الخميس، 31 مارس 2016

خطبة جمعة: ومنهم سابق بالخيرات

الخطبة الأولى: جماعة المسلمين قال ربنا عز وجل في محكم التنزيل: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير" قال بعض أهل التفسير هذه الآية من أرجى آيات القرآن حيث امتن الله على هذه الأمة بالكتاب وهو القرآن، وفي ذلك دلالة واضحة على اصطفاء اله لهذه الأمة، ثم بين عز وجل انقسام الأمة إلى ثلاثة أقسام، فمنهم ظالم لنفسه وهو الذي يطيع الله، ولكنه يعصيه، فهو الذي قال الله فيه "خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم "، والثاني المقتصد وهو الذي يطيع الله، ولا يعصيه، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعات، والثالث السابق بالخيرات: وهو الذي يأتي بالواجبات والمفروضات، ويجتنب المحرمات والمكروهات، ويتقرب إلى الله بالمندوبات والمستحبات.

ومن فضل الله عليهم جميعا أن وعدهم ربهم بوعد عظيم فقال: "جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير" قال المفسر الشنقيطي رحمه الله: "والواو في يدخلونها شاملة للظالم، والمقتصد والسابق على التحقيق، ولذا قال بعض أهل العلم : حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين، فوعده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة، وأولهم الظالم لنفسه يدل على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة "

جماعة المسلمين: لقد حث الله عباده المؤمنين على التنافس في فعل الخيرات، والتزود من الطاعات، قبل الممات، لأنهم سيرجعون إلى ربهم وإلههم فجازيهم على أعمالهم، فقال الله سبحانه: "فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون"، وقال سبحانه في الحديث القدسي: "يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".

وأوحى الله لأنبيائه ورسله بذلك فقال: "وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين" وقد لبى الأنبياء الكرام نداء الله سبحانه، واستجابوا لوحيه، وسلكوا هذا الميدان فقال تعالى عنهم :( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ). وسار خلفهم الصالحون في كل العصور والقرون فقال تعالى في وصفهم :( ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين). وقال تعالى :( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون * أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون).

والعبد إذا مات وانتقل من الدنيا يتمنى الرجوع، لا ليجمع مالا، ولا ليكاثر في الأولاد والزوجات، وإنما ليعمل الصالحات ويستكثر من الخيرات، قال تعالى "حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون، لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون "، وروى ابن ماجة بإسناد حسن عن ابن عمر، أنه قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاءه رجل من الأنصار فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟ قال: "أحسنهم خلقا" قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: "أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم لما بعده استعدادا، أولئك الأكياس"، وعن إبراهيم التيمي-رحمه الله- قال: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي نفس، أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا، قال: قلت: فأنت في الأمنية فاعملي.

عباد الله: ومن تيسير الله على عباده، وفضله عليهم أن فتح لهم أبوابا للخير كثيرة بحسب قدرتهم وطاقتهم، ولن يعجز أحد أن يكون مبادرا إلى الإحسان والنفع كل في مكانه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (على كل مسلم صدقة). قالوا: فإن لم يجد؟ قال :( فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق). قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل قال: (فيعين ذا الحاجة الملهوف). قالوا: فإن لم يفعل قال :( فيأمر بالخير أو قال بالمعروف). قالوا: فإن لم يفعل قال :( فليمسك عن الشر فإنه له صدقة) رواه البخارى.
ولقد شغل الناس في عصرنا بأمور الدنيا من الوظائف والتجارات والأولاد عن فعل الخيرات، حتى صارت الدنيا أصلا، وأمور العبادة فرعا، متى ما فرغ العبد من شؤونه أدى ما استطاع منها، وهذا ما خافه النبي صلى الله عليه وسلم علينا فقال: فوالله ما الفقر أخاف عليكم، ولكن أخاف عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوا فيها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم " 

فاغتنم -يا عبد الله - وقتك وحياتك، فالسنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجداد يوم المعاد، فعند الجداد يتبين حلو الثمار من مرها. "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد"

ومن صفات المتسابقين في الخيرات الخوف من عدم قبول عملهم مع اشتغالهم بالعمل، فلا يغترون بأعمالهم، بل يتعبدون ربهم ويسألونه قبول الطاعات، ويستغفرونه من التقصير، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية "والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون "قالت عائشة أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال« لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون ». وليس خوفهم من أن لا يوفيهم الله أجرهم، بل خوفهم من عدم أداء العمل على وفق ما أراد الله سبحانه. 


الخطبة الثانية: جماعة المسلمين: خلق الله الخلق لعبادته وطاعته، ولكنه سبحانه قسم وفاوت بينهم في الاجتهادات فيها، وفتح لهم من أبواب الطاعات من نوافل العبادات وفروض الكفايات ما يتنافس فيه المتنافسون ويتمايز به المتسابقون. فمن كان حظه في طاعة أكثر كان ذلك منزلته في الجنة ودرجته.

وتأملوا حفظكم الله ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أنفق زوجين من شىء من الأشياء فى سبيل الله دعى من أبواب - يعنى الجنة - يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعى من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد دعى من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة دعى من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعى من باب الصيام ، وباب الريان ». فقال أبو بكر ما على هذا الذى يدعى من تلك الأبواب من ضرورة ، وقال هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله قال « نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر »وجاء عند أحمد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح:" لكل أهل عمل باب من أبواب الجنة، يدعون منه بذلك العمل "

وجاء في السير أن عبد الله العمري العابد كتب إلى الإمام مالك بن أنس -إمام دار الهجرة- يحضه على العزلة والتفرغ للعبادة، فكتب إليه الإمام مالك رحمه الله: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم "، قال مالك:" ونشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على بر وخير "، وقد قال عبد الله بن المبارك:" ما رأيت أحدا ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة "، ويستدرك على ذلك الإمام الذهبي رحمه الله فيقول:" ما كان عليه مالك من العلم ونشره أفضل من نوافل الصلاة والصوم لمن أراد به وجه الله ".

أيها المسلمون، طرق الخير كثيرة، وأبواب العمل الصالح مشرعة، وقد كان أصحاب رسول الله ورضي الله عنهم أجمعين من شدة حبهم للخير وحرصهم على العمل الصالح يسألون رسول الله: أي الأعمال أفضل؟ ويسألونه: أي الأعمال أحب إلى الله؟ وقد كان جواب رسول الله متعددا في أوقات مختلفة وفي أحوال مختلفة أيضا، من أجل اختلاف أحوال السائلين واختلاف أوقاتهم، فأعلم كل سائل بما يحتاج إليه، أو بما له رغبة فيه، أو بما هو لائق به ومناسب له.

فلنسارع إلى الخيرات؛ لننال السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، ولا نؤخر، فالتسويف والتأخير في ذلك من القواطع، قال الحكماء: إياك والتسويف لما تهم به من فعل الخير، فإن وقته إذا زال لم يعد إليك. قال تعالى :( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) قال عز وجل :( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق