الجمعة، 26 ديسمبر 2014

مظاهر التسامح مع أهل الكتاب ج 2

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد 

إخواني الأفاضل 

       سبق وأن تكلمت في مقال سابق عن بعض مظاهر التسامح مع أهل الكتاب من يهود أو نصارى في الإسلام، وبينت أن الإسلام تعامل معهم حال كونهم يعيشون على أرض الإسلام، وأعطاهم من الحقوق ما كفل لهم حياة آمنة مستقرة، وحرم الاعتداء عليهم.

ولكن السؤال الذي تطرحه الظروف الحالية والأوضاع الراهنة :
إلى أي حد يكون هذا التسامح ؟ 
هل التسامح مع أهل الكتاب يشمل مشاركتهم في أعيادهم وتهنئتهم بها ؟

أقول للجواب على هذه المسألة سأبين عدة أحكام جاءت بها الشريعة في تعاملاتنا مع أهل الكتاب .

أولا : لقد حرم الإسلام التشبه بأهل الكتاب في جميع الأمور التي يختصون بها، فقد وردت النصوص الشرعية الصحيحة تنهى صراحة عن التشبه بهم، وتحذر من ذلك تحذيرا شديدا، ومن ذلك : 

أ – قال تعالى مبينا طريق الهداية الذي ينبغي للمسلم سلوكه في سورة الفاتحة : " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ"

فالمسلم يطلب من الله أن يهديه إلى الطريق الموصل إليه سبحانه، وهذا الصراط هو طريق المنعم عليهم وهم الذين بينهم الله بقوله : " أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" وتطلب من الله عز وجل أن يجنبك طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم المقصود بهم فقال :  "الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ، وَالضَّالِّينَ النَّصَارَى"

فدل قوله تعالى : " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" على المغايرة بين طريق المنعم عليهم الموصل إلى الصراط المستقيم، وبين طريقي اليهود والنصارى الصاد عن الصراط المستقيم، وهذا فيه التحذير الشديد من سلوك طريقهم. 

ب – قال تعالى : " وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ" 

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : "فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى، بعد ما علموا من القرآن والسنة - عياذا بالله من ذلك- فإن الخطاب مع الرسول، والأمر لأمته " 

ج – روى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ مِنَّا مِنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى" 
والأصل أن النهي يقتضي التحريم . 

د – جاء النهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن مشابهة أهل الكتاب في أوقات عباداتهم وصفتها، فمن ذلك : 

1 - عن أبي عُمير ابن أنس عن عُمومةٍ له من الأنصار، قال: اهتمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاةِ، كيف يجمَعُ الناس لها؟ فقيلَ له: انصِبّ رايةً عندَ حُضورِ الصلاةِ، فإذا رأَوها آذَنَ بعضُهم بعضاً، فلم يُعجِبه ذلك، قال: فذُكِرَ له القُنْعُ -يعني الشُّبّورَ، وقال زياد: شَبّورُ اليهود -فلم يُعجِبه ذلك، وقال: "هو من أمرِ اليهود" قال: فذُكِرَ له الناقوسُ، فقال: "هو من أمرِ النّصارى".فانصرفَ عبدُ الله بنُ زيد وهو مُهتم لِهَمِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأُرِيَ الأذانَ في مَنامِه .." رواه أبو داود
وجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رفض الشبور وهو البوق والناقوس لأنه من طريقة أهل الكتاب في عبادتهم.

2 - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(خَالِفُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّون فِي خِفَافِهِمْ وَلَا فِي نِعَالِهِمْ). 
وجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم أمر بمخالفة اليهود والنصارى ثم خص بالذكر طريقة في عبادتهم وهي كونهم لا يجيزون الصلاة في النعال والخفاف، وهذا يدل على  أن جنس المخالفة مقصود للشرع .
3 - عن أبي هريرة، عن النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلم- قال: "لا يَزَالُ الدينُ ظاهِراً ما عجَّل الناسُ الفِطْر، لأن اليهودَ والنصارى يُؤخِّرونَ " رواه أبو داود 

فيه دلالة  على أن من أسباب ظهور الدين مخالفة اليهود والنصارى في عباداتهم .

ومثله في صيام التاسع مع عاشوراء، وفي إطلاق اللحية وحف الشوارب وتغيير الشيب وفي السلام والنهي عن الجلوس مع الاتكاء على اليد اليسرى وهي خلف الظهر، وتنظيف الأفنية ، فجميع هذه الأحكام عللت بمخالفة اليهود والنصارى، مما يدلنا على أن مخالفتهم مقصودة في شرعنا في طريقة عباداتهم، وبالتالي يحرم التشبه بهم . 

وأما من جهة التعليل والمعنى : فإن المشابهة بالآخرين تفضي إلى نوع محبة وموالاة، فالمشابهة في الظاهر تورث تناسبا وتشابها في الباطن، والمخالفة في الظاهر توجب المباينة والمفارقة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : من تشبه بقوم فهو منهم " .

ثانيا : نهت الشريعة الإسلامية عن موالاة أهل الكتاب، بمعنى محبتهم المحبة الشرعية وليست الفطرية كمحبة الولد المسلم لوالده الكتابي، أو الزوج المسلم لزوجته الكتابية، فلا تدخل في النهي، بل المقصود المحبة الشرعية المقتضية للنصرة والتأييد ، وأمرت بإعلان البراءة منهم ومما يعبدون. والدليل على ذلك: 
1 – قال تعالى :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " 

2 – قال تعالى : " قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ " 

3 – قال تعالى : "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ "  

في هذه الآيات النهي عن موالاة أهل الكتاب والأمر بالبراءة منهم ومن عبادتهم حتى يؤمنوا بالله وحده . 
قال ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان : " لا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب " 

ولا تعارض بين البراءة منهم وعدم موالاتهم ومع الإحسان إليهم، لأن المودة تتعلق بالقلب، والإحسان إليهم يقصد منهم استمالتهم للدخول في الإسلام.
 قال القرافي في الفروق : " وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة تعين علينا أن برهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب، ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى هذا امتنع، وصار من قبيل ما نهي عنه في الآية وغيرها " .

وبعد بيان هذه الأحكام المتعلقة في تعاملنا مع اليهود والنصارى، ما هي حدود التسامح مع أهل الكتاب ؟ 
الجواب :
أولا : تحرم مشابهتهم في ما اختصوا به من عبادات وعادات، بل المشروع مخالفتهم فيها.
بل مخالفتهم في ما اختصوا به مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية في التعامل معهم. 

ثانيا: تحرم مودتهم المودة القلبية بمحبتهم وتمني نصرتهم وظهورهم، وتجب البراءة مما هم فيه من الباطل والشرك والكفر بالله، وهذا يكون علانية، لأنه من مستلزمات شهادة التوحيد وظهور الإسلام على بقية الشرائع الأخرى، قال تعالى : " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ " 

ثالثا : لا تجوز مشاركتهم في أعيادهم ومناسباتهم الدينية ولا تهنئتهم بها للأدلة التالية : 

1 – أن لكل أمة عيد يختص بهم وبشرعهم، قال تعالى : "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ" قال ابن عباس : أي عيدا .
والأعياد من أخص ما تميزت به الشرائع، فموافقتهم في أعيادهم موافقة لهم في أخص شرائعهم والتي لا يجوز إظهارها فضلا عن مشاركتهم فيها.

2 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: " قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم -: مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟ "، قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: " إِنَّ اللهَ - عزَّ وجل - قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا , يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى " 

فالنبي صلى الله عليهم وسلم لم يقر أهل المدينة على احتفالهم بهذا العيد الذي هو من عادات أهل الجاهلية، وقدم لهما بديلا شرعيا وهو عيد الفطر والأضحى. 
ولو كان الاحتفال بأعياد الكفر جائزا لما نهاهم وإنما قال : فإن الله قد زادكم ... 

3 – روى الإمام أحمد عَنْ كُرَيْبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ سَلَمَةَ، تَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ، وَيَقُولُ: " إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ " 

فهذا الحديث نص في مخالفتهم في عيدهم، فالسبت عيد اليهود والأحد عيد النصارى وهما يوما فرح وسرور عندهم. 

4 – ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال : لا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم " وإسناده صحيح . 

5 – جاء في شروط عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل الكتاب في دار الإسلام: أن أهل الذمة لا يخرجون صليبا ولا كتابا في أسواق المسلمين ولا يظهرون أعيادهم ..." 

 6 – في تهنئتهم بأعيادهم شِبهُ إقرار لهم على باطلهم، فإنهم يدعون أن عيسى عليه السلام ولد في هذا اليوم، وهذا لا دليل عليه لا في شرعهم ولا في شرعنا، بل ورد في شرعنا ما يدل على أنه ولد في الصيف وذلك في قوله تعالى : " وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا " والرطب لا يكون إلا في الصيف . 

كما أنهم يقولون بعقيدة التثليث وهي عقيدة كفرية، قال تعالى : "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " 
فالله يكفرهم ويتوعدهم بالعذاب ونحن نبارك لهم بعيدهم !! 

كما أنهم يرفعون الصليب وهو مخالف حتى لدينهم فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه في الحديث الصحيح عن عدم رضا عيسى عليه السلام بهذا الصليب،  فروى أحمد قول النبي صلى الله عليه وسلم:يوشك المسيح عيسى ابن مريم أن ينزل حكما قسطا، وإماما عدلا، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب " وهم يرفعون الصليب في أعيادهم بل هو شعارهم، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم وثنا. 


وأخيرا أقول : إن القول بعدم جواز تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم ليس خروجا عن مبدأ التسامح الذي شرعه ديننا في التعامل معهم، بل هو إتباع لشرعنا وديننا في التعامل مع من يخالفوننا في الدين والاعتقاد . 
وفقنا الله لما يحيه ويرضاه . 

مظاهر التسامح مع أهل الكتاب ج 1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده  لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد 

إن الله سبحانه وتعالى أمر الناس بعبادته وحده لا شريك له، فأرسل الرسل وأنزل عليهم الكتب، وخالف بينهم إذ جعل لكل منهم  شريعة ومنهاجا قال تعالى : "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا " ، ولكن الدين واحد عند الله وهو الإسلام قال تعالى : "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ  "  ، كما قال صلى الله وسلم واصفا "الْأَنْبِيَاءُ أَبْنَاءُ عَلَّاتٍ " رواه مسلم . فأمهاتهم شتى وأبوهم واحد، ولأجل ذلك وجدت علاقة بين هذه الملل وهي اليهودية والنصرانية والإسلام اقتضت تعاملا خاصا فيما بينهم، مع هيمنة شريعة الإسلام على بقية الشرائع لأنه خاتمها.

ولكن الناظر في تاريخ الأديان يرى انتهاكا لهذه العلاقة بين اليهود والنصارى، وبين النصارى أنفسهم، فاندلعت بينهم الحروب، وسفكت الدماء، وظهرت العداوة بينهم.

أما الإسلام فقد تعامل مع اليهود والنصارى تعاملا فريدا من نوعه، قام على الأخلاق وحسن التعامل مع الآخرين، لكونهم أصحاب كتب سماوية أنزلت على رسلهم.

وأود من خلال هذا المقال أن أبين مظاهر التسامح وحسن المعاملة التي  لقيها اليهود والنصارى في بلاد الإسلام .

1 - حِل طعام أهل الكتاب ونسائهم لأهل الإسلام قال تعالى : " وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ " 

2 - مشروعية التعاملات التجارية معهم، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ " رواه البخاري 

3 - أمر الله بدعوتهم إلى الإسلام، وبحسن مجادلتهم وحوارهم، قال تعالى :" وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ " 

4-  مشروعية زيارتهم والاطمئنان عليهم حال مرضهم ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ " رواه البخاري 

5 – الإحسان في جوارهم، وعدم إيذائهم، بل وإهداؤهم ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أَنَّهُ ذُبِحَت لَهُ شاةٌ فَجَعَلَ يَقُولُ لِغُلَامِهِ أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصينى بِالْجَارِ حَتى ظَنَنتُ أنه سَيَورِثُه "  رواه البخاري في الأدب المفرد .

6 – حمايتهم وحفظ دمائهم وأعراضهم وأموالهم طالما كانوا يعيشون في دولة المسلمين، وتحريم الاعتداء عليهم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا " رواه البخاري .
وقال صلى الله عليه وسلم: " «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "

7 -  مضاعفة الأجر لمن آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: وذكر منهم " مُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ أَجْرَانِ " رواه البخاري ومسلم .

8 – عدم إكراههم على ترك دينهم واعتناق الإسلام، بل يخيرون بين الإسلام أو دفع الجزية، وهذا في حال قوة الدولة المسلمة ، قال تعالى : " فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا " 

9 -   مشروعية عقد المعاهدات معهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة.
10- أوجب الإسلام العدل مع أهل الكتاب، ولو اقتضى الأمر أن يحكم للكتابي على المسلم، قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " 
وفي البخاري عن الأشعث بن قيس قال :كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ قُلْتُ: لَا . قَالَ : فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ احْلِفْ . قَالَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } .


هذه بعض مظاهر التسامح التي جاءت بها شريعة الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب من يهود أو نصارى، فيهدف الإسلام  إلى استمالتهم إلى هذا الدين لأنهم من أقرب الناس إليه، إذ يقرون في أنفسهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يجحدونها حسدا وكبرا، كما قال تعالى : "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " .

ولو نظرنا في تاريخنا الإسلامي لوجدنا صورا عظيمة ومشرقة لتعامل الخلفاء وقادة الجيوش الإسلامية مع دول أهل الكتاب التي تم فتحها، إذ أعطوهم الأمان، ولم يهدموا كنائسهم ولا أمكان عباداتهم، ولم يجبروهم على الدخول في دين الله، بل خيروهم بين الإسلام أو دفع جزية يسيرة، يعفى منها العجزة والأطفال والنساء.

ولكن ...

ما هو حدود هذا التسامح ؟ 

هذا ما سنتعرف عليه في المقال الثاني بإذن الله تعالى . 

الخميس، 25 ديسمبر 2014

خطبة جمعة : أهمية الوقت

الخطبة الأولى . 
أيها المؤمنون : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :« نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ : الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ » ، فدل الحديث على أن من النعم العظيمة والمنن الكبيرة على العبد نعمة الوقت ، فأنفس ما يملكه العبد في هذه الحياة هو وقته الذي يعيشه ولحظاته التي يحياها ، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة ، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط ، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون ، لأن الفراغ يعقبه الشغل ، والصحة يعقبها السقم  ، ولهذا جاءت وصية نبينا صلى الله عليه وسلم باغتنام هذه الأحوال من الفراغ والصحة بالطاعات قبل حلول الشغل أو السقم فقال : "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ "  فمرحلة الشباب والفراغ والحياة إنما ترجع إلى أصل واحد هو الوقت . 

 جماعة المسلمين : الوقت في الإسلام أعظم قدرا ، وأنبل شأنا وهدفا، وأسمى غاية ومقصدا ، فهو في الإسلام ميدان لكل عمل شريف، ومجال للمسارعة في الخيرات والمبادرة للصالحات. 

ولهذا أقسم الله بأجزاء منه في مطالع سورٍ عديدة ، بل ربما أقسم به جملة وتفصيلا وهذا فيه دلالة على أهمية الوقت في الإسلام . ، قال تعالى {وَالْعَصْرِ} ،وهو الدهر الزمان الذي يعيشه الإنسان ،  وأقسم به تفصيلا في قوله " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ،وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ،وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا " ثم كان جواب القسم في السورة " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا " أي زكى نفسه بالعمل الصالح وتجنب العمل السيء، وكذلك لما أقسم فقال: "وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى،وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى،وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى " جاء جواب القسم في السورة "إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى "   وفي ذلك إشارة من هذه الآيات إلى أن الوقت مادة الحياة، وأن سعي الناس فيه مختلف، فمنهم من يُزكّي نفسه ويُنَمّيها بالخير، ومنهم من يُهْبِطُها في أسفل الدّرَكات بتفريطه وعصيانه.

عباد الله، و مما يدل على أهمية الوقت أنه محور من محاور السؤال يوم الدين ، فإن أحسن العبد الإجابة أفلح ونجا ، وإن أساء خسر وندم ، ولا إحسان إلا بعمل واعتقاد صالح.  قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ،وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ"  فلن تزول قدما العبد في ذلك الموقف في أرض المحشر حتى يحاسب عن مدّة أجله فيم صرفه بعامَّة ؟ وعمَّا فعل بزمانه وقت شبابه بخاصة؟ وهنا تخصيصٌ بعد تعميم للأهمية والتأكيد، وإلا فإنّ مرحلة الشباب وعُمر الشباب هي مرحلة داخلة ضِمنًا في العمر الذي يسأل عنه العبد، لكن خُصَّ بالذكر لأن الإنسان في مرحلة شبابه تكون لدية من القوة والعطاء ما لا يكون في طرفَي العمر، حيث ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة . 

جماعة المسلمين : لقد عرف سلف هذه الأمة قيمة الوقت وأهميته في حياة الإنسان الرابح فاستغلوه غاية الاستغلال ووظفوه لصالحهم في الدنيا والآخرة ، فكان الواحد منهم يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا ، ويعمل لآخرته كأنه يموت غدا ، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه ناصحا " إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من صحتك قبل سقمك ومن حياتك قبل موتك فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا ؟ 
كان ابن مسعود يقول: (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي). قال الحسن : لقد أدركت أقواماً كانوا أشدَّ حرصاً على أوقاتهم من حرصكم على دراهمكم ودنانيركم .

عباد الله: لقد بين الله تعالى لنا في الكتاب الحكيم طرق استغلال الوقت فقال " وَالْعَصْرِ،إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " 

فالأصل أن الإنسان في خسارة من أمره ، ولا يمكن له أن يتدارك ذلك إلا بأمور أربعة بينها الله سبحانه في هذه السورة ، أولها إيمان صحيح خال من الشبهات ، ولا يكون ذلك إلا بالعلم الشرعي للكتاب والسنة وعلى وفق فهم الصحابة والتابعين والعلماء الربانيين ، يعقب ذلك الثمرة من وراء هذا العلم وهو العمل ، المتمثل في أداء الفرائض واستكمالها بالنوافل ، ثم اجتناب المحرمات ، ثالثها : الدعوة إلى هذا الإيمان السليم والعمل الصالح في نطاق الأسرة والمجتمع ، ثم الصبر الملازم لكل مرحلة من هذه المراحل .

قال ابن القيم –رحمه الله- في بيان كيفية عمارة الوقت :( عمارة الوقت : الاشتغال في جميع آنائه بما يقرب إلى الله أو يعين على ذلك من مأكل أو مشرب أو منكح أو منام أو راحة، فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله وتجنب ما يسخطه كانت من عمارة الوقت وإن كان له فيها أتم لذة، فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات، فالمحب الصادق ربما كان سيره القلبي في حال أكله وشربه وجماع أهله وراحته أقوى من سيره البدني في بعض الأحيان "

أيها المسلمون، إن العاقل من تفكّر في أمره، ورأى أن تصرّم أيامه مؤذن بقرب رحيله طال عمره أم قصر، فاحتاط لأمره، واجتهد في يومه، واستعد لغده. ما الوقت إلا حياة الإنسان وعمره الذي هو أنفاس تتردّد، وآماله التي تضيع إن لم تتحدّد، الوقت ثمين ونفيس، وما مضى منه فلن يعود، ولا الزمان بما مضى منه يجود. فهلاّ تنبّهنا لأعمارنا، فكم من غافل يبيع أغلى ما يملك وهو الوقت بأبخس الأثمان! فالوقت مُنْصرِمٌ بنفسه، مُنقضٍ بذاته، ومن غفل عن تداركه تَصَرّمت أيامه وأوقاته، وعظُمَت حسراته، ينقضي العمر بما فيه فلا يعود إلا أثره، فاختر لنفسك ما يعود عليك، ولهذا يقال للسعداء: "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ، ويقال للأشقياء المعذّبين:" ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ " 


الخطبة الثانية :جماعة المسلمين إن من أعظم الخسارة إضاعة الأوقات سدى ، وإن الحفاظ على الأوقات واستثمار الأعمار يحتاج إلى حزم وعزم وهمّة وقوّة إرادة، أما البَطَالة والكسل فهي داء وَبِيل ومرض خطير تنعكس آثاره السيئة على الأفراد والمجتمعات، ويسبّب الخمول والفقر والتخلّف المادّي والمعنوي، ويؤدّي إلى الرذائل والمنكرات، وإن يكن الشُّغل مَشْهَدةٌ فإن الفراغ مَفْسَدَةٌ، ومَن أكثر الرُّقَاد عُدِم المُرَاد . 

أيها المسلمون، يخيَّل لبعض الناس أن الأيام ستفرغ له في المستقبل من الشواغل، وتصفو له من المكدرات والعوائق، وأنه سيكون فيها أفرغ منه في الماضي أيام الشباب، ولكن الواقع المشاهد على العكس من هذا، كلما كبرت سِنُّك كبرت مسؤولياتك وزادت علاقاتك وضاقت أوقاتك ونقصت طاقتك، فالوقت في الكبر أضيق، والجسم فيه أضعف، والصحة فيه أقلّ، والنشاط أدنى، والواجبات والشواغل أكثر وأشدّ . 

عباد الله : قال ابن القيم رحمه الله : واعلم أن الحسرة كل الحسرة الاشتغال بمن لا يجدي عليك الاشتغال به، إلا فوت نصيبك وحظك من الله، وانقطاعك عنه وضياع وقتك عليك" 
فتوجد طوائف من الناس مشغولون بلا شغل، لأن شغلهم لا يعود عليهم بالنفع، بل بالضرر المحقق.

فتأملوا حال من يقضي الساعات الطوال في المقاهي أو من يمضي وقته في مشاهدة فلم قد أخذ بمجامع حواسه وجوارحه، أو من يعكف على حاسوبه أمام الانترنت يحادث ويتصفح بلا هدف ولا مصلحة
فهؤلاء مشغلون بما هم فيه، ولكنهم ضيعوا ساعات أعمارهم فيما لا ينفع، فهذا الوقت يمكن قضاءه في زيارة رحم، أو محادثة زوجة وأولاد، أو تلاوة قرآن، وقراءة كتاب، أو جلوس مع أهل الخير والصلاح ، أو في نوم مبكر بعد استعدادا لصلاة الفجر، أو قيام الليل . 
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة "  

أيها المسلمون: لقد طغت الحياة المادية على وقت المسلم، فالوظائف ومسئولية المنزل والأولاد مشغلة للعبد في حياته ولكن الفطن هو من ينتبه لذلك فيسخر ظروفه وأحواله لطاعة الله. 

قال تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ، وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ 
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " 

فللإنسان يومان يندم فيهما على ما ضَيّع من أوقاته، ويطلب الإمهال: فالأول في ساعة الاحتضار، وذلك حين يقول " رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ" فيكون الجواب : " وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا " والموقف الثاني في الآخرة حين يدخل أهلُ النارِ النارَ: "وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ "  فيكون الجواب: "أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ " 

فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، واستغلوا لحظات أعماركم بما ينفكم في أخراكم ودنياكم، واحذروا التسويف والتأجيل فإنه مصيدة للشيطان يوقع بها اتباعه، واعلموا أن الله لم يكلفنا من الأعمال ما لا نطيق، بل أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، والعادات مع حسن النية تنقلب طاعات يؤجر عليها المؤمن. 



استفدت هذه الخطبة مع التعديل عليها بما تيسر من خطبة للشيخ صالح آل طالب بعنوان: قيمة الوقت في حياة المسلم . 

الخميس، 27 نوفمبر 2014

نعمت لزوم الجماعة والاتحاد

الخطبة الأولى : أيها المسلمون من المقاصد الشرعية التي جاءت نصوص الدين بتأكيدها الاجتماع والوحدة والنهي عن التفرق والاختلاف، قال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) ، وقال سبحانه(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ، ومن السنة ما رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ " وحذر من مفارقة الجماعة والاختلاف فقال : مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَة َ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ " فشبه الإسلام بالربقة وهي الحبل يوضع حول عنق الدابة يقودها ويحفظها، فإذا فارق الرجل الجماعة فقد ترك حدود الإسلام وأحكامه. 

أيها المسلمون: إن الجماعة التي حثنا على لزومها شرعنا الإسلامي ونهانا عن التفرق عنها قد بينها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي تشمل لزوم الكتاب السنة وعدم الإعراض عنهما، وهذ المعنى هو أساس كل اتفاق، ومخالفته أساس كل افتراق، قال ابن تيمية رحمه الله : ولست تجد اتفاقا وائتلافا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقا واختلافا إلا عند من ترك ذلك وقدم غيره عليه " 

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى للجماعة فقال : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: "الْجَمَاعَةُ"  وفي رواية : "ما أنا عليه اليوم وأصحابي " ، قال ابن تيمية: فوصف الفرقة الناجية بأنهم المستمسكون بسنته وأنهم هم الجماعة" 

وأما المعنى الآخر للجماعة فهو لزوم إمام المسلمين وحاكمهم وولي أمرهم، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ " البخاري ومسلم.  قال النووي: أي على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم " والمراد بالمفارقة كما نقله ابن حجر : هو السعي في حل البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى شيء، فكنى بمقدار الشبر لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق" . 

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعاني للجماعة في بعض أحاديثه، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في وصيته لأصحابه وأمته من بعده: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِي اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ "

فأمر صلى الله عليه وسلم بتقوى الله ولزوم سنته وهديه وهدي الصحابة من بعده وحذر من البدع والمحدثات، وهذا هو المعنى الأول للجماعة، ثم أمر وحث على السمع والطاعة لولي أمر المسلمين، وهذا هو المعنى الثاني للجماعة، فكانت وصيةً جامعةً منه عليه الصلاة والسلام لأمته. 

أيها المسلمون: إن في التزام أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة نجاة وعصمة من الانحراف، مع ما يحققه ذلك من مقاصد عظيمة في الدين والدنيا، ومن هذه المقاصد تحقيق العبودية لله تعالى، وذلك باتباع الكتاب والسنة والعمل بما فيهما، وهذا هو المقصد الأعظم من وجود الخليقة، ومن المقاصد أيضا حفظ الأمن والاستقرار في المجتمع، فينزع الخوف، ويسود العدل، فيعطى كل ذي حق حقه، ومن مقاصد لزوم الجماعة حفظ الأعراض من أن تنتهك، والأموال من أن تنتهب، والأنفس من تسفك دماؤها، والعقول من أن تزول أو تطيش.

 ومن تأمل التاريخ الغابر، والزمن الحاضر الذي خرجت فيه فئام من الناس عن  أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة بمعنييها، رأى تهاوي هذه المقاصد رأي عين، فانشغل الناس بالثورات عن العلم والعبادة والذكر وقراءة القرآن وصار همهم متابعة الأخبار والقنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي وقراءة الصحف ، وسفكت الدماء فقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وانتهكت أعراض المسلمين، وصودرت أموالهم ونهبت، وطاشت عقولهم، كل ذلك لأنهم خالفوا الأمر النبوي بلزوم الجماعة وعدم مفارقتها، وتحقق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم " مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةِ اْلإسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ" فضيعوا حدود الله باسم المطالبة بالحريات المكبوتة، فأوكلهم الله إلى أنفسهم فوقعوا في الذل والهوان مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: " وجعل الذل والصغار على من خالف أمري" 

فعليكم أيها المسلمون بلزوم الجماعة التي أمركم بها نبيكم، فتمسكوا بسنته وهديه، واحذروا البدع والمحدثات، واسمعوا وأطيعوا لولاة أمركم، ولا تشقوا عصا الطاعة، روى الإمام مسلم في صحيحه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، وَخَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي بِسَيْفِهِ فَيَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا لَا يَتَحَاشَى مُؤْمِنًا لِإِيمَانِهِ، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ بِعَهْدِهِ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي، وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِلْعَصَبِيَّةِ، أَوْ يُقَاتِلُ لِلْعَصَبِيَّةِ، أَوْ يَدْعُو إِلَى الْعَصَبِيَّةِ، فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ"


الخطبة الثانية : أيها المسلمون من نعم الله علينا أن وحد الله بين هذه الإمارات السبع، تحت راية واحدة، وحاكم واحد، فجُمِع الشمل، وتآلفت القلوب، وقوية الشوكة، وهابها العدو، وتبوأت مكانا عليا، وأفاض الله عليها من الخيرات فعاش الناس في رغد وخير عميم، وأمن واستقرار، وصحة وعافية، كل ذلك بفضل الله تعالى المنعم، ثم بفضل مؤسس هذا الاتحاد الشيخ زايد بن سلطان، رحمه الله تعالى وأسكنه الجنة، وبفضل إخوانه الحكام الذين بذلوا ما يستطيعون لرفعة هذا البلد وسعادة أهله . 

وبفضل الله تآلفت القلوب بين الراعي والرعية، فأحب الناس ولاة الأمر في هذه البلاد، وأقبل ولاة الأمر على الرعية يجالسونهم ويمدون يد العون لهم، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: " خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ " 

أيها المسلمون: هذه النعم تحتاج إلى شكر منا حتى تدوم وتزيد، وقد قال تعالى :" وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ  " ، والشكر أولا إنما هو لله تعالى وذلك بالإقرار بهذه النعم في قلوبنا وعدم جحدها، ثم التحدث بها وعدم إنكارها، ثم العمل بشرع الله تعالى ولزوم هديه، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. 

ثم الشكر لولي أمرنا الشيخ خليفة وذلك بالسمع والطاعة له، والسعي إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف، ونبذ كل ما يفرق المسلمين، ويزرع التفرق والتباغض بينهم. 

ومِنْ واجباتِ الوفاءِ لِمَنْ أَسَّسُوا الاتحادَ وأَرْسَوْا دعائِمَهُ أَنْ نذْكُرَهُمْ بالدعاءِ، ونَخُصَّهُمْ بالذِّكْرِ والشُّكر والعِرفانِ، قال صلى الله عليه وسلم: " لَا يَشْكُرُ النَّاسَ مَنْ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ، وَمَنْ لَا يَشْكُرُ فِي الْقَلِيلِ لَا يَشْكُرُ فِي الْكَثِيرِ، وَإِنَّ حَدِيثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَالسُّكُوتَ عَنْهَا كُفْرٌ، وَإِنَّ الْجَمَاعَةَ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةَ عَذَابٌ " 

عباد الله: ليس من شكر نعمة الاتحاد ما يفعله البعض في هذه الأيام من طريقة خاطئة في التعبير عن حبهم للوطن عبر مخالفتهم لشرع الله ولأنظمة الدولة، مما أدى إلى وقوع حوادث أليمة، وإصابات بالغة، كل ذلك تحت شعار حب الوطن. 

يظهر ذلك جليا في ما يفعله الشباب من الذكور والإناث في المسيرات التي يكثر فيها تبرج النساء ورقصهن ومعاكسات الشباب وميوعتهم، وتلويث الشوارع بالنفايات، وإزعاج الآخرين بالضوضاء، خصوصا من أصحاب السيارات المخالفة التي تزود بأجهزة تضخم الصوت وتثير الضجيج .

أما عَلِمَ أولئكَ أنَّ التعبيرَ عن الولاء لهذا الوَطَنِ يَكْمُنُ في التَّضْحِيَةِ لأجلِهِ، والتعاونِ على الخَيرِ مع ولاةِ أمْرِه، والبذلِ والتَّضحيةِ والعَطاءِ -كلٌّ في مجالِهِ-؛ وذلك في سبيلِ تطويرِ وَطَنِنا الغالي وتَنْمِيَتِه .

فلنسع للقضاء على هذه الظواهر السلبية، ولنتعاون مع الجهات الرسمية على القضاء عليها، ولنظهر بمظهرنا الإسلامي، وعاداتنا الوطنية، من السماحة والتواضع وعدم التكبر والله يقول : " وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ " 

الخميس، 20 نوفمبر 2014

خطبة جمعة : القناعة

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين اعلموا رحمكم الله أن الإنسان مجبول على حب المال والاستكثار منه، قال تعالى : "وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا" وقال سبحانه : "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ " ، وجعل الله هذا المال فتنة للناس وابتلاء قال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ " ، وانقسم الناس حيال المال وجمعه إلى قسمين : الأول جعله هو المقصود والغاية فصرف فكره وعمله لأجله، فشغلوا عما خلقوا له من عبادة الله وتوحيده، وبين صلى الله عليه وسلم صورة لهذا القسم في حرصهم على جمع المال فقال : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب"   
 وقسم عرفوا المقصود من هذه الشهوات وأن الله قد جعلها ابتلاء للعباد، لذلك فهم يتزودون منها لآخرتهم ويستعينون بها على طاعة ربهم، فصحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم.

عباد الله : ولأهمية المال في الحياة فهو أحد الضروريات الخمس التي جاءت الشرائع بحفظها وضع الإسلام جملة من الأحكام والأخلاق التي تضبط تعامل الناس بالمال، ومن جملة هذه الأخلاق خلق القناعة الذي عُد في الأمثال من الكنوز التي لا تفنى ولا تبيد فقيل : القناعة كنز لا يفنى.

والقناعة خلق تحبه الطباع، دعا إليه الشرع وحث عليه ورغب فيه، لأن مضمونه الرضا بما قسمه الله للعبد من رزق في هذه الدنيا، وفيه نزع للحسد والطمع في أموال الناس من قلوب العباد، كما يحتوي على التواضع والعفة والمروءة والنزاهة، فهو خلق شريف، وسجية رفيعة.

فالقناعة سبب لطيب العيش وسعادته ، قال تعالى: " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " فسر علي بن أبي طالب وابن عباس الحياة الطيبة بالقناعة.

وَمَنْ رُزِقَ الْقَنَاعَةَ فَقَدْ أَفْلَحَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَنُوعًا بِمَا آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَطْلُبُ الآخِرَةَ، وَيَرْجُو مَرْضَاةَ رَبِّهِ، وَيَدْعُوهُ قَائِلاً:« اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً». أَيْ اكْفِهِمْ مِنَ الْقُوتِ بِمَا يُغْنِيهِمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ.

وقناعة العبد بما رزقه الله سبب لتحصيله العز والشرف في الدنيا والآخرة قال صلى الله عليه وسلم: شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزِّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ " ، فإنما يتحقق الغنى الحقيقي للعبد باستغنائه عما في أيدي الناس، ورضاه بما قسم الله له، قال صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ "

وَمَنْ رُزِقَ الْقَنَاعَةَ أَبْصَرَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَشَكَرَهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو يوصي أبا أهريرة: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ" وسر ذلك كما قال أهل العلم: أن العبد إذا قنع بما أعطاه الله رضي بما قُسم له، وإذا رضي شكر فزاده الله من فضله جزاء لشكره وكلما زاد شكرا ازداد فضلا وربنا يقول: " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ "   

عباد الله : وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم يضرب لنا الأسوة الحسنة في تعامله مع المال بقناعة ورضا ، فكان صلى الله عليه وسلم ينام على فراش من جلد محشو بليف، ودخل عليه عمر بن الخطاب فرآه نائما على حصير قد أثر بجنبه.. فبكى عمر، فقال: ما يبكيك يا عمر؟ قال: أنت نبي الله وكسرى وقيصر على أسرة الذهب، قال: يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة، وتقول عائشة رضي الله عنها لعروة بن الزبير: وَاللهِ يَا ابْنَ أُخْتِي , إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ . فَقال: يَا خَالَةُ , فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعِيشُونَ؟، قَالَتْ: عَلَى الْأَسْوَدَيْنِ  التَّمْرِ وَالْمَاءِ ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ , فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهَا , فَيَسْقِينَاهُ" وهو صاحب المقام الأعلى في الجنة .

وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهَذِّبُ سُلُوكَ أَصْحَابِهِ بِمَا يُجَنِّبُهُمْ شِدَّةَ التَّطَلُّعِ لِلزِّيَادَةِ، وَيُحَقِّقُ لَهُمُ الْقَنَاعَةَ وَالسَّعَادَةَ، فَعَنْ حَكِيمِ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ يَا حَكِيمُ: إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا

 فعلام يتنافس المتنافسون في أمور الدنيا ولا يرضون بما قسم الله لهم من الرزق والعطاء، أعينهم تنظر إلى من هو أعلى منهم فيحتقرون ما عندهم ولو نظروا إلى من هم أسفل منهم لاتعظوا ورضوا قال صلى الله عليه وسلم: انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ"
أخي المسلم : إن كنت تريد الغنى الحقيقي والراحة والسعادة فارض بما قسم الله لك، قال صلى الله عليه وسلم: ارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ" وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، إنه من ييأس عما في أيدي الناس استغنى عنهم "  


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : إن مما يعين العبد على القناعة بما رزقه الله أن يوقن العبد أن ما عنده إنما هو رزقه الذي كتبه الله له، وأن ما لم يحصل عليه فليس له، قال تعالى : إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا "  فالله خبير بحال عباده وما يصلح لهم قال ابن القيم: قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع، والغنى لآخرين أنفع، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع والمرض لبعضهم أنفع" ، وقال صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس اتقوا الله و أجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها و إن أبطأ عنها، فاتقوا الله و أجملوا في الطلب خذوا ما حل و دعوا ما حرم "

وعدم القناعة يفضي العبد إلى الهموم والغموم وحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، فيهلك نفسه ويشقيها، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من نفس طماعة جشعة لا تشبع فعن أبي هريرة قال :  كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن دعاء لا يسمع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع"

ومن قنعه الله بما آتاه وأقبل على ربه واهتم بآخرته آتته الدنيا وهي راغمة صاغرة، قال صلى الله عليه وسلم " من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة"  ، والحريص على المال من غير نظر لحله وحرامه مفسد لدينه ودنياه، ولا يحصل من المال إلا ما قدر له منه قال صلى الله عليه وسلم " ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له "

وضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثلا في إفساد الحرص على المال للدين بذئبين جائعين أرسلا في غنم لا راعي فيها، ومعلوم أنه لا يكاد ينجو من الغنم من إفساد الذئبين شيء، قال صلى الله عليه وسلم " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه"  فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن حرص المرء على المال والشرف سبب لإفساد دينه ، فربما لا يسلم من دينه مع حرصه على المال إلا القليل.

قال ابن رجب : ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف الذي لا قيمة له، وقد كان يمكن لصاحبه اكتساب الدرجات العلى والنعيم المقيم فضيعه الحريص في طلب رزق مضمون مقسوم لا يأتي منه إلا ما قدر وقسم ثم لا ينتفع به بل يتركه لغيره ويرتحل عنه ويبقى حسابه عليه ونفعه لغيره"

والحرص المذموم على المال هو شدة محبته مع شدة طلبه من وجوهه المباحة مع المبالغة في ذلك، ويقبح الحرص إن طلب العبد المال من وجوه محرمه.

ولنعلم أنه لا علاقة بين القناعة والفقر، فقد يكون الغني قنوعا بما آتاه من مال، فيعرف لله فيه حقا، فيزكيه ويصرفه في وجوه الخير، ورب إنسان فقير غير قنوع، هو دائم التسخط من قلة ذات اليد.
كما أن القناعة لا تتعارض مع السعي في طلب الرزق والعمل، بل من القناعة أن تسعى وتعمل ثم ترضى بما قسم الله لك.  

فلْنَحْرِص عبادَ الله على القناعةِ والرِّضا بما آتانا الله تعالى إيّاه من النِّعَم، ولْنعوِّدْ أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا على التزامِ شُكْرِ اللهِ وحمدِه، وعلى الحذرِ من الجُحودِ والاعتراضِ والتذمُّر؛ فإنَّ الشُّكْرَ قيدٌ للنِّعَمِ، وإنَّ الجُحودَ سببٌ لاضْمِحْلالِ النِّعَمِ وزَوالها، قال تعالى: (وإذْ تأَذَّنَ ربُّكُمْ لَئِنْ شَكَرتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ولَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذابي لَشديد).
فاللهُمَّ أَعِنّا على ذكركَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عبادتك، إنّك سميعٌ قريبٌ مجيب.




الخميس، 6 نوفمبر 2014

وسائل تجنب الفتن - الواجب تجاه الوطن


الخطبة الأولى : معاشر المؤمنين : روى أبو داوود في سننه عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ )) ، السعادةُ مَطْلَبُ كلِّ إنسان، وغايةٌ تُنشَدُ وهدفٌ يُطلَب ، وقد بين لنا ديننا الإسلامي الطرق والمسببات التي تحقق السعادة للعبد في الدارين ليفوز بموعود الله تعالى :" وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ" أي دائم لا ينقطع .

ومن أسباب تحقيق السعادة للعبد تجنب الفتن والخوض فيها، فالفتن عواقبها وخيمة، وإن زينت وبهرجت، إلا أنها سم قاتل ونار تحرق،  و الفتن في أول بروزها وبدوِّ ظهورها تشتبه على كثير من الناس، فيرى القبيح حسنا، والباطل حقا،  عن أي موسى الأشعري رضي الله عنه : «إنَّ الفتنة إذا أقبلت شبَّهت، وإذا أدبرت تبيَّنت» وقد بوب البخاري في صحيحه بابا فقال : بَاب الْفِتْنَة الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ
الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً                     تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا             وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ
شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ                  مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ

والفتنة إذا وقعت أصابت بشررها كل أحد  إلا من عصمه الله قال تعالى : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " فإذا اشتدت عجز أهل العلم والعقل عن إيقافها قال ابن تيمية : والفتنة إذا وقعت عَجَزَ العقلاءُ فيها عن دفع السُّفهاء " ، وخطر الفتن على الدين عظيم جدا قال صلى الله عليه وسلم: " بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا " وعن مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير قال : «إنَّ الفتنة لا تجيء حين تجيء لتهدي النَّاس ، ولكن لتُقارعَ المؤمنَ على دينه»
ولأجل عظم خطورة الفتن كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من منها ويأمر أصحابه بذلك، فروى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة لأصحابه :تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ"

عباد الله : كيف تُتقي الفتن ؟ سؤال يحتاجه كل من يريد لنفسه السلامة من الفتنة والوقاية من شرها وخطرها وضررها
فاعلموا رحمكم الله أن من أهم أسباب تجنب الفتن ملازمة تقوى الله عز وخل في جميع الأحوال ، والله تعالى يقول: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" ، فقوله تعالى: " يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا" أي من كل فتنةٍ وبليةٍ وشر . والتقوى - عباد الله - عواقبها حميدة ومآلاتها رشيدة ، والعاقبة دائماً وأبدا لأهل التقوى ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا كَانَتْ فِتْنَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ قَالَ طَلْقٌ بن حبيب: «اتَّقُوهَا بِالتَّقْوَى» ، قَالَ بَكْرٌ: أَجْمِلْ لَنَا التَّقْوَى، قَالَ: «التَّقْوَى عَمَلٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، رَجَاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالتَّقْوَى تَرْكُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، خِيفَةَ عِقَابِ اللَّهِ "  فتقوى الله جلّ وعلا ليست كلمةً يقولها المرء بلسانه أو دعوى يدّعيها ؛ وإنما تقوى الله  صلاح في القلوب وزكاء في الأعمال وجدّ واجتهاد في طاعة الله وبُعد عن النواهي والمحرمات . فهذه حقيقة التقوى التي حريٌّ بصاحبها أن يجنَّب الفتنة ويوقي من كل شر في الدنيا والآخرة.

ومن الضوابط المهمة عباد الله لاتقاء الفتن : لزوم الكتاب والسنة والاعتصام بهما ؛ فإن من  اعتصم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هُدي إلى صراط مستقيم وسلِم من كل بلية وشر ، و السنة سبيل النجاة في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة : " السنة سفينة نوح ، فمن ركبها نجا ومن تركها هلك وغرق " ، إن من أمّر السنة - عباد الله - على نفسه نطق بالحكمة وسلِم من الفتنة ونال خيري الدنيا والآخرة ، وإلى هذا أرشد رسولنا عليه الصلاة والسلام قال (( فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ )) رواه أبو داود.

وإن من الضوابط المهمة لاتقاء الفتن : البعد عن التسرع والعجلة والاندفاع ، فإن العجلة والتسرع لا يأتيان بخير ؛ بل إنهما يفضيان بصاحبهما إلى كل شر وبلاء ، فعواقب العجلة وخيمة ونهاياتها أليمة ، والحليم المتأني يظفر بمقصوده بإذن الله ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " إنها ستكون أمور مشتبهات فعليكم بالتُؤدة - أي عدم العجلة والتسرع - فإنك أن تكون تابعاً في الخير، خيرٌ من أن تكون رأساً في الشر"  ، وعن على بن أبى طالب رضي الله عنه قال: " لا تكونوا عُجُلا مذاييع بُذرا، فإن من ورائكم أمورا متماحلة رُدُحا " ؛ أي وراءكم فتن ثقيلة، فتجنبوا العجلة وتجنبوا إذاعة الشر والخوض في الخصومة ، وتجنبوا بذْر الفتنة وأصولها في الناس .

عباد الله ؛ وإن مما تتقى به الفتن : الرجوع إلى العلماء الراسخين والأئمة المحققين أهل العلم والأناة والحكمة والبصيرة بدين الله والفقه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، خصوصا الأكابر فلا يزال الناس بخير ما أخذوا عن العلماء الأكابر ، قال صلى الله عليه وسلم: (( الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ )) ، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " لا يزال الناس بخير ما أخذوا عن أكابرهم ، وإذا أخذوا عن الأصاغر هلكوا " . إن الأخذ عن الأئمة الراسخين والعلماء المحققين والفقهاء المدققين أمَنَة بإذن الله وصِمام أمان، ونحن أُرشدنا إلى ذلك في كتاب الله عز وخل ، قال الله تعالى: " وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا " ، وفي هذه الآية - عباد الله - أدَّبنا الله جل وعلا عند حصول أمر يمسّ أمْن الناس أو يمس مصالحهم أو يمس خوفهم أن يكون رجوعنا وتعويلنا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أقوال العلماء الراسخين والفقهاء المحققين المدققين الذين طال باعهم وعظم حظهم ونصيبهم من دراسة كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه .

عباد الله ؛ وإن من الأمور التي تتقى بها الفتن : لزوم الجماعة والبعد عن الفرقة ؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة شر وعذاب ، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (( الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ )) ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث متكاثرة ونصوصٌ متضافرة في الحث على لزوم الجماعة ، ومن أراد أن يصلِح في الناس فليكن واحداً منهم ولازماً لجماعتهم وليصلِح بالتي هي أحسن على ضوء ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، أما أن يخرج عن الجماعة بزعم أنه يريد إصلاحها ثم يفرّق كلمة الناس ويخلخل صفهم ويشق كلمتهم فأي خير في هذا !! وأي نفع أو فائدة ترجى من ورائه!!

عباد الله ؛ وإن من الأمور العظيمة التي تتقى بها الفتن : حسن الصلة بالله والإقبال على دعائه وسؤاله سبحانه ؛ فإن الدعاء - عباد الله - مفتاح كل خير في الدنيا والآخرة ، والله جلّ وعلا لا يخيِّب عبداً دعاه ولا يرد مؤمناً ناجاه ، فالواجب علينا - عباد الله - أن نسأل الله دائماً وأبداً أن يجنبنا والمسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن، وقد جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة: ((تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )) فقال الصحابة رضي الله عنه : (( نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )) .

وإن من الأمور التي تنجي صاحبها من الفتن : عبادة الله تبارك وتعالى ، والإقبال على طاعته ، وعدم التصدر للفتن والبروز لها ، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ)) ، فأرشد صلى الله عليه وسلم في زمن الفتنة  إلى الانشغال بعبادة الله جلّ وعلا والإقبال على طاعته ، وقد جاء في الصحيح أيضا عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلةً فزعا ثم قال: ((سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ ، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ )) ؛ وهنا تأمل أيها المؤمن إلى أي شيء أرشد صلوات الله وسلامه عليه عند حصول الهرج وهو القتل والخصومة والفتنة ؟ إنما أرشد إلى العبادة والطاعة والإقبال الصادق على الله



الخطبة الثانية :
جماعة المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه ، مُعافى في جَسَدِهِ ، عندهُ قوتُ يومِه ، فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها " في الحديث تذكير بنعم الله على العبد، فإن الله –سبحانه وتعالى- خلق العباد لعبادته وتوحيده فقال: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" وأهم النعم التي يحتاجها العابد لتحقيق هذا الهدف السامي هي أمن في نفسه وجماعته وبلده، وعافية في صحته وجسده، وطعام يتقوى به على طاعة الله، وفي ذلك تعليم لخلق القناعة والزهد في أمور الدنيا، والاهتمام بأمر العلم والعمل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ  .

أيها المسلمون: الأرض التي تتوافر فيها هذه النعم من الأمن والعافية والغذاء حري بأهلها أن يتعاونوا على حفظها والعمل على الدفاع عنها وحفظ مكتسباتها، وهذا أمر مجبولة عليه النفوس السليمة، وهو محبة الوطن والدفاع عنه .

من نعم الله علينا أن أسكننا هذه الأرض – دولة الإمارات العربية المتحدة – وجعل لنا فيها الأمن والأمان والراحة والطمأنينة ، وهي الوطن الذي نشأنا فيه وترعرعنا وتعلمنا على أرضه وذلك بفضل من الله المنعم ثم بفضل ما يسر لهذه البلاد من الخيرات وولاة الأمر من الحكام- أعزهم الله- حيث لم يبخلوا علينا في شيء بل وفروا لنا كل ما نحتاج إليه في حياتنا، فإذا تقرر هذا؛ فما هو الواجب علينا ؟ إن الواجب على أبناء هذا الوطن أولا شكر الله تعالى على هذه النعم بأن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، فمن شكر وعد بالمزيد قال سبحانه : " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ "  ، ثم الشكر والدعاء لولاة أمرنا الذين بذلوا الغالي والنفيس لأجل توفير وسائل الحياة السعيدة لأهل هذه الدولة، ثم على أبناء هذا الوطن محبته، و التكاتف بين أفراد مجتمعه والتلاحم فيما بينهم، فإذا كنا لبنة واحدة؛ عجز عنا العدو وباء طمعه بالخسران.

ومن مقتضى محبة الوطن القيام بالواجبات المنوطة على كل فرد بأمانة وإخلاص، على اختلاف المواقع والمراكز والمناصب والرتب، ومن مقتضى محبة الوطن؛ المحافظة على ثرواته وخيراته، وعدم العبث بها وهدر أموال بيت المال


ملاحظة: الخطبة الأولى مقتبسة من خطبة للشيخ عبد الرزاق البدر مع الاختصار والتعديل 

الجمعة، 31 أكتوبر 2014

الأسس الشرعية لحماية الشباب من الانحراف

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين ، اعلموا رحمني الله وإياكم أن الأمم والمجتمعات لا تستطيع المحافظة على استمرار وجودها وتقدمها ورقيها إلا بفضل إعداد أجيالها المتعاقبة الإعداد السليم المتكامل ، وبقدر ما تحافظ الأمم والشعوب على تربية هذه الأجيال على التمسك بدينها ومعتقداتها وأخلاقها ، بقدر ما تحافظ على بقائها وعلو شأنها ، لذلك وجهنا الإسلام إلى الاهتمام والعناية بالشباب وتنشئتهم تنشئة صالحة.

 فالشبابُ يُعتَبر ثروةَ الأمّة الغاليةَ وذخرَها الثمين، يكون خيرًا ونعمةً حين يُستَثمر في الخير والفضيلةِ والبناء، ويغدو ضررًا مستطيرًا وشرًّا وبيلاً حين يفترسه الشرُّ والفساد.
الانحرافُ في مرحلة الشّباب خطيرٌ ومخوِّف، فمنحرفُ اليوم هو مجرمُ الغدِ ما لم تتداركه عنايةُ الله، وعلى قَدرِ الرعاية بالشبابِ والعنايةِ بشؤونهم يتحدَّد مصيرُ الأمّة والمجتمع.

ولذلك إخواني في الله- حث نبينا صلى الله عليه وسلم على اغتنام مرحلة الشباب قبل المشيب قال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظهُ : اِغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْل خَمْس , شَبَابك قَبْل هَرَمك , وَصِحَّتك قَبْل سَقَمك , وَغِنَاك قَبْل فَقْرك , وَفَرَاغك قَبْل شُغْلك , وَحَيَاتك قَبْل مَوْتك "  ، والغنيمة لا تكون إلا لشيء يخشى فواته وضياعه إن لم يتداك ويستغل.
وقد خُصت هذه المرحلة بالمسؤولية والسؤال عنها فروى الترمذي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ .

ومما لا شك فيه أن الواجب في هذه الأمة مشترك بين المسلمين جميعا شبابا وشيوخا ، ولكن خُص الشباب بالذكر لأنها مرحلة مهمة جدا في حياة المسلم نفسه ، وفي حياة مجتمعة المسلم ، فهم الذين يقومون بالواجب بعد رحيل الجيل الذي سبقهم .

جماعة المسلمين: لأجل أن يقوم الشباب المسلم بدوره الصحيح في المجتمع المسلم لا بد من إعداده الإعداد السليم، فقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى سلوك الطريق النبوي في تربية هذا النشئ ، بدءا من اختيارك لزوجتك الصالحة المؤمنة التي تعتبر بحق هي المدرسة الأولى لتربية الشباب منذ طفولتهم فتزرع فيهم الأخلاق الحسنة والمبادئ السامية فينشؤوا على أرض صلبة وأساس متين.
وقد ضربت نساء السلف أروع الأمثلة في ذلك ، فهذه أم سفيان الثوري تقول لولدها : يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي" فما هي النتيجة ؟ أصبح من أعلام الدنيا وأئمة الدين قال الذهبي في ترجمة الثوري: هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه"
وكذلك أبو حنيفة والشافعي وأحمد إنما قامت أمهاتهم على تربيتهم وتنشئتهم فأصبحوا أئمة الدنيا وأئمة الدين.

ومن الأمور التي تحصن الشباب وتربيهم التربية الحسنة تنشئتهم على العقيدة الصحيحة وربطهم بربهم سبحانه وتعالى ولقد رسم النبي صلى الله عليهم وسلم فيما رسم منهجاً واضحاً للآباء والمربين لتربية شباب الأمة المحمدية ممثلاً في ابن عمه الغلام عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث قال له ولم يتجاوز عمره آنذاك الخامسة عشر: ((يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ"

فأول لبنة في بناء الشباب لبنة العقيدة السليمة الموروثة عن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين والعلماء الربانيين، وقوة الإيمان وصدق التعلق بالله وحده ، إن أولها حفظ الله بحفظ حقوقه وحدوده وحفظ أمره ونهيه، ومن ثم الاستعانة به وحده في الأمور كلها والتوكل عليه واليقين الجازم بأنه بيده سبحانه الضر والنفع، يأتي كل ذلك أيها الأخوة ليكون دافعاً للشباب، وهو في فورته وطموحه وتكامل قوته، ليكون قوي العزيمة عالي الهمة ، ولما ثبتت هذه المعاني في نفوس الشباب من السلف برعوا رحمهم الله في العلم الصحيح فحفظوا القرآن الكريم ولما يبلغ أحدهم الثانية عشر من عمره ورحلوا في طلب العلم عند العلماء بلا طائرات ولا وسائل نقل حديثة بل إن أحدهم ليعمل أجيرا لدى القوافل مقابل أن ينقلوه إلى بلد فيها عالم يطلب العلم على يديه، كما فعل ذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، لكن اليوم انقلبت المفاهيم فأصبح هم الأسرة حصول الشاب أو البنت على شهادات العلوم الدنيوية ، وليس ذلك بعيب، لكن إذا أهمل تعلم الدين وأحكامه فلا خير في شهادات الدنيا ولو حصل عليها جميعها . قال تعالى "وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ"

والعلم الشرعي والعقيدة الصحيحة إنما تتلقى على أيدي الأمناء من علماء أهل السنة والجماعة الذين يربون الناس على صغار العلم قبل كباره ويربطون الأمة بالكتاب والسنة ولا يرتبطون بأحزاب ولا تنظيمات، قال أيوب السختياني: "إن من سعادة الحَدَث والأعجميّ أن يوفقهما الله لعالمٍ مِنْ أهل السنة " وقال عمرو بن قيس الملائي: "إذا رأيت الشاب أوّل ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارْجُه، وإذا رأيته مع أهل البدع فايْأس منه؛ فإنّ الشاب على أوّل نشوئه"
فالناس لا يزالون بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم فإن أخذوه عن أصاغرهم هلكوا ، والأصاغر هم علماء السوء من أهل البدع والضلالات، وإذا ما انفصل الشباب عن العلماء الربانيين وارتبطوا بعلماء السوء وعلماء الفضائيات تلقفتهم التيارات المنحرفة من خلال الجرائد أو الفضائيات أو الإنترنت فأصبحوا لقمة سائغة لأصحاب الأغراض السيئة  .
فعلموا أولادكم العلم الشرعي الصحيح وربوهم على الولاء والانتماء للبلاد وولاة الأمر، وحذروهم من مسالك الشيطان وطرق الغواية تفلحوا في الدارين.

  

الخطبة الثانية : عباد الله من أسس تربية الشباب وحفظهم حفظ شهواتهم وعرائزهم،  ها هو نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه ينادي شباب أمته جميعا ليوجههم إلى حفظ شهواتهم وغرائزهم حتى لا يسقطوا في وحل الإثم والمعصية فقَالَ صلى الله عليه وسلم ( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ) 
ومن المنهج النبوي في تربية الشباب ذكورا كانوا او إناثا تعويدهم على العبادة منذ نعومة أظفارهم قال صلى اللهعليه وسلم (مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ ) فبالرغم من أن ابن السابعة ليس مكلفا بالواجبات ولكنه يؤمر بالصلاة لأجل أن يعتادها ويألفها فتنطبع في ذهنه ، وذلك لأن الصلاة فيها سر عظيم في تربية النشء على الإسلام الصحيح قال تعالى في ذلك " وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ " .
ثم قال صلى الله عليه وسلم (وفرقوا بينهم في المضاجع ) أي لا تتركوهم ينامون تحت غطاء واحد أو على فراش واحد خشية أن يطلع بعضهم على عورات بعض فتقع الفتنة التي لا تحمد عاقبتها .
ثم اعلم أيها المربي ، وأنت أيها الشاب ، إنَّ نشأة الشاب على طاعة الله ورسوله سبب لتحصيل الأجر العظيم عند الله، فروى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم" قَالَ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ  .." قال ابن حجر رحمه الله (خَصَّ الشَّابّ لِكَوْنِهِ مَظِنَّة غَلَبَة الشَّهْوَة لِمَا فِيهِ مِنْ قُوَّة الْبَاعِث عَلَى مُتَابَعَة الْهَوَى ; فَإِنَّ مُلَازَمَة الْعِبَادَة مَعَ ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَدَلّ عَلَى غَلَبَة التَّقْوَى ".
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى شَبَابِنَا مِنْ أَسْمَى الْمُهِمَّاتِ، وَآكَدِ الْوَاجِبَاتِ، لاَسِيَّمَا فِي هَذَا الْوَقْتِ مَعَ انْتِشَارِ الأَدَوَاتِ الْحَدِيثَةِ، الَّتِي تُسَاهِمُ فِي سُرْعَةِ انْتِقَالِ الْمَعْلُومَاتِ الْمَغْلُوطَةِ، وَقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا عَلَى الْعُقُولِ وَالأَفْكَارِ، مِمَّا يُعَرِّضُ الشَّبَابَ لِلاسْتِغْلاَلِ وَالتَّلاَعُبِ مِنْ قِبَلِ الْمَرْضَى وَأَصْحَابِ الشُّبُهَاتِ، فَيُوقِعُهُمْ فِيمَا يَعُودُ بِالضَّرَرِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى دِينِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ وَدُوَلِهِمْ، حَيْثُ يَتِمُّ التَّغْرِيرُ بِكَثِيرٍ مِنَ الشَّبَابِ وَاسْتِغْلاَلُهُمْ لِهَدْمِ اسْتِقْرَارِهِمْ، بِزَعْمِ تَحْقِيقِ الْحُرِّيَّةِ وَنُصْرَةِ الإِسْلاَمِ، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهَا مُغَالَطَاتٌ وَتَضْلِيلٌ، وَهَذَا كُلُّهُ يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَبْذُلَ الأَسْبَابَ الَّتِي تَحْفَظُ شَبَابَنَا مِنَ الأَفْكَارِ الدَّخِيلَةِ، فَإِنَّ الْوِقَايَةَ خَيْرٌ مِنَ الْعِلاَجِ.
وَعَلَيْكُمْ معاشر الشباب أَنْ تَتَحَرَّوْا الَّذِي يَنْفَعُكُمْ، وَلاَ تَنْخَدِعُوا بِالإِشَاعَاتِ، وَلاَ تَغْتَرُّوا بِكُلِّ مَعْلُومَةٍ مَنْشُورَةٍ فِي الشَّبَكَاتِ وَوَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الاِجْتِمَاعِيِّ، لاَسِيَّمَا فِي بَابِ الْفَتْوَى وَالْخِطَابِ الدِّينِيِّ، فَلَيْسَ كُلُّ مَا يُنْشَرُ صَوَابًا، وَاحْذَرُوا مِنَ الصَّوْتِيَّاتِ وَالْمَرْئِيَّاتِ الَّتِي تَضُرُّ بِكُمْ، وَتَتَلاَعَبُ بِعَوَاطِفِكُمْ، وَإِيَّاكُمْ مِنَ الَّذِينَ يُوَظِّفُونَ الشِّعَارَاتِ الْبَرَّاقَةَ لِخِدَاعِكُمْ، فَلَيْسَ كُلُّ مُدَّعٍ نُصْرَةَ الإِسْلاَمِ نَاصِرَهُ