الاثنين، 31 أغسطس 2015

مقال: الخوارج هم العدو فاحذروهم ج 6

بسم الله الرحمن الرحيم
الخوارج هم العدو فاحذروهم ج 6 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد..

فقد ذكرت في المقالات السابقة خطر الفكر الخارجي على الدين والدنيا، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر منهم في أحاديث مستفيضة، وذكر صفاتهم وأشهر ما يتميزون به عن غيرهم، لأجل أن يحذرهم المسلمون، ويتجنبوا الانضمام إليهم.

ثم ذكرت نقطة محورية هامة جدا وهي : من هو الخارجي ؟

وبينت بعض الصفات التي تجمع بين الخوارج قديما وحديثا، وسأتابع ذكر أخص الصفات التي يشتهر بها الخوارج، ومن من الجماعات المعاصرة أو الأشخاص قد سار على نهجهم واتصف بصفاتهم.

فمن الصفات المشتركة بين الخوارج قديما وحديثا : 

قتال المسلمين وترك الكفار .

وقد أخبر عن هذه الصفة النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" يقتلون أهل الإسلام وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ " متفق عليه

قال ابن تيمية رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل (7/197): " فإن الخوارج كانوا يقاتلون المسلمين ويدعون قتال الكفار وهؤلاء أعانوا الكفار على قتال المسلمين وذلوا للكفار فصاروا معاونين للكفار أذلاء لهم معادين للمؤمنين أعزاء عليهم "

وقال الآجري في الشريعة ص 41 : " والخوارج هم الشراة الأنجاس الأرجاس، ومن كان على مذهبهم من سائر الخوارج يتوارثون هذا المذهب قديما وحديثا ، ويخرجون على الأئمة والأمراء ويستحلون قتل المسلمين .." 

ومن تأمل تاريخ الخوارج وجد هذه الصفة متحققة فيهم، فجيشوا أعوانهم لقتال المسلمين، فقتلوا عثمان رضي الله عنه وهو معتصم في بيته يقرأ كتاب ربه، واستعدوا لقتال علي بن أبي طالب، وقاتلوه في معركة النهروان.

وفي سنة (68 هـ ) ثار الخوارج على المسلمين فقاتلهم عمر بن عبيد الله بن معمر وانتصر عليهم.

قال ابن كثير في البداية والنهاية (8/ 323) : " وقد ركب عمر بن عبيد الله في آثارهم، فبلغ الخوارج أن مصعبا أمامهم وعمر بن عبيد الله وراءهم، فعدلوا إلى المدائن فجعلوا يقتلون النساء والولدان، ويبقرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالا لم يفعلها غيرهم" 

وفي سنة ( 82 هـ ) اقتتل الخوارج مع جيش الحجاج بقيادة المهلب بن أبي صفرة وقتل منهم في وقعة واحدة أربعة آلاف وثمانمائة.

وفي سنة ( 107 هـ) خرج باليمن رجل يقال له عباد الرعيني فدعا إلى مذهب الخوارج واتبعه فرقة من الناس وحلموا فقاتلهم يوسف بن عمر فقتله وقتل أصحابه، وكانوا ثلاثمائة.

وفي سنة (133 هـ ) قاتل السفاح طائفة من الخوارج جهزوا له سبعمائة رجل لقتاله، فقاتلهم فكسرهم وقهرهم ...، وقتل أمير الخوارج الصفرية وهو الجلندي، وقتل من أصحابه وأنصاره نحوا من عشرة آلاف .

هذه أمثلة استخرجتها من كتاب البداية والنهاية لابن كثير تبين لنا تحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوارج من تسليط قوتهم وجيشوهم ضد الإسلام والمسلمين.

وخوارج اليوم من القاعدة وداعش وأضرابهم من التكفيريين يسيرون في نفس الطريق، ويتصفون بذات الصفة.

وخير دليل شاهد على ذلك ما يفعلونه من العراق وليبيا واليمن من قتال المسلمين وجيوشهم، وما يستهدفونه من مواقع بالتفجير، كما وقع في المملكة العربية السعودية ومصر وغيرها من بلاد المسلمين. 

بل يتقربون إلى الله بقتال جيوش الدول المسلمة قبل قتال جيوش أهل الكفر، فيصرحون في مؤلفاتهم بأن قتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد، وقتال الكافر المرتد أولى من قتال الكافر الأصلي . 

قال فارس الزهرني – وهو أحد منظري الفكر الخارجي المعاصر- في رسالة له بعنوان (نصوص الفقهاء في أحكام الإغارة والتترس) ص 3 : " اعلموا أن أعمال التفجيرات والكمائن: هي من الأعمال المشروعة سواء في دار الكفر الأصلي أو في دار كفر الردة كالسعودية والمغرب وباكستان، ومن فرق بين ذلك فهو إما من الجاهلين أو من علماء السلاطين" 

ويقول الخارجي أبو قتادة الفلسطيني كما هو منشور في جريدة الحياة في 15 صفر 1420هـ : " نحن لا نريد أن نقاتل أمريكا، إلا إذا صالت علينا، وكانت هي البادئة بالقتال، بخلاف الأنظمة المرتدة في بلادنا التي يعتبر جهادها فرض عين على كل مسلم"   
ومن الأمثلة المعاصرة على أعمال الخوارج في بلاد المسلمين من القتل والتفجير ونحوه:

1 – قتال الخوارج كالجماعة الإسلامية المسلحة وغيرهم للجزائريين، فقد ذكرت الإحصائيات أنهم قتلوا ما يزيد على المائة ألف جزائري دون تفريق بين رجل وامرأة، كبير أو صغير، عسكري أو مدني. 

وشجعهم على ذلك الخارجي المدعو بأبي قتادة الفلسطيني، الذي أفتاهم بمشروعية قتل الذرية والنساء، بل وقتل الابن لأبيه وأخيه. 

2 – من أعمالهم التفجيرية في المملكة العربية السعودية :

- في 12 /5 /2003 3 سيارات مفخخة تستهدف 3 مجمعات سكنية يقطنها غربيون وعرب، في الرياض، قتل فيها 20 شخصا و194 إصابة.

- 8 /11 /2003 تم تفجير مجمع المحيا السكني في شهر رمضان ، وكانت حصيلة هذا الهجوم 12 قتيل و 122 جريح من الابرياء.

- 24/2/2006 أحبطت السلطات الأمنية محاولة فاشلة استهدفت معامل بقيق لتكرير النفط شرقي السعودية وهو أكبر معامل تكرير النفط في العالم، حيث حاول انتحاريون تفجير سيارتين كانوا يستقلانها، قبل أن تتمكن حراسات المعامل من قتلهم
هذه العملية لو تمت لقتل كل من كان في حدود عشرين كيلو من موقع الانفجار، ولقتل أهل بقيق جميعا.

وهذه العلميات وغيرها تمت بتحريض من القاعدة وزعيمها الهالك، قال ابن لادن الخارجي: " حرضنا الأمة لإخراج هذا العدو المحتل الغاصب لأرض الحرمين، فاستجاب من استجاب من الشباب ..وقد رفعوا رأس الأمة عاليا، فنحن ننظر إلى هؤلاء الشباب كأبطال عظام ومجاهدين اقتدوا برسولنا صلى الله عليه وسلم فنحن حرضنا وهم استجابوا .."  من كلمة ألقاها في شريط عام 1423 هـ 

وبالأمس سمعنا عن تفجيرهم لبعض المساجد وقتل من فيها . 

أخيرا أذكركم إخواني بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:« مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ثُمَّ مَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِى وَمَنْ خَرَجَ مِنْ أُمَّتِى عَلَى أُمَّتِى يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا لاَ يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِى بِذِى عَهْدِهَا فَلَيْسَ مِنِّى ».رواه مسلم.

أذكركم بصفة من صفات المسلم قول الله تعالى : "فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ " المائدة :54


وقول الله تعالى : "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ " الفتح :29


والخوارج عكسوا الآية فصاروا : أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين .


صاروا أشداء على المسلمين رحماء على الكفار .


أذكركم بحرمة دم المسلم قال تعالى :وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا " النساء : 93 



وفقنا الله لما يحيه ويرضاه 


الجمعة، 28 أغسطس 2015

خطبة جمعة : فوائد وعبر من حديث : مثل القائم على حدود والواقع فيها

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين روى البخاري في صحيحه عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا»
هَذَا مَثَلٌ نَبَوِيٌّ عَظِيمٌ، اشْتَمَلَ عَلَى مِثَالٍ مَحْسُوسٍ، لاَ يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُ الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ، تَضَمَّنَ أَبْلَغَ الْعِبَرِ وَالْعِظَاتِ، وَأَجْمَلَ الْمَعَانِي الْبَاهِرَاتِ، حَيْثُ شَبَّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُجْتَمَعَ بِالسَّفِينَةِ الْجَارِيَةِ، الَّتِي يَجْدُرُ بِالْجَمِيعِ حِمَايَتُهَا لِيَعِيشُوا فِيهَا آمِنِينَ سُعَدَاءَ، فِي سَعَةٍ وَرَخَاءٍ، وَمَحَبَّةٍ وَإِخَاءٍ، مُتَوَاصِينَ بِتَحْقِيقِ الْمَصَالِحِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ الْمُخْتَلِفَةِ، إلا أن فيهم من يسعى لإحداث الضرر لمصالح خاصة بحسن نية أو سوء قصد، إذ عمد من في أسفل السفينة إلى إحداث خرق في السفينة بحجة واهية وهي الوصول إلى الماء دون إزعاج وإيذاء من في أعلى السفينة، فإما أن يتركهم أهل السفينة يفعلون ما يشاءون بدعوى حريتهم فيهلكوا جميعا، أو يمنعوهم فينجوا جميعا.

إخواني المسلمين: لقد تضمن هذا المثل النبوي جملة من الدروس والعبر والأحكام فلا بد أن نتأملها ونعمل بها

فمن هذه الدروس والعبر: وحدة المجتمع المسلم ووحدة مصالحه، وأن على المسلمين جميعا أن يسعوا إلى تحقيق مصالحه وعدم الإضرار به، وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم حال المسلمين مع بعضهم البعض بمثال حسي آخر فقال :" مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"

وعَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا » . وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ، فمن كانت هذه حاله وصفته وجب عليه أن يسعى إلى تقوية الصف وعدم إضعافه، قال تعالى : "وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا " 

ومن هذه الدروس والعبر أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم في تحقيق الأمن بجميع صوره في المجتمع المسلم، فأهل السفينة لن يتحقق لهم الأمن ولن يصلوا بسلامة ما لم ينكروا المنكر ويأخذوا على يد الظالم.

والله سبحانه وتعالى جعل تحقق الفلاح في تحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال سبحانه "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " ، وبين صلى الله عليه وسلم أن عدم منع الظالم من ظلمه خصوصا إذا تعلق بالأمن العام من أسباب وقوع العقوبة من الله، فعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ عَنْ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ »

ولكن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضوابط ودرجات، فقد قال صلى الله عليه وسلم:مَنْ رَأَى مِنكُم مُنْكَراً فَليُغيِّرهُ بيدِهِ ، فإنْ لَمْ يَستَطِعْ فبِلسَانِهِ ، فإنْ لَمْ يَستَطِعْ فَبِقلْبِهِ ، وذلك أَضْعَفُ الإيمانِ " 

عباد الله : ومن الدروس والعبر في الحديث تحديد ما يسمى بالحرية الشخصية، فقد دل الحديث على عدم وجود حرية مطلقة للعبد يقول أو يفعل ما يريد دون مراعاة لضوابط وأحكام شرعية، أو مراعاة لحقوق الآخرين، فهؤلاء القوم في أسفل السفينة إنما أرادوا التصرف في مكانهم لا مكان غيرهم، ومع ذلك كان لا بد من معهم لأن في تصرفهم إضرارا بالمصلحة العامة وإلحاقا للأذى بالآخرين.

فحريتك أيها المسلم تقيد بأحكام الشرع وضوابطه، وأن لا تؤدي تصرفاتك إلى إلحاق الضرر بالآخرين وَحَذَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ فَقَالَ:« مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ». أَيْ: مَنْ أَدْخَلَ عَلَى أَحَدٍ مَضَرَّةً فِي مَالِهِ أَوْ نَفْسِهِ أَوْ عِرْضِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ جَازَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جِنْسِ فِعْلِهِ وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الْمَضَرَّةَ، وَمَنْ أَوْصَلَ مَشَقَّةً إِلَى غَيْرِهِ ظُلْمًا وَتَعَدِّيًا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْمَشَقَّةَ جَزَاءً وِفَاقًا، فَخَيْرُ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ عِبَادِ اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِبَادِهِ .

ومن الدروس والعبر في الحديث أن مصلحة الجماعة تقدم على المصلحة الخاصة، فالمسلم لا يسعى لتحقيق مصالحه الخاصة مع تفويت مصلحة أعلى منها وأعظم، فهؤلاء القوم في السفينة أرادوا تحقيق مصلحة خاصة بهم من التيسير في جلب الماء وعدم التكلف بالصعود إلى الأعلى إلا أن هذه المصلحة تتعارض مع مصلحة الجماعة في الوصول إلى البر آمنين. 

فكذلك المسلم يقدم مصلحة جماعته ودولته على مصالحه الخاصة ومن ذلك ما ذكره الله في سورة النور فقال:"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" قال المفسر عبد الرحمن السعدي: "هذا إرشاد من الله لعباده المؤمنين، أنهم إذا كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم على أمر جامع، أي: من ضرورته أو من مصلحته، أن يكونوا فيه جميعا، كالجهاد، والمشاورة، ونحو ذلك من الأمور التي يشترك فيها المؤمنون، فإن المصلحة تقتضي اجتماعهم عليه وعدم تفرقهم، فالمؤمن بالله ورسوله حقا، لا يذهب لأمر من الأمور، لا يرجع لأهله، ولا يذهب لبعض الحوائج التي يشذ بها عنهم، إلا بإذن من الرسول أو نائبه من بعده، فجعل موجب الإيمان، عدم الذهاب إلا بإذن، ومدحهم على فعلهم هذا وأدبهم مع رسوله وولي الأمر منهم.."

ومن الدروس والعبر المأخوذة من الحديث أنه لا عبرة بحسن النية في تصحيح الفعل الخطأ، فهؤلاء الذين أرادوا خرق السفينة كانت نيتهم حسنة وهي عدم إيذاء من في أعلى السفينة عند طلبهم الماء، ولكن فعلهم إن لم يمنع لأدى إلى مفسدة عظيمة، ولهذا كان من أصول أهل السنة إنكار البدع والمخالفات في الشرع دون النظر إلى حسن قصد فاعليها من زيادة تقربهم إلى الله تعالى أو غيره.

وَمِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنَ الْفَوَائِدِ: دَفْعُ الشَّرِّ وَالضَّرَرِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَسَدُّ ذَرَائِعِ الْفِتَنِ قَبْلَ حُلُولِهَا، بِتَوْعِيَةِ الْجَاهِلِ، وَتَنْبِيهِ الْغَافِلِ، وَتَعْلِيمِ الصَّغِيرِ، وَالأَخْذِ عَلَى يَدِ السَّفِيهِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ مُخْتَارُ الْحُكَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْوِقَايَةَ خَيْرٌ مِنَ الْعِلاَجِ

الخطبة الثانية : اعْلَمُوا رحمكم الله  أَنَّ دَوْلَةَ الإِمَارَاتِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُتَّحِدَةِ لَهَا مَوَاقِفُ تَارِيخِيَّةٌ مَجِيدَةٌ مَعَ الْيَمَنِ الشَّقِيقِ، إِيمَانًا مِنْهَا بِالرَّوَابِطِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ، مُنْذُ عَهْدِ الْمُؤَسِّسِ الشَّيْخِ زايد طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَالْقِيَادَةُ الرَّشِيدَةُ لَهَا اهْتِمَامُهَا بِمُسَانَدَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَالْوُقُوفِ مَعَهُمْ فِي مُخْتَلَفِ الظُّرُوفِ الَّتِي يَمُرُّونَ بِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ دَوْرُ الْمُؤَسَّسَاتِ الْخَيْرِيَّةِ فِي الدَّوْلَةِ وَمَا تُقَدِّمُهُ مِنْ عَوْنٍ وَمُسَاعَدَةٍ لِلشَّعْبِ الْيَمَنِيِّ الشَّقِيقِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:« مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ». فَعَلَيْنَا جَمِيعًا أَفْرَادًا وَمُؤَسَّسَاتٍ وَاجِبُ الدَّعْمِ وَالْمُسَانَدَةِ مَادِيًّا وَمَعْنَوِيًّا لِلشَّعْبِ الْيَمَنِيِّ الشَّقِيقِ، كُلٌّ قَدْرُ اسْتِطَاعَتِهِ. 
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أُمِرْتُمْ بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى:( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:« مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً». 

الخميس، 20 أغسطس 2015

خطبة جمعة : السمع والطاعة للسلطان، وتطبيق الأنظمة والقوانين

الخطبة الأولى: جماعة المسلمين من محاسن شريعتنا الغراء أن أوامرها من الواجبات والمستحبات جاءت لتحقيق المصالح وتكثيرها، ونواهيها من المحرمات والمكروهات جاءت لدفع المفاسد وتقليلها، فالشرع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة، وهذا شامل لجميع أحكام الشرع لا يخرج عنه شيء من الأحكام.

وذلك لأجل أن يعيش الخلق عيشة سوية، ويتفرغوا لعبادة رب البرية، الذي خلقهم لإعمار الأرض وتحقيق العبودية، فيفوزوا في الدارين بحسن العاقبة كما قال تعالى : "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " 

ومن جملة الأحكام الشرعية والأوامر الإلهية التي يقصد منها جلب المنافع ودفع المضار عن الناس أمرهم بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمرهم من الحكام وولاة الأمر والسلاطين، قال تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.." قال النووي رحمه الله: المراد بأولي الأمر من أوجب الله طاعته من الولاة والأمراء، هذا قول جماهير السلف والخلف من المفسرين والفقهاء وغيرهم.."

والمقصود الأعظم من نصب الحكام وولاة الأمر هو إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمور دنياهم.

ولهذا روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إِلَّا أَمِيرٌ بَرٌّ أَوْ فَاجِرٌ " قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا الْبَرُّ فَكَيْفَ بِالْفَاجِرِ؟ قَالَ: " إِنَّ الْفَاجِرَ يُؤَمِّنُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ السُّبُلَ، وَيُجَاهِدُ بِهِ الْعَدُوَّ، وَيَجْبِي بِهِ الْفَيْءَ، وَتُقَامُ بِهِ الْحُدُودُ، وَيُحَجُّ بِهِ الْبَيْتُ، وَيَعْبُدُ اللهَ فِيهِ الْمُسْلِمُ آمِنًا حَتَّى يَأْتِيَهُ أَجَلُهُ "

وقال الحسن البصري - رحمه الله تعالي - في الأمراء :هم يلون من أمورنا خمساً الجمعة،والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله لا يستقيمُ الدينُ إلا بهم، وإن جاروا وظلموا، والله لمَا يُصلح اللهُ بهم أكثرُ مما يفسدون، مع أنَّ طاعتَهُمْ - واللهِ – لغبطةٌ، وأَنَّ فرقتهم لكفرٌ"

ولأجل هذه المصالح العظيمة التي تتحقق بالسمع والطاعة لولي أمر المسلمين جاءت السنة النبوية بالنصوص المتضافرة لتأكد على هذا الأمر بأبلغ عبارة وأحسن أسلوب، حتى كادت أن تبلغ حد التواتر المعنوي.

ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ ». فالسمع والطاعة واجبة على كل مسلم، سواء أمره الحاكم بما يوافق طبعه أو لم يوافقه، بشرط أن لا يأمره بمعصية، فإن أمره بها فلا طاعة له، ويسمع ويطاع له فيما عدا ذلك .

بل قد وصف النبي صلى الله عليهم وسلم بعض الحكام بصفات شنيعة، ومع ذلك أمر بالسمع والطاعة لهم في غير معصية الله، لما في الخروج عليهم ومخالفتهم من المفاسد والمضار، فقال صلى الله عليه وسلم: يَكُونُ بَعْدِى أَئِمَّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَاىَ وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِى وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِى جُثْمَانِ إِنْسٍ ». قَالَ حذيفة :قُلْتُ كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ قَالَ « تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ"

وقال صلى الله عليه وسلم:وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ فَقَالَ « لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلاَتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ وَلاَ تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ ».

عباد الله : إن شريعتنا لما أمرت بالسمع والطاعة لولي الأمر إنما نظرت إلى المصالح العظيمة التي تعود على الناس من ذلك، والمفاسد التي سيقعون فيها جراء مخالفته وعصيانه.

ومنصب الإمامة منصب عظيم ثقيل، فهو تكليف أكثر منه تشريف، قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلَّا يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولًا، لَا يَفُكُّهُ إِلَّا الْعَدْلُ، أَوْ يُوبِقُهُ الْجَوْرُ" وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ »

فلنكن لهم عونا، ولندع لهم بالصلاح والتوفيق، وإذا استقامت لكم أمور السلطان فأكثروا حمد الله وشكره، وإن جاءكم منه ما تكرهونه، فأرجعوا ذلك إلى ذنوبكم وآثامكم، وأقيموا للسلطان عذره لكثرة ما يكابده من ضبط جوانب الدولة وصد الأعداء، مع قلة الناصحين وكثرة الطامعين والمنافقين.



الخطبة الثانية : اعلموا رحمكم الله أن العقل والتجربة قد أثبتا أن الناس لا يسوسهم إلا قوة الإمام وحزمه، فلو لم يكن سلطان يأمرهم وينهاهم لتعطلت مصالح الدين والدنيا، وأبطلت الأحكام، وسفكت الدماء، وانتهبت الأموال، وضاعت العقول والأعراض، ولأجل ذلك ورد عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن" والمعنى أن من يكف عن ارتكاب العظائم مخافة السلطان أكثر ممن تكفه نصوص القرآن.

ولتحقيق مصالح الرعية ودفع المفاسد عنهم مع التطور الذي يعيشونه والتغير الذي يدركونه وضع الحكام الْقَوَانِينَ الَّتِي تُنَظِّمُ لِلنَّاسِ أُمُورَ دُنْيَاهُمْ، وَتُيَسِّرُ لَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ، مِنْ حِفْظٍ لِلْحُقُوقِ، وَرِعَايَةٍ لِلْمَصَالِحِ، وَتَحْقِيقِ الْخَيْرِ لِلْعِبَادِ وَالْبِلاَدِ.

فَإِذَا حَرَصَ الْمَرْءُ عَلَى تَطْبِيقِ الأَنْظِمَةِ والقوانين سَادَ الاِسْتِقْرَارُ، وَابْتَعَدَ النَّاسُ عَنِ الْفَسَادِ وَالاِعْتِدَاءِ.
 وَلَقَدْ أَنَاطَ الإِسْلاَمُ بِالْحُكَّامِ حِرَاسَةَ الدِّينِ وَسِيَاسَةَ الدُّنْيَا وأمر بطاعتهم، وَمِنْ طَاعَةِ الْحَاكِمِ احْتِرَامُ الْقَوَانِينِ وَالأَنْظِمَةِ الَّتِي يَسُنُّهَا، وَيَأْمُرُ بِهَا مما لا يخالف شرع الله تعالى.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اتِّبَاعَ النُّظُمِ وَاللَّوَائِحِ الْمُؤَسَّسِيَّةِ مِنْ أَهَمِّ صُوَرِ احْتِرَامِ الْقَوَانِينَ، فَبِهَا تُوَزَّعُ الْمَهَامُّ، وَتَسُودُ رُوحُ الْفَرِيقِ الْوَاحِدِ.

ومن تلكم الأنظمة والقوانين قانون السير والمرور ، الَّتِي وُضِعَتْ لِحِفْظِ الأَرْوَاحِ، وَصِيَانَةِ الْمُمْتَلَكَاتِ، فَإِنَّ الَّذِي يَقُودُ سَيَّارَتَهُ بِسُرْعَةٍ مُتَجَاوِزًا الْحَدَّ الْمَسْمُوحَ بِهِ، غَيْرَ مُبَالٍ بِالْقَوَاعِدِ الْمُرُورِيَّةِ، وَلاَ مُرَاعٍ حُقُوقَ مُسْتَخْدِمِي الطَّرِيقِ؛ مُخَالِفٌ لِشَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى، لأَنَّهُ يَضُرُّ نَفْسَهُ وَيُعَرِّضُهَا لِلْهَلاَكِ، وَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:( وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) كَمَا أَنَّهُ يَضُرُّ بِالآخَرِينَ: يُرَوِّعُهُمْ وَيُؤْذِيهِمْ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقَانُونِ وَالنِّظَامِ، وَقَدْ نَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذَا السُّلُوكِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:« لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ». 

وَمِنْ تَجَنُّبِ الضَّرَرِ: الاِلْتِزَامُ بِالاِسْتِخْدَامِ الآمِنِ لِلشَّبَكَاتِ الإِلِكْتُرُونِيَّةِ وَمَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الاِجْتِمَاعِيِّ، وَنَشْرُ السُّلُوكِيَّاتِ الْحَمِيدَةِ وَالثَّقَافَةِ السَّوِيَّةِ، وَالاِبْتِعَادُ عَنِ الْمَوَاقِعِ الْمَشْبُوهَةِ، وَمُرَاقَبَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ، قَالَ سُبْحَانَهُ:( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). 

عباد الله : إن احْتِرَامُ هَذِهِ الْقَوَانِينِ وَالاِلْتِزَامُ بِهَا مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ؛ وقد قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:( وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى) .




الخميس، 13 أغسطس 2015

فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله ونصرة المستضعفين

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين اعلموا رحمكم الله أن من مقاصد الجهاد الشرعي في الإسلام تحقيق الاستقرار والسلام، وَالدَعَوة لِلْخَيْرِ وَالْوِئَامِ، لأجل إقامة الدين لله، فيعبد الناس ربهم كما أمرهم، قال تعالى : " وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ" 

ومن مقاصد الجهاد كذلك رد اعتداء المعتدين، والدفاع عن المستضعفين ونصرتهم، قال تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"

وَحَذَّرَ مِنْ أَهْلِ الاِعْتِدَاءِ وَالإِجْرَامِ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ عَلَى النَّاسِ حَيَاتَهُمْ، وَيَعْتَدُونَ عَلَى الآمِنِينَ فِي أَوْطَانِهِمْ، فَأَمَرَ بِدَفْعِ شَرِّهِمْ، وَدَحْرِ عُدْوَانِهِمْ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ:( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ). 

وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالأَخْذِ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ الْمُعْتَدِي، لِمَنْعِ ضَرَرِهِ عَنِ النَّاسِ، فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ:« تَحْجُزهُ أو تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ». 

ومن شروط الجهاد –أيها المؤمنون- أن يكون تحت راية الحاكم، فهو الذي يدعو إليه، ويأمر به، فَطَاعَتُهُ آنذاك وَاجِبة مؤكدة، وليس لأفراد الناس أو قادة الجماعات أن يجاهدوا دون إذنه ومشورته، ومتى ما وقع ذلك حصلت الفوضى واختل الأمن كما هو واقع ومشاهد.

فطاعة الحاكم وعدم منازعته آكَدُ فِي مَوَاضِعِ الشَّدَّةِ وَالْحَزْمِ وَرَدْعِ الْمُعْتَدِينَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَحْقِيقِ الْخَيْرَاتِ وَالْمَصَالِحِ، وَدَفْعِ الشُّرُورِ وَالْمَفَاسِدِ، وَإِرْسَاءِ دَعَائِمِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ». أَيْ يُقْتَدَى بِرَأْيِهِ وَنَظَرِهِ فِي الأُمُورِ الْعِظَامِ وَالْوَقَائِعِ الْخَطِيرَةِ، وَلاَ يُتَقَدَّمُ عَلَى رَأْيِهِ، وَلاَ يُنْفَرَدُ دُونَهُ بِأَمْرٍ مُهِمٍّ.

قال النووي رحمه الله : " الإمام جنة كالستر يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض، ويحمي بيضة الإسلام .. وقوله : " يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ" أي يقاتل معه الكفار والبغاة والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم مطلقا" ا.هـ

وهذه المسألة قررها علماء أهل السنة والجماعة في معتقدهم، وخالفوا بها أهل البدع من الخوارج وغيرهم ممن يقاتلون دون إذن الحاكم والسلطان، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك" ، وقال ابن رشد المالكي:ويجاهد العدو مع كل إمام بر وفاجر" وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ويرون-أهل السنة والجماعة- إقامة الحج والجهاد والجمع مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا"

ولأجل ذلك منع العلماء الخروج للقتال بدون إذن الإمام، ومتى ما وقع ذلك كان قتالا غير شرعي

عباد الله : إن فضل الجهاد الشرعي الذي تحققت فيه أحكامه عظيم، وثوابه جزيل،فَهَنِيئًا لِمَنْ لَبَّى نِدَاءَ ولي أمره ، وَسَاهَمَ فِي الدِّفَاعِ دينه ووطنه، وَقَدَّمَ الْعَوْنَ لأَشِقَّائِهِ، فَظَفِرَ بِالْفَضْلِ الْعَظِيمِ، الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُرَابِطِينَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، يَقُولُ صلى الله عليه وسلم:« رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا». وَيَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا». وَمَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَذًى وَهُوَ مُرَابِطٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ وَلَهُ فِيهِ الْكَرَامَةُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالشَّرَفُ الْعَظِيمُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ -أَيْ جُرْحٍ يُجْرَحُ- فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ، لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ مِسْكٌ»

فاللهم انصر جنود المسلمين على من عدوهم ومن بغى عليهم، ووفق ولاة أمورنا لنصرة دينك وإقامة شرعك والدفاع عن المستضعفين.


الخطبة الثانية : أَيُّهَا الْمُصَلُّونَ: من أعظم فضائل الجهاد الشرعي نيل الشهادة، ونيلها فِي سَبِيلِ اللَّهِ دِفَاعًا عَنِ الإسلام والأَوْطَانِ مَكْرُمَةٌ جَلِيلَةٌ، يَمُنُّ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ  "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" أَيْ: لِيُكْرِمَ مِنْكُمْ بِالشَّهَادَةِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُكْرِمَهُ بِهَا، فَدَرَجَةُ الشُّهَدَاءِ كَبِيرَةٌ، وَمَنْزِلَتُهُمْ رَفِيعَةٌ، فَهُمْ أَحْيَاءٌ فَرِحُونَ، عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ مُذَكِّرًا بِعِظَمِ مَنَازِلِهِمْ:( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

 فَطُوبَى لمن قتل في سبيل الله مجاهدا مدافعا عن دينه ووطنه ناصرا للمستضعفين ومدافعا عنهم، فنرجو لهم أن يكونوا قد الْتَحَقُوا بِرَكْبِ الشُّهَدَاءِ الأَطْهَارِ، الْمَوْعُودِينَ بِأَعْظَمِ الْجَزَاءِ عِنْدَ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ.

وَإِنَّ بَرَكَةَ الشَّهِيدِ لاَ تَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، بَلْ تَتَعَدَّاهُ إِلَى أَهْلِهِ وَذَوِيهِ وَأَقَارِبِهِ، يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ». 

فَلْيَسْتَبْشِرْ أَهْلُ الشُّهَدَاءِ وَلْيَصْبِرُوا، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ صَبُورٌ عِنْدَ الاِبْتِلاَءِ، ثَابِتٌ عِنْدَ الْمِحَنِ، لاَ تَزِيدُهُ الْمَصَائِبُ إِلاَّ رُسُوخًا وَصُمُودًا، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ فِي بَيَانِ جَزَاءِ الصَّابِرِينَ الثَّابِتِينَ:( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). فَيَا لَهُ مِنْ ثَنَاءٍ عَظِيمٍ يَنَالُهُ الصَّابِرُ الَّذِي يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ، وَيُوقِنُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ، فَيَتَسَابَقُ إِلَى تَأْدِيَةِ الْوَاجِبِ بِثَبَاتٍ وَيَقِينٍ، مُرَدِّدًا قَوْلَهُ تَعَالَى:( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)

جماعة المسلمين : اعْلَمُوا أَنَّ جُنُودَ دَوْلَةِ الإِمَارَاتِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُتَّحِدَةِ الْبَوَاسِلَ فِي الْقُوَّاتِ الْمُسَلَّحَةِ هُمْ حِصْنُنَا الْحَصِينُ، وَدِرْعُنَا الْمَتِينُ، وَهُمْ مَوْضِعُ فَخْرٍ وَاعْتِزَازٍ، لَبَّوْا نِدَاءَ ولي أمرهم ، وَضَرَبُوا أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ فِي نُصْرَةِ الحق والدفاع عن الشَّقِيقِ وَالصَّدِيقِ المحتاج، وَسَطَّرُوا صَفَحَاتٍ مَجِيدَةً مِنَ الْبَذْلِ وَالتَّضْحِيَةِ، وَرَفَعُوا رَايَةَ الدَّوْلَةِ خَفَّاقَةً عَالِيَةً، مُتَحَلِّينَ بِالشَّجَاعَةِ وَالْبَسَالَةِ،مَتَآزِرِينَ مُتَلاَحِمِينَ، وَبِحَبْلِ اللَّهِ مُعْتَصِمِينَ، وَبِالأَجْرِ الْعَظِيمِ مُسْتَبْشِرِينَ، وَبِنَصْرِ اللَّهِ مَوْعُودِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ* وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). وَيَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»

الخميس، 6 أغسطس 2015

خطبة جمعة: البركة في المال والرزق

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين اعلموا رحمكم الله أن الله جل في علاه هو المنعم على عباده بالخيرات والنعم قال تعالى :"أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً" ، وهذه النعم يحتاج العبد فيها إلى أن تدوم وتزيد ويكثر خيرها ويعم، وهذا هو حقيقة البركة التي يمتن الله بها على عبده في النعم. 

والبركة كلها من الله قال صلى الله عليه وسلم: (حي على الطهور المبارك والبركة من الله )، فاسمه تعالى مبارك ،فلا يذكر في شيء إلا كثره وزاده  قال تعالى "تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ"، وهو سبحانه يبارك فيمن شاء من خلقه ، فبارك في أنبيائه ورسله، وبارك في أعمال الصالحين من عباده. والمُبارك من الخلق هو الذي ينتفع به الناس حيثما حل كما قال تعالى:"وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ"

عباد الله: إن حلول البركة من الله في العبد وعمله وماله وولده منة من الله تعالى ، يمتن بها على من يشاء من عباده، فليس سعة الرزق والعمل بكثرته، ولا زيادة العمر بتعاقب الشهور والأعوام، ولكن سعة الرزق والعمر إنما تكون بالبركة فيه . فإن البركة ما كانت في قليل إلا كثرته ولا في كثير إلا نفعته، ولا غنى لأحد عن بركة الله حتى الأنبياء والرسل يطلبونها من خالقهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، : (( بَيْنَا أيُّوبُ - عليه السلام - يَغْتَسِلُ عُرْيَاناً ، فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ ، فَجَعَلَ أيُّوبُ يَحْثِي في ثَوْبِهِ ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ - عز وجل - : يَا أيُّوبُ ، ألَمْ أكُنْ أغْنَيتكَ عَمَّا تَرَى ؟! قَالَ : بَلَى وَعِزَّتِكَ وَلَكِنْ لاَ غِنى بي عن بَرَكَتِكَ )) رواه البخاري

 أيها المسلمون: من رحمة الله بعباده أن جعل لهم أسبابا وأعمالا ينالون بها بركة الله سبحانه وتعالى، فمن أعظم وأجمع أسباب حصول البركة للعبد الإيمان بالله والعمل الصالح قال تعالى :" وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ "  

ومن الأعمال الصالحات التي ينال بها العبد بركة الله وفضله قراءة القرآن، فالقرآن بركة قال تعالى :"وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ " ،  ومن بركة كتاب الله قول نبينا صلوات الله وسلامه عليه (تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ، وَلاَ يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ –أي السحرة- ) ومن بركته أنه شفاء للأمراض الحسية والمعنوية التي تصيب الإيمان في القلب قال تعالى "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا "  

ومن الأعمال أيضا التي تستجلب بها البركة من الله صلة الأرحام قال عليه السلام: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِى رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِى أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " أي يبارك له في رزقه وعمره فيزيد نفعه وخيره. 

ومن الأعمال أيضا التي تستجلب بها البركة من الله الصدقة قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). فَالصَّدَقَةُ تَزِيدُ الْمَالَ وَتُبَارِكُهُ, وَأَقْسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:« ثَلاَثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثاً فَاحْفَظُوهُ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ» فَمَنْ رَغِبَ فِي بَرَكَةِ رِزْقِهِ، فَلاَ يَنْسَ الضُّعَفَاءَ وَالْمُحْتَاجِينَ.

أيها المسلمون: والبركةُ يتحرّاها العَبدُ في مَأكلِه في يومِه وليلتِه، فالطّعامُ المبارَك ما أكلتَه ممّا يليك، وتجنّبتَ الأكلَ من وسطِ الصحفَة، وذكرتَ اسمَ الله عليه، قال عليهِ الصلاة والسلام: ((البركةُ تنزل وسطَ الطّعام، فكُلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وَسطه)) ، وأمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلَعقِ الأصَابعِ والصّحفة بعدَ الفراغ من الطعام رجاءَ البركة، وقال: ((إنّكم لا تَدرون في أيِّها البركَة)) رواه مسلم

وفي الاجتماعِ على الطعام بركة، وفي التفرّق نزعٌ لها، عن وَحْشِىُّ بْنُ حَرْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَأْكُلُ وَلاَ نَشْبَعُ. قَالَ « فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ ». قَالُوا نَعَمْ. قَالَ « فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ » رواه أبو داود ، وسيّد المياه وأنفعُها وأبركُها ماءُ زمزم، قال عليهِ الصّلاة والسلام: ((إنها مبارَكة، إنها طَعامُ طُعم)) رواه مسلم

كما أن الله اصطَفى مِن الدّهرِ أزمنةً، ومِن البقاعِ أمكنَة، خصّها بالتَّشريف والبرَكة، فليلةُ القدر ليلةٌ مباركة رفيعةُ القدرِ عظيمةُ المكانةِ، قال تعالى :"إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ  " ، وأوّلُ النهارِ بعد صلاةِ الفجرِ زمنُ غنيمةٍ مبارك ووقتُ نزولِ الأرزاق وحلولِ البركات، قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهمَّ بارِك لأمّتي في بُكورها)) والنومُ بين صلاةِ الصبحِ وشروقِ الشمس تفويتٌ لبركة اليوم. قال ابن القيم رحمه الله : ومن المكروه عند السلف النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس فإنه وقت غنيمة وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة، حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس . 
وبيتُ الله الحرامِ مبارَك، ليسَ في بيوتِ العالمَ أبرَك منه ولا أكثرَ خيرًا ولا أدوَم ولا أنفعَ للخلائق، قال جلّ وعلا :" إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ".ومدينةُ المصطَفى صلى الله عليه وسلم مدينةٌ مبارَكة، الصلاةُ في مسجِدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن ألفِ صَلاةٍ فيما سِواه، وصاعُها ومُدُّها مبارك فيه، وتمرُ عاليَتها شِفَاء، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((اللهمّ بارِك لنا في مدِينتِنا، وبارِك لنا في صاعِنا ومُدِّنا)) رواه مسلم
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا القول والله اعلم. 

الخطبة الثانية : جماعة المسلمين اعلموا رحمكم الله أن مما تستجلب به بركة الله الدعاء، فمن سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تزوج أن يدعى له بالبركة كما رواه الترمذي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا رَفَّأَ الإِنْسَانَ إِذَا تَزَوَّجَ قَالَ « بَارَكَ اللَّهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِى خَيْرٍ » ، ما أجملها من دعوة لو علم معناها الناس، فمن بورك له في زواجه فهو السعيد حقا. 

كما أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يدعو بالبركة لبعض أصحابه، فقد دعا لأنس بن مالك فقال: اللهم ارزقه مالا وولدا وبارك له. قال أنس فإني لمن أكثر الأنصار مالا. 

عباد الله: كما أن الإيمان والعمل الصالح سبب لحلول البركة من الله على العبد وماله وولده، فإن المعاصي والذنوب من أسباب محق البركة وزوالها، قال ابن القيم رحمه الله : وبالجملة فالمعصية تمحق بركة الدين والدنيا، فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله ) فلا ينال ما عند الله إلا بطاعته. 

ومن الأسباب التي ذكرها الله عز وجل في محق البركة، أكل الربا قال تعالى :"يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ " وقال صلى الله عليه وسلم : ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة . 

ومن الأسباب المؤدية إلى نزع البركة من المال قول نبينا صلى الله عليه وسلم: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتِ الْبَرَكَةُ مِنْ بَيْعِهِمَا ) فالكذب والغش والخداع في البيع والتجارة مما يمحق البركة ويزيلها من المال . 

ومن الأسباب التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في نزع البركة من المال ما رواه البخاري عن حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ : سَأَلْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَانِى ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَقَالَ :« يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ ، وَكَانَ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ » 

وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله تبارك وتعالى يبتلي عبده بما أعطاه فمن رضي بما قسم الله عز وجل له بارك الله له فيه ووسعه ومن لم يرض لم يبارك له فيه . 

فعدم القناعة والرضى بما أتاك الله من المال سبب لنزع البركة، والقناعة والرضى سبب لجلب البركة
إخواني في الله إن كثيرا من الناس ليلحظون نزع البركة منهم، فكم من موظف قد أغناه الله براتب كبير لا ينتفع به بل هو مديون يلاحقه الخصوم، وكم من شخص قد نزع بركة زواجه بالمحرمات التي يبتدأ بها زواجه أو بقرض ربوي يعينه على أمر الزواج، وكم من طالب علم لا يرى لاجتهاده أثرا لأنه لم يخلص نيته في الطلب ولم يتبع العلم بالعمل. 

وفي المقابل كم من موظف راتبه قليل تراه قانعا به يصرف منه على نفسه وذريته ويوفر منه، وآخر على فقره وقلة يده قد أعطي زوجة مطيعة وبيتا هانئا وصحة وعافية حتى كأنه قد جمع الدنيا

فاتقوا الله وحاسبوا أنفسكم وأجملوا في الطلب، وابتغوا ما عند الله بطاعته ، واحذروا معصيته تفلحوا في الدارين