الخميس، 27 نوفمبر 2014

نعمت لزوم الجماعة والاتحاد

الخطبة الأولى : أيها المسلمون من المقاصد الشرعية التي جاءت نصوص الدين بتأكيدها الاجتماع والوحدة والنهي عن التفرق والاختلاف، قال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) ، وقال سبحانه(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ، ومن السنة ما رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ " وحذر من مفارقة الجماعة والاختلاف فقال : مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَة َ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ " فشبه الإسلام بالربقة وهي الحبل يوضع حول عنق الدابة يقودها ويحفظها، فإذا فارق الرجل الجماعة فقد ترك حدود الإسلام وأحكامه. 

أيها المسلمون: إن الجماعة التي حثنا على لزومها شرعنا الإسلامي ونهانا عن التفرق عنها قد بينها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي تشمل لزوم الكتاب السنة وعدم الإعراض عنهما، وهذ المعنى هو أساس كل اتفاق، ومخالفته أساس كل افتراق، قال ابن تيمية رحمه الله : ولست تجد اتفاقا وائتلافا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقا واختلافا إلا عند من ترك ذلك وقدم غيره عليه " 

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى للجماعة فقال : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: "الْجَمَاعَةُ"  وفي رواية : "ما أنا عليه اليوم وأصحابي " ، قال ابن تيمية: فوصف الفرقة الناجية بأنهم المستمسكون بسنته وأنهم هم الجماعة" 

وأما المعنى الآخر للجماعة فهو لزوم إمام المسلمين وحاكمهم وولي أمرهم، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ " البخاري ومسلم.  قال النووي: أي على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم " والمراد بالمفارقة كما نقله ابن حجر : هو السعي في حل البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى شيء، فكنى بمقدار الشبر لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق" . 

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعاني للجماعة في بعض أحاديثه، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في وصيته لأصحابه وأمته من بعده: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِي اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ "

فأمر صلى الله عليه وسلم بتقوى الله ولزوم سنته وهديه وهدي الصحابة من بعده وحذر من البدع والمحدثات، وهذا هو المعنى الأول للجماعة، ثم أمر وحث على السمع والطاعة لولي أمر المسلمين، وهذا هو المعنى الثاني للجماعة، فكانت وصيةً جامعةً منه عليه الصلاة والسلام لأمته. 

أيها المسلمون: إن في التزام أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة نجاة وعصمة من الانحراف، مع ما يحققه ذلك من مقاصد عظيمة في الدين والدنيا، ومن هذه المقاصد تحقيق العبودية لله تعالى، وذلك باتباع الكتاب والسنة والعمل بما فيهما، وهذا هو المقصد الأعظم من وجود الخليقة، ومن المقاصد أيضا حفظ الأمن والاستقرار في المجتمع، فينزع الخوف، ويسود العدل، فيعطى كل ذي حق حقه، ومن مقاصد لزوم الجماعة حفظ الأعراض من أن تنتهك، والأموال من أن تنتهب، والأنفس من تسفك دماؤها، والعقول من أن تزول أو تطيش.

 ومن تأمل التاريخ الغابر، والزمن الحاضر الذي خرجت فيه فئام من الناس عن  أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة بمعنييها، رأى تهاوي هذه المقاصد رأي عين، فانشغل الناس بالثورات عن العلم والعبادة والذكر وقراءة القرآن وصار همهم متابعة الأخبار والقنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي وقراءة الصحف ، وسفكت الدماء فقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وانتهكت أعراض المسلمين، وصودرت أموالهم ونهبت، وطاشت عقولهم، كل ذلك لأنهم خالفوا الأمر النبوي بلزوم الجماعة وعدم مفارقتها، وتحقق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم " مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةِ اْلإسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ" فضيعوا حدود الله باسم المطالبة بالحريات المكبوتة، فأوكلهم الله إلى أنفسهم فوقعوا في الذل والهوان مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: " وجعل الذل والصغار على من خالف أمري" 

فعليكم أيها المسلمون بلزوم الجماعة التي أمركم بها نبيكم، فتمسكوا بسنته وهديه، واحذروا البدع والمحدثات، واسمعوا وأطيعوا لولاة أمركم، ولا تشقوا عصا الطاعة، روى الإمام مسلم في صحيحه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، وَخَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي بِسَيْفِهِ فَيَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا لَا يَتَحَاشَى مُؤْمِنًا لِإِيمَانِهِ، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ بِعَهْدِهِ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي، وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِلْعَصَبِيَّةِ، أَوْ يُقَاتِلُ لِلْعَصَبِيَّةِ، أَوْ يَدْعُو إِلَى الْعَصَبِيَّةِ، فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ"


الخطبة الثانية : أيها المسلمون من نعم الله علينا أن وحد الله بين هذه الإمارات السبع، تحت راية واحدة، وحاكم واحد، فجُمِع الشمل، وتآلفت القلوب، وقوية الشوكة، وهابها العدو، وتبوأت مكانا عليا، وأفاض الله عليها من الخيرات فعاش الناس في رغد وخير عميم، وأمن واستقرار، وصحة وعافية، كل ذلك بفضل الله تعالى المنعم، ثم بفضل مؤسس هذا الاتحاد الشيخ زايد بن سلطان، رحمه الله تعالى وأسكنه الجنة، وبفضل إخوانه الحكام الذين بذلوا ما يستطيعون لرفعة هذا البلد وسعادة أهله . 

وبفضل الله تآلفت القلوب بين الراعي والرعية، فأحب الناس ولاة الأمر في هذه البلاد، وأقبل ولاة الأمر على الرعية يجالسونهم ويمدون يد العون لهم، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: " خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ " 

أيها المسلمون: هذه النعم تحتاج إلى شكر منا حتى تدوم وتزيد، وقد قال تعالى :" وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ  " ، والشكر أولا إنما هو لله تعالى وذلك بالإقرار بهذه النعم في قلوبنا وعدم جحدها، ثم التحدث بها وعدم إنكارها، ثم العمل بشرع الله تعالى ولزوم هديه، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. 

ثم الشكر لولي أمرنا الشيخ خليفة وذلك بالسمع والطاعة له، والسعي إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف، ونبذ كل ما يفرق المسلمين، ويزرع التفرق والتباغض بينهم. 

ومِنْ واجباتِ الوفاءِ لِمَنْ أَسَّسُوا الاتحادَ وأَرْسَوْا دعائِمَهُ أَنْ نذْكُرَهُمْ بالدعاءِ، ونَخُصَّهُمْ بالذِّكْرِ والشُّكر والعِرفانِ، قال صلى الله عليه وسلم: " لَا يَشْكُرُ النَّاسَ مَنْ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ، وَمَنْ لَا يَشْكُرُ فِي الْقَلِيلِ لَا يَشْكُرُ فِي الْكَثِيرِ، وَإِنَّ حَدِيثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَالسُّكُوتَ عَنْهَا كُفْرٌ، وَإِنَّ الْجَمَاعَةَ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةَ عَذَابٌ " 

عباد الله: ليس من شكر نعمة الاتحاد ما يفعله البعض في هذه الأيام من طريقة خاطئة في التعبير عن حبهم للوطن عبر مخالفتهم لشرع الله ولأنظمة الدولة، مما أدى إلى وقوع حوادث أليمة، وإصابات بالغة، كل ذلك تحت شعار حب الوطن. 

يظهر ذلك جليا في ما يفعله الشباب من الذكور والإناث في المسيرات التي يكثر فيها تبرج النساء ورقصهن ومعاكسات الشباب وميوعتهم، وتلويث الشوارع بالنفايات، وإزعاج الآخرين بالضوضاء، خصوصا من أصحاب السيارات المخالفة التي تزود بأجهزة تضخم الصوت وتثير الضجيج .

أما عَلِمَ أولئكَ أنَّ التعبيرَ عن الولاء لهذا الوَطَنِ يَكْمُنُ في التَّضْحِيَةِ لأجلِهِ، والتعاونِ على الخَيرِ مع ولاةِ أمْرِه، والبذلِ والتَّضحيةِ والعَطاءِ -كلٌّ في مجالِهِ-؛ وذلك في سبيلِ تطويرِ وَطَنِنا الغالي وتَنْمِيَتِه .

فلنسع للقضاء على هذه الظواهر السلبية، ولنتعاون مع الجهات الرسمية على القضاء عليها، ولنظهر بمظهرنا الإسلامي، وعاداتنا الوطنية، من السماحة والتواضع وعدم التكبر والله يقول : " وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ " 

الخميس، 20 نوفمبر 2014

خطبة جمعة : القناعة

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين اعلموا رحمكم الله أن الإنسان مجبول على حب المال والاستكثار منه، قال تعالى : "وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا" وقال سبحانه : "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ " ، وجعل الله هذا المال فتنة للناس وابتلاء قال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ " ، وانقسم الناس حيال المال وجمعه إلى قسمين : الأول جعله هو المقصود والغاية فصرف فكره وعمله لأجله، فشغلوا عما خلقوا له من عبادة الله وتوحيده، وبين صلى الله عليه وسلم صورة لهذا القسم في حرصهم على جمع المال فقال : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب"   
 وقسم عرفوا المقصود من هذه الشهوات وأن الله قد جعلها ابتلاء للعباد، لذلك فهم يتزودون منها لآخرتهم ويستعينون بها على طاعة ربهم، فصحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم.

عباد الله : ولأهمية المال في الحياة فهو أحد الضروريات الخمس التي جاءت الشرائع بحفظها وضع الإسلام جملة من الأحكام والأخلاق التي تضبط تعامل الناس بالمال، ومن جملة هذه الأخلاق خلق القناعة الذي عُد في الأمثال من الكنوز التي لا تفنى ولا تبيد فقيل : القناعة كنز لا يفنى.

والقناعة خلق تحبه الطباع، دعا إليه الشرع وحث عليه ورغب فيه، لأن مضمونه الرضا بما قسمه الله للعبد من رزق في هذه الدنيا، وفيه نزع للحسد والطمع في أموال الناس من قلوب العباد، كما يحتوي على التواضع والعفة والمروءة والنزاهة، فهو خلق شريف، وسجية رفيعة.

فالقناعة سبب لطيب العيش وسعادته ، قال تعالى: " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " فسر علي بن أبي طالب وابن عباس الحياة الطيبة بالقناعة.

وَمَنْ رُزِقَ الْقَنَاعَةَ فَقَدْ أَفْلَحَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَنُوعًا بِمَا آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَطْلُبُ الآخِرَةَ، وَيَرْجُو مَرْضَاةَ رَبِّهِ، وَيَدْعُوهُ قَائِلاً:« اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً». أَيْ اكْفِهِمْ مِنَ الْقُوتِ بِمَا يُغْنِيهِمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ.

وقناعة العبد بما رزقه الله سبب لتحصيله العز والشرف في الدنيا والآخرة قال صلى الله عليه وسلم: شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزِّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ " ، فإنما يتحقق الغنى الحقيقي للعبد باستغنائه عما في أيدي الناس، ورضاه بما قسم الله له، قال صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ "

وَمَنْ رُزِقَ الْقَنَاعَةَ أَبْصَرَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَشَكَرَهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو يوصي أبا أهريرة: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ" وسر ذلك كما قال أهل العلم: أن العبد إذا قنع بما أعطاه الله رضي بما قُسم له، وإذا رضي شكر فزاده الله من فضله جزاء لشكره وكلما زاد شكرا ازداد فضلا وربنا يقول: " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ "   

عباد الله : وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم يضرب لنا الأسوة الحسنة في تعامله مع المال بقناعة ورضا ، فكان صلى الله عليه وسلم ينام على فراش من جلد محشو بليف، ودخل عليه عمر بن الخطاب فرآه نائما على حصير قد أثر بجنبه.. فبكى عمر، فقال: ما يبكيك يا عمر؟ قال: أنت نبي الله وكسرى وقيصر على أسرة الذهب، قال: يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة، وتقول عائشة رضي الله عنها لعروة بن الزبير: وَاللهِ يَا ابْنَ أُخْتِي , إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ . فَقال: يَا خَالَةُ , فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعِيشُونَ؟، قَالَتْ: عَلَى الْأَسْوَدَيْنِ  التَّمْرِ وَالْمَاءِ ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ , فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهَا , فَيَسْقِينَاهُ" وهو صاحب المقام الأعلى في الجنة .

وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهَذِّبُ سُلُوكَ أَصْحَابِهِ بِمَا يُجَنِّبُهُمْ شِدَّةَ التَّطَلُّعِ لِلزِّيَادَةِ، وَيُحَقِّقُ لَهُمُ الْقَنَاعَةَ وَالسَّعَادَةَ، فَعَنْ حَكِيمِ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ يَا حَكِيمُ: إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا

 فعلام يتنافس المتنافسون في أمور الدنيا ولا يرضون بما قسم الله لهم من الرزق والعطاء، أعينهم تنظر إلى من هو أعلى منهم فيحتقرون ما عندهم ولو نظروا إلى من هم أسفل منهم لاتعظوا ورضوا قال صلى الله عليه وسلم: انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ"
أخي المسلم : إن كنت تريد الغنى الحقيقي والراحة والسعادة فارض بما قسم الله لك، قال صلى الله عليه وسلم: ارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ" وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، إنه من ييأس عما في أيدي الناس استغنى عنهم "  


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : إن مما يعين العبد على القناعة بما رزقه الله أن يوقن العبد أن ما عنده إنما هو رزقه الذي كتبه الله له، وأن ما لم يحصل عليه فليس له، قال تعالى : إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا "  فالله خبير بحال عباده وما يصلح لهم قال ابن القيم: قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع، والغنى لآخرين أنفع، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع والمرض لبعضهم أنفع" ، وقال صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس اتقوا الله و أجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها و إن أبطأ عنها، فاتقوا الله و أجملوا في الطلب خذوا ما حل و دعوا ما حرم "

وعدم القناعة يفضي العبد إلى الهموم والغموم وحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، فيهلك نفسه ويشقيها، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من نفس طماعة جشعة لا تشبع فعن أبي هريرة قال :  كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن دعاء لا يسمع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع"

ومن قنعه الله بما آتاه وأقبل على ربه واهتم بآخرته آتته الدنيا وهي راغمة صاغرة، قال صلى الله عليه وسلم " من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة"  ، والحريص على المال من غير نظر لحله وحرامه مفسد لدينه ودنياه، ولا يحصل من المال إلا ما قدر له منه قال صلى الله عليه وسلم " ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له "

وضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثلا في إفساد الحرص على المال للدين بذئبين جائعين أرسلا في غنم لا راعي فيها، ومعلوم أنه لا يكاد ينجو من الغنم من إفساد الذئبين شيء، قال صلى الله عليه وسلم " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه"  فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن حرص المرء على المال والشرف سبب لإفساد دينه ، فربما لا يسلم من دينه مع حرصه على المال إلا القليل.

قال ابن رجب : ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف الذي لا قيمة له، وقد كان يمكن لصاحبه اكتساب الدرجات العلى والنعيم المقيم فضيعه الحريص في طلب رزق مضمون مقسوم لا يأتي منه إلا ما قدر وقسم ثم لا ينتفع به بل يتركه لغيره ويرتحل عنه ويبقى حسابه عليه ونفعه لغيره"

والحرص المذموم على المال هو شدة محبته مع شدة طلبه من وجوهه المباحة مع المبالغة في ذلك، ويقبح الحرص إن طلب العبد المال من وجوه محرمه.

ولنعلم أنه لا علاقة بين القناعة والفقر، فقد يكون الغني قنوعا بما آتاه من مال، فيعرف لله فيه حقا، فيزكيه ويصرفه في وجوه الخير، ورب إنسان فقير غير قنوع، هو دائم التسخط من قلة ذات اليد.
كما أن القناعة لا تتعارض مع السعي في طلب الرزق والعمل، بل من القناعة أن تسعى وتعمل ثم ترضى بما قسم الله لك.  

فلْنَحْرِص عبادَ الله على القناعةِ والرِّضا بما آتانا الله تعالى إيّاه من النِّعَم، ولْنعوِّدْ أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا على التزامِ شُكْرِ اللهِ وحمدِه، وعلى الحذرِ من الجُحودِ والاعتراضِ والتذمُّر؛ فإنَّ الشُّكْرَ قيدٌ للنِّعَمِ، وإنَّ الجُحودَ سببٌ لاضْمِحْلالِ النِّعَمِ وزَوالها، قال تعالى: (وإذْ تأَذَّنَ ربُّكُمْ لَئِنْ شَكَرتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ولَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذابي لَشديد).
فاللهُمَّ أَعِنّا على ذكركَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عبادتك، إنّك سميعٌ قريبٌ مجيب.




الخميس، 6 نوفمبر 2014

وسائل تجنب الفتن - الواجب تجاه الوطن


الخطبة الأولى : معاشر المؤمنين : روى أبو داوود في سننه عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ )) ، السعادةُ مَطْلَبُ كلِّ إنسان، وغايةٌ تُنشَدُ وهدفٌ يُطلَب ، وقد بين لنا ديننا الإسلامي الطرق والمسببات التي تحقق السعادة للعبد في الدارين ليفوز بموعود الله تعالى :" وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ" أي دائم لا ينقطع .

ومن أسباب تحقيق السعادة للعبد تجنب الفتن والخوض فيها، فالفتن عواقبها وخيمة، وإن زينت وبهرجت، إلا أنها سم قاتل ونار تحرق،  و الفتن في أول بروزها وبدوِّ ظهورها تشتبه على كثير من الناس، فيرى القبيح حسنا، والباطل حقا،  عن أي موسى الأشعري رضي الله عنه : «إنَّ الفتنة إذا أقبلت شبَّهت، وإذا أدبرت تبيَّنت» وقد بوب البخاري في صحيحه بابا فقال : بَاب الْفِتْنَة الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ
الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً                     تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا             وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ
شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ                  مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ

والفتنة إذا وقعت أصابت بشررها كل أحد  إلا من عصمه الله قال تعالى : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " فإذا اشتدت عجز أهل العلم والعقل عن إيقافها قال ابن تيمية : والفتنة إذا وقعت عَجَزَ العقلاءُ فيها عن دفع السُّفهاء " ، وخطر الفتن على الدين عظيم جدا قال صلى الله عليه وسلم: " بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا " وعن مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير قال : «إنَّ الفتنة لا تجيء حين تجيء لتهدي النَّاس ، ولكن لتُقارعَ المؤمنَ على دينه»
ولأجل عظم خطورة الفتن كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من منها ويأمر أصحابه بذلك، فروى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة لأصحابه :تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ"

عباد الله : كيف تُتقي الفتن ؟ سؤال يحتاجه كل من يريد لنفسه السلامة من الفتنة والوقاية من شرها وخطرها وضررها
فاعلموا رحمكم الله أن من أهم أسباب تجنب الفتن ملازمة تقوى الله عز وخل في جميع الأحوال ، والله تعالى يقول: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" ، فقوله تعالى: " يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا" أي من كل فتنةٍ وبليةٍ وشر . والتقوى - عباد الله - عواقبها حميدة ومآلاتها رشيدة ، والعاقبة دائماً وأبدا لأهل التقوى ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا كَانَتْ فِتْنَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ قَالَ طَلْقٌ بن حبيب: «اتَّقُوهَا بِالتَّقْوَى» ، قَالَ بَكْرٌ: أَجْمِلْ لَنَا التَّقْوَى، قَالَ: «التَّقْوَى عَمَلٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، رَجَاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالتَّقْوَى تَرْكُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، خِيفَةَ عِقَابِ اللَّهِ "  فتقوى الله جلّ وعلا ليست كلمةً يقولها المرء بلسانه أو دعوى يدّعيها ؛ وإنما تقوى الله  صلاح في القلوب وزكاء في الأعمال وجدّ واجتهاد في طاعة الله وبُعد عن النواهي والمحرمات . فهذه حقيقة التقوى التي حريٌّ بصاحبها أن يجنَّب الفتنة ويوقي من كل شر في الدنيا والآخرة.

ومن الضوابط المهمة عباد الله لاتقاء الفتن : لزوم الكتاب والسنة والاعتصام بهما ؛ فإن من  اعتصم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هُدي إلى صراط مستقيم وسلِم من كل بلية وشر ، و السنة سبيل النجاة في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة : " السنة سفينة نوح ، فمن ركبها نجا ومن تركها هلك وغرق " ، إن من أمّر السنة - عباد الله - على نفسه نطق بالحكمة وسلِم من الفتنة ونال خيري الدنيا والآخرة ، وإلى هذا أرشد رسولنا عليه الصلاة والسلام قال (( فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ )) رواه أبو داود.

وإن من الضوابط المهمة لاتقاء الفتن : البعد عن التسرع والعجلة والاندفاع ، فإن العجلة والتسرع لا يأتيان بخير ؛ بل إنهما يفضيان بصاحبهما إلى كل شر وبلاء ، فعواقب العجلة وخيمة ونهاياتها أليمة ، والحليم المتأني يظفر بمقصوده بإذن الله ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " إنها ستكون أمور مشتبهات فعليكم بالتُؤدة - أي عدم العجلة والتسرع - فإنك أن تكون تابعاً في الخير، خيرٌ من أن تكون رأساً في الشر"  ، وعن على بن أبى طالب رضي الله عنه قال: " لا تكونوا عُجُلا مذاييع بُذرا، فإن من ورائكم أمورا متماحلة رُدُحا " ؛ أي وراءكم فتن ثقيلة، فتجنبوا العجلة وتجنبوا إذاعة الشر والخوض في الخصومة ، وتجنبوا بذْر الفتنة وأصولها في الناس .

عباد الله ؛ وإن مما تتقى به الفتن : الرجوع إلى العلماء الراسخين والأئمة المحققين أهل العلم والأناة والحكمة والبصيرة بدين الله والفقه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، خصوصا الأكابر فلا يزال الناس بخير ما أخذوا عن العلماء الأكابر ، قال صلى الله عليه وسلم: (( الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ )) ، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " لا يزال الناس بخير ما أخذوا عن أكابرهم ، وإذا أخذوا عن الأصاغر هلكوا " . إن الأخذ عن الأئمة الراسخين والعلماء المحققين والفقهاء المدققين أمَنَة بإذن الله وصِمام أمان، ونحن أُرشدنا إلى ذلك في كتاب الله عز وخل ، قال الله تعالى: " وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا " ، وفي هذه الآية - عباد الله - أدَّبنا الله جل وعلا عند حصول أمر يمسّ أمْن الناس أو يمس مصالحهم أو يمس خوفهم أن يكون رجوعنا وتعويلنا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أقوال العلماء الراسخين والفقهاء المحققين المدققين الذين طال باعهم وعظم حظهم ونصيبهم من دراسة كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه .

عباد الله ؛ وإن من الأمور التي تتقى بها الفتن : لزوم الجماعة والبعد عن الفرقة ؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة شر وعذاب ، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (( الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ )) ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث متكاثرة ونصوصٌ متضافرة في الحث على لزوم الجماعة ، ومن أراد أن يصلِح في الناس فليكن واحداً منهم ولازماً لجماعتهم وليصلِح بالتي هي أحسن على ضوء ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، أما أن يخرج عن الجماعة بزعم أنه يريد إصلاحها ثم يفرّق كلمة الناس ويخلخل صفهم ويشق كلمتهم فأي خير في هذا !! وأي نفع أو فائدة ترجى من ورائه!!

عباد الله ؛ وإن من الأمور العظيمة التي تتقى بها الفتن : حسن الصلة بالله والإقبال على دعائه وسؤاله سبحانه ؛ فإن الدعاء - عباد الله - مفتاح كل خير في الدنيا والآخرة ، والله جلّ وعلا لا يخيِّب عبداً دعاه ولا يرد مؤمناً ناجاه ، فالواجب علينا - عباد الله - أن نسأل الله دائماً وأبداً أن يجنبنا والمسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن، وقد جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة: ((تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )) فقال الصحابة رضي الله عنه : (( نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )) .

وإن من الأمور التي تنجي صاحبها من الفتن : عبادة الله تبارك وتعالى ، والإقبال على طاعته ، وعدم التصدر للفتن والبروز لها ، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ)) ، فأرشد صلى الله عليه وسلم في زمن الفتنة  إلى الانشغال بعبادة الله جلّ وعلا والإقبال على طاعته ، وقد جاء في الصحيح أيضا عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلةً فزعا ثم قال: ((سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ ، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ )) ؛ وهنا تأمل أيها المؤمن إلى أي شيء أرشد صلوات الله وسلامه عليه عند حصول الهرج وهو القتل والخصومة والفتنة ؟ إنما أرشد إلى العبادة والطاعة والإقبال الصادق على الله



الخطبة الثانية :
جماعة المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه ، مُعافى في جَسَدِهِ ، عندهُ قوتُ يومِه ، فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها " في الحديث تذكير بنعم الله على العبد، فإن الله –سبحانه وتعالى- خلق العباد لعبادته وتوحيده فقال: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" وأهم النعم التي يحتاجها العابد لتحقيق هذا الهدف السامي هي أمن في نفسه وجماعته وبلده، وعافية في صحته وجسده، وطعام يتقوى به على طاعة الله، وفي ذلك تعليم لخلق القناعة والزهد في أمور الدنيا، والاهتمام بأمر العلم والعمل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ  .

أيها المسلمون: الأرض التي تتوافر فيها هذه النعم من الأمن والعافية والغذاء حري بأهلها أن يتعاونوا على حفظها والعمل على الدفاع عنها وحفظ مكتسباتها، وهذا أمر مجبولة عليه النفوس السليمة، وهو محبة الوطن والدفاع عنه .

من نعم الله علينا أن أسكننا هذه الأرض – دولة الإمارات العربية المتحدة – وجعل لنا فيها الأمن والأمان والراحة والطمأنينة ، وهي الوطن الذي نشأنا فيه وترعرعنا وتعلمنا على أرضه وذلك بفضل من الله المنعم ثم بفضل ما يسر لهذه البلاد من الخيرات وولاة الأمر من الحكام- أعزهم الله- حيث لم يبخلوا علينا في شيء بل وفروا لنا كل ما نحتاج إليه في حياتنا، فإذا تقرر هذا؛ فما هو الواجب علينا ؟ إن الواجب على أبناء هذا الوطن أولا شكر الله تعالى على هذه النعم بأن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، فمن شكر وعد بالمزيد قال سبحانه : " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ "  ، ثم الشكر والدعاء لولاة أمرنا الذين بذلوا الغالي والنفيس لأجل توفير وسائل الحياة السعيدة لأهل هذه الدولة، ثم على أبناء هذا الوطن محبته، و التكاتف بين أفراد مجتمعه والتلاحم فيما بينهم، فإذا كنا لبنة واحدة؛ عجز عنا العدو وباء طمعه بالخسران.

ومن مقتضى محبة الوطن القيام بالواجبات المنوطة على كل فرد بأمانة وإخلاص، على اختلاف المواقع والمراكز والمناصب والرتب، ومن مقتضى محبة الوطن؛ المحافظة على ثرواته وخيراته، وعدم العبث بها وهدر أموال بيت المال


ملاحظة: الخطبة الأولى مقتبسة من خطبة للشيخ عبد الرزاق البدر مع الاختصار والتعديل