الخميس، 3 مارس 2016

خطبة : ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ و الخوف من أسباب العقوبات

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

 فَهَذِهِ الآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُبَيِّنُ الْفَرْقَ الْكَبِيرَ بَيْنَ الإِحْسَانِ وَالإِسَاءَةِ، فَإِنْ أَسَاءَ أَحَدٌ إِلَيْكَ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِ وَسَامِحْهُ، كَمَا قَالَ الخليفَةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:" مَا عَاقَبْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ". فَإِنَّكَ إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ قَادَهُ إِحْسَانُكَ إِلَى مَوَدَّتِكَ وَمَحَبَّتِكَ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ صَدِيقٌ حَمِيمٌ، وَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَصَبَرَ عَلَى أَذَى غَيْرِهِ، وَمَا يَنَالُ أَجْرَ ذَلِكَ إِلاَّ ذُو نَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ السَّعَادَةِ وَالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، لأَنَّهُ قَابَلَ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ، وَهَذَا مِنْ أَخْلاَقِ أُولِي الأَلْبَابِ وَالْحِكْمَةِ، الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ). ومن أخلاق وشيم عباد الرحمن الذين قال الله في وصفهم:( وإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً). 

أَيُّهَا الْمُصَلُّونَ: لَقَدْ قَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَثَلَ الرَّاقِيَ فِي مُقَابَلَةِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، وَالتَّعَامُلِ الأَخْلاَقِيِّ مَعَ النَّاسِ قَوْلاً وَعَمَلاً، فَحِينَ سُئِلَتِ أُمُّ المؤمنينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَلاَ صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ. 

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه قَالَ كُنْتُ أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِىٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِىٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً ، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ مُرْ لِى مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ . فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ ، فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ .

وَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ من أَفْضَلَ الفَضائِلِ مُقَابَلَةُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، فَعَنْ الصحابي الجليلِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِفَوَاضِلِ الأَعْمَالِ، فَقَالَ:« يَا عُقْبَةُ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ»، وَفِي ذَلِكَ حَثٌّ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، قَالَ سُبْحَانَهُ:( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ). أَيْ: لاَ يَضِيعُ أَجْرُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ. فَأَثَابَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ، وَمَدَحَهُمْ وَزَكَّاهُمْ، وَأَظْهَرَ مَحَبَّتَهُ لَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى:( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). أَيِ: الَّذِينَ إِذَا ثَارَ بِهِمُ الْغَيْظُ كَتَمُوهُ، وَعَفَوْا عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ، والتَّغَاضِيَ عَنِ الإِسَاءَةِ؛ وَمُقَابَلَتَهَا بِالإِحْسَانِ يُحَوِّلُ الْبَغْضَاءَ إِلَى مَحَبَّةٍ، وَالْعَدَاوَةَ إِلَى مَوَدَّةٍ، وَسَبَّ رَجُلٌ أَحَدَ أَقَارِبِهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ قَائِلاً: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَغَفَرَ اللَّهُ لِي، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ. وَقِيْلَ: إِنَّ رَجُلاً خَاصَمَ الأَحْنَفَ بن قيس وَقَالَ: لَئِنْ قُلْتَ وَاحِدَةً، لَتَسْمَعَنَّ عَشْراً. فَقَالَ: لَكِنَّكَ إِنْ قُلْتَ عَشْراً لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً . فَيَا لَهُ مِنْ خُلُقٍ قَوِيمٍ، وَسُلُوكٍ رَفِيعٍ، يَتَحَلَّى بِهِمَا الْمَرْءُ ممتثلا قول ربه:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ). لِتَسُودَ الرَّحْمَةُ بَيْنَ الأَنَامِ، وَتَحِلَّ السَّعَادَةُ وَالْوِئَامُ، وَتَصْفُوَ قُلُوبُنَا، فَنَفُوزَ بِجَنَّةِ رَبِّنَا.

جماعة المسلمين : إنَّ لِكَظْمِ الغَيْظِ أَجْراً عَظِيماً، وفَضْلاً كبيراً؛ فاحْرِصوا عَلَى عَدَمِ تَفْويتِهِ أَوِ التَّفْريطِ بِهِ؛ فَعَنْ مَعاذِ بْنِ أَنَسٍ الجُهَنيِّ رضي الله عنه قال: قال رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ؛ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ".

وهذا إن كانَتِ الإساءَةُ في حَقِّ الإنْسانِ، أمَّا أنْ تُنْتَهَكَ محارِمُ اللهِ فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معها شأنٌ آخرُ؛ فَعَنْ أمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضي الله عنها قالت: مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ، إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا . 

وَكَذلِكَ لا يَنْبَغِي العَفْوُ عَمَّنْ يَزِيدُهُ العَفْوُ والحِلْمُ عُتُوَّاً وضَرراً وإفْساداً، فللعَفْوِ شَرْطٌ بيَّنَهُ اللهُ في كِتابِهِ فقال: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) ، فشرطُ العَفْوِ أَنْ يُثْمِرَ إصْلاحَ الأُمُورِ وإِيقافَ المعْتَدِي عند حَدِّهِ، وإلا فَالعُقُوبَةُ في حَقِّه أولى.


الخطبة الثانية : أيها المسلمون: كل البشر يسعَون إلى الحياةِ الهانِئة السعيدة، ويُسخِّرون كل إمكاناتهم وطاقاتهم لتجنُّب أسباب الشقاء والعذاب؛ فضلاً عن الفناءِ والهلاكِ .

وكم من أمةٍ كانت آمنةً مُطمئنَّةً تُجبَى إليها ثمراتُ كلِّ شيءٍ، ويأتيها رزقُها رغدًا من كل مكانٍ، انقلبَت أحوالُها في طرفةِ عينٍ، فإذا بالنعمةِ تزول، وإذا بالعافيةِ تتحوَّل، وإذا بالنِّقمةِ تحِلُّ.

وكم حكَى الزمانُ عن دولٍ وأممٍ وأفرادٍ وجماعات أتَت عليهم عقوباتٍ تستأصِلُ شأفتَهم، وتمحُو أثرَهم، لا ينفعُ معها سلاحٌ ولا تُغني معها قوَّةٌ.

ولله مع خلقهِ أيامٌ وسُنن؛ فأين ثمود وعاد؟! وأين الفراعِنةُ الشِّدادُ؟! أين من نحَتوا الجبال، وحازوا أسباب القوة واحتاطوا للنوائِب؟! لما نسُوا اللهَ أوقعَ بهم بأسَه، فصاروا بعد الوجودِ أثرًا، وأصبحوا للتاريخ قصصًا وعِبرًا: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون) 

عباد الله: إن سنةَ الله لا تُحابِي أحدًا، وليس لفردٍ ولا لمُجتمعٍ حصانةٌ ذاتيةٌ، وحين تُقصِّرُ أمةٌ في توقِّي أسباب المصائب العامة فإن عليها أن تتقبَّل نتيجةَ التقصير، والسعيدُ من اتَّعَظَ بغيره، وليست أمةٌ بمنأَى عن العذابِ إذا عقَدَت أسبابَه، ولذلك أكثرَ الله تعالى من وعظِ هذه الأمةِ بمصارعِ الأمم الغابِرة، فقال -عز وجل قال عز وجل(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُون * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُون * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون * أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون) 

ولهذا كان أعرفُ الخلقِ بربِّه وأخشاهم له -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِف ذلك في وجهه، فسُئِل عن ذلك فقال: "ما يُؤمِّنُني أن يكون فيه عذابٌ، قد عُذِّبَ قومٌ بالريح، ورأى قومٌ العذابَ فقالوا: (هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا) ". متفق عليه.

أيها المسلمون: لقد أخبرَ -عليه الصلاة والسلام- عن أنواع المصائب التي كان يخشَى أن تنزل بأمَّته، وحذَّرَهم من أسبابِ نزولها، لنتقيها ونحذر ونُحذِّر منها، فالمسؤولية في المُجتمع على كلِّ فردٍ فيه، وجاء الأمرُ باتقاءِ المصائب العامة مُوجَّهًا إلى كل أحدٍ، كلٌّ بحسَبِه، قال الله -عز وجل(وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً) 

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أمرَ اللهُ المؤمنين أن لا يُقِرُّوا المنكرَ بين ظهرانَيهم، فيعُمَّهم اللهُ بالعذابِ، يُصيبُ الصالحين منهم ما أصابَ الناسَ، يهلِكون مهلكًا واحِدًا، ويصدُرون مصادر شتَّى، يبعثُهم الله على نيَّاتهم".

عباد الله: إن اتقاءَ هذه المصائب العامة لا يكونُ إلا بتوقِّي أسبابها، وفعل الأمور التي تدفعها، ومنها الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكر فإنه أمَنَةٌ من العذابِ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون) ؛ فما أعظمَ بركةَ المُصلِحين، وما أقبحَ أثرَ الناسِ عليهم!

ومن سُنَّةِ اللهِ في عباده: أن المُنكَر إذا فشَا فيهم ولم يُغيِّروه فإن العقوبةَ تشملُهم والعذابَ يعُمُّهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن اللهَ -عز وجل- لا يُعذِّبُ العامةَ بعملِ الخاصَّة حتى يرَوا المُنكَرَ بين ظهرانَيهم، وهم قادِرون على أن يُنكِروه فلا يُنكِروه، فإذا فعَلوا ذلك عذَّبَ اللهُ الخاصةَ والعامةَ". 

وعن حُذيفةَ بن اليمان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده؛ لتأمرنُّ بالمعروف ولتنهَوُنَّ عن المُنكَر، أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أن يبعثَ عليكم عقابًا منه، ثم تدعُونَه فلا يُستجابُ لكم".

اللهم إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتك، وتحوُّل عافيتِك، وفُجاءة نِقمتك، وجميعِ سخَطك


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق