الخميس، 6 أغسطس 2015

خطبة جمعة: البركة في المال والرزق

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين اعلموا رحمكم الله أن الله جل في علاه هو المنعم على عباده بالخيرات والنعم قال تعالى :"أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً" ، وهذه النعم يحتاج العبد فيها إلى أن تدوم وتزيد ويكثر خيرها ويعم، وهذا هو حقيقة البركة التي يمتن الله بها على عبده في النعم. 

والبركة كلها من الله قال صلى الله عليه وسلم: (حي على الطهور المبارك والبركة من الله )، فاسمه تعالى مبارك ،فلا يذكر في شيء إلا كثره وزاده  قال تعالى "تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ"، وهو سبحانه يبارك فيمن شاء من خلقه ، فبارك في أنبيائه ورسله، وبارك في أعمال الصالحين من عباده. والمُبارك من الخلق هو الذي ينتفع به الناس حيثما حل كما قال تعالى:"وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ"

عباد الله: إن حلول البركة من الله في العبد وعمله وماله وولده منة من الله تعالى ، يمتن بها على من يشاء من عباده، فليس سعة الرزق والعمل بكثرته، ولا زيادة العمر بتعاقب الشهور والأعوام، ولكن سعة الرزق والعمر إنما تكون بالبركة فيه . فإن البركة ما كانت في قليل إلا كثرته ولا في كثير إلا نفعته، ولا غنى لأحد عن بركة الله حتى الأنبياء والرسل يطلبونها من خالقهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، : (( بَيْنَا أيُّوبُ - عليه السلام - يَغْتَسِلُ عُرْيَاناً ، فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ ، فَجَعَلَ أيُّوبُ يَحْثِي في ثَوْبِهِ ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ - عز وجل - : يَا أيُّوبُ ، ألَمْ أكُنْ أغْنَيتكَ عَمَّا تَرَى ؟! قَالَ : بَلَى وَعِزَّتِكَ وَلَكِنْ لاَ غِنى بي عن بَرَكَتِكَ )) رواه البخاري

 أيها المسلمون: من رحمة الله بعباده أن جعل لهم أسبابا وأعمالا ينالون بها بركة الله سبحانه وتعالى، فمن أعظم وأجمع أسباب حصول البركة للعبد الإيمان بالله والعمل الصالح قال تعالى :" وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ "  

ومن الأعمال الصالحات التي ينال بها العبد بركة الله وفضله قراءة القرآن، فالقرآن بركة قال تعالى :"وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ " ،  ومن بركة كتاب الله قول نبينا صلوات الله وسلامه عليه (تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ، وَلاَ يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ –أي السحرة- ) ومن بركته أنه شفاء للأمراض الحسية والمعنوية التي تصيب الإيمان في القلب قال تعالى "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا "  

ومن الأعمال أيضا التي تستجلب بها البركة من الله صلة الأرحام قال عليه السلام: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِى رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِى أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " أي يبارك له في رزقه وعمره فيزيد نفعه وخيره. 

ومن الأعمال أيضا التي تستجلب بها البركة من الله الصدقة قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). فَالصَّدَقَةُ تَزِيدُ الْمَالَ وَتُبَارِكُهُ, وَأَقْسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:« ثَلاَثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثاً فَاحْفَظُوهُ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ» فَمَنْ رَغِبَ فِي بَرَكَةِ رِزْقِهِ، فَلاَ يَنْسَ الضُّعَفَاءَ وَالْمُحْتَاجِينَ.

أيها المسلمون: والبركةُ يتحرّاها العَبدُ في مَأكلِه في يومِه وليلتِه، فالطّعامُ المبارَك ما أكلتَه ممّا يليك، وتجنّبتَ الأكلَ من وسطِ الصحفَة، وذكرتَ اسمَ الله عليه، قال عليهِ الصلاة والسلام: ((البركةُ تنزل وسطَ الطّعام، فكُلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وَسطه)) ، وأمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلَعقِ الأصَابعِ والصّحفة بعدَ الفراغ من الطعام رجاءَ البركة، وقال: ((إنّكم لا تَدرون في أيِّها البركَة)) رواه مسلم

وفي الاجتماعِ على الطعام بركة، وفي التفرّق نزعٌ لها، عن وَحْشِىُّ بْنُ حَرْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَأْكُلُ وَلاَ نَشْبَعُ. قَالَ « فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ ». قَالُوا نَعَمْ. قَالَ « فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ » رواه أبو داود ، وسيّد المياه وأنفعُها وأبركُها ماءُ زمزم، قال عليهِ الصّلاة والسلام: ((إنها مبارَكة، إنها طَعامُ طُعم)) رواه مسلم

كما أن الله اصطَفى مِن الدّهرِ أزمنةً، ومِن البقاعِ أمكنَة، خصّها بالتَّشريف والبرَكة، فليلةُ القدر ليلةٌ مباركة رفيعةُ القدرِ عظيمةُ المكانةِ، قال تعالى :"إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ  " ، وأوّلُ النهارِ بعد صلاةِ الفجرِ زمنُ غنيمةٍ مبارك ووقتُ نزولِ الأرزاق وحلولِ البركات، قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهمَّ بارِك لأمّتي في بُكورها)) والنومُ بين صلاةِ الصبحِ وشروقِ الشمس تفويتٌ لبركة اليوم. قال ابن القيم رحمه الله : ومن المكروه عند السلف النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس فإنه وقت غنيمة وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة، حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس . 
وبيتُ الله الحرامِ مبارَك، ليسَ في بيوتِ العالمَ أبرَك منه ولا أكثرَ خيرًا ولا أدوَم ولا أنفعَ للخلائق، قال جلّ وعلا :" إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ".ومدينةُ المصطَفى صلى الله عليه وسلم مدينةٌ مبارَكة، الصلاةُ في مسجِدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن ألفِ صَلاةٍ فيما سِواه، وصاعُها ومُدُّها مبارك فيه، وتمرُ عاليَتها شِفَاء، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((اللهمّ بارِك لنا في مدِينتِنا، وبارِك لنا في صاعِنا ومُدِّنا)) رواه مسلم
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا القول والله اعلم. 

الخطبة الثانية : جماعة المسلمين اعلموا رحمكم الله أن مما تستجلب به بركة الله الدعاء، فمن سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تزوج أن يدعى له بالبركة كما رواه الترمذي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا رَفَّأَ الإِنْسَانَ إِذَا تَزَوَّجَ قَالَ « بَارَكَ اللَّهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِى خَيْرٍ » ، ما أجملها من دعوة لو علم معناها الناس، فمن بورك له في زواجه فهو السعيد حقا. 

كما أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يدعو بالبركة لبعض أصحابه، فقد دعا لأنس بن مالك فقال: اللهم ارزقه مالا وولدا وبارك له. قال أنس فإني لمن أكثر الأنصار مالا. 

عباد الله: كما أن الإيمان والعمل الصالح سبب لحلول البركة من الله على العبد وماله وولده، فإن المعاصي والذنوب من أسباب محق البركة وزوالها، قال ابن القيم رحمه الله : وبالجملة فالمعصية تمحق بركة الدين والدنيا، فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله ) فلا ينال ما عند الله إلا بطاعته. 

ومن الأسباب التي ذكرها الله عز وجل في محق البركة، أكل الربا قال تعالى :"يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ " وقال صلى الله عليه وسلم : ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة . 

ومن الأسباب المؤدية إلى نزع البركة من المال قول نبينا صلى الله عليه وسلم: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتِ الْبَرَكَةُ مِنْ بَيْعِهِمَا ) فالكذب والغش والخداع في البيع والتجارة مما يمحق البركة ويزيلها من المال . 

ومن الأسباب التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في نزع البركة من المال ما رواه البخاري عن حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ : سَأَلْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَانِى ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَقَالَ :« يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ ، وَكَانَ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ » 

وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله تبارك وتعالى يبتلي عبده بما أعطاه فمن رضي بما قسم الله عز وجل له بارك الله له فيه ووسعه ومن لم يرض لم يبارك له فيه . 

فعدم القناعة والرضى بما أتاك الله من المال سبب لنزع البركة، والقناعة والرضى سبب لجلب البركة
إخواني في الله إن كثيرا من الناس ليلحظون نزع البركة منهم، فكم من موظف قد أغناه الله براتب كبير لا ينتفع به بل هو مديون يلاحقه الخصوم، وكم من شخص قد نزع بركة زواجه بالمحرمات التي يبتدأ بها زواجه أو بقرض ربوي يعينه على أمر الزواج، وكم من طالب علم لا يرى لاجتهاده أثرا لأنه لم يخلص نيته في الطلب ولم يتبع العلم بالعمل. 

وفي المقابل كم من موظف راتبه قليل تراه قانعا به يصرف منه على نفسه وذريته ويوفر منه، وآخر على فقره وقلة يده قد أعطي زوجة مطيعة وبيتا هانئا وصحة وعافية حتى كأنه قد جمع الدنيا

فاتقوا الله وحاسبوا أنفسكم وأجملوا في الطلب، وابتغوا ما عند الله بطاعته ، واحذروا معصيته تفلحوا في الدارين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق