الخميس، 25 ديسمبر 2014

خطبة جمعة : أهمية الوقت

الخطبة الأولى . 
أيها المؤمنون : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :« نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ : الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ » ، فدل الحديث على أن من النعم العظيمة والمنن الكبيرة على العبد نعمة الوقت ، فأنفس ما يملكه العبد في هذه الحياة هو وقته الذي يعيشه ولحظاته التي يحياها ، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة ، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط ، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون ، لأن الفراغ يعقبه الشغل ، والصحة يعقبها السقم  ، ولهذا جاءت وصية نبينا صلى الله عليه وسلم باغتنام هذه الأحوال من الفراغ والصحة بالطاعات قبل حلول الشغل أو السقم فقال : "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ "  فمرحلة الشباب والفراغ والحياة إنما ترجع إلى أصل واحد هو الوقت . 

 جماعة المسلمين : الوقت في الإسلام أعظم قدرا ، وأنبل شأنا وهدفا، وأسمى غاية ومقصدا ، فهو في الإسلام ميدان لكل عمل شريف، ومجال للمسارعة في الخيرات والمبادرة للصالحات. 

ولهذا أقسم الله بأجزاء منه في مطالع سورٍ عديدة ، بل ربما أقسم به جملة وتفصيلا وهذا فيه دلالة على أهمية الوقت في الإسلام . ، قال تعالى {وَالْعَصْرِ} ،وهو الدهر الزمان الذي يعيشه الإنسان ،  وأقسم به تفصيلا في قوله " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ،وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ،وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا " ثم كان جواب القسم في السورة " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا " أي زكى نفسه بالعمل الصالح وتجنب العمل السيء، وكذلك لما أقسم فقال: "وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى،وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى،وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى " جاء جواب القسم في السورة "إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى "   وفي ذلك إشارة من هذه الآيات إلى أن الوقت مادة الحياة، وأن سعي الناس فيه مختلف، فمنهم من يُزكّي نفسه ويُنَمّيها بالخير، ومنهم من يُهْبِطُها في أسفل الدّرَكات بتفريطه وعصيانه.

عباد الله، و مما يدل على أهمية الوقت أنه محور من محاور السؤال يوم الدين ، فإن أحسن العبد الإجابة أفلح ونجا ، وإن أساء خسر وندم ، ولا إحسان إلا بعمل واعتقاد صالح.  قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ،وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ"  فلن تزول قدما العبد في ذلك الموقف في أرض المحشر حتى يحاسب عن مدّة أجله فيم صرفه بعامَّة ؟ وعمَّا فعل بزمانه وقت شبابه بخاصة؟ وهنا تخصيصٌ بعد تعميم للأهمية والتأكيد، وإلا فإنّ مرحلة الشباب وعُمر الشباب هي مرحلة داخلة ضِمنًا في العمر الذي يسأل عنه العبد، لكن خُصَّ بالذكر لأن الإنسان في مرحلة شبابه تكون لدية من القوة والعطاء ما لا يكون في طرفَي العمر، حيث ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة . 

جماعة المسلمين : لقد عرف سلف هذه الأمة قيمة الوقت وأهميته في حياة الإنسان الرابح فاستغلوه غاية الاستغلال ووظفوه لصالحهم في الدنيا والآخرة ، فكان الواحد منهم يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا ، ويعمل لآخرته كأنه يموت غدا ، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه ناصحا " إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من صحتك قبل سقمك ومن حياتك قبل موتك فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا ؟ 
كان ابن مسعود يقول: (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي). قال الحسن : لقد أدركت أقواماً كانوا أشدَّ حرصاً على أوقاتهم من حرصكم على دراهمكم ودنانيركم .

عباد الله: لقد بين الله تعالى لنا في الكتاب الحكيم طرق استغلال الوقت فقال " وَالْعَصْرِ،إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " 

فالأصل أن الإنسان في خسارة من أمره ، ولا يمكن له أن يتدارك ذلك إلا بأمور أربعة بينها الله سبحانه في هذه السورة ، أولها إيمان صحيح خال من الشبهات ، ولا يكون ذلك إلا بالعلم الشرعي للكتاب والسنة وعلى وفق فهم الصحابة والتابعين والعلماء الربانيين ، يعقب ذلك الثمرة من وراء هذا العلم وهو العمل ، المتمثل في أداء الفرائض واستكمالها بالنوافل ، ثم اجتناب المحرمات ، ثالثها : الدعوة إلى هذا الإيمان السليم والعمل الصالح في نطاق الأسرة والمجتمع ، ثم الصبر الملازم لكل مرحلة من هذه المراحل .

قال ابن القيم –رحمه الله- في بيان كيفية عمارة الوقت :( عمارة الوقت : الاشتغال في جميع آنائه بما يقرب إلى الله أو يعين على ذلك من مأكل أو مشرب أو منكح أو منام أو راحة، فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله وتجنب ما يسخطه كانت من عمارة الوقت وإن كان له فيها أتم لذة، فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات، فالمحب الصادق ربما كان سيره القلبي في حال أكله وشربه وجماع أهله وراحته أقوى من سيره البدني في بعض الأحيان "

أيها المسلمون، إن العاقل من تفكّر في أمره، ورأى أن تصرّم أيامه مؤذن بقرب رحيله طال عمره أم قصر، فاحتاط لأمره، واجتهد في يومه، واستعد لغده. ما الوقت إلا حياة الإنسان وعمره الذي هو أنفاس تتردّد، وآماله التي تضيع إن لم تتحدّد، الوقت ثمين ونفيس، وما مضى منه فلن يعود، ولا الزمان بما مضى منه يجود. فهلاّ تنبّهنا لأعمارنا، فكم من غافل يبيع أغلى ما يملك وهو الوقت بأبخس الأثمان! فالوقت مُنْصرِمٌ بنفسه، مُنقضٍ بذاته، ومن غفل عن تداركه تَصَرّمت أيامه وأوقاته، وعظُمَت حسراته، ينقضي العمر بما فيه فلا يعود إلا أثره، فاختر لنفسك ما يعود عليك، ولهذا يقال للسعداء: "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ، ويقال للأشقياء المعذّبين:" ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ " 


الخطبة الثانية :جماعة المسلمين إن من أعظم الخسارة إضاعة الأوقات سدى ، وإن الحفاظ على الأوقات واستثمار الأعمار يحتاج إلى حزم وعزم وهمّة وقوّة إرادة، أما البَطَالة والكسل فهي داء وَبِيل ومرض خطير تنعكس آثاره السيئة على الأفراد والمجتمعات، ويسبّب الخمول والفقر والتخلّف المادّي والمعنوي، ويؤدّي إلى الرذائل والمنكرات، وإن يكن الشُّغل مَشْهَدةٌ فإن الفراغ مَفْسَدَةٌ، ومَن أكثر الرُّقَاد عُدِم المُرَاد . 

أيها المسلمون، يخيَّل لبعض الناس أن الأيام ستفرغ له في المستقبل من الشواغل، وتصفو له من المكدرات والعوائق، وأنه سيكون فيها أفرغ منه في الماضي أيام الشباب، ولكن الواقع المشاهد على العكس من هذا، كلما كبرت سِنُّك كبرت مسؤولياتك وزادت علاقاتك وضاقت أوقاتك ونقصت طاقتك، فالوقت في الكبر أضيق، والجسم فيه أضعف، والصحة فيه أقلّ، والنشاط أدنى، والواجبات والشواغل أكثر وأشدّ . 

عباد الله : قال ابن القيم رحمه الله : واعلم أن الحسرة كل الحسرة الاشتغال بمن لا يجدي عليك الاشتغال به، إلا فوت نصيبك وحظك من الله، وانقطاعك عنه وضياع وقتك عليك" 
فتوجد طوائف من الناس مشغولون بلا شغل، لأن شغلهم لا يعود عليهم بالنفع، بل بالضرر المحقق.

فتأملوا حال من يقضي الساعات الطوال في المقاهي أو من يمضي وقته في مشاهدة فلم قد أخذ بمجامع حواسه وجوارحه، أو من يعكف على حاسوبه أمام الانترنت يحادث ويتصفح بلا هدف ولا مصلحة
فهؤلاء مشغلون بما هم فيه، ولكنهم ضيعوا ساعات أعمارهم فيما لا ينفع، فهذا الوقت يمكن قضاءه في زيارة رحم، أو محادثة زوجة وأولاد، أو تلاوة قرآن، وقراءة كتاب، أو جلوس مع أهل الخير والصلاح ، أو في نوم مبكر بعد استعدادا لصلاة الفجر، أو قيام الليل . 
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة "  

أيها المسلمون: لقد طغت الحياة المادية على وقت المسلم، فالوظائف ومسئولية المنزل والأولاد مشغلة للعبد في حياته ولكن الفطن هو من ينتبه لذلك فيسخر ظروفه وأحواله لطاعة الله. 

قال تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ، وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ 
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " 

فللإنسان يومان يندم فيهما على ما ضَيّع من أوقاته، ويطلب الإمهال: فالأول في ساعة الاحتضار، وذلك حين يقول " رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ" فيكون الجواب : " وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا " والموقف الثاني في الآخرة حين يدخل أهلُ النارِ النارَ: "وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ "  فيكون الجواب: "أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ " 

فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، واستغلوا لحظات أعماركم بما ينفكم في أخراكم ودنياكم، واحذروا التسويف والتأجيل فإنه مصيدة للشيطان يوقع بها اتباعه، واعلموا أن الله لم يكلفنا من الأعمال ما لا نطيق، بل أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، والعادات مع حسن النية تنقلب طاعات يؤجر عليها المؤمن. 



استفدت هذه الخطبة مع التعديل عليها بما تيسر من خطبة للشيخ صالح آل طالب بعنوان: قيمة الوقت في حياة المسلم . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق