الثلاثاء، 13 مارس 2018

مقال : تمسكك بدينك سبب عزك وتقدمك

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد 

فإن الله سبحانه وتعالى قد أعزّ هذه الأمة بأن بعث فيها محمدا صلى الله عليه وسلم، فكانت خير أمة أخرجت للناس، كما قال سبحانه : " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" [آل عمران:110]، وهذه الخيرية مرتبطة بتمسك الأفراد والمجتمعات والدول بالدين، وعلى قدر تمسكها على قدر ما تحصل من الخيرية، ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم القرون الثلاثة الأولى بالخيرية لقوة تمسكها بشرع الله وأحكامه، فقال صلى الله عليه وسلم: " خَيْرُ أُمَّتِى قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" متفق عليه. 

وإذا ما وقع هذا التمسك بالدين وأحكامه، المستند إلى الكتاب والسنة، حصل للأمة أفرادا وجماعات العزة والنصر والعلو في الأرض، قال تعالى : " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ،وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [النور:54-55 ] وبمقدار ما يضعف هذا التمسك بشرع الله، مع الإقبال على الدنيا وزينتها، ونسيان الآخرة، يحصل الذل والخذلان ويصيب الأمة والأفراد الضعف الهوان.

قال تعالى : " فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [النور:63] ففي الآية وعيد من الله لكل من خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تصيبه فتنة في دينه أو دنياه، تكدر عليه حياته، وتقلب سعادته شقاء، أو عذاب أليم في الآخرة. 

ومن الأحاديث التي تبين مثل هذه الفتنة التي قد يصاب بها المخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ». 
فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ 
قَالَ: « بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». 
فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ ؟
 قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ». رواه أبوداود 

ومن الفتن التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بسبب الإعراض عن أحكام الشريعة والوقوع فيما يخالفها ما رواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما-قال : أقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ :

- لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا.

-  وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ.

- وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا.

- وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ.

- وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ.

وأخبر صلى الله عليه وسلم بوقوع الذل والمهانة لكل من خالف أمره وهديه، فقال صلى الله عليه وسلم: " وَجُعِلَ الذُّلُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى" رواه أحمد .

ومما ورد في التاريخ الإسلامي العظيم من أحداث تبين هذه العزة والنصرة والعلو في الأرض بسبب التمسك بشرع الله ما رواه البيهقي وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبع مائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قبض النبي صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب حول المدينة، واجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا بكر، رُدَّ هؤلاء. توجهُ هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة ؟

فقال: والذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللت لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 فوجه أسامة، فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام."

فتأمل أخي القارئ الفطن ؛ المعطيات الواقعية كانت تفرض على أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن يرد الجيش الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم، ليدافع عن المدينة وعن المسلمين، ولكن الصحابي الجليل والخليفة الراشد المتبع للسنة أبا بكر الصديق رضي الله عنه علم أن الله قد وعد رسوله واتباعه بالنصر والتأييد، وأن المعطيات الدنيوية الحسية تقف عاجزة أمام حكم الله الكوني، كما قال تعالى " إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" [غافر:51] فأنفذ رضي الله عنه جيش أسامة ، فكانت النتيجة مبهرة، والنصر والغلبة من نصيب المؤمنين، بل تحققت جملة من الانتصارات على الصعيد الداخلي في المدينة وما حولها، وعلى الصعيد الخارجي وهم دول العدو المتربصين بالإسلام . 

وهنا أنقل لكم قولا لابن تيمية رحمه الله يعضد ما ذكرته، فقال رحمه الله في كتابه الرد على البكري (2/ 738) : إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم وقال بعض الشعراء ... يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر ...  أو قال عوذوا بقبر أبي عمر ... ينجيكم من الضرر ... 
فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله عز و جل والاستغاثة به وأنهم لا يستغيثون إلا إياه لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل ..
فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم، نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلا، لما صح من تحقيق توحيد الله تعالى وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك، فإن الله تعالى ينصر رسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " ا.هـ مختصرا 

ولكن هذه العقيدة تغيب عن أرباب النظريات الحسية، الذين يقيسون الأمور بما يرونه ويعلمونه دون نظر إلى آيات الله وأحكامه الكونية، وتغيب عن أرباب الفكر العلماني والليبرالي التنويري الذين يرون أن الإسلام وأحكامه من أسباب تخلف الدول ورجعيتها، فأصبحوا ينعقون وعلى استحياء في بلادنا بضرورة فصل الدين عن السياسة وعن أنظمة الحكم، ويرددون بعض المصطلحات بتبعية عمياء مثل أسلمة الدولة، والكهنوت، ونحوها من مصطلحات القرون الوسطى المظلمة، ويدعون إلى حرية الإنسان في تمسكه بالدين من عدمه، حتى صرح أحدهم من قريب في إذاعة من إذاعتنا بأن الدين الإسلامي موروث، وكل ما هو موروث فلا بد من إعادة النظر فيه، لأجل أن يتأقلم مع الوضع والتطور العالمي، ثم صرح خليفة الإخوان المفلسين في تغريدة له في تويتر منذ أيام بعدم صلاحية أحكام الشريعة الإسلامية المطبقة منذ أربعة عشر قرنا لهذا الزمان. ويرى أحد حملة حرف (د) ممن له كتاب في نقد الجماعات السياسة أن الوقت الراهن ظروفه لا تسمح بتطبيق شرع الله، وتطبيق شرع الله كان لأجل معطيات تاريخية سابقة، والتسليم بهذه المعطيات يمثل مجازفة غير مأمونة العواقب.

 وحجتهم في دعواهم المزعومة ما وقع في القرون الوسطى من تخلف ورجعية بسبب طغيان رجال الدين الكنسي، وظهور نظرية التفويض الإلهي، والظلم الذي وقع على الرعية في تلكم البلاد، دون أن يراعوا الفارق الكبير بين التجربة التي وقعت في أوروبا في القرون الوسطى بسبب الملة المحرفة التي كانوا عليها، وبين دين الإسلام الكامل والشامل والمحفوظ من قبل الله تعالى إلى قبل قيام الساعة، وتغافلوا متعمدين عن الحضارة الإسلامية التي امتدت لثمانية قرون والتي قامت على نظام الخلافة الإسلامية، وعلى تطبيق أحكام الشريعة، بل غالبية العلماء والمخترعين كانوا من المتبحرين في علوم الشريعة قبل أن ينبغوا في العلوم الدنيوية . 

فهذه الدعاوى الكاذبة من أسباب تضييع شرع الله وتحييده، ومن أسباب تدخل العدو في بلاد المسلمين لغزوهم عقائديا وفكريا، ومن ثم التمهيد لغزوهم عسكريا.

إن الحقيقة التي ينبغي لنا أن نعتقدها ونتمسك بها أن شريعة الإسلام شريعة صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان، وأن فيها من المرونة ما يمكن أن يسع جميع التطورات التي حصلت أو ستحصل للعالم الإنساني إلى قبل قيام الساعة، وأن من تمسك بها عزّ وانتصر وتم له التمكين في الأرض، ومن تركها وأعرض عنها وقع له من الذل والمهانة والضعف على قدر ما تركه منها . 

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وحفظ الله دولتنا وولاة أمورنا ودول المسلمين وولاة أمورهم، ووفقهم للحكم بشريعة الإسلام، ونصرهم على عدوهم .