الخميس، 20 أغسطس 2015

خطبة جمعة : السمع والطاعة للسلطان، وتطبيق الأنظمة والقوانين

الخطبة الأولى: جماعة المسلمين من محاسن شريعتنا الغراء أن أوامرها من الواجبات والمستحبات جاءت لتحقيق المصالح وتكثيرها، ونواهيها من المحرمات والمكروهات جاءت لدفع المفاسد وتقليلها، فالشرع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة، وهذا شامل لجميع أحكام الشرع لا يخرج عنه شيء من الأحكام.

وذلك لأجل أن يعيش الخلق عيشة سوية، ويتفرغوا لعبادة رب البرية، الذي خلقهم لإعمار الأرض وتحقيق العبودية، فيفوزوا في الدارين بحسن العاقبة كما قال تعالى : "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " 

ومن جملة الأحكام الشرعية والأوامر الإلهية التي يقصد منها جلب المنافع ودفع المضار عن الناس أمرهم بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمرهم من الحكام وولاة الأمر والسلاطين، قال تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.." قال النووي رحمه الله: المراد بأولي الأمر من أوجب الله طاعته من الولاة والأمراء، هذا قول جماهير السلف والخلف من المفسرين والفقهاء وغيرهم.."

والمقصود الأعظم من نصب الحكام وولاة الأمر هو إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمور دنياهم.

ولهذا روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إِلَّا أَمِيرٌ بَرٌّ أَوْ فَاجِرٌ " قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا الْبَرُّ فَكَيْفَ بِالْفَاجِرِ؟ قَالَ: " إِنَّ الْفَاجِرَ يُؤَمِّنُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ السُّبُلَ، وَيُجَاهِدُ بِهِ الْعَدُوَّ، وَيَجْبِي بِهِ الْفَيْءَ، وَتُقَامُ بِهِ الْحُدُودُ، وَيُحَجُّ بِهِ الْبَيْتُ، وَيَعْبُدُ اللهَ فِيهِ الْمُسْلِمُ آمِنًا حَتَّى يَأْتِيَهُ أَجَلُهُ "

وقال الحسن البصري - رحمه الله تعالي - في الأمراء :هم يلون من أمورنا خمساً الجمعة،والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله لا يستقيمُ الدينُ إلا بهم، وإن جاروا وظلموا، والله لمَا يُصلح اللهُ بهم أكثرُ مما يفسدون، مع أنَّ طاعتَهُمْ - واللهِ – لغبطةٌ، وأَنَّ فرقتهم لكفرٌ"

ولأجل هذه المصالح العظيمة التي تتحقق بالسمع والطاعة لولي أمر المسلمين جاءت السنة النبوية بالنصوص المتضافرة لتأكد على هذا الأمر بأبلغ عبارة وأحسن أسلوب، حتى كادت أن تبلغ حد التواتر المعنوي.

ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ ». فالسمع والطاعة واجبة على كل مسلم، سواء أمره الحاكم بما يوافق طبعه أو لم يوافقه، بشرط أن لا يأمره بمعصية، فإن أمره بها فلا طاعة له، ويسمع ويطاع له فيما عدا ذلك .

بل قد وصف النبي صلى الله عليهم وسلم بعض الحكام بصفات شنيعة، ومع ذلك أمر بالسمع والطاعة لهم في غير معصية الله، لما في الخروج عليهم ومخالفتهم من المفاسد والمضار، فقال صلى الله عليه وسلم: يَكُونُ بَعْدِى أَئِمَّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَاىَ وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِى وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِى جُثْمَانِ إِنْسٍ ». قَالَ حذيفة :قُلْتُ كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ قَالَ « تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ"

وقال صلى الله عليه وسلم:وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ فَقَالَ « لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلاَتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ وَلاَ تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ ».

عباد الله : إن شريعتنا لما أمرت بالسمع والطاعة لولي الأمر إنما نظرت إلى المصالح العظيمة التي تعود على الناس من ذلك، والمفاسد التي سيقعون فيها جراء مخالفته وعصيانه.

ومنصب الإمامة منصب عظيم ثقيل، فهو تكليف أكثر منه تشريف، قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلَّا يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولًا، لَا يَفُكُّهُ إِلَّا الْعَدْلُ، أَوْ يُوبِقُهُ الْجَوْرُ" وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ »

فلنكن لهم عونا، ولندع لهم بالصلاح والتوفيق، وإذا استقامت لكم أمور السلطان فأكثروا حمد الله وشكره، وإن جاءكم منه ما تكرهونه، فأرجعوا ذلك إلى ذنوبكم وآثامكم، وأقيموا للسلطان عذره لكثرة ما يكابده من ضبط جوانب الدولة وصد الأعداء، مع قلة الناصحين وكثرة الطامعين والمنافقين.



الخطبة الثانية : اعلموا رحمكم الله أن العقل والتجربة قد أثبتا أن الناس لا يسوسهم إلا قوة الإمام وحزمه، فلو لم يكن سلطان يأمرهم وينهاهم لتعطلت مصالح الدين والدنيا، وأبطلت الأحكام، وسفكت الدماء، وانتهبت الأموال، وضاعت العقول والأعراض، ولأجل ذلك ورد عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن" والمعنى أن من يكف عن ارتكاب العظائم مخافة السلطان أكثر ممن تكفه نصوص القرآن.

ولتحقيق مصالح الرعية ودفع المفاسد عنهم مع التطور الذي يعيشونه والتغير الذي يدركونه وضع الحكام الْقَوَانِينَ الَّتِي تُنَظِّمُ لِلنَّاسِ أُمُورَ دُنْيَاهُمْ، وَتُيَسِّرُ لَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ، مِنْ حِفْظٍ لِلْحُقُوقِ، وَرِعَايَةٍ لِلْمَصَالِحِ، وَتَحْقِيقِ الْخَيْرِ لِلْعِبَادِ وَالْبِلاَدِ.

فَإِذَا حَرَصَ الْمَرْءُ عَلَى تَطْبِيقِ الأَنْظِمَةِ والقوانين سَادَ الاِسْتِقْرَارُ، وَابْتَعَدَ النَّاسُ عَنِ الْفَسَادِ وَالاِعْتِدَاءِ.
 وَلَقَدْ أَنَاطَ الإِسْلاَمُ بِالْحُكَّامِ حِرَاسَةَ الدِّينِ وَسِيَاسَةَ الدُّنْيَا وأمر بطاعتهم، وَمِنْ طَاعَةِ الْحَاكِمِ احْتِرَامُ الْقَوَانِينِ وَالأَنْظِمَةِ الَّتِي يَسُنُّهَا، وَيَأْمُرُ بِهَا مما لا يخالف شرع الله تعالى.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اتِّبَاعَ النُّظُمِ وَاللَّوَائِحِ الْمُؤَسَّسِيَّةِ مِنْ أَهَمِّ صُوَرِ احْتِرَامِ الْقَوَانِينَ، فَبِهَا تُوَزَّعُ الْمَهَامُّ، وَتَسُودُ رُوحُ الْفَرِيقِ الْوَاحِدِ.

ومن تلكم الأنظمة والقوانين قانون السير والمرور ، الَّتِي وُضِعَتْ لِحِفْظِ الأَرْوَاحِ، وَصِيَانَةِ الْمُمْتَلَكَاتِ، فَإِنَّ الَّذِي يَقُودُ سَيَّارَتَهُ بِسُرْعَةٍ مُتَجَاوِزًا الْحَدَّ الْمَسْمُوحَ بِهِ، غَيْرَ مُبَالٍ بِالْقَوَاعِدِ الْمُرُورِيَّةِ، وَلاَ مُرَاعٍ حُقُوقَ مُسْتَخْدِمِي الطَّرِيقِ؛ مُخَالِفٌ لِشَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى، لأَنَّهُ يَضُرُّ نَفْسَهُ وَيُعَرِّضُهَا لِلْهَلاَكِ، وَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:( وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) كَمَا أَنَّهُ يَضُرُّ بِالآخَرِينَ: يُرَوِّعُهُمْ وَيُؤْذِيهِمْ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقَانُونِ وَالنِّظَامِ، وَقَدْ نَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذَا السُّلُوكِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:« لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ». 

وَمِنْ تَجَنُّبِ الضَّرَرِ: الاِلْتِزَامُ بِالاِسْتِخْدَامِ الآمِنِ لِلشَّبَكَاتِ الإِلِكْتُرُونِيَّةِ وَمَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الاِجْتِمَاعِيِّ، وَنَشْرُ السُّلُوكِيَّاتِ الْحَمِيدَةِ وَالثَّقَافَةِ السَّوِيَّةِ، وَالاِبْتِعَادُ عَنِ الْمَوَاقِعِ الْمَشْبُوهَةِ، وَمُرَاقَبَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ، قَالَ سُبْحَانَهُ:( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). 

عباد الله : إن احْتِرَامُ هَذِهِ الْقَوَانِينِ وَالاِلْتِزَامُ بِهَا مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ؛ وقد قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:( وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى) .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق