الخميس، 5 ديسمبر 2013

خطبة جمعة: من آداب التجارة في الإسلام

الخطبة الأولى : اعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل قد تكفل بأرزاق العباد وحددها وهم في بطون أمهاتهم، قال صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا ، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ ، وَيُقَالُ لَهُ اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ " ، وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ، فَلَا تَسْتَبْطِئُوا الرِّزْقَ، وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حُرِّمَ» 

فلا يحملنكم حب المال والطمع فيه أن تطلبوه بالتعامل المحرم والطرق غير المشروعة، فإن في الحلال كفاية عن الحرام، والمؤمن قد أغناه الله بحلاله عن حرامه، وكفاه بفضله عمن سواه، والكسب الحلال يبارك الله فيه وإن كان قليلا، فينمو ويكون عونا لصاحبه على طاعة الله، والمال الحرام يمحق الله بركته وإن كان كثيرا، فلا ينتفع به صاحبه وإن بقي في يده، وقد يسلط الله عليه من يتلفه فيتحسر عليه صاحبه.

وقد رغب ديننا الإسلامي المسلمين في اكتساب الحلال الطيب، ورهب وحذر من اكتساب الحرام الخبيث، ومن طرق كسب الحلال التجارة ، وقد بين الله في كتابه ونبينا صلوات الله وسلامه عليه في سنته أحكام التجارة، وجعل لها آدابا كان لزاما على المسلم التاجر أن يتحلى بها، فمن ذلك التحلي بالصدق والأمانة في التعامل وهما صفتان من صفات المؤمن بوجه عام، ومن الصفات التي تُطلب في التعاملات المالية بوجه خاص، بل رتب عليهما الشرع أجرا عظيما إذا ما حققهما التاجر ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» 

وهذا يتطلب من التاجر الصدق مع الناس في القول والأمانة في التعامل، فإن حقق ذلك بورك له في بيعه، وإن كذب وخان محقت بركة بيعه وانقلب ربحه خسارة، روى البخاري في صحيحه عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رضى الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا ، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا" 
وإن مما يضاد الصدق والأمانة الغش في التجارة، فقد حرمه الإسلام بجميع صُوَرِهِ وأشكالِهِ، لِمَا فيهِ مِنَ الإضرارِ بالناسِ وخِداعِهِمْ، وإنْقَاصِهِمْ حُقوقَهُمْ، روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي"

ومِنْ صُورِ الغِشِّ الذِي نَهَى الله عنه في القرآن؛ التلاعب في الموازين،  قال تعالى : "وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" ، وتوعد الله من غش الناس في موازينهم بالعقوبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ:وذكر منها :  وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ" 

ومن صور الخداع والكذب وعدم الأمانة في التجارة إخفاء عيوب السلعة، فلا يبينها للمشتري فيقع في الغش، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، ولَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ، إِلَّا بَيَّنَهُ لَهُ"
فمن أراد بيع سيارته أو هاتفه النقال أو أي سلعة ما فيجب عليه أن يبين ما فيه من عيب للمشتري وإلا وقع في الحرام. 

ومن صور الغش في التجارة تزييفُ البضائِعِ وتقليدُهَا، والاعتداءُ علَى حقوقِ أصحابِهَا، فقَدْ نَصَّ العلماءُ علَى أنَّ الحقوقَ التجاريةَ والفكريةَ مِنِ اسمٍ وعُنوانٍ، وعلامةٍ واختراعٍ، وتأليفٍ وإبداعٍ؛ هِيَ حقوقٌ خاصَّةٌ لأصحابِهَا، ولَهَا فِي العُرْفِ الْمُعاصِرِ قيمةٌ ماليةٌ مُعتبَرةٌ، وهذهِ الحقوقُ يُعتَدُّ بِهَا شرعًا، فلاَ يجوزُ الاعتداءُ عليهَا، دفعًا للضَرَرِ الذِي يَلحَقُ بمالِكِيهَا, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ».

ومن صور عدم الصدق والأمانة في التجارة الحلف الكاذب من أجل بيع السلع ، فيحلف التاجر للمشتري بأن السلعة سليمة أو طازجة أو أنه اشتراها بمبلغ كذا وهو كاذب ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ "  ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ التُّجَّارَ هُمُ الْفُجَّارُ " قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَلَيْسَ قَدْ أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ؟ قَالَ: " بَلَى، وَلَكِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ فَيَكْذِبُونَ، وَيَحْلِفُونَ وَيَأْثَمُونَ " ، وقال صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم : وذكر منهم : رجل حلف على سلعته لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب" ، وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ؛ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ، ثُمَّ يَمْحَقُ " 

عباد الله : فليكن الصدق شعاركم، والأمانة تعاملكم تفلحوا في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: " الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ "



الخطبة الثانية :عباد الله :  من الأخلاق التي حث الإسلام التجار عليها التسامح والتساهل في البيع والشراء وسائر التعاملات،  روى البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ ، وَإِذَا اشْتَرَى ، وَإِذَا اقْتَضَى" وعند أحمد في المسند " غفر الله لِرَجُلٍ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ، كَانَ سَهْلًا إِذَا بَاعَ، سَهْلًا إِذَا اشْتَرَى، سَهْلًا إِذَا قَضَى، سَهْلًا إِذَا اقْتَضَى "

ويتمثل هذا التسامح في صور كثيرة، منها إنظار المدين المعسر، وكل ما فيه أجل من التعاملات بإمداد الأجل، ما دام بالإمكان الانتظار، فإن الله جل وعلا يقول " وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ"  ، وروى مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُتِيَ اللهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا، قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ، فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، فَقَالَ اللهُ: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي " 

ومن صور التسامح في التجارة إِقالةُ البيع، فإذا أراد المشتري أن يرد السلعة لعدم حاجته لها أو ندمه على شرائها فالإسلام يحث البائع على قبول السلعة وفسخ البيع، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَقَالَ أَخَاهُ بَيْعًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»