الأربعاء، 4 نوفمبر 2020

مقال : الشفاعة عند أهل السنة والجماعة

              بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد.

فإنّ من أصول وقواعد أهل السنة والجماعة في توحيد الألوهية: لا يملك أحد أن يشفع لأحد يوم القيامة إلا بشرطين : الإذن من الله للشافع بأن يشفع، والرضا عن الشافع وعن المشفوع له. " 

فما هي الشفاعة، وما هي أنواعها ، وما عقيدة أهل السنة فيها ؟ 

أولا : معنى الشفاعة .

مأخوذ من شفع يشفع إذا طلب، فالطالب واحد فإذا أتى معه آخر صار شفعاً له بعد أن كان فرداً، فيضم المطلوب منه طلبه إلى الطالب فيرفعه إلى من عنده الأمر.

وفي الاصطلاح : ما يُطلب من الله بشروطه الشرعية، أو التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.

ثانيا : أنواع الشفاعة.

الشفاعة الواردة في القرآن والسنة  تنقسم إلى قسمين : شفاعة منفية ، وشفاعة مثبتة ، وبعض أهل العلم يقسمها إلى : شفاعة باطلة، وشفاعة صحيحة . 

فالشفاعة المنفية : هي التي نفاها الله - جل وعلا - عن أهل الشرك ، قال تعالى { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } فنفى ا الله عن جميع الخلق ، بما في ذلك الذين يخافون وهم أهل التوحيد ، كما نفاها عن غيرهم . أما عن أهل التوحيد فهي منفية عنهم إلا بشروط ، وهي : إذن الله للشافع أن يشفع ، ورضاه - جل وعلا - عن الشافع وعن المشفوع له.

ومن الشفاعة المنفية: الشفاعة التي تكون من غير إذن الله ولا رضاه، وتكون بطلبها ممن لم يُمكَّن من ذلك. 

ثانيا : الشفاعة المثبتة : وهي الشفاعة التي توفرت فيها الشروط الشرعية، وأعظم هذه الشروط شرطي الإذن والرضا، قال تعالى : "وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى" وقال سبحانه : " وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ" وقال سبحانه :" وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ" 

ثالثا : دليل الشفاعة . 

أولا : الشفاعة ملك خالص لله تعالى،  قال الله سبحانه وتعالى سبحانه تعالى : " أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" 

قال ابن كثير في التفسير (7/102): يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِلْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ شُفَعَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهُمُ الْأَصْنَامُ وَالْأَنْدَادُ، الَّتِي اتَّخَذُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ حَدَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ، بَلْ وَلَيْسَ لَهَا عَقْلٌ تَعْقِلُ بِهِ، وَلَا سَمْعٌ تَسْمَعُ بِهِ، وَلَا بَصَرٌ تُبْصِرُ بِهِ، بَلْ هِيَ جَمَادَاتٌ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْحَيَوَانِ بِكَثِيرٍ . 

ثُمَّ قَالَ: قُلْ: أَيْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ مَا اتَّخَذُوهُ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، أَخْبِرْهُمْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَاهُ وَأَذِنَ لَهُ، فَمَرْجِعُهَا كُلّهَا إِلَيْهِ " 

فإذا تقرر ذلك وأن الشفاعة منفية عن كل أحد سوى الله - تعالى - لأنه هو الذي يملك الشفاعة وحده ، بطل تعلق قلوب المشركين - الذين يسألون الموتى الشفاعة -  بمسألة الشفاعة ؛ لأن الشفاعة ملك لله ، وهذا المدعو لا يملكها.

ثانيا: يشفع الشافعون يوم القيامة بعد إذن الله تعالى للشافع، ورضاه عن الشافع والمشفوع فيه. 

أما دليل الإذن فقول الله سبحانه وتعالى : " مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ " وهذه الصيغة من صيغ العموم التي لم يخرج عنها أحد، حتى النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي البخاري قال صلى الله عليه وسلم "فَيَأْتُونِى فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّى فَيُؤْذَنُ { لِي } فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ سَاجِدًا ، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، وَقُلْ يُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ." 

وقول الله تعالى : " يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا" 

أما دليل الرضى عن الشافع والمشفوع فيه فقوله تعالى : " وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ " 

وقد جمعها الله في قوله " وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى"

وهنا فائدة ذكرها الشيخ محمد بن صالح العثمين رحمه الله عن الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال في  شرح العقيدة الواسطية  (2/ 168) : " لكن الشفاعة العظمى في الموقف عامة لجميع الناس من رضي الله عنهم ومن لم يرض عنهم. " 

رابعا : للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث شفاعات:

1 - الشفاعة العظمى، دل عليها ما رواه البخاري من قول النبي صلى الله عليه وسلم : " فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُونَ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَأَنْطَلِقُ فَآتِى تَحْتَ الْعَرْشِ ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّى عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَىَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي ثُمَّ يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، سَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي ، فَأَقُولُ أُمَّتِى يَا رَبِّ ، أُمَّتِى يَا رَبِّ .." 

2 - والشفاعة لأهل الجنة ليدخلوا الجنة، وذلك أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط؛ وقفوا على قنطرة، فيقتص لبعضهم من بعض، وهذا القصاص غير القصاص الذي كان في عَرَصات القيامة، بل هو قصاص أخص، يطهر الله فيه القلوب، ويزيل ما فيها من أحقاد وضغائن؛ فإذا هُذِّبوا ونُقّوا؛ أُذن لهم في دخول الجنة، ولكنهم إذا أتوا إلى الجنة؛ لا يجدونها مفتوحة كما يجد ذلك أهل النار؛ فلا تفتح الأبواب، حتى يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الجنة أن يدخلوها.

وهاتان الشفاعتان خاصتان بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وهناك أيضًا شفاعة ثالثة خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، لا تكون لغيره، وهي الشفاعة في عمه أبي طالب.

3 - والشفاعة فيمن استحق النار من عصاة المؤمنين ودخلها بأن يخرج منها. 

خامسا : الشفاعة يوم القيامة ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بالأنبياء؛ بل تَشفع الملائكة ويَشفع المؤمنون بدرجاتهم: (العلماء والشهداء والصالحون يشفعون)؛ كما ثبت في الصحيح أنَّ الله سبحانه وتعالى يقول يوم القيامة «شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيأمر الله سبحانه وتعالى بأقوام في النار لم يعلموا خيرا قط أن يخرجوا»

مسألة : هل يوجد من يشفع ولا تقبل شفاعته ؟ 

الجواب نعم ، ومن ذلك ما ورد عن خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

فروى البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَيَقُولُ اللَّهُ إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ » 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَعَلَى وَجْه آزَرَ قَتَرَة وَغَبَرَة، فَيَقُول لَهُ إِبْرَاهِيم: أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُول أَبُوهُ: فَالْيَوْم لَا أَعْصِيك، فَيَقُول إِبْرَاهِيم: يَا رَبِّ إِنَّك وَعَدْتنِي أَنْ لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيّ خِزْي أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَد، فَيَقُول اللَّه: إِنِّي حَرَّمْت الْجَنَّة عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يُقَال: يَا إِبْرَاهِيم مَا تَحْتَ رِجْلَيْك؟ اُنْظُرْ، فَيَنْظُر فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخ، فَيُؤْخَذ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّار "

فهذا لما مات مشركًا لم ينفعه استغفار إبراهيم مع عظم جاهه وقدره عند الله سبحانه وتعالى.

سادسا: إذا تقرر أن الشفاعة لا يملكها أحد من المخلوقين، وإنما هي حق لله تعالى، فإنها تطلب من الله ولا تطلب من المخلوق. 

مسألة : ما حكم طلب الشفاعة من المخلوقين ؟ 

أولا : طلب الشفاعة من الأحياء .

الحيّ الحاضر الذي يسمع يجوز أن يستشفع  وذلك بطلب الدعاء منه.

 ولهذا سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لهم في حياته صلى الله عليه وسلم لأنه حي حاضر يسمع.

وقد ثبت في الصحيح أن عمر رضي الله عنه لما جاءت المجاعة وأصاب الناس الكرب في عام الرَّمادة أنه قال لما استسقى بالناس(اللهم إنا كنا إذا أجدبنا استسقينا بنبيك، وإنا الآن نستسقي بعم نبيك اللهم فأسقنا، يا عباس قم فأدعُ ربَّك)

فدل هذا على أنهم كانوا يطلبون الشفاعة من النّبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيا : طلب الشفاعة من الأموات .

وهذا الطلب محرم، وهو ما كان عليه أهل الشرك، فإنهم كانوا يقولون: ما دعوناهم – أي الأصنام - وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة، قال الله سبحانه وتعالى سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} ، وقال سبحانه {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}. 

فإذا علمنا أن الشفاعة حق خالص لله تعالى لا يعطيه الله لأحد من خلقه إلا بشروط أهمها : الإذن والرضى، علمنا خطأ من طلب الشفاعة من ميت بسبب جاهه وسلطانه عند الله" 

وسبب وقوعهم في هذه الشبهة : 

أنهم اعتقدوا أن الشفاعة عند الله من جنس شفاعة الناس بعضهم لبعض، والصحيح خلاف ذلك .

فالشفاعة عند الله تكون في مقام الافتقار وليست في مقام الوجاهة، فالعبد إذا شفع عند الله فإنما يشفع وهو عبد ذليل مفتقر إلى الله .

والشفاعة عند أهل الدنيا تكون لمن له جاه وعز عند المشفوع عنده ، والمشفوع عنده يجيب شفاعة هذا الشافع لما يرجوه عنده من إجابة شفاعته في يوم ما، فالمشفوع عنده له فضل على الشافع يرجوه في يوم ما.

أما الشفاعة عند الله فهي ليست من هذا القبيل، بل هي إكرام من الله لمن شاء من عباده أن يكون شفيعا ثم يكرم من شاء من عباده أن يؤذن له  في الشفاعة، فالفضل فيها لله ابتداء وانتهاء . 

وللرد عليهم يقال : 

أولا : الشفاعة يوم القيامة لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى ، قال تعالى " قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا " فلا تطلب إلا من الله . 

ثانيا : الشفاعة لكي تمنح من الله للعبد لها شرطان : الإذن من الله للشافع بأن يشفع، ورضى الله عن الشافع والمشفع فيه.

فهل تعلم أن الله أذن لمن سألته في الشفاعة ؟ الجواب لا  . 

فإن أذن له فهل تعلم أن الله رضي له في أن يشفع لك، وهل الله رضي عنك ليمكنه من الشفاعة فيك ؟ الجواب لا .

قال تعالى " قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ، وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ"  ، إذا اطلب الشفاعة من مالكها وليس ممن لا يمكلها . 


سابعا : قالت المعتزلة والخوارج : الشفاعة لأهل الكبائر لا تنفع، ولا لمن في النار  لقول الله :{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المدثر:48]. ووجه الاستدلال عندهم من الآية أنَّهُ قال { شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} بالجمع، فدلت الآية على أنَّ من في النار لا تنفعه الشفاعة لأجل عموم لفظ الشافعين فهو عام في كل من يشفع.

والرد عليهم من وجوه : 

الأول :أنَّ هذه الآية جاءت في سياق ذكر الكفار وأنهم في النار، فقال سبحانه وتعالى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45)وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46)حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47)فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المدثر:42-48]، فقوله {فَمَا} الفاء هنا ترتيبية تُرَتِّبُ النتيجة التي بعدها على الوصف الذي قبلها، والوصف الذي قبلها في الكافرين الذين وصفهم بقوله {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} ووصفهم بقوله {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} وهؤلاء هم الكفار.

والمسألة التي هي الشفاعة لأهل الكبائر هي في مَنْ كان مسلماً، أما المكذّب بيوم الدين والذي لم يصحَّ إسلامُه فإنه ليس هو محل البحث.

الثاني : أنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» رواه أبوداود، نص لا يحتمل التأويل، وكذلك قوله « أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ » رواه البخاري،  هذا فيه ظهور في الدلالة؛ لأنها تعم من قال لا إله إلا الله مخلصاً وصاحب الكبيرة قالها.


هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة في باب الشفاعة، والله أسال الإعانة والتوفيق، والحمد لله رب العالمين .

 


الثلاثاء، 8 سبتمبر 2020

مقال : النص الشرعي بين التسليم والعقل ج 2

بسم الله الرحمن الرحيم 

( رد النص الشرعي ) 


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده و رسوله، أما بعد 


فقد تكلمنا في ما سبق عن تعظيم المؤمن للنص الشرعي الصحيح الثابت، وعن التسليم والإذعان له، وإن مما يضاد ذلك ردّهُ وعدم قبولهِ رغم ثبوتهٍ وصحته، بل ربما مع إجماع العلماء على حكمه ومقتضاه، ومعارضتهُ برأي أو قول لمفكر أو فيلسوف وربما لمستشرق حاقد.


ومما هو معلوم قطعاً أنه لا يجوز للمسلم أن يردّ ما ثبت من النص الشرعي في كتاب الله تعالى أو ما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لتعلق الأمر بعقيدته وإيمانه، قال الله سبحانه وتعالى : " إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " [النور:51 ] ، قال المفسر السعدي رحمه الله في تفسيره للآية: "  أي: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} حقيقة، الذين صدّقوا إيمانهم بأعمالهم، حين يدعَونَ إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، سواء وافق أهواءهم أو خالفها، {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي: سمعنا حكم الله ورسوله، وأجبنا من دعانا إليه، وأطعنا طاعة تامة، سالمة من الحرج، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} حصر الفلاح فيهم؛ لأنّ الفلاح: الفوز بالمطلوب، والنجاة من المكروه، ولا يفلح إلا من حَكّمَ الله ورسوله، وأَطاعَ الله ورسوله. " ا.هـ 


وأخبر الله سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تَخيّر بعد ذلك فقد ضل ضلالاً مبيناً، قال الله سبحانه وتعالى : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا" [الأحزاب:36].

 قال ابن القيم رحمه الله: " فاختيارُ العبدِ خلافَ ذلك منافٍ لإيمانه وتسليمه، ورضاه بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً."  مدارج السالكين (2/ 185)


 وأقسم الله عز وجل على أنّ العباد لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله صلى الله عليه وسلم فيما وقع بينهم من خلاف، ولم يرض بذلك، بل لا بد وأن يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليماً.

 وهذا حقيقة الرضا والتسليم بحكمه، فقال الله سبحانه وتعالى : " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " [النساء:65]

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية : " قوله: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } يقسمُ تعالى بنفسه الكريمة المقدسة: أنه لا يؤمن أحدٌ حتى يحكم الرّسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحقُ الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً؛ ولهذا قال: { ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } أي: إذا حكّموك يطيعونكَ في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظاهرِ والباطنِ، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة. " تفسير ابن كثير (2/ 349)


 وقال ابن القيم رحمه الله :" فأقسم سبحانه أَنَّا لا نؤمن حتى نحكّم رسولهُ في جميع ما شجر بيننا وتتسع صدورنا لحكمه، فلا يبقى فيها حرج، ونسلّم لحكمه تسليماً، فلا نعارضه بعقل ولا رأي، فقد أقسم الله سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذين يقدمون العقل على ما جاء به الرسول، وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن آمنوا بلفظه. " مختصر الصواعق ص: 116 "


وبيّن الله سبحانه وتعالى أنّ ردّ النص الشرعي قد يفضي بصاحبه إلى الوقوع في الشرك والكفر بالله تعالى، فقال : " فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] .

 روى ابن بطة العكبري رحمه الله في كتابه (الإبانة الكبرى) (260/ 1) عن الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول: نظرتُ في المصحف فوجدتُ فيه طاعةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }  وجعل يكررها، ويقول: وما الفتنة؟ الشرك. لعله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ فيهلكه . " 


وتأملوا معي إلى هذا الموقف الذي فيه بيان عاقبة من ردّ النص الشرعي لهواه وفكره، وإلى أيّ مدى وصل به الحال، قَالَ الذَّهَبِيّ رحمه الله في كتابه ميزان الاعتدال في نقد الرجال : عبيد الله بن معَاذ، عَن أَبِيه أَنه سمع عَمْرو بن عبيد ( وهو رأس المعتزلة )  يَقُول: وَذكر الحَدِيث عَن الصَّادِق المصدوق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم – يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ .... " وقد رواه البخاري ومسلم.

 فَقَالَ عَمْرو بن عبيد: لو سَمِعت الْأَعْمَش يَقُوله لكذبته، وَلو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته، وَلَو سَمِعت ابْن مَسْعُود يَقُوله مَا قبلته، وَلَو سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول هَذَا لرددته، وَلَو سَمِعت الله يَقُول هَذَا لَقلت: لَيْسَ على هَذَا أخذت ميثاقنا" ا.هـ ، نسأل الله السلامة والعافية.


وهذه العاقبة نراها اليوم رأي عينٍ في بعض متصدري الإعلام من أرباب الفكرِ المنحرف، إذ رفعوا راية تحكيم العقل وعدم التقليد الأعمى، ثم تطور حالهم إلى التشكيك في السنة وكتبها كالبخاري ونحوه، وانتهى بهم الحال إلى التشكيك في أصول الدين وأسسه تحت مسمى نقد الموروث، ولا يُستبعد وقوع بعضهم في الإلحاد والعياذ بالله.


فأصلُ كلِ شرٍ معارضةُ النّص الشرعي الصحيح الثابت بالرأي والمعقول، وتقديمُ الهوى على الشرع، قال الله سبحانه: "فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]


وأمةُ الإسلام بجميع فِرقِها تثبت القرآن الكريم، ولا يستطيع فرد منها ولا من غيرها أنْ يحرف أو ينكر حرفاً منه، ولكن الأمر مع السنة مختلف تماماً، إذ تجرأ عليها من لا علم له بها، فبدؤوا يردون السنة إما جملة أو بالاختيار والتشهي.  


وأمّا أهل السنة فيعتقدون أنّ النّص الشرعي كتاباً كان أو ما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم حجة بنفسه في العقائد والعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والحدود والقصاص وجميع أمر الشرع، قال الطحاوي في العقيدة الطحاوية : " وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ ".


واشتد نكير الصحابة رضوان الله عليهم على من عارض النص الشرعي بمجرد رأيه وهواه، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي قَتَادَةَ حَدَّثَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه فِي رَهْطٍ مِنَّا، وَفِينَا بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ، فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ ". قَالَ أَوْ قَالَ : " الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ ".

 فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوِ الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ وَمِنْهُ ضَعْفٌ. قَالَ فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ وَقَالَ: أَلاَ أُرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتُعَارِضُ فِيهِ.


فنجد الصحابي الجليل يغضب من بشير بن كعب لأنه عارض حديث النبي صلى الله عليه وسلم بما في بعض الكتب من أقوال، لأن الصحابة رضوان الله عليهم تربوا على تعظيم سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعدم تجاوزها إلى غيرها.


وهاك مثالاً آخر يدلك على شدة تعظيم الصحابة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وشدتهم على من يعارضها بقول أو رأي، فروى مسلم عن سَالِم بْن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لاَ تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا ". قَالَ فَقَالَ بِلاَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ. قَالَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقُولُ وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ.

والسب المذكور في الحديث فسرته بعض الروايات بالدعاء عليه، وبلال المعترض ولد عبد الله بن عمر رضي الله عنه الله عنهما، ومع ذلك لم يمنعه قربه منه وصلة الرحم بينهما من الشدّةِ عليه وتأديبه، تعظيماً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وزجراً لمن رد شيئاً منها.


وعلى هذا كان الصحابة رضوان الله عليهم في تعظيمهم لسنةِ النبي صلى الله عليه وسلم وشدتهم على من يعارضها برأي أو قول، قال ابن القيم رحمه الله : "  فانظر هل كان في الصحابة من إذا سمع نصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضهُ بقياسهِ، أو ذوقهِ، أو وجدهِ، أو عقلهِ، أو سياستهِ؟ 

وهل كان قط أحدٌ منهم يقدمُ على نصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلاً أو قياساً، أو ذوقاً، أو سياسةً، أو تقليد مقلد؟ 

فلقد أكرم الله أعينهم وصانها أنْ تنظرَ إلى وجه من هذا حاله، أو يكون في زمانهم، ولقد حَكمَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه على من قدّم حكمهُ على نصّ الرسول بالسيف، وقال: هذا حكمي فيه، فيالله! كيف لو رأى ما رأينا، وشاهد ما بُلينا به من تقديم رأي كل فلان وفلان على قول المعصوم صلى الله عليه وسلم، ومعاداة من اطرح آراءهم، وقدم عليها قول المعصوم؟ فالله المستعان، وهو الموعد، وإليه المرجع. " مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 334)


 وجميع العلماءِ والأئمةِ الأعلام على الاحتجاج بالنص الشرعي وتعظيمه، ولا يقدمون عليه أي دليل آخر. ومن الأمثلة على ذلك ما نقله ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 24)  عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال : وَكَانَ فَتَاوِيهِ مَبْنِيَّةً عَلَى خَمْسَةِ أُصُولٍ: [أُصُولُ فَتَاوَى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ] أَحَدُهَا: النُّصُوصُ، فَإِذَا وَجَدَ النَّصَّ أَفْتَى بِمُوجَبِهِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى مَا خَالَفَهُ وَلَا مَنْ خَالَفَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ ....  وَلَمْ يَكُنْ يُقَدِّمُ عَلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَمَلًا وَلَا رَأْيًا وَلَا قِيَاسًا وَلَا قَوْلَ صَاحِبٍ وَلَا عَدَمَ عِلْمِهِ بِالْمُخَالِفِ الَّذِي يُسَمِّيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إجْمَاعًا وَيُقَدِّمُونَهُ عَلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ" وهكذا بقية الأئمة الأعلام .


وتأملوا معي إلى موقف الإمام الشافعي رحمه الله الذي يبين موقف المسلم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: سَمِعْتُ الْحُمَيْدِي يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَتَاه رَجُلٌ فَسَأَلَه عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: قَضَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ رجُلُ لِلشَّافِعِي: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟! فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَرَانِي فِي كَنِيسَة! تَرَانِي فِي بِيعَة! تَرَى على وَسَطِي زُنَّار؟! أَقُولُ لَكَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟!


فالمسلم يثبتُ على طريقتهم وهديهم، ولا يلتفت إلى من يزهد المسلمين في الوحي بحجج واهية، وادّعاءات كاذبة، وأوهام ساقطة لا تقوم على أساس صحيح. 


والعجب من أقوام من المسلمين سايروا أهل الاستشراق المعادين للإسلام وأصوله، فصاروا يلوكون شبهاتهم حول النص الشرعي، ويتقيؤونها في برامجهم وفي وسائل التواصل الاجتماعي تحت مسى الحداثة والعصرانية ونقد الموروث، وليس هدفهم إلا الطعن في النص الشرعي وفي أصول الدين وثوابته، فأمثال هؤلاء يُنبذون ولا يُتابعون، قال الله سبحانه وتعالى محذرا منهم: " {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف: 28].


فهؤلاء أهلُ انحرافٍ عقدي وأهلُ ابتداع في الدين، كما وصفهم ابن تيمية رحمه الله بقوله : " فلا تجد قط مبتدعاً إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه، ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه. " درء تعارض العقل والنقل (1/ 221)


فلا يرد النص الشرعي إلا من كان محادّاً لله ولرسوله، وقد قال الله سبحانه وتعالى: " {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63] ، وقال الصديق أبوبكر رضي الله عنه: " لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْمَلُ بِهِ إِلاَّ عَمِلْتُ بِهِ ، فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ" رواه البخاري ومسلم، فمن يرد سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة معرضٌ نفسهُ للزيغ والانحراف .


قال ابن بطة رحمه الله: "  هذا يا إخواني الصديق الأكبر يتخوف على نفسه الزيغ إن هو خالف شيئاً من أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، فماذا عسى أن يكون من زمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وبأوامره، ويتباهون بمخالفته، ويسخرون بسنته؟ نسأل الله عصمة من الزلل ونجاة من سوء العمل." الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 246).


ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بعض خصال أهل النفاق والتي منها الإعراض عن النص الشرعي والصد عنهم، فقال سبحانه : " {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } [النساء: 61]، فكذلك كل من رد النص الشرعي لمجرد هواه ورأيه فإنّ فيه هذه الخصلة من خصال أهل النفاق.


فالحذر الحذر من أمثال هؤلاء الشرذمة من الناس، ممن زاغت قلوبهم، وضلت عقولهم، جاء عن التابعي الجليل أبي قلابة قال: إذا حدثت الرجل بالسنة، فقال: دعنا من هذا وهات كتاب الله، فاعلم أنه ضال. " 


قال الذهبي معلقا على الأثر:  وإذا رأيت المتكلم المبتدع يقول: دعنا من الكتاب والأحاديث الآحاد وهات العقل، فاعلم أنه أبو جهل. " سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 472)


فعلى المسلم أن يعتز بدينه وبعقيدته، ولا يجعل دينه عرضة لأهل الزيغ والانحراف يتلاعبون به تحت مسمياتٍ مبهرجة، وادعاءاتٍ كاذبة، وشبهاتٍ مضللة، قال ابن بطة رحمه الله – في كتاب الإبانة الكبرى (1/ 260) : " فالله الله إخواني احذروا مجالسة من قد أصابته الفتنة فزاغ قلبه، وعشيت بصيرته، واستحكمت للباطل نصرته، فهو يخبط في عشواء، ويعشو في ظلمة أن يصيبكم ما أصابهم، فافزعوا إلى مولاكم الكريم فيما أمركم به من دعوته، وحضكم عليه من مسألته، فقولوا:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [آل عمران: 8]. ا.هـ


 فالنجاة الحقيقية لن تتحقق للعبد إلا كما قال تعالى : " {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 88، 89] والقلب السليم هو قلب المؤمن السالم من كل شبهة في الدين كالشرك بالله والبدع والرياء، والسالم من كل شهوة في الدنيا من الذنوب والمعاصي، قال ابن القيم –رحمه الله-  ( الداء والدواء 187): (ولا تتم له سلامته مطلقا حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والاخلاص" ا.هـ


وفقني الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين . 



الجمعة، 7 أغسطس 2020

مقال : الميثاق الغليظ

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، أما بعد

 فالزواج علاقة ينظمها الشرع ولا تخضع للرغبات والأهواء الشخصية، وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بقوله " وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا " [النساء:21].


ولذلك نجد أنّ الله سبحانه يحذر من التلاعب بأحكامه، فختم بعض الآيات التي بيّن فيها أحكام الزواج بقوله : " تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ." [البقرة:229]، وقوله : " وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " [البقرة:230] وقوله : " وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [البقرة:231] ، فيحذر المسلم من التلاعب به، تحت مسميات وأهواء تلبي رغبات شخصية، قد تعرضه للوقوع فيما حذر الله منه، خصوصاً إذا وصل الأمر إلى تحريف أحكام الزواج الشرعية بحجة الخلاف الفقهي.


ولأهمية الأمر وضع العلماء قاعدة وهي: الأصل في الأبضاع التحريم، فإذا تقابل في المرأة حل وحرمة غُلّبت الحرمة ، وفي حجة الوداع أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء فقال: "فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ. " ‏ فدل قوله صلى الله عليه وسلم : (وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ) على أنّ الأصل في النساء تحريم الفروج، حتى يأتي أمر يُحلها، وهو كلمة الله، والمراد  (بكلمة الله )عقد النكاح الذي شرعه الله وبين أحكامه.


والشريعة أباحت الزواج لأجل تحقيق مقاصد، فإذا خلا هذا الزواج من هذه المقاصد كان عبثاً، قال ابن تيمية في إقامة الدليل على إبطال التحليل (5/ 31) : " وكذلك الإبضاع حرام قبل العقد، وإنما أبيحت بعد العقد، وأبيح العقد عليها للانتفاع بمقاصد النكاح والنفع بها، فإذا عَقَد لغير شيء من مقاصد النكاح كان ذلك حراماً عبثاً. " 


‏وإشباع الرغبة الفطرية في الرجل ليست هي المقصد الأوحد في الزواج لأجل أن يسعى لتحقيقها، بل توجد مقاصد أُخر منها تحقيق المودة والرحمة، والمساكنة الزوجية، والولد ، وحصول علاقات المصاهرة وغيرها.  


ولأجل تحقيق هذه المقاصد مجتمعة أو أكثرها كان الأصل في الزواج أنه على التأبيد وحُرّم فيه التأقيت، كزواج المتعة.

ومما يؤكد ما ذكرناه ما رواه أبوداود عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ وَإِنَّهَا لاَ تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ « لاَ ». ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ : " تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ ». فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن هذا الزواج لأنه لا يحقق المقاصد المرجوة منه.


 ومن الأمثلة التي تبين تحريم الشرع التلاعب بالزواج قول النبي صلى الله عليه وسلم : لعن الله المحلل والمحلل له " رواه الترمذي، فنهى عن نكاح التحليل، مع أنّ شروطه الظاهرة مكتملة، من الولي والشهود والرضى والمهر، ولكن اختل فيه جانب مقصد النكاح، فليس المقصود منه تحقيق المودة والرحمة، ولا الولد، ولا المصاهرة، فمنعه المشرع لأجل ذلك.


قال ابن تيمية رحمه الله في إقامة الدليل على إبطال التحليل (3/ 474) : " اللَّهَ سُبْحَانَهُ اشْتَرَطَ لِلنِّكَاحِ شُرُوطًا زَائِدَةً عَلَى حَقِيقَةِ الْعَقْدِ تَقْطَعُ عَنْهُ شُبْهَةَ بَعْضِ أَنْوَاعِ السِّفَاحِ بِهِ، مِثْلَ اشْتِرَاطِ إعْلَانِهِ إمَّا بِالشَّهَادَةِ أَوْ تَرْكِ الْكِتْمَانِ أَوْ بِهِمَا.

 وَمِثْلُ اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِيهِ، وَمَنَعَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَلِيَهُ، وَنَدَبَ إلَى إظْهَارِهِ؛ حَتَّى اُسْتُحِبَّ فِيهِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ وَالْوَلِيمَةُ، وَكَانَ أَصْلُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } وَ { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } وَإِنَّمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْإِخْلَالِ بِذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى وُقُوعِ السِّفَاحِ بِصُورَةِ النِّكَاحِ، وَزَوَالِ بَعْضِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ مِنْ جحد الْفِرَاشِ، ثُمَّ إنَّهُ وَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَ لِلنِّكَاحِ حَرِيمًا مِنْ الْعِدَّةِ يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَأَثْبَتَ لَهُ أَحْكَامًا مِنْ الْمُصَاهَرَةِ وَحُرْمَتِهَا وَمِنْ الْمُوَارَثَةِ زَائِدَةً عَلَى مُجَرَّدِ مَقْصُودِ الِاسْتِمْتَاعِ، فَعُلِمَ أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهُ سَبَبًا وَصِلَةً بَيْنَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الرَّحِمِ كَمَا جَمع بَيْنَهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { نَسَبًا وَصِهْرًا }.

وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ تَمْنَعُ اشْتِبَاهَهُ بِالسِّفَاحِ وَتُبَيِّنُ أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَلل بِالسِّفَاحِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ، حَيْثُ كَانَتْ هَذِهِ الْخَصَائِصُ غَيْرَ مُتَيَقَّنَةٍ فِيهِ. " ا.هـ


ومما يبين عظيم حقوق الميثاق الغليظ أنّ الله سبحانه وتعالى قد بين هذه الحقوق في القرآن الكريم، قال الله سبحانه وتعالى : " {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 228].


كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحقوق في أعظم المواقف والخطب، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم عرفة في حجة الوداع التي قرر فيها قواعد وأصول عظيمة، ومنها حقوق الزواج فقال : " فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ. فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ." رواه مسلم 


ورغم عظم هذا الميثاق وُجد من يتلاعب من الرجال والنساء بأمر الزواج، الأمر الذي أدى إلى وقوع مفاسد عظيمة، وللأسف أن يتم هذا التلاعب تحت شعار الرغبة في العفة والتعدد في الزواج، وبعد الزواج ما يلبث أن يبقى مع الزوجة إلا يسيراً ثم يطلقها، وقد أضمر نية الطلاق قبل الدخول.


وُجدت مجموعات في برنامج الواتساب والتلجرام تحمل مسميات التعدد والتشجيع على ثقافة التعدد ، والتعدد أمر مشروع لا يمكن لأحد أن ينكره، بل قال بعض أهل العلم أن الأصل في الزواج التعدد، ولكن هذا التعدد مشروط بالقدرة المادية والبدنية والقدرة على العدل، قال الله سبحانه وتعالى : " {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } [النساء: 3]


ومن كان غير قادر على التعدد فيحرم عليه الزواج، قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في الشرح الممتع على زاد المستقنع (12/ 9) : " ومن ذلك إذا كان الإنسان معه زوجة وخاف إذا تزوج ثانية ألا يعدل، فالنكاح حرام لقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، فأمر الله ـتعالى  بالاقتصار على الواحدة إذا خفنا عدم العدل. " 

وبعض من تزوج بأخرى ضيع حقوق بيته الأول، وربما الثاني، فقصر في النفقة، وقصر في حقوق الزوجتين والأسرتين، لدرجة أنّ أحدهم قدم استقالته من جهة عمله حتى لا تطالب زوجاته بالنفقات عن طريق القضاء، وهذا نوعٌ من العبث والجهل وسوء تصرف، فمن أعظم الإثم تضييع حقوق من تحت ولايته من الزوجات والأولاد، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ. " رواه مسلم، وعند أبي داود في السنن" كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ. " ، ومن ثم يقع في ظلم زوجاته وأولاده، وقد قال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: " يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا." رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: " اتَّقوا الظلْمَ؛ فإنَّ الظلْمَ ظُلُماتٌ يومَ القِيامَة" رواه مسلم.


ومن العجيب أنّ بعضهم يقبل على الزواج رغم علمه بعجزه عن الوفاء بحقوق الزوجة، ولكنه يتعلق بشبهة يرددها البعض، فلمّا تذكره  بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "  مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ " رواه أبوداود يقول : لأن ألقى الله وأنا شقي مائل خير من ألقاه بكبيرة الزنى، وللجواب عن ذلك أقول : 

أولا : الأصل في المسلم أنه معظم لحرمات الله سبحانه وتعالى، فيتجنب الصغائر والكبائر، قال الله سبحانه وتعالى : " {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] وقال "{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)}" [الشورى: 36، 37].

ثانيا : ظلم الزوجة والأولاد كبيرة ليست بالهينة، فهي ذنب يتعلق به حقوق الناس، وحقوهم مبنية على المشاحة والمطالبة، ولا تسقط بالتوبة إلا بعد أن يؤدي الحق الذي لهم، أو يتحلل منهم فيسامحوه ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ كانَتْ عندَةُ مَظْلَمَةٌ لأخيه مِنْ عِرْضٍ أو مِنْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحلَّلْهُ مِنْهُ اليومَ، مِنْ قَبْلِ أنْ لا يَكونَ دِينارٌ ولا درهم، إنْ كانَ لَهُ عَملٌ صالحٌ؛ أخذَ منْهُ بقَدْرِ مَظْلَمَتِه، وإن لَمْ تَكَنْ لَهُ حَسنَاتٌ؛ أخذَ مِنْ سيِّئاتِ صاحبِهِ فَحُمِلَ عليه". رواه البخاري

فالذي يظن أنه أهون عليه أن يلقى الله بكبيرة الظلم وعدم العدل بين الزوجات، على أن يلقاه بكبيرة الزنى لم يتصور عظم عاقبة الظلم في الدنيا والآخرة، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجَّلَ الله لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ، مِنَ الْبَغِيِّ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ. " رواه الترمذي .


ثالثا : ليس بصواب ما يدعونه من وقوعهم في الضرورة التي تبيح لهم فعل المحرم، ويستدلون بقاعدة : " الضرورات تبيح المحضورات "، و ذلك من وجوه :

الأول : الواحد منهم لديه زوجة – في الغالب - يعف بها نفسه عن الحرام، وبالتالي فإن الخوف من الوقوع في الزنى غير متصور، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَةً فَدَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ فَقَضَى حَاجَتَهُ وَخَرَجَ وَقَالَ  : " إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ " رواه مسلم ، وعند الترمذي : " إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ مَعَهَا مِثْلَ الَّذِى مَعَهَا "

الثاني : إذا كان الرجل محتاجاً لأكثر من زوجة، ولا يكتفي بواحدة، وعجز عن الزواج بأخرى، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى علاج للوقاية من الحرام، قال صلى الله عليه وسلم:" 

يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ. " رواه البخاري.

الثالث : من يدعي الضرورة وأنه ما تزوج الثانية إلا لخوفه من الزنى، رغم عدم مقدرته المالية على الزواج، وعدم مقدرته على العدل، فنقول له لماذا تطلق إذا ؟ 

ثم تبحث عن أخرى وبعد الدخول تطلقها، ثم تتزوج بأخرى ثم تطلقها .  

فحاجتك للزوجة الأخرى قائمة، فاستمر معها ولا تظلمها ولا تطلقها أو تجبرها على طلب الخلع.


وفي نهاية هذا المقال أوكد على أنّ التعدد للرجل حق مشروع، فله أن يتزوج بأربع نسوة، وبعض أهل العلم ذكر أن الأصل في الزواج التعدد، ولكن بشرط القدرة المالية والبدنية، والقدرة على العدل بين الزوجات، والمقصود من هذه الكتابة التحذير من ظلم الزوجات والأولاد، وطلاق النساء لغير سبب، سوى الرغبة في المتعة، مع التحذير من الانسياق وراء الشهوات التي قد تفضي بالعبد إلى الوقوع في الفواحش والإثم.

كما أذكر إخواني بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِى" رواه الترمذي.


والحمد لله رب العالمين .

الثلاثاء، 14 يوليو 2020

مقال : النص الشرعي بين التسليم والعقل ج 1



                     بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد

    فمن نعمة الله على البشرية أن بعث  إليها النبيّ محمداً صلى الله عليه وسلم، فأخرجهم من ظلمات الجاهلية والكفر والشرك إلى نور التوحيد والهداية، قال الله سبحانه وتعالى: " لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " [آل عمران:164] ، وأيده سبحانه وتعالى بالوحي، قال عز وجل : "  وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى " [النجم:3-4]، وجعل الهداية في اتباع هذا الوحي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله سبحانه وتعالى : " ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ" [البقرة:2 ]،  وجعل الهداية في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والسير على سنته وهديه، فقال سبحانه : "  وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ " [الشورى:52-53 ].

فالوحي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم يشمل القرآن المتلو، والسنة الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً كانت أو فعلاً او تقريراً، روى الأوزاعي عن حسان بن عطية رحمه الله ( ت 130 هـ ) أنه قال : "كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، يعلمه إياها كما يعلمه القرآن" رواه الدرامي في سننه.

فمصدر الكتاب والسنة واحد وهو الوحي، ولكن غاير الله بينهما في بعض الأحكام، فجعل القرآن أصلاً، والسنة أصلاً آخر متعلق بالقرآن تفصيلاً وبياناً، قال الله سبحانه وتعالى : " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" [النحل:44]
فمبنى الدين كله على الوحي، ولذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين باتباع الوحي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله سبحانه وتعالى : " اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ  " [الأنعام:106] وقال سبحانه : " قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " [الأعراف:203] وقال سبحانه : "  وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ". [يونس:109]

فلا تجد حكماً متعلقاً بالدين إلا ودليله الوحي، كتاباً أو سنة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله  في مجموع الفتاوى (11/ 490) : " فَيَأْخُذُ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعَ دِينِهِمْ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْعَقْلِ الصَّرِيحِ، فَإِنَّ مَا خَالَفَ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ." ا.هـ

ولذلك عظّم الله نصوص الوحي، وأمر بالتمسك بها والعمل بها، فجاءت الآيات الكريمة حاثة المسلم على التسليم لهذا النص الشرعي الثابت، قال الله سبحانه وتعالى : "  وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ " [لقمان:22] وقال سبحانه : "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " [النساء:65] ، وقال سبحانه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ " [الأنفال:24 ] وقال سبحانه : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا"[الأحزاب:36] 

وبيّن الله سبحانه أن من يعرض عن التسليم للنص الشرعي فإنما يتبع هواه، وأنه من أهل الظلم والضلال، فقال سبحانه : " فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " [القصص:50]

فالمسلم يُسَلّم لنصوص الوحي فيما يتعلق بالغيبيات ، وما يتعلق بالأخبار والقصص الواردة في النص، ويمتثل للأوامر والنواهي الشرعية، سواء علمنا الحكمة منها أو لم نعلم.

ولو تأملنا الآيات التي يذكر الله فيها صفة الاستسلام للوحي الإلهي نجد الله سبحانه وتعالى يربطه بالإيمان، قال تعالى : " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [النساء:65]، وقول الله سبحانه: "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا" [الأحزاب:22 ] 

ومن صفة أهل الإيمان الإيمانُ بجميع ما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مع السمع والطاعة، قال الله سبحانه وتعالى :"آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" [البقرة:285]

وهذا يقتضي من المؤمن أن يجعل النص الشرعي الصحيح الثابت وهو الوحي الإلهي حَكماً عليه، لا أن يتحكم هو فيه وفي قبوله أو رده، لذلك نهى الله عباده المؤمنين عن التقدم على النص الشرعي الثابت، قال الله سبحانه وتعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " [الحجرات:1 ]
قال المفسر السعدي -رحمه الله- في تفسير الآية : " هذا متضمن للأدب، مع الله تعالى، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعظيم له، واحترامه، وإكرامه، فأمر الله عباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان، بالله وبرسوله، من امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين، خلف أوامر الله، متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في جميع أمورهم، و أن لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا يقولوا، حتى يقول، ولا يأمروا، حتى يأمر، فإن هذا، حقيقة الأدب الواجب، مع الله ورسوله، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته تفوته السعادة الأبدية والنعيم السرمدي، وفي هذا النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم على قوله، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب اتباعها، وتقديمها على غيرها كائناً من كان. " ا.هـ

وعلى هذا الأمر كان الصحابة رضوان الله عليهم، ومن مواقفهم الدالة على تسليمهم للوحي :

1 )  ما رواه البخاري ومسلم عن زَيْد بْن أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - قَبَّلَ الْحَجَرَ وَقَالَ لَوْلاَ أَنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ
فالدافع لعمر -رضي الله عنه- في تقبيله الحجر التسليم للسنة المتمثلة في فعل النبي صلى الله عليه وسلم، دون أن يعارض ذلك برأي أو قياس.

2 ) وعن مَالِك بْن مِغْوَلٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَصِينٍ قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: لَمَّا قَدِمَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ مِنْ صِفِّينَ أَتَيْنَاهُ نَسْتَخْبِرُهُ، فَقَالَ اتَّهِمُوا الرَّأْي ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِى جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ لَرَدَدْتُ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
وهذه الحادثة كانت في غزوة الحديبية، فقد صَعُب على بعض صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ما رأوه من الحال التي تمت فيها المصالحة، فلم يستطيعوا أن يدخلوا مكة ليعتمروا، ولا أن يستنقذوا أبا جندل بن سهيل وقد جاءهم يطلب نصرتهم، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أبي بكر رضي الله عنه يستشكل الحال التي هم عليها، فكان مما رد عليه أبوبكر رضي الله عنه أن قال له : " أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ وَهْوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ. " رواه البخاري  

3) ومن صور ذلك : حال الصحابة رضوان الله عليهم في غزوة الأحزاب، قال الله تعالى في وصف الحال:" إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) " [الأحزاب: 10-12] 
أما المؤمنون الصادقون فكان قولهم : "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا " [الأحزاب:22 ]
قال ابن كثير في التفسير (6/ 392) : " أَيْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ الَّذِي يَعْقُبُهُ النَّصْرُ الْقَرِيبُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}... وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَمَا زَادَهُمْ} أَيْ: ذَلِكَ الْحَالُ وَالضِّيقُ وَالشِّدَّةُ مَا زَادَهُمْ {إِلا إِيمَانًا} بِاللَّهِ، {وَتَسْلِيمًا} أَيِ: انْقِيَادًا لِأَوَامِرِهِ، وطاعة لرسوله".

4) ومن صور تسليم الصحابة رضوان الله عليهم للوحي: ما رواه عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ. رواه البخاري.
فجاء تطبيقهم للنص والعمل به من فورهم دون تأجيل وتأخير، فقد كان بإمكانهم أنّ يستمروا على حالهم في الصلاة مستقبلين جهة بيت المقدس، على أن يستقبلوا الكعبة في صلاة الظهر، لكنهم لتعظيمهم أمر الله ورسوله امتثلوا الأمر من فورهم.

5 ) ومن صور تسليم الصحابة رضوان الله عليهم للوحي: قول أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه –: كُنْتُ أَسْقِى أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ، فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا، فَأَهْرَقْتُهَا. رواه البخاري.
فها هم الصحابة رضوان الله عليهم يأتيهم خبر الوحي وتحريمه للخمر، فيستسلمون له من فورهم امتثالاً، وقد كانت الكؤوس في أيديهم.

6) عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه الله عنهما قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاَةَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهَا لِمَ تَخْرُجِينَ وَقَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ، قَالَتْ وَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي؟ قَالَ: يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ. " رواه البخاري ومسلم.
فها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يغار على زوجته أن تخرج لصلاة الجماعة في المسجد، ومع ذلك يقدم الحكم الشرعي على ما في نفسه وهواه.

7 ) ومن صور تسليم الصحابة رضوان الله عليهم للوحي ما ورد عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه الله عنه قَالَ: كُنَّا نُحَاقِلُ الأَرْضَ - أي: نتعامل فيها بالمزارعة -  عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَنُكْرِيهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، فَجَاءَنَا ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلٌ مِنْ عُمُومَتِى فَقَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا، نَهَانَا أَنْ نُحَاقِلَ بِالأَرْضِ فَنُكْرِيَهَا عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، وَأَمَرَ رَبَّ الأَرْضِ أَنْ يَزْرَعَهَا أَوْ يُزْرِعَهَا، وَكَرِهَ كِرَاءَهَا وَمَا سِوَى ذَلِكَ.
فتأملوا إلى قول الصحابي رضي الله عنه : " نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا" ، فكانوا رضي الله عنه الله عنهم يرون أن النفع في فعلهم، ولكنهم قدموا طاعة الله ورسوله، ورأوا أن النفع المترتب عليها أعظم .

8 ) ومن صور تسليم الصحابة رضوان الله عليهم للوحي : لما نزل قوله تعالى ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) إِلَى قَوْلِهِ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فَدُعِي عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا
فكانت الاستجابة فورية وسريعة، رغم تعلقهم بالخمر، واعتيادهم عليها دهرا طويلاً، ولكنّ قوة الإيمان تُرَوّض النفوس وتجعلها منقادة للشرع. 

9 ) ومن صور تسليم الصحابة رضوان الله عليهم للوحي ما ورد عَنِ الْحَسَنِ قال في قول الله سبحانه تعالى : ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، قَال: زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ  فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لاَ وَاللَّهِ لاَ تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا.
وَكَانَ رَجُلاً لاَ بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنَّ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ ( فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ )، فَقُلْتُ: الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ.
وفي رواية : فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْهِ ، فَتَرَكَ الْحَمِيَّةَ وَاسْتَقَادَ لأَمْرِ اللَّهِ " رواه البخاري. 
وعند الترمذي : " فَقَالَ لَهُ يَا لُكَعُ أَكْرَمْتُكَ بِهَا وَزَوَّجْتُكَهَا فَطَلَّقْتَهَا، وَاللَّهِ لاَ تَرْجِعُ إِلَيْكَ أَبَدًا آخِرُ مَا عَلَيْكَ، قَالَ: فَعَلِمَ اللَّهُ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا وَحَاجَتَهَا إِلَى بَعْلِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) إِلَى قَوْلِهِ (وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) فَلَمَّا سَمِعَهَا مَعْقِلٌ قَالَ: سَمْعًا لِرَبِّى وَطَاعَةً، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: أُزَوِّجُكَ وَأُكْرِمُكَ. 
فهذه الروايات تبين لك إصرار معقل بن يسار رضي الله عنه على موقفه الرافض لتزويج أخته من زوجها الذي طلقها، ولكنّ هذا الموقف تغير مع تسليم ورحابة صدر بمجرد سماع النص القرآني.

10) ومن صور تسليم الصحابة رضوان الله عليهم للنص الشرعي ما رواه مسلم في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال : " لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الأَحْزَابِ وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: " أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ: " أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ.
فَقَالَ : "قُمْ يَا حُذَيْفَةُ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ". فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ.
قَالَ: " اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَىَّ ".
فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِى فِي حَمَّامٍ، حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِى ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَىَّ ". وَلَوْ رَمَيْتُهُ لأَصَبْتُهُ، فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمَّامِ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَفَرَغْتُ قُرِرْتُ. "
فعلى الرغم من الترغيب العظيم الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة : " أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ولكن لم يجبه أحد بسبب شدة الموقف، ولكن لما تعين الأمر، فوجهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى حذيفة رضي الله عنه لم يكن له بد من الاستجابة والطاعة، فقال رضي الله عنه : " فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ."
ثم تأملوا بركة تطبيق السنة، فرغم شدة البرد والريح الشديدة شعر حذيفة رضي الله عنه بالدفء، وما عاد إليه البرد حتى انتهى من تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا سار الصحابة رضوان الله عليهم والعلماء الربانيون من بعدهم.

وللحديث بقية ...