السبت، 29 يونيو 2019

شهر شوال لطائف وأحكام


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد

من فضل الله علينا أن يسر وتابع لنا مواسم تكثر فيها الحسنات، وتضاعف فيها الأجور، فكنا في موسم شهر رمضان المبارك، شهر العبادات والطاعات، وما إن انقضى حتى دخل علينا موسم شهر شوال، فنود في هذه الأسطر القليلة أن نبين للقارئ شيئاً مما يتعلق بهذا الموسم من لطائف وأحكام، لينتهز الفرصة فيغتم الموسم، ويفوز برضا الله سبحانه وتعالى.

أولا : ما سبب تسميت شهر شوال بهذا الاسم ؟

قال صاحب لسان لعرب : وشَوَّالٌ من أَسماء الشهور معروف، اسم الشهر الذي يلي شهر رمضان، وهو أَول أَشهر الحج، قيل سُمِّي بتشويل لبن الإِبل، وهو تَوَلِّيه وإِدْبارُه، وكذلك حال الإِبل في اشتداد الحر وانقطاع الرُّطْب، وقال الفراء: سُمِّي بذلك لِشَوَلانِ الناقة فيه بذَنَبها .أهـ  فهو موسم التزاوج عند الإبل، ويُعرف برفع الإبل لذنبها، فيقال :شالت الناقة بذنبها: إذا رفعته .  

ثانيا: مما خص به هذا الشهر من العبادات .

أ ) زكاة الفطر .

عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ " متفق عليه .

ذكر أهل العلم أن أفضل وقت لإخراج زكاة الفطر وتوزيعها على المساكين قبل صلاة العيد، فإن انقضت صلاة العيد فقد خرج وقت إخراج الزكاة، روى أبوداود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَهِىَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَهِي صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَات . 

ب – صلاة عيد الفطر .

فمن العبادات المشروعة في شهر شوال صلاة عيد الفطر ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ- رضي الله عنه - قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى ، فَأَوَّلُ شَيءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلاَةُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ ، فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ ، فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ.

ج – التكبير ليلة العيد إلى بداية صلاة العيد .

في ختام شهر رمضان شرع الله لعباده أن يكبروه ، فقال تعالى : ( وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [البقرة: 185] ، وهذا التكبير سنة عند جمهور أهل العلم ، في المساجد والبيوت والأسواق، وابتداؤه من غروب الشمس ليلة العيد إذا علم دخول الشهر قبل الغروب كما لو أكمل الناس الشهر ثلاثين يوماً ، أو من ثبوت رؤية هلال شوال ، وينتهي بالصلاة يعني إذا شرع الناس في صلاة العيد انتهى وقت التكبير  .
وروى الدارقطني في سننه عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ لِلْعِيدَيْنِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِي الْمُصَلَّى وَيُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِي الإِمَامُ.

د – تحريم صوم يوم عيد الفطر .

بوب البخاري في صحيحه فقال : باب صوم يوم الفطر، ثم روى حديث أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ ، وَالنَّحْرِ .

وعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَهَى عَنْ صِيَامِ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ، يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الْأَضْحَى، أَمَّا يَوْمُ الْفِطْرِ، فَيَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَيَوْمُ الْأَضْحَى تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ لَحْمِ نُسُكِكُمْ) أخرجه أبو داود، وأحمد.

 هـ – مشروعية  صيام ستة أيام من شوال، وبيان فضلها .

 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ كَانَ تَمَامَ السَّنَةِ، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) وبينه صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى جاء فيها : " (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ فَشَهْرٌ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ فَذَلِكَ تَمَامُ صِيَامِ السَّنَةِ) .

ومن الحكم التي استنبطها بعض أهل العلم في صيام الست من شوال ما ذكره ابن رجب في لطائف المعارف ( ص 220 ط ابن حزم ) فقال : 
وفي معاودة الصيام بعد رمضان فوائد عديدة:
منها: أن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله ..
ومنها: أن صيام شوال وشعبان كصلاة السنن الرواتب قبل الصلاة المفروضة وبعدها فيكمل بذلك ما حصل في الفرض من خلل ونقص فإن الفرائض تجبر أو تكمل بالنوافل يوم القيامة كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة وأكثر الناس في صيامه للفرض نقص وخلل فيحتاج إلى ما يجبره ويكمله من الأعمال..
ومنها: أن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان فإن الله إذا تقبل عمل عبد وفقه لعمل صالح بعده..
ومنها: أن صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب ... فيكون معاودة الصيام بعد الفطر شكرا لهذه النعمة، فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب ..
ومنها أن الأعمال التي كان العبد يتقرب بها إلى ربه في شهر رمضان لا تنقطع بانقضاء رمضان بل هي باقية بعد انقضائه ما دام العبد حيا.

و ) استحباب المبادرة إلى قضاء ما فات من رمضان .

قال تعالى : " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" [البقرة:185] ، فمن أفطر أياما من رمضان استحب له أن يبادر إلى قضاء رمضان ، لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له من أمور تحول بينه وبين القضاء، وقد قال تعالى :" وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" [آل عمران:133] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيءٍ إِلاَّ فِي عَمَلِ الآخِرَةِ ». رواه أبوداود

ز ) من العبادات التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في شهر شوال العمرة، فروى أبوداود عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ عُمْرَتَيْنِ عُمْرَةً فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَعُمْرَةً فِي شَوَّالٍ " 

قال ابن عبر البر – رحمه الله – في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (22/ 291) : " وفي اعتمار رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال وذي القعدة أوضح الدلائل على رد قول من كره العمرة في أشهر الحج."

وقال بعض أهل العلم إنما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ذي القعدة، حيث روى مسلم عن أنس رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلاَّ الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ عُمْرَةً مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مِنْ جِعْرَانَةَ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ." وما ذكرته عائشة رضي الله عنها من عمرته صلى الله عليه وسلم في شوال فيحمل على أنه خرج إلى العمرة في آخر شوال وأحرم بها في أول ذي القعدة، قال القرطبي المفهم (3/367): هذِه  العمرة المنسوبة إلى شوال فهي والله أعلم عمرة الجعرانة، أحرم بها في أخريات شوال، وكملها في ذي القعدة فصدق عليها نسبة شوال وذي القعدة " 

رابعا : ما لا يصح في شوال .

أ ) من الاعتقادات التي يعتقدها البعض عدم جواز عقد الزواج في شهر شوال، وهذا يخالف ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها -  قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي شَوَّالٍ وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ فَأَيّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي. قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَسْتَحِبُّ أَنْ تُدْخِلَ نِسَاءَهَا فِي شَوَّالٍ.

ب ) كذلك من العبادات التي يفعلها البعض قيام ليلة عيد الفطر، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خص هذه الليلة بشيء من العبادات، وما ثبت من حديث " من أحيا ليلة الفطر و ليلة الأضحى لم يمن قلبه يوم تموت القلوب " فإنه لا يصح.

والحمد لله رب العالمين

الأحد، 14 أبريل 2019

مقال: شعبان ... فضائل وأحكام


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد..

خلقنا رب العالمين سبحانه وتعالى لحكمة عظيمة وهي عبادته وتوحيده، قال تعالى : "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56]، وأخبرنا سبحانه أنه سيحاسبنا على هذه العبادة، فقال سبحانه في الحديث القدسي: " يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ . " رواه مسلم، لذلك كان على المسلم أن يبادر إلى العمل قبل انشغاله أو وقوع الفتن المضلة التي ستشغله، أو ذهاب عمره وانقطاع عمله، قال صلى الله عليه وسلم: " بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا. " وقال صلى الله عليه وسلم: " التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيءٍ إِلاَّ فِي عَمَلِ الآخِرَةِ" رواه أبوداود.

ومن رحمة الله بعباده أن هيأ لهم مواسم تكثر فيها الطاعات، وتضاعف فيها الحسنات، وترفع فيها الدرجات، وقد حث الله عباده على اغتنامها قبل فواتها، جاء في الأثر " افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده. " 

وها هي مواسم الخير تقبل علينا، بداية من شهر شعبان والذي نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وبفعله، ويليه رمضان الذي لا يخفاكم أجره وثوابه، ثم يليه شهر شوال وفيه صيام الست، ثم يليه أشهر الحج، وأخيراً شهر الله المحرم، والصيام فيه من خير التطوع كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا أول مواسم الخير قد دخل وهو شعر شعبان، والناس عنه غافلة ، وقد نبهنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم لاغتنامه بصالح الأعمال، فعن أُسَامَة بْن زَيْدٍ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ ؟ قَالَ :  ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ "   رواه النسائي

فهو شهر يغفل الناس عنه لانشغالهم برجب الحرام وبرمضان ، وهذا فيه إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن ..قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقاً أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم . وفيه دليل على استحباب عمارة أزمان غفلة الناس بالطاعة. 
(ينظر: لطائف المعارف لابن رجب ص 310) 

قال ابن الجوزي رحمه الله في التبصرة لابن الجوزي (2/ 47) : " واعلم أن الأوقات التي يغفل الناس عنها معظّمة القدر؛ لاشتغال الناس بالعادات والشهوات، فإذا ثابر عليها طالب الفضل دلّ على حرصه على الخير. ولهذا فُضل شهود الفجر في جماعة لغفلة كثير من الناس عن ذلك الوقت، وفُضل ما بين العشاءين وفُضل قيام نصف الليل ووقت السحر" 

وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالى ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يرفع عمله إلى الله وهو صائم ، كما ورد ذلك في قوله (وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ )، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الاثنين والخميس لأنها أيام تعرض فيها الأعمال على الله سبحانه وتعالى، فروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ " 

ثم بين لنا صلى الله عليه وسلم كيفية الاستفادة من هذا الشهر – شهر شعبان – وذلك بالصوم فقد روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال " وكان أحب الصوم إليه في شعبان " وعَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ  " ، فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على استحباب الصيام في شهر شعبان لمن قدر على ذلك، قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في لطائف المعارف ص 306: " وقد رجح طائفة من العلماء – منهم ابن المبارك وغيره- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستكمل صيام شعبان، وإنما كان يصوم أكثره"

ولشهر شعبان جملة من الأحكام لا بد من مراعاتها والتنبه لها منها:

الأول : استحباب الإكثار من الصيام في شهر شعبان، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " لَمْ أَرَهُ – صلى الله عليه وسلم - صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلاً " رواه مسلم. والصيام من أعظم العبادات أجراً، ويكفيك أخي المسلم هذا الحديث النبوي العظيم المبين لعظيم أجر الصائم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – " قَالَ اللَّهُ : كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ ، فَإِنَّهُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ . وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ ، أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ . وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ ، وَإِذَا لَقِىَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ."

الثاني : من كان عليه شيء من قضاء رمضان الماضي وجب عليه قضاؤه، ولا يجوز له تأخيره إلى ما بعد رمضان، لقول الله تبارك وتعالى : " وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" [البقرة:185]، وروى البخاري ومسلم عَنْ أَبِى سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - تَقُولُ كَانَ يَكُونُ عَلَيّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، الشُّغُلُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَوْ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-" 

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري لابن حجر (4/ 191): " وَيُؤْخَذُ مِنْ حِرْصِهَا عَلَى ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَانُ آخَرُ. "

الثالث : من أحكام شهر شعبان ، قول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان" ولا تعارض بينه وبين قول عائشة رضي الله عنها " فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ " " فالمراد النهي عن ابتداء الصوم بعد النصف ، أما من صام أكثر الشهر أو الشهر كله فقد أصاب السنة ". 

الرابع: النهي عن صيام آخر يومين من شعبان على سبيل الاحتياط لدخول رمضان، فروى مسلم عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : "لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلاَ يَوْمَيْنِ إِلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ" فدل الحديث على النهي عن تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين، إلا لمن كانت له عادة صيام أو قضاء فإنه يصوم تلكم الأيام.

فيجب على من لم ير الهلال ولم يسمع إعلان الدولة لدخول رمضان أن يكمل شعبان ثلاثين يوما ثم يصوم رمضان، لقوله صلى الله عليه وسلم: " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ" متفق عليه

وروى الترمذي عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فَأُتِىَ بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ، فَقَالَ: كُلُوا. فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ. فَقَالَ عَمَّارٌ مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِى يَشُكُّ فِيهِ النَّاسُ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ عَمَّارٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وجاء في المصنف لابن أبي شيبة (٢/ ٣٢٣ ـ ٣٢٤) رقم: (٩٥٠٢). مزيد بيان للقصة وأنها وقعت في اليوم الذي يشك فيه هل هو من رمضان أم لا، وفيها: " إِنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَنَاسًا مَعَهُ أَتَوْهُمْ بِمَسْلُوخَةٍ مَشْوِيَّةٍ فِي الْيَوْمِ الْذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ رَمَضَانُ أَوْ لَيْسَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاجْتَمَعُوا وَاعْتَزَلَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ عَمَّارٌ: «تَعَالَ فَكُلْ»، قَالَ: «فَإِنِّي صَائِمٌ»، فَقَالَ لَهُ عَمَّارٌ: «إِنْ كُنْتَ تُؤمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ اْلآخِرِ فَتَعَالَ فَكُلْ..."

وقال الترمذي : " والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، كرهوا أن يصوم الرجل اليوم الذى يُشك فيه، ورأى أكثرهم إن صامه فكان من شهر رمضان أن يقضى يوما مكانه. " 

وأما ما يتعلق بالنصف من شعبان فقد ورد فيه حديث " إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ" رواه ابن ماجه، وقد اختلف أهل الحديث في صحة الحديث، وعلى القول بصحته فإنه يثبت فضيلة لهذه الليلة بهذه الصفة وهي مغفرة الله لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن، ولا يجوز تخصيص هذه الليلة بفضائل أخرى لم يثبت بها دليل صحيح، وذلك لأن باب الفضائل توقيفي لا يقال فيه إلا بالنص والدليل.

و السلف رحمهم الله لم يعظموا هذه الليلة بشيء، إذ ورد عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو من أتباع التابعين أنه قال : " لم أدرك أحدا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان، ولم ندرك أحدا منهم يذكر حديث مكحول (الحديث السابق) ولا يرى لها فضلا على سواها من الليالي " رواه ابن وضاح في البدع، والطرطوشي في الحوداث والبدع .

وقال القرطبي في تفسيره (16/128) : " وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه، لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها، فلا تلتفتوا إليه" 

ومما أحدثه الناس في ليلة النصف من شعبان ما يسمى بصلاة الرغائب وصلاة النصف من شعبان وصلاة الألفية، قال عنها النووي رحمه الله في المجموع (4/56): " وهاتان الصلاتان بدعتان، مذمومتان منكرتان قبيحتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب قتوت القلوب والإحياء" 

وقال ابن القيم رحمه الله في المنار المنيف ص 98 : " ومن الأحاديث الموضوعة أحاديث صلاة ليلة النصف من شعبان ... والعجب ممن شم رائحة العلم بالسنن أن يغتر بمثل هذا الهذيان ويصليها " 

ومما أحدثه الناس كذلك إطلاق حملة قبل ليلة النصف من شعبان عبر وسائل التواصل الاجتماعي لطلب المسامحة، فيرسلون لبعضهم البعض: سامحني أسامحك.

وطلب المسامحة ومسامحة الناس والعفو عنهم محمود شرعاً، ولكن ليست هذه طريقته، بل المطلوب الاعتذار من الخطأ، والتواصل إن وُجد هجران، أما إطلاق هذا الشعار مقروناً بليلة النصف من شعبان فهو من البدع الإضافية التي لم يفعلها السلف رحمهم الله مع انتشار الحديث بينهم ومعرفتهم به، فتركها متعين. 

وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه.

الأربعاء، 13 فبراير 2019

مقال: يا بني احذر الفكر الإلحادي

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد ...

أعظم نعمة يُرزقها العبد معرفته ربه، والإيمان به، وأداء الحقوق الخاصة به، وفي المقابل فإنّ أعظم خسارة تلحقه جهله بربه وبما يجب له من الواجبات والحقوق .

ومعرفة العبد ربه وخالقه يسيرة وسهلة، فإن الفطرة والعقل والحس السليم كلها دالة على وجود الله سبحانه وتعالى، وعلى أنه متفرد بالخلق وبتدبير شؤون العالم العلوي والسفلي، وأن الخلق على اختلاف أجناسهم وأنواعهم محتاجون له وهو غني عنهم، فلا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.

فلا يشك في وجود الله وفي قدرته إلا من انحرفت فطرته وعميت بصيرته ولو كان صحيح البصر، فما من شيء في هذا العالم إلا وفيه دليل على وجود خالق مستكمل الصفات، قادر قوي لا يغلبه شيء، عالم حكيم خبير بكل شيء.

ولأنه أمر معلوم لدى كل أحد استنكرت الرسل والأنبياء التشكيك فيه، قال تعالى : " قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ" [إبراهيم:10]

ولكن للأسف وُجد عبر التاريخ وحتى في زماننا هذا ومن المتعلمين، بل بعضهم ممن يشار إليهم بلقب العالم والبروفسور من أنكر وجود الخالق جملة وتفصيلا، ومنهم من شكك في وجوده، وظهر ما يسمى بالفكر الإلحادي.

فعلى الرغم من علمهم التجريبي البحت إلا أن الشبهات والشهوات غطت على قلوبهم فصاروا يرون الباطل حقاً، والحق باطلاً، ثم عمدوا إلى نظريات اختلقوها من عند أنفسهم ليبرهنوا على عدم وجود خالق قادر لهذا الكون، وبالتالي يطعنون في الدين وفي تعبد الناس لربهم.

وقد تأثر بهم وللأسف بعض المسلمين ممن نطق بالشهادتين وصلى وصام ، ولكن لم يعرف ربه حق المعرفة، ولم يؤمن به الإيمان الذي يقوي قلبه أمام عواصف الفتن، كما قال صلى الله عليه وسلم: " بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا "  رواه مسلم.

ولذلك أوجه هذه النصائح لأبنائي وإخواني حتى لا يتأثروا بالفكر الإلحادي، فأقول :

يا بني احذر الإلحاد :فإن العالمين منذ أن خلقهم الله وإلى عهد عيسى عليه السلام كلهم يقر بوجود خالق مدبر لهذا الكون، وإنما الخلاف مع رسلهم كان في إفراد الله بالعبودية وحده دون سواه، ولم يخالف في هذا الإيمان إلا النمرود وفرعون، إذ ادعى كل منهما أنه رب العالمين.

فهل كان باطلاً إيمان الخَليقةِ بوجودِ إله خالق مدبر لهذا الكون، وتواتر ذلك على مر الأزمان وتعاقب الدهور، وإنكار النمرود وفرعون كان حقاً ؟!

يا بني احذر الإلحاد: فإن عصور الفلاسفة ومدعي تحكيم العقول خلت من الفكر الإلحادي، فقد أثبت المؤرخون خلو العصر اليوناني والروماني والعصور الوسطى وعصر النهضة والإصلاح حتى منتصف القرن السابع عشر من تبني الفكر الإلحادي، ولم يظهر هذا الفكر الشاذ إلا في منتصف القرن السابع والقرن الثامن عشر الميلادي وهو ما يسمى بعصر التنوير، حيث ظهر الفكر الإلحادي وظهر من يتبناه من الفلاسفة ولكن بصورة ضعيفة وعلى مستوى ضيق، إذ بقي هذا الفكر الشاذ منحصراً في عقول بعض المثقفين والفلاسفة ولم ينتشر إلا في القرن التاسع عشر. 

فهذا كله يدلك على إجماع الخَليقةِ على وجودِ إلهٍ خالقٍ مدبرٍ لهذا الكون، وأنه ما خالفَ في ذلك إلا أهلُ الشذوذ، فلا تكن منهم . 

يا بني احذر الإلحاد: فالملحد يتعامل مع نفسه ومع الآخرين وفق هواه وشهواته؛ لأنه لا يؤمن بدين وشرع يحكمه، وما يذكرونه من الخير والشر، والصواب والخطأ راجع إلى ميولهم واتجاهاتهم، فما يحبونه ولو كان محرماً في جميع الشرائع يعتبر من الخير والصواب، وما يكرهونه ولو كان مباحاً في جميع الشرائع فهو الشر والخطأ.

فالملحد يفتقر للأساس الذي ينطلق منه في أخلاقه وتعاملاته مع الآخرين في هذه الحياة، ولذلك يقول بعض منظري الإلحاد : " إذا لم يكن الإله موجوداً فكل شيءٍ مباح ".

فخطر الملحد على نفسه وعائلته ومجتمعه ودولته كبير جداً، إذ تجده متمرداً على الجميع حتى على قوانين بلده بحجة الحرية التي يطلبها.

يا بني احذر الإلحاد: فالفكر الإلحادي لا يقدم للنفس البشرية العلم الذي يروي ظمأها، أو يشبع جوعها لمعرفة أهم الأسئلة التي لا استقرار لهذه النفس إلا بالعلم بإجاباتها على وجه اليقين لا الشك، فكيف بالذي يجهل الجواب تماما.

الفكر الإلحادي لا يملك الجواب عن سؤال من خلقك ؟

ولا عن سؤال من خلق الكون ؟

ولا عن سؤال الغاية من الخلق ؟

وهذا الأمر يُوجِدُ خواء روحياً في النفس البشرية يفضي بها إلى السير في هذا العالم بلا هدف ولا غاية، مما قد يشعر الفرد بالإحباط والإصابة بالاضطرابات والاكتئاب والشعور بالحزن الذي قد يفضي به إلى انهاء حياته بالانتحار .

فأي سعادة حصلها من هذا الفكر  ؟

يا بني احذر من الإلحاد: فالفكر الإلحادي يتعارض مع الفطرة التي خُلق عليها الناس من وجود إله تتقرب إليه وتعبده .

يتعارض مع القواعد العقلية التي يتفق عليها العقلاء من أن لكل حادث محدث، ولكل فعل فاعل.

يتعارض مع ما أثبتته الفطرة والعقل والحس والعلم التجريبي من وجود خالق لهذا الكون متصف بصفات الكمال والعلم والحكمة، مستحق للعبادة وحده دون سواه.

ثم ترى الملحد يتمسك بنظريات غربية لا يزال الخلاف محتدماً بين علمائهم في إثباتها أو إنكارها.

والعجيب أن الكثير من الملاحدة سلبي في سبب إلحاده وعدم إيمانه، فيقولون بلا مبالاة مبررين موقفهم: بأنهم غير مقتنعين بأدلة وجود الله تعالى ، دون أن يقدموا أي دليل ولو كان هشاً على فكرهم .

 يا بني احذر الإلحاد: فإن من أسبابه الصورة المشوهة للإسلام، فالأعداء نجحوا في تشويه صورة الإسلام بتمويل جماعات متطرفة كالقاعدة وداعش، منطلقين من مبدأ ( هدم الأصل بذات الأصل) فاستعملت هذه الجماعات المستأجرة الدين لتشويه سماحة الإسلام ويسره ومحاسنه، وذلك باستخدامهم خطاباً منسوباً للدين -  والدين منه براء- صفته التشدد والغلو، ونتيجته الإرهاب والقتل، مما أدى إلى كراهة البعض للإسلام، واعتباره دين قتل وعدوان ووحشية، فرموه وراء ظهورهم وانتهجوا الإلحاد فكراً نتيجة ذلك .

وقد تناسى هؤلاء أن عدد قتلى الحرب العالمية الأولى تجاوز 37 مليون نسمة، وعدد القتلى في الحرب العالمية الثانية ما بين 50 إلى 70 مليون نسمة، وهي حرب لا صلة لها بالتدين ولا بالإسلام.

فأيهما أولى بالكراهية والبراءة ؟ 

يا بني احذر الإلحاد: فإن من أسبابه استعمال العقل فيما لا يحسنه ويطيقه بدعوى العقلانية والتحرر من التقليد ونقد الموروث، فبدأ  بالبحث في حِكم التشريع الإلهي، وفي أفعال الله تعالى، وفي الأمور الغيبية، حتى وصل إلى درجة اتهام الله سبحانه وتعالى – تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا- بالظلم وعدم العدل والرحمة والعجز  وعدم القدرة.

في حين أن نظرهم العقلي قاصر؛ لأنه يقوم على المعطيات التي يُتعرف عليها ببقية الحواس القاصرة، فيكون حكمه قاصرا من أساسه.

كما أنك تعجب من عقول أصحاب الفكر الإلحادي الذين يدعون العقلانية، وأنهم لا يؤمنون إلا بما دلّ عليه الحس والعلم التجريبي، ثم تراهم يؤمنون بنظريات وفرضيات دل العلم على نقضها أو التشكيك فيها.

ومن ذلك نظرية داروين التي وضعها تشارلز داروين التي تؤصل لمبدأ خلق الكائنات الحية على وجه الأرض من خلية واحدة تطورت عبر ملايين السنين لتكون هي أساس تطور الكائنات الحية، في حين أن داروين ومن اعتقد نظريته إلى غاية اليوم لم يقدموا دليلاً علمياً تجريبياً صحيحاً سالماً من النقد على هذه النظرية، ولم يثبت عبر التاريخ أنّ العلماء وجدوا أثراً لما يسمى بالتطور الكبير، عوضاً عن إثبات تطور القرد إلى إنسان، في حين أن العلم الحديث التجريبي وبعد اكتشاف الحمض النووي في الكائنات الحية  يثبت استحالة التزاوج بين نوعين مختلفين يحملان حمضاً نووياً مختلفاً، لا بالطريقة الطبيعية ولا المخبرية، ومع ذلك يدافع عن هذه النظرية أرباب الفكر الإلحادي.

ومثلها نظرية الأكوان المتعددة القائمة على فرضية أنّ الكون قد أصابه تضخم عند ما يسمى بالانفجار العظيم حتى أصبح كفقاعة الصابون، وهذه الفقاعة انفجرت إلى فقاعات، وهكذا إلى ما لا نهاية،  وبناء على ذلك توجد أكوان غير الكون الذي نعيش فيه، وللإنسان على وجه الأرض نسخة أخرى في كل كون من هذه الأكوان، وكل نسخة تختلف عن الأخرى .

فعلى الرغم من الخيال الذي بنيت عليه هذه النظرية إلا أنّ الملاحدة يؤمنون بها مع اعتقادهم باستحالة إثباتها علميا.

 أخي القارئ : إن سعادة النفس واطمئنانها وراحتها في معرفتها لخالقها والإيمان به، واتباع شرعه، والإيمان برسوله.

 ويكفيك أخي المسلم للدلالة على بطلان الفكر الإلحادي النظر في خلق نفسك وخلق السموات والأرض من حولك، فإنها دالة على وجود إله متصف بصفات الكمال، مستحق للعبادة دون سواه .

يكفيك أخي المسلم أن تنظر في كتاب الله المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة وقد حفظه الله من التغيير والتحريف والتبديل، ليدلك على وجود إله مستحق للعبادة .

وعليك باللجوء إلى الله سبحانه وتعالى لطلب الهداية والثبات عليها حتى تلقاه.

فاللهم اهدنا الصراط المستقيم .

والحمد لله رب العالمين 

الثلاثاء، 1 يناير 2019

مقال : حقيقة دعوة الرسل، والدين الذي يريده الله سبحانه وتعالى .

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد .

روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " إنما تُنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية " وعن المستظل بن حصين، قال: خطبنا عمر بن الخطاب، فقال: «قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب»، فقام إليه رجل من المسلمين فقال: متى يهلكون يا أمير المؤمنين؟ قال: «حين يسوس أمرهم من لم يعالج أمر الجاهلية، ولم يصحب الرسول صلى الله عليه وسلم» 
(أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف والحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي).

 وصدق رحمه الله، فقد ظهر في الساحة الإعلامية من يتكلم باسم الإسلام، مستدلاً بآيات من كتاب الله، وبأحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم على أمور تخالف قطعيات الدين ومسلماته، وما أجمع عليه العلماء والمسلمون من أمور العقيدة.

واستدلاله بالنصوص الشرعية مبني على تأويلات باطلة، وأقيسة فاسدة، وأفكار منحرفة، يحاول أن يدعمها بأدلة شرعية لتلقى قبولاً لدى الناس، فيدس السم في العسل، موهماً إياهم بأنه من أصحاب الفكر العقلاني، والحداثة المعاصرة، والتيسير المنابذ للتشدد، والتنوير المضاد للظلاميين على حد زعمه .

في حين أن فكره مضاد لمقصد الدين الإسلامي وللغرض الذي بعث الله لأجله الرسل، وأنزل الكتب، فتراه يهون من أمر الكفر بالله والشرك به، فيرى أنّ من التيسير وعدم التشدد مع غير المسلمين اعتبارهم مؤمنين ولو كانوا مشركين، وأنّ ما يعبدونه من دون الله من أوثان وأنبياء نوع من الإيمان المحمود، فلا يجوز الإنكار عليهم، ولا يجوز بغض ما هم عليه من الكفر والشرك بالله.

وهذا التصور الخاطئ مبني على عدم فهمهم لمقصود الشريعة الإسلامية، ولا للغرض من إرسال الرسل، ولا لحال أقوامهم مع رسلهم، وعدم معرفتهم سبب عدم إيمان الأقوام برسلهم وأنبيائهم.

والصحيح أنه لا بد أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم كانوا يعرفون الله، وكانوا يتعبدون ويتقربون إليه بشيء من العبادات المتوارثة عن الأمم  السابقة كاليهود والنصارى، ما ورد عن إبراهيم الخليل عليه السلام.

وأما عن معرفة أهل الجاهلية بالله  فإنهم كانوا يقرون بأنّ الله هو الخالق الرازق المدبر للكون، قال تعالى : " وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ" [العنكبوت:61] وقال سبحانه : " قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ" [يونس :30-31 ]

وأما عن العبادات التي كانوا يتقربون بها إلى الله فكثيرة منها الصلاة والحج، كما قال تعالى : " وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ" [الأنفال:35 ]، والنذر بالطاعة كما روى البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، قَالَ « فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ » فكان النذر بفعل الطاعات معروفا قبل الإسلام .

وكذلك كانوا يصومون كما روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – يَصُومُهُ".

إذا لماذا عارض أهل قريش النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به ؟ 

الجواب : أنهم لم يوحدوا الله سبحانه وتعالى بالعبادة، بل تقربوا بالعبادة إلى الله وإلى الأوثان والأصنام والأنبياء والصالحين، فلم يقبل الله عبادتهم، فمعرفتهم بالله وعبادتهم تتعارض مع مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، التي تحتوي على ركنين أساسين وهما النفي والإثبات، نفي تأليه كل ما اتخذ آلهة تعبد، وإثبات الألوهية لرب واحد معبود وهو الله سبحانه وتعالى . 

قال تعالى مبيناً حقيقة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم التي رفضها أهل قريش : " وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ" [ص:4-6]

وأخبر سبحانه عن السبب الذي لأجله رفض كفار قريش الكفر بجميع ما اتخذوه آلهة مع الله، وإخلاص العبادة لرب واحد هو الله، وهو رغبتهم في التقرب إلى الله بواسطة هذه الآلهة المزعومة، فهي واسطة بينهم وبين الله، قال تعالى : " أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ" [الزمر:3 ] ، وقال سبحانه : " وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ " [يونس:18].

والنبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يرتض منهم كل ذلك حتى يؤمنوا بالله وحده لا شريك له، ويصرفوا له جميع عباداتهم القولية والفعلية الظاهرة والباطنة.

وهذه هي حقيقة دعوة الرسل والأنبياء، أرسلهم الله ليبينوا للناس المقصد من خلقهم، ويعرفوهم بالإله الحق المعبود، ويبينوا لهم العبادة التي سيتقربون بها إلى إلههم، والجزاء المترتب على الطاعة، والعقوبة المترتبة على المعصية.

قال تعالى مبينا المقصد من إرسال الرسل : " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" [النحل:36]

وبين الرسل جميعا خطورة الإخلال بعقيدة إفراد الله بالعبادة، واتخاذ الشركاء معه في العبادة، فهذا نوح عليه السلام يدعو قومه فيقول لهم : "  لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ " [الأعراف:59].

فأمر نوح قومه بعبادة الله وحده دون سواه، وبين لقومه أن عدم تحقيق هذا المقصد سيعرضهم للعقوبة في يوم القيامة، ولكن قومه أصروا على تأليه غير الله سبحانه وتعالى، " وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا  "  [نوح:23]، فماذا كانت العقوبة ؟
قال تعالى : " مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا" [نوح:25]

وهذا نبي الله هود عليه السلام أرسله الله إلى عاد ليدعوهم إلى إفراد الله بالعبادة وترك تأليه غيره فقال سبحانه : " وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ" [الأعراف:65 ]، فأجابوه قائلين : " قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" [الأعراف: 70 ].
فلما عتوا عن أمر ربهم ولم يحققوا المقصد من خلقهم ولم يستجيبوا لرسولهم جاءهم الجزاء من ربهم، قال تعالى : " قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ، فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ" [الأعراف:71-72]

وهذا نبي الله عيسى عليه السلام يأمر قومه بأن يفردوا الله بالعبادة ولا يصرفوها لكائن من كان، ولو كان له شخصيا، وبين لهم أن عدم تحقيق هذا الأمر يؤدي بهم إلى الشرك المتوعد صاحبه بالعذاب الأليم، قال تعالى : " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " [المائدة:72-73 ].

واستقراء هذا المعنى في كتاب الله يسير وسهل، وما ذكرته إنما هو أمثلة تبين حقيقة دعوة الرسل عليهم السلام، وأنهم لم يرتضوا من أقوامهم صرف شيء من العبادة لغير الله سبحانه وتعالى.

وفي ذلك دلالة على وحدة المقصد والغاية والهدف، وأن ما جاؤوا به هو الدين الذي أراده الله ورضيه من الناس، كما قال تعالى : "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)" [آل عمران:81-85]

لذلك من كفر وكذب برسول من رسل الله كان كافرا بجميعهم، قال الله تبارك وتعالى عن قوح نوح: " كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ" [الشعراء:105] فمع أن قوم نوح كذبوا بنبيهم نوح عليه السلام، لكن عدّهم الله مكذبين بجميع الرسل، لأنّ جميع الأنبياء والرسل جاؤوا بعقيدة واحدة ودين واحد على جميع البشر اتباعه والكفر بما عداه .

 فكيف يُقال بعد ذلك أنّ من عبد الله غير، واتخذه آلهة، وكفر باليوم الآخر، ولم يؤمن بجميع الرسل أنه من المؤمنين، وقد قال الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا" [النساء:136].

وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه .