجعية الحضارية الإسلامية المتميزة عن المرجعية الغربية"

ولكن هل ما ذكره عماره من أن التنوير الإسلامي يختلف في مضمونه عن أصول التنوير الغربي  صحيح ؟ 

 فالجواب : أبدا. بل هما وجهان لعملة واحدة . 

فيقدمون العقل على النص، ويطالبون بنقد كل ما هو موروث ومنه الدين، ويطالبون بإعادة قراءة النص الديني ( الكتاب والسنة) وفق معطيات التطورات الحضارية المعاصرة، مع الابتعاد عن منهج السلف في التفسير، ويصرون على تطبيق الديمقراطية الغربية القائمة على الحرية وتقديم سيادة الأمة والشعب على سيادة الشرع، وينادون وبصراحة بفصل الدين عن الدولة، ويذمون ما يسمى بالدين السياسي، وتراهم يستعملون مصطلح ( أسلمة الدولة) ونسبته للجماعات الإسلامية السياسية المنحرفة .

إخواني القراء : هذه نبذة يسيرة عن الظلام المتضمن في الفكر التنويري غربيا كان أو إسلاميا - والإسلام منه بريء- فإذا علمنا ذلك فإن خطر أرباب هذا الفكر ومن يحملون خطاب التنوير كبير على الدين والعقيدة بل وعلى البلاد والعباد، فالواجب الحذر منهم وعدم التمكين لهم.

وفقنا الله جميها لما يحبه ويرضاه .



الثلاثاء، 13 مارس 2018

مقال : تمسكك بدينك سبب عزك وتقدمك

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد 

فإن الله سبحانه وتعالى قد أعزّ هذه الأمة بأن بعث فيها محمدا صلى الله عليه وسلم، فكانت خير أمة أخرجت للناس، كما قال سبحانه : " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" [آل عمران:110]، وهذه الخيرية مرتبطة بتمسك الأفراد والمجتمعات والدول بالدين، وعلى قدر تمسكها على قدر ما تحصل من الخيرية، ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم القرون الثلاثة الأولى بالخيرية لقوة تمسكها بشرع الله وأحكامه، فقال صلى الله عليه وسلم: " خَيْرُ أُمَّتِى قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" متفق عليه. 

وإذا ما وقع هذا التمسك بالدين وأحكامه، المستند إلى الكتاب والسنة، حصل للأمة أفرادا وجماعات العزة والنصر والعلو في الأرض، قال تعالى : " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ،وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [النور:54-55 ] وبمقدار ما يضعف هذا التمسك بشرع الله، مع الإقبال على الدنيا وزينتها، ونسيان الآخرة، يحصل الذل والخذلان ويصيب الأمة والأفراد الضعف الهوان.

قال تعالى : " فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [النور:63] ففي الآية وعيد من الله لكل من خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تصيبه فتنة في دينه أو دنياه، تكدر عليه حياته، وتقلب سعادته شقاء، أو عذاب أليم في الآخرة. 

ومن الأحاديث التي تبين مثل هذه الفتنة التي قد يصاب بها المخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ». 
فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ 
قَالَ: « بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». 
فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ ؟
 قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ». رواه أبوداود 

ومن الفتن التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بسبب الإعراض عن أحكام الشريعة والوقوع فيما يخالفها ما رواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما-قال : أقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ :

- لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا.

-  وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ.

- وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا.

- وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ.

- وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ.

وأخبر صلى الله عليه وسلم بوقوع الذل والمهانة لكل من خالف أمره وهديه، فقال صلى الله عليه وسلم: " وَجُعِلَ الذُّلُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى" رواه أحمد .

ومما ورد في التاريخ الإسلامي العظيم من أحداث تبين هذه العزة والنصرة والعلو في الأرض بسبب التمسك بشرع الله ما رواه البيهقي وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبع مائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قبض النبي صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب حول المدينة، واجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا بكر، رُدَّ هؤلاء. توجهُ هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة ؟

فقال: والذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللت لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 فوجه أسامة، فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام."

فتأمل أخي القارئ الفطن ؛ المعطيات الواقعية كانت تفرض على أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن يرد الجيش الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم، ليدافع عن المدينة وعن المسلمين، ولكن الصحابي الجليل والخليفة الراشد المتبع للسنة أبا بكر الصديق رضي الله عنه علم أن الله قد وعد رسوله واتباعه بالنصر والتأييد، وأن المعطيات الدنيوية الحسية تقف عاجزة أمام حكم الله الكوني، كما قال تعالى " إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" [غافر:51] فأنفذ رضي الله عنه جيش أسامة ، فكانت النتيجة مبهرة، والنصر والغلبة من نصيب المؤمنين، بل تحققت جملة من الانتصارات على الصعيد الداخلي في المدينة وما حولها، وعلى الصعيد الخارجي وهم دول العدو المتربصين بالإسلام . 

وهنا أنقل لكم قولا لابن تيمية رحمه الله يعضد ما ذكرته، فقال رحمه الله في كتابه الرد على البكري (2/ 738) : إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم وقال بعض الشعراء ... يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر ...  أو قال عوذوا بقبر أبي عمر ... ينجيكم من الضرر ... 
فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله عز و جل والاستغاثة به وأنهم لا يستغيثون إلا إياه لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل ..
فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم، نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلا، لما صح من تحقيق توحيد الله تعالى وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك، فإن الله تعالى ينصر رسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " ا.هـ مختصرا 

ولكن هذه العقيدة تغيب عن أرباب النظريات الحسية، الذين يقيسون الأمور بما يرونه ويعلمونه دون نظر إلى آيات الله وأحكامه الكونية، وتغيب عن أرباب الفكر العلماني والليبرالي التنويري الذين يرون أن الإسلام وأحكامه من أسباب تخلف الدول ورجعيتها، فأصبحوا ينعقون وعلى استحياء في بلادنا بضرورة فصل الدين عن السياسة وعن أنظمة الحكم، ويرددون بعض المصطلحات بتبعية عمياء مثل أسلمة الدولة، والكهنوت، ونحوها من مصطلحات القرون الوسطى المظلمة، ويدعون إلى حرية الإنسان في تمسكه بالدين من عدمه، حتى صرح أحدهم من قريب في إذاعة من إذاعتنا بأن الدين الإسلامي موروث، وكل ما هو موروث فلا بد من إعادة النظر فيه، لأجل أن يتأقلم مع الوضع والتطور العالمي، ثم صرح خليفة الإخوان المفلسين في تغريدة له في تويتر منذ أيام بعدم صلاحية أحكام الشريعة الإسلامية المطبقة منذ أربعة عشر قرنا لهذا الزمان. ويرى أحد حملة حرف (د) ممن له كتاب في نقد الجماعات السياسة أن الوقت الراهن ظروفه لا تسمح بتطبيق شرع الله، وتطبيق شرع الله كان لأجل معطيات تاريخية سابقة، والتسليم بهذه المعطيات يمثل مجازفة غير مأمونة العواقب.

 وحجتهم في دعواهم المزعومة ما وقع في القرون الوسطى من تخلف ورجعية بسبب طغيان رجال الدين الكنسي، وظهور نظرية التفويض الإلهي، والظلم الذي وقع على الرعية في تلكم البلاد، دون أن يراعوا الفارق الكبير بين التجربة التي وقعت في أوروبا في القرون الوسطى بسبب الملة المحرفة التي كانوا عليها، وبين دين الإسلام الكامل والشامل والمحفوظ من قبل الله تعالى إلى قبل قيام الساعة، وتغافلوا متعمدين عن الحضارة الإسلامية التي امتدت لثمانية قرون والتي قامت على نظام الخلافة الإسلامية، وعلى تطبيق أحكام الشريعة، بل غالبية العلماء والمخترعين كانوا من المتبحرين في علوم الشريعة قبل أن ينبغوا في العلوم الدنيوية . 

فهذه الدعاوى الكاذبة من أسباب تضييع شرع الله وتحييده، ومن أسباب تدخل العدو في بلاد المسلمين لغزوهم عقائديا وفكريا، ومن ثم التمهيد لغزوهم عسكريا.

إن الحقيقة التي ينبغي لنا أن نعتقدها ونتمسك بها أن شريعة الإسلام شريعة صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان، وأن فيها من المرونة ما يمكن أن يسع جميع التطورات التي حصلت أو ستحصل للعالم الإنساني إلى قبل قيام الساعة، وأن من تمسك بها عزّ وانتصر وتم له التمكين في الأرض، ومن تركها وأعرض عنها وقع له من الذل والمهانة والضعف على قدر ما تركه منها . 

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وحفظ الله دولتنا وولاة أمورنا ودول المسلمين وولاة أمورهم، ووفقهم للحكم بشريعة الإسلام، ونصرهم على عدوهم .