الجمعة، 23 ديسمبر 2016

مقتل سفراء العدو بين حكم الشرع وبين الحماسات والعواطف

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد

     فلقد طالعتنا وسائل الإعلام في الأمس القريب بخبر مقتل السفير الروسي في تركيا على يد حارس من الشرطة، وقد تباينت ردود أفعال الناس حول هذا الحدث، بسبب جرائم روسيا في سوريا، ومساهمتهم في قتل المسلمين فيها، وقد بيّن أهل العلم حكم هذا الفعل من جهة الشرع، ولكن لم يرتض هذا الحكم البعض، وهاجموا من نشره وبينه، فأحببت أن أعلق على هذا الأمر ، فأقول :

أولا : من صفات المؤمن لزوم حكم الشرع وعدم معارضته، بل يسلم له ويرتضيه، ولو خالف نفسه وهواه ومصلحته الخاصة، قال تعالى : "إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" [النور:51-52 ] ، وقال سبحانه : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا" [الأحزاب: 36] .

قال ابن القيم – رحمه الله- في الرسالة التبوكية ص 36 : " فدل هذا على أنه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسألة من المسائل حكم طلبي أو خبري، فإنه ليس لأحد أن يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلاً، فدل على أن ذلك مناف للإيمان."

ثانيا : قد ورد الحكم الشرعي في مسألة قتل سفراء العدو بأدلة عامة وخاصة، تدل على تحريمه، والوعيد لمن أقدم عليه، ومن ذلك :

أ )  قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " من قتَلَ مُعاهَدًا لم يرِحْ رائِحَةَ الجَنَّةِ وإِنَّ رِيحهَا تُوجدُ من مسِيرَةِ أَربَعِينَ عامًا. " أخرجه البخاري، وعند ابن ماجه " من قَتَلَ مُعَاهَدًا له ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ لم يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وريحها لَيُوجَدُ من مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا."

وجه الدلالة : الترهيب والوعيد على من قتل معاهداً، والسفير من المعاهدين في الدولة المسلمة، وبالتالي لا يجوز قتله والاعتداء عليه.

ب ) ومن التطبيقات العملية الدالة على حرمة قتل السفراء من رسل العدو كما وردت في السنة النبوية، ما روي عن عبد اللّهِ بن مسْعُودٍ –رضي الله عنه – قال: جاء بن النّوَّاحَة وابن آثال رسُولاَ مُسَيْلمَةَ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لهُمَا: " أتَشْهَدَانِ أني رسول اللّهِ؟ قالاَ: نشْهَدُ أنَّ مُسَيْلمَةَ رسول اللّهِ.

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " آمنْتُ باللَّهِ وَرُسُلهِ لو كنت قَاتلاً رسُولاً لقَتَلْتُكُمَا ". قال عبد اللّهِ: فمَضَتِ السُّنّةُ أنَّ الرّسُلَ لاَ تُقْتلُ. رواه أبو داود وأحمد.

وجه الدلالة : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- امتنع من قتل رسل مسيلمة الكذاب على الرغم من قولهما لكلمة الكفر أمامه، وقول ابن مسعود رضي الله عنه: " فمَضَتِ السُّنّةُ أنَّ الرّسُلَ لاَ تُقْتلُ"

وقوله " الرسل " لفظ أطلق قديما على ما يسمى في عصرنا اليوم بـ ( السفير)، وهو استعمال لغوي صحيح، فالرسول في اللغة هو من يبلغ رسالة من بعثه إلى قوم آخرين، ومنه قوله تعالى : "وقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ". .[ يوسف: 50 ]. 
قال الألوسي فى تفسير الآية الكريمة في روح المعاني : 12 / 257: " وقال الملك بعد ما جاء السفير المعبر بالتعبير وسمع منه ما سمع، ائتوني به لما رأى من علمه وفضله وأخباره عما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير. " 



ج – عن أَبِي رَافِعٍ قَالَ: بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، قَالَ: " إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الَّذِي فِيهِ الْآنَ، فَارْجِعْ "

فقوله: " لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ " : أي لا أغدر وأخون العهد، وقوله : " وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ" ، جمع بريد وهو الرسول الوارد إليه من الجهات، أي لا أحبس الرسل.

وجه الدلالة : دل الحديث على صفة الوفاء بالعهد، وعلى عدم حبس الرسل، فعدم قتلهم من باب أولى .

قال القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 2564) : " قال الطيبي: المراد بالعهد هاهنا العادة الجارية المتعارفة بين الناس من أنَّ الرسل لا يُتعرض لهم بمكروه."

وقال الصنعاني- رحمه الله- في سبل السلام (2/492) : في الحديث دليل على حفظ العهد والوفاء به ولو لكافر، وعلى أنه لا يحبس الرسل بل يرد جوابه، فكأن وصوله أمان له فلا يجوز أن يحبس بل يرد .

د ) ومن الأدلة كذلك على عدم جواز قتل الرسل ( السفراء) وجوب الوفاء بالعهد للكافر ولو كان عدواً، كما قال تعالى :" وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا" [الإسراء:34 ] ، وكما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم – من الوفاء بعهده مع كفار قريش في صلح الحديبية.

وقد وقعت الدول جميعها، ومن بينها الدول المسلمة على اتفاقية فيينا، التي  تفرض على الدول الموقعة التزامات عدة بخصوص السفراء منها حماية شخص الرسول ( السفير) ، فلا يجوز إخضاعه لأي صورة من صور القبض أو الاعتقال، مع اتخاذ جميع التدابير المتاحة لمنع أي اعتداء على شخصه أو حريته أو كرامته.

فقتل السفراء نقض لهذا العهد، ومخالفة للطريقة الشرعية في الوفاء بالعهود والمواثيق ولو مع الأعداء .

ثالثا: عدم قتل الرسل ( السفراء) معروف لدى جميع الأمم، والمصلحة تقتضيه، بل المفاسد العظيمة تترتب على مخالفته.

قال الشوكاني – رحمه الله- في السيل الجرار للشوكاني: 4 / 560 - 561 :" أنَّ تأمين الرسل ثابت في الشريعة الإسلامية ثبوتاً معلوماً، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصل إليه الرسل من الكفار، فلا يتعرض لهم أحد من أصحابه، وكان ذلك طريقة مستمرة وسنة ظاهرة.

وهكذا كان الأمر عند غير أهل الإسلام من ملوك الكفر. فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يراسلهم من غير تقدم أمان منهم لرسله فلا يتعرض لهم متعرض.

والحاصل: أنه لو قال قائل: إن تأمين الرسل قد اتفقت عليه الشرائع لم يكن ذلك بعيداً.

وقد كان أيضا معلوماً ذلك عند المشركين أهل الجاهلية عبدة الأوثان، ولهذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقهما " قاله لرسولي مسيلمة، لولا أن الرسل لا تقتل، فيه التصريح بأن شأن الرسل أنهم لا يقتلون في الإسلام وقبله."ا.هـ

وأما اقتضاء ذلك للمصلحة ودفعه للمفسدة فمن وجوه:

أ )  أنّ قتل رسل العدو يفضي إلى قتل رسل المسلمين، والاعتداء عليهم بغير وجه حق.

ب) توقف التواصل بين الدولة المسلمة وبين دول الأعداء، مما يضيع فرص عقد المعاهدات، وطلب الصلح ونحو ذلك.

يقول الحسين بن عبد الله الطيبي في شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (9/ 2754) : " ثم إن في تردد الرسل المصلحة الكلية، ومهما جُوزَ حبسهم أو التعرض لهم بمكروه، صار ذلك سبباً لانقطاع السبيل بين الفئتين المختلفتين، وفي ذلك من الفتنة والفساد ما لا يخفي علي ذي اللب موقعه."ا.هـ

ج ) احتمال إعلان الحرب على الدولة المسلمة التي قتل فيها السفير من قبل دولته، من غير استعداد للقتال، وتعريض المسلمين للتهلكة.

رابعا : الشريعة الإسلامية تتعامل مع الأعداء بأحكام الشريعة، وبالأخلاق والمثل العليا، ولو كان العدو يتعامل مع المسلمين بغير ذلك، يدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى : " وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ. " [الأنفال:58 ]

فالله ينهى رسوله والمؤمنين عن خيانة من ظهرت أمارة خيانته، بل يُعلموه برغبتهم في إنهاء العهد بينهما، ليكونوا جميعا على علم بانتهائه.

وهاك أخي القارئ هذا التطبيق العملي للصحابة رضوان الله عليهم في التزامهم بالعهد مع العدو وعدم نقضه ولو كانوا في جهاد ضدهم، فروى الترمذي عن سُلَيْم بْن عَامِرٍ قال: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ أَهْلِ الرُّومِ عَهْدٌ، وَكَانَ يَسِيرُ فِي بِلاَدِهِمْ، حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ. فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَفَاءٌ لاَ غَدْرٌ. وَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، فَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَحُلَّنَّ عَهْدًا وَلاَ يَشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِىَ أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ». قَالَ فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ.

ويدل عليه كذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم – " أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ" رواه الترمذي.

فإذا كانت روسيا تتعامل مع المسلمين بالعداء والقتل، فينبغي أن نتعامل معها وفق أحكام الشريعة الإسلامية، ومن أحكام الشريعة الإسلامية عدم جواز قتل سفيرهم الذي أُعطي العهد والأمان في بلاد المسلمين .

خامسا: العواطف الجياشة والحماسة الزائدة لا تجدي نفعا في إصدار الأحكام، خصوصا في النوازل التي تحدث أثناء الفتن، لذلك كان ولا بد من أن تضبط هذه الانفعالات بأحكام الشرع، حتى لا تنقلب العواطف عواصف، تعصف بالأمة وأفرادها ومجتمعاتها.

وتأمل معي – أخي القارئ- هذا الموقف الذي رواه البخاري ومسلم عن سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ قال فيه: اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، وفي رواية (أيُّها الناسُ! اتَّهِمُوا أنفُسَكُم) وفي رواية  رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَرَدَدْتُهُ.

فبسبب ما وقع يوم صلح الحديبية للصحابة من أمور لم يرتضوها ، وما خالطهم من الحزن والكآبة، لرجوعهم دون تمام عمرتهم، وصد الكفار لهم عن البيت، كان لبعضهم من الرأي ما خالف النبي - صلى الله عليه وسلم – في تصرفاته، مع أن الحق كان معه - صلى الله عليه وسلم- حتى قال له عمر رضي الله عنه : يا رسولَ اللهِ! ألَسْنَا على الحقِّ وهُم على الباطلِ؟! فقالَ:" بَلى".
فقالَ: أليس قَتلانا في الجنةِ وقتلاهُم في النارِ؟! قالَ: "بلى".
قالَ: فعَلامَ نُعطي الدَّنِيَّةَ في دينِنا؟ أنَرْجِعُ ولمَّا يَحْكُمِ اللهُ بينَنا وبينَهُم؟
فقال:" يا ابنَ الخطاب! إنِّي رسولُ اللهِ، ولنْ يُضَيِّعَني اللهُ أبداً".
فانطلَقَ عمرُ متغيِّظاً، فلم يصبِرْ حتى جاءَ إلى أبي بكرٍ، فقالَ لهُ مثلَ ما قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: إنَّه رسولُ اللهِ، ولن يُضَيعَهُ اللهُ أبداً.
فنَزَلَتْ سورةُ {الفتح}، فقرأها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على عُمَرَ إلى آخِرِها، فقالَ عمرُ: يا رسولَ اللهِ! أوَ فَتْحٌ هو؟! قالَ: "نعم" رواه البخاري .

قال ابن حجر في فتح الباري نقلا عن ابن بطال (13/ 288) : فالرأي إذا كان مستنداً إلى أصل من الكتاب أو السنة أو الإجماع فهو المحمود وإذا كان لا يستند إلى شيء منها فهو المذموم، قال وحديث سهل بن حنيف وعمر بن الخطاب وإن كان يدل على ذم الرأي لكنه مخصوص بما إذا كان معارضاً للنص، فكأنه قال اتهموا الرأي إذا خالف السنة. "

فينبغي للمسلم أن يسلم لحكم الله ورسوله إذا جاءه، ولا يعترض عليه برأيه وهواه، لأن الاستسلام للعاطفة والهوى يحول بين المرء وبين الوصول للحق والحكم به.

 قال تعالى : " ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ، هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" [لجاثية:17-20 ]

هذه الأمور الخمسة مهمات في هذا الباب، فعلى الراغب في الحق تأملها وتدبرها، والله هو الهادي إلى سبيل الرشاد .

الثلاثاء، 30 أغسطس 2016

مقال : مظاهر التوحيد في الحج

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد

إن من أعظم الأمور التي جاءت الشريعة لتقريرها توحيد الله سبحانه وتعالى، فهو أهم المهمات، وأعظم ما دعا إليه الرسل والأنبياء والدعاة من بعدهم، قال تعالى: " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" [النحل:36]، كما قرر الله التوحيد في أحكام شريعته ومقاصدها، ومن ذلك عبادة الحج .

فقد شرع الله الحج لتحقيق مقاصد عظيمة ، وإن من أعظم مقاصد الحج إعلان التوحيد لله تبارك وتعالى وتصفية الاعتقاد وإفراده بالقصد والطلب والتوجه والإرادة .

 ومن تدبر وتأمل آيات الحج وأذكاره وأعماله وجدها مشتملة على تأكيد هذا المقصد بتوحيد الله تعالى وعدم الإشراك به .

ومن ذلك قول الله سبحانه و تعالى : " وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ " ، وقوله " وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا" [آل عمران:97] فالله سبحانه وتعالى لما أمر بإتمام المناسك، وفرض الحج على الناس جعل الأمر كله لله، ففي الأولى إتمام المناسك لله، وفي الثانية أداء الفريضة لله، وفي ذلك إشارة صريحة إلى مقصد توحيد الله وإفراده بهذا العمل. 

ومن مظاهر التوحيد في الحج : إعلان الحاج لنسكه المشتمل على التوحيد قائلا : لبيك اللهم حجا لا رياء فيه ولا سمعة "  فاحتوى هذا الإهلال على الإخلاص للمولى عز وجل مع البراءة من مظاهر الشرك – الرياء والسمعة – فالرياء مبطل للعمل وموجب للعقاب ،عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ " قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً " ، و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ فيتبرأ الحاج من الرياء والسمعة في أول دخوله في النسك .

ومن مظاهر التوحيد في الحج : التلبية التي تتضمن إعلان التوحيد ونفي الشرك ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ) ، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حين لبى النبي صلى الله عليه وسلم : فأهل بالتوحيد . فسمى التلبية توحيداً.

 والكون كلّه يردِّد توحيدَ الخالق ويسبِّح بحمده، مع تلبية الحجاج ،  فتلبِّي الأحجار ويهتف المدر والشجر، قال صلى الله عليه وسلم : ((ما من مسلمٍ يلبِّي إلاّ لبَّى من عن يمنيه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرضُ من ها هنا وها هنا .

قال ابن القيم – رحمه الله – في حاشيته على سنن أبي داود : "قد اشتملت كلمات التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة ، منها : أنها تتضمن المحبة لله تعالى ، فلا يقال لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه  ، ومنها : أنها تتضمن التزام دوام العبودية لله و تمام الخضوع والذل اللذان هما من أركان العبودية لله تبارك وتعالى . ومن فوائدها أنها تتضمن الإخلاص الذي هو روح الحج ومقصده بل روح العبادات كلها والمقصود منها . " ا . هـ ملخصا 

وأما أهل الإشراك وعباد الأصنام فكانوا يدخلون آلهتهم مع الله في تلبيتهم فيقولون : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك " فخالف أهل الإسلام أهل الأوثان بإعلانهم التوحيد والإخلاص لله تعالى . 

فعلى الملبي الذي أكرمه الله بالتلبية أن يستحضر معانيها وأن يعي دلالاتها، وأن يسعى لتحقيق مقتضياتها، فلا يسأل إلا الله ولا يستغيث إلا بالله ولا يتوكل إلا على الله ولا يذبح إلا لله،  شعاره :" إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ " 

ومن مظاهر التوحيد في الحج: الطواف حول الكعبة واستلام الركنين وتقبيل الحجر الأسود ، تحقيقاً للعبودية في قوله تعالى : " فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ " [قريش: 3]  ، وقوله " ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ " [الحج:29]  واتباعاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال : خذوا عني مناسككم " وفي ذلك كمال التوحيد ، عبودية لله ومتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: "  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا "  ، عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ.  

قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد : وليس على وجه الأرض بقعةٌ يجب على كل قادرٍ السعيُ إليها والطوافُ بالبيت الذي فيها غير مكة، وليس على وجه الأرض موضعٌ يُشرع تقبيلُه واستلامُه، وتُحط الخطايا والأوزار فيه غيرَ الحجر الأسود، والركن اليماني " 

ومن مظاهر التوحيد في الحج : شرعية صلاة ركعتين بعد الطواف ، وقراءة سورتي الكافرون والإخلاص لتضمنهما توحيد العبادة ، تنبيها للطائف أنه في عبادة لله وطاعة لأمره .

ومن مظاهر التوحيد في الحج: السعي بين الصفا والمروة حيث يتذكر العبد موقف أم إسماعيل حينما نفذ ماؤها وغذاؤها في جوف لاهب ، فصارت تهرول بين الصفا والمروة قد أنهكها العطش وأضعفها الجوع ، وقد تعلق قلبها بالله، فتوكلت عليه وفوضت أمرها إليه، وقد قالت لزوجها إبراهيم :يَا إبْرَاهِيمُ ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهذَا الوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أنِيسٌ وَلاَ شَيْءٌ ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَاراً ، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا ، قَالَتْ لَهُ : آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَتْ : إذاً لاَ يُضَيِّعُنَا ؛ ثُمَّ رَجَعَتْ " وإذا برحمة الله تتداركها ، فالله لا يضيع عباده فإذا هي بالنبع يتدفق ، فيتذكر المسلم تذللها وتضرعها لله تعالى ، فيكون بذلك على يقين من أن الملجأ هو الله وحده فهو كاشف الكرب ومجيب دعوة المضطر . قال تعالى  " أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أإله مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ " [النمل:62]

وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم للحاج إذا صعد على الصفا أن يكبر الله ثلاثا ويقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ثم يدعو بعد ذلك بما شاء . 

ومن مظاهر التوحيد في الحج: الوقوف في عرفة الذي شعاره قول النبي صلى الله عليه وسلم (خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) ففيه إظهار التوحيد في قوله (لا إله إلا الله وحده ) وبراءة من الشرك في قوله (وحده لا شريك له ) واعتراف بالملك والثناء على الله في قوله (له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )  
فجميع مناسك الحج شاهدة على توحيد رب البرية سبحانه وتعالى ، يُظهر فيها العبد ذله وتعظيمه وخوفه ورجاءه واستعانته بالله وحده دون سواه . 

لذلك كان جزاء الحاج الجنة قال صلى الله عليه وسلم : الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة . 

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه . 

الاثنين، 29 أغسطس 2016

مقال : فضل العشر الأوائل من ذي الحجة

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،   أما بعد

إخواني الأفاضل : 

تطلّ على الأمّة الإسلاميّة مواسمُ عظيمة، هي للمؤمنين مغنَمٌ لاكتساب الخَيرات ورفعِ الدّرجات، وفُرصة لتحصيل الحسناتِ والحَطّ من السيِّئات. إنّها أيّام العشرِ الأول من ذي الحجّة، فهي أعظمُ الأيّام عند الله فضلاً وأكثرها أجرًا، روى ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((ما مِن أيّام العمل الصّالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيّامَ العشر، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرج بنفسه ومالِه ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء)) .

وفي رواية للبيهقي " مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الأَضْحَى.." 

وعن ابن عمر –رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم – قال : " مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ.." وفي رواية عند ابن حبان "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ" 

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ , وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ , قَالَ: " وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ , إِلَّا مَنْ عَفَّرَ وَجَهَهُ فِي التُّرَابِ "

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وصف هذه الأيام بجملة من الصفات تبين فضلها على باقي الأيام، فهي " أفضل الأيام" وهي " أعظم الأيام عند الله" وهي أيام العمل الصالح فيها أحب  إلى الله سبحانه وتعالى وأزكى من سواها.

ومن شدة تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم- لهذه الأيام سأل الصحابة رضوان الله عليهم عن تفضيل العمل فيها على الجهاد في سبيل الله، الذي هو من أفضل العمل، فقالوا : " ولا الجهادُ في سبيل الله؟ " 

فكان الجواب منه - صلى الله عليه وسلم- : " ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرج بنفسه ومالِه ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء" 
فدل الحديث على أن العمل الصالح في هذه الأيام المباركة يفضل الجهاد في سبيل الله، إلا لمن خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء، فهو مستثنى من هذه الأفضلية.

ومن فضائل هذه الأيام المباركة :

أن الله سبحانه وتعالى أقسم بها في القرآن الكريم فقال : " وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ" ( الفجر :1-2) قال ابن كثير –رحمه الله- في التفسير: " والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة. كما قاله ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف ." 

وقال ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف ص 595: " وأما الليالي العشر فهي عشر ذي الحجة، هذا الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين من السلف وغيرهم وهو الصحيح عن ابن عباس.." .

ومن فضائل هذه الأيام المباركة :

أنها تحتوي على يوم عرفة، وهو يوم عظيم عند الله، إذ أقسم به في قوله تعالى : " وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ " (البروج:3) وروى الترمذي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ..". 

ومن فضائل هذه الأيام المباركة:

أنها تحتوي على يوم النحر، وهو من أعظم الأيام عند الله سبحانه وتعالى، فروى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ –رضي الله عنه - عَنِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ" 

ومن فضائل هذه الأيام المباركة:

أنّها تجتمع فيها أعظم الأعمال ومنها الصلاة والنحر، وقد أمر الله بها في كتابه فقال : "  فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ" ( الكوثر:2) ، قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في التفسير: " خص هاتين العبادتين بالذكر، لأنهما من أفضل العبادات وأجل القربات، ولأن الصلاة تتضمن الخضوع في القلب والجوارح لله، وتنقلها في أنواع العبودية، وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من النحائر، وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به."

وكذلك تجتمع فيها أصول العبادات، قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: (والذي يظهَر أنّ السببَ في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازاتِ لِمَكان اجتماع أمّهات العبادة فيها، وهي الصّلاة والصّيام والصّدقة والحجّ وغيرها، ولا يتأتّى ذلك في غيرها" انتهى.

ومن فضائل هذه الأيام المباركة:

أنها أيام وفود المسلمين على بيت الله تعالى، مستجيبين لنداء الله بالحج، في قوله تعالى : "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ" (الحج:27-28) ، وفي الحديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :"الحجاج و العمار وفد الله ، دعاهم فأجابوه ، سألوه فأعطاهم " .

فعلى المسلم أن يبادر إلى الأعمال الصالحات في هذه الأيام من زيادة في النوافل وقراءة القرآن وذكر الله وكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .

 وإن أفضل ما تقرب به العبد من الأعمال فرائض الله قال الله تعالى في الحديث القدسي :"  وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ " 

وإن مما يشرع فعله في هذه الأيّام الصيام ،  فروى أبو داود عن بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم أنّه صلى الله عليه وسلم كان يصوم تسعَ ذي الحجة. " 

وآكد الأيام صياماً في هذه العشر يوم عرفة، فإنه يوم مشهود معظم عند أهل السماء والأرض، وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في صيامه فقال : "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ .

ومن العبادات في هذه العشر الإكثار من التكبير، قَالَ تَعَالَى:( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على اغتنام هذه الأيام المباركة بالذكر، فروى أحمد وغيره عَنِ ابْنِ عُمَرَ-رشي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: " مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ "

وقال البخاريّ في صحيحه: (كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السّوق في أيّام العشر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتكبيرهما" 

والتكبيرُ  مطلقٌ ومقيّد، فالمطلق يكونُ في جميع الأوقات في الليل والنهار من مدّة العشر، والمقيّد هو الذي يكون في أدبارِ الصّلواتِ ، مِن صُبح يومِ عرفة إلى عصرِ آخر أيّام التشريق. 

ومن العبادات في هذه الأيام الدعاء وخصوصا يوم عرفة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"

ومن أنواع العبادات التي تؤدى في هذه الأيام المباركة عبادة النحر وهي الأضحية ، والأضحية كما قال أهل العلم من أفضل العبادات المالية ولهذا جمع الله بينها وبين الصلاة التي هي أجل العبادات البدنية في آية واحدة فقال تعالى " {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر:2) 

والسلف رحمهم الله لما عرفوا قدر هذه الأيام الفاضلة عند الله اغتنموها بالعمل صالح، فعند البيهقي أن سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادا شديدا, حتى ما يكاد يقدر عليه.

فاغتنِموا ـ رحمكم الله ـ هذه الأيامَ بالاجتهاد في العبادةِ بشتّى أنواعها والأعمال الصالحة بمختلف صوَرِها، فنبيُّكم صلى الله عليه وسلم  يروي عن ربِّه عزّ وجلّ قوله: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمَد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه)).

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .

والحمد لله رب العالمين .

الخميس، 21 يوليو 2016

خطبة جمعة : الثقة بالله

الخطبة الأولى :
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اعلموا رحمكم الله أن العبد المؤمن يقر ويعتقد بأن الله سبحانه وتعالى هو خالق الخلق، ومدبر شؤونهم، حياة وإماتة، وصحة وسقما، وخيرا وشرا، فالْكَوْنَ يَجْرِي وَفْقَ تَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَمُرَادِ الْخَبِيرِ الْحَكِيمِ، وَأَمْرِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وهذا يوجب على العبد تمام الثقة بربه والتوكل عليه سبحانه، وكمال التسليم والانقياد والرضى بقضاء الله وقدره، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم يعلم ابن عباس كلمات عظيمة تدل على هذه المعاني وتزرعها في قلبه وهو صغير السن لينشأ عليها، فروى الإمام أحمد والترمذي عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قَالَ : كنت خلف النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوماً ، فَقَالَ : (( يَا غُلامُ ، إنِّي أعلّمُكَ كَلِمَاتٍ : احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، إِذَا سَألْتَ فَاسأَلِ الله، وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ، وَاعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبهُ اللهُ لَكَ، وَإِن اجتَمَعُوا عَلَى أنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحفُ " ، فما احوجنا أن نتعلم هذه الكلمات ونعلمها أبناءنا لينشؤوا على الثقة بالله تعالى. 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الثِّقَةَ بِاللَّهِ تَعَالَى نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمِنْحَةٌ كَبِيرَةٌ، تَفْتَحُ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالأَمَلِ، وَتَدْفَعُ أَسْبَابَ الْيَأْسِ وَالْكَسَلِ، وَتُوجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ حُسْنَ التَّوَكُّلِ، وَالِإخْلاَصَ فِي الْعَمَلِ، وَالتَّفْوِيضَ لِمَا قَضَى بِهِ رَبُّ الْعِبَادِ فِي الأَزَلِ، وَعِبَادَةَ اللَّهِ، وَالاِسْتِعَانَةَ بِهِ وَحْدَهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، كَمَا يَقْرَأُ الْمُسْلِمُ فِي كُلِّ صَلاَة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال ابن القيم: " وَالِاسْتِعَانَةُ تَجْمَعُ أَصْلَيْنِ: الثِّقَةُ بِاللَّهِ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ " ، والْعَبْدَ إِذَا وَثِقَ بِرَبِّهِ، انْقَادَ لَهُ فِي كُلِّ أُمُورِهِ، وَفَوَّضَ الأَمْرَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي جَمِيعِ شُؤُونِهِ، مُمْتَثِلاً قَوْلَهُ تَعَالَى:( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) ، وهذه هي حقيقة التوكل وخلاصته ولبه، فيتبرأ العبد من الحول والقوة، ويفوض الأمر إلى ربه سبحانه، فيحمله ذلك على الإقبال عليه وعبادته، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يجمع بين العبادة والتوكل في أكثر من آية منها قوله تعالى : وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ " 

والتوكل على الله والثقة به يحمل المؤمن على حسن الظَّنِّ بربه سُبْحَانَهُ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ وَاثِلَةَ بْنَ الأَسْقَعِ دَخَلَ عَلَى يَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ يُرِيدُ عِيَادَتَهُ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ ظَنُّكَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: ظَنِّي بِاللَّهِ وَاللَّهِ حَسَنٌ. قَالَ: فَأَبْشِرْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ خَيْرًا، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا" فَظُنُوا بِاللَّهِ تَعَالَى الظَّنَّ الْحَسَنَ، وَثِقُوا بِهِ سُبْحَانَهُ فِي الْمِنَنِ وَالْمِحَنِ.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الثِّقَةَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَصِدْقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؛ هِيَ شِعَارُ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَدِثَارُ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، فَهَذَا الْخَلِيلُ إِبْرَاهِيمُ، يَضْرِبُ أَبْلَغَ الْمَثَلِ لِلثِّقَةِ وَالتَّسْلِيمِ (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وَمِنْ كَمَالِ ثِقَتِهِ بِرَبِّهِ، وَتَمَامِ تَسْلِيمِهِ لأَمْرِهِ؛ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَوَّأَ لَهُ مَكَانَ الْبَيْتِ، مَضَى بِزَوْجَتِهِ هَاجَرَ وَبِطِفْلِهَا الرَّضِيعِ إِلَى قَفْرَاءَ قَاحِلَةٍ، بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا! فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا! فَقَالَتْ لَهُ: أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا اللَّهُ.
يَا لَهَا مِنْ ثِقَةٍ رَاسِخَةٍ كَالْجِبَالِ، دَفَعَتْ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لِلتَّسْلِيمِ لأَمْرِ اللَّهِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، فَعِنْدَمَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا لَنْ يُضَيِّعَنَا اللَّهُ؛ لَمْ يَكُنْ يَدُورُ فِي خَلَدِهَا أَنَّ مَاءَ زَمْزَمَ سَتَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْ ابْنِهَا، لِتَرْوِيَ ظَمَأَهَا وَتُشْبِعَ رَضِيعَهَا.
ونبي الله موسى عليه قد أدركه فرعون وجنوده من خلفه، والبحر أمامه، وظن أصحابه الهلاك كما قال سبحانه " فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ " ولكن موسى عليه السلام الواثق بربه قال : " قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ "

وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم القدوة لنا في الثقة بربه والتوكل عليه، يبشر أمته بالعزة والتمكين قبل أن تحقق بسنين، فقال : " لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ " ، ومن تأمل في سيرته وغزواته رأى ثقته بربه في أكمل صورها، فلما كان في الغار وقد وصل المشركون إلى بابه، فقال أبو بكر رضي الله عنه :لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟»  هنا تظهر قوة الإيمان وتام الثقة بالله سبحانه

وفي بدر بعد أن أخذ بالأسباب ودعا ربه سبحانه أوحى الله إلى ملائكته " إذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ" وأوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "

قال ابن القيم : وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ حَسَنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ، حَسَنَ الرَّجَاءِ لَهُ، صَادِقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخَيِّبُ أَمَلَهُ فِيهِ الْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُخَيِّبُ أَمَلَ آمِلٍ، وَلَا يُضَيِّعُ عَمَلَ عَامِلٍ"

ثم اعْلَمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ أَنَّ ثِقَتَكَ بِرَبِّكَ تَسْتَلْزِمُ أَنْ تَثِقَ بِكَلاَمِهِ، وَتَعْمَلَ بِقُرْآنِهِ، وَتَتَّبِعَ هَدْيَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَإذَا وَقَعْتَ فِي الْخَطَايَا فَأَقْبِلْ عَلَى غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ، وَاثِقاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى:( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) وَإِذَا أَصَابَتْكَ الْبَلاَيَا وَالْكُرُبَاتُ، وَغَشِيَتْكَ الْخُطُوبُ وَالظُّلُمَاتُ، فَكُنْ مِنَ الْوَاثِقِينَ، الصابرين الموقنين بأن مع اليسر يسرا، ولن يغلب عسر يسرين.

وإذا مرضت فثق بأنه خير لك عجله الله لك في الدنيا يكفر الله به من خطاياك ويرفع به درجاتك، وتأملوا في الحمى التي يكثر الابتلاء بها قال صلى الله عليه وسلم عنها: لا تسبوا الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد " وقال : الحمى حظ المؤمن من النار يوم القيامة "

وإذا أصابتك قلة في المال ورأيت الناس يستكثرون منه، وتغدق عليهم العطايا فثق بربك أن المال ماله، والرزق زرقه يهبه لمن شاء بحكمته وخبرته قال تعالى :" إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا "


الخطبة الثانية : اعلموا رحمكم الله أن الثقة بالله ليس معناها العجز والكسل عن العمل، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْوَاثِقَ بِاللَّهِ قَدْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَوَثِقَ بِاللَّهِ فِي طُلُوعِ ثَمَرَتِهِ، وَتَنْمِيَتِهَا وَتَزْكِيَتِهَا، كَغَارِسِ الشَّجَرَةِ، وَبَاذِرِ الْأَرْضِ. وَالْمُغْتَرُّ الْعَاجِزُ قَدْ فَرَّطَ فِيمَا أُمِرَ بِهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ وَاثِقٌ بِاللَّهِ. وَالثِّقَةُ إِنَّمَا تَصِحُّ بَعْدَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ.

والواثق بالله تعالى لا يخاف إلا الله سبحانه وتعالى، وتأملوا حال إبراهيم عليه السلام وقد ألقاه قومه في النار فقال : حسبي الله ونعم الوكيل ، فروى البخاري في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِىَ فِى النَّارِ حَسْبِىَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " فما هي النتيجة والعاقبة التي حصلها إبراهيم عليه السلام نتيجة ثقته بربه قال تعالى : قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ، وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ، وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ "

وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يتعرض وأصحابه للهجوم من الكفار يوم أحد، ويقتل منهم سبعون، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الخروج لتتبع قريش خَوَفَهم المنافقون، قال تعالى "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" ، فما هي الثمرة قال سبحانه : فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ"

فمن أهم ثمرات الثقة بالله إقبال العبد على ربه وتوكله عليه وحسن عبادته له، وحسن ظنه بربه، وهذه الأمور تجمع للعبد كمالات الدين وتوصله لأعلى عليين، درجات النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا


خطبة جمعة : تحقيق تقوى الله في زمن الفتن

الخطبة الأولى : أيها المسلمون قال الله عز وجل في محكم التنزيل :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ "  ، فهذا خطاب من الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين الذين صدقوا في إيمانهم بأن يتقوا الله حق التقوى فيخافوه في السر والعلن بأن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى ويكون ذلك إلى الممات (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) أي مذعنون له بالطاعة مخلصون له بالتوحيد والعبادة مجتنبون للشرك والمعاصي ، فبذلك يحصل الفوز في الدنيا والآخرة كما قال تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" 

جماعة المسلمين : ما هي التقوى التي يأمرنا الله ورسوله بها ؟ هي العمل بطاعة الله إيمانا واحتسابا وأمرا ونهيا ، فيفعل ما أمر الله به إيمانا بالأمر وتصديقا بوعده ويترك ما نهى الله عنه إيمانا بالنهي وخوفا من وعيده ، كما قال طلق بن حبيب " إذا وقعت الفتنة فادفعوها بالتقوى " قالوا : وما التقوى ؟ قال " أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وان تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله  "  

قال ابن القيم رحمه الله " وهذا من أحسن ما قيل في حد التقوى ، فإن كل عمل لا بد له من مبدأ وغاية فلا يكون العمل طاعة وقربةً حتى يكون مصدره عن الإيمان، فيكون الباعث عليه هو الإيمان المحض، لا العادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك، بل لا بد أن يكون مبدؤه محض الإيمان وغايته ثواب الله تعالى وابتغاء مرضاته وهو الحساب  "  ا . هـ

عباد الله ، إنما تتحقق التقوى لله تعالى بفعل الواجبات وترك المحرمات فالمتقي لله تعالى حق التقوى هو الذي يأتي بأركان الإسلام الخمسة فيصلي الصلوات الخمس مع الجماعة وفي وقتها ويزكي ماله ويصوم رمضان ويحج بيت الله الحرام .
وأول واجب على العبد فعله هو أن يوحد الله تعالى في عبادته ولا يشرك معه أحدا كائنا من كان ، فعن معاذ بن جبل قال : ينادى يوم القيامة :أين المتقون ؟ فيقومون في كنف الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر ، قالوا له : من المتقون ؟ قال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة  

وفي الأمر بالتقوى وصية بطلب العلم الشرعي علم الحلال والحرام علم الواجبات والمناهي قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله " أصل التقوى أن يعلم العبد ما يُتَقى ثم يَتقي ، وعن بكر بن خنيس قال " كيف يكون متقيا من لا يدري ما يتقي "

فتعلموا رحمكم الله العلم الشرعي الصحيح الذي يرشدكم إلى أداء العبادات على الوجه المرضي والمقبول عند الله تفلحوا في الدنيا والآخرة وتنالوا التقوى التي هي السبيل إلى الجنة قال تعالى {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا}  

أيها المسلمون : إذا اتقى العبد ربه يسر له الله أمره وفرج كربه وجعل له من هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا قال تعالى {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } وقال سبحانه (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}

بالتقوى ينجو العبد من نار جهنم قال تعالى   (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجّي الَّذينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظّالِمينَ فيها جِثِيّاً )

بالتقوى ينال العبد رحمة الله {واكْتُبْ لَنا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفي الْآخِرَةِ إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابي أُصيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذينَ يَتَّقونَ وَيُؤْتونَ الزَّكاةَ والَّذينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنونَ ) 

عباد الله : أمرنا الله عز وجل بالتزود من التقوى لأننا على سفر نوشك أن نصل إلى منتهانا وهو الموت فمن مات فقد قامت قيامته ولا يدري العبد متى أجله قال تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (18) سورة الحشر
  


الخطبة الثانية : أيها المسلمون : لقد أوضح التابعي طلق بن حبيب يرحمه الله- في وصيته طريق النجاة من الفتن وهو تحقيق تقوى الله عز وجل في حال وقوع الفتنة، ويتحقق ذلك بما وضحه ابن القيم رحمه الله بأن تكون أعمال المكلفين عموما وفي زمن الفتن خصوصا الباعث عليها الإيمان المحض أي بالإخلاص لله تعالى، وليس لمجرد الهوى أو طلب محمدة أو رياسة.

وقد قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى بعدما نقل وصية طلق بن حبيب : (قلت: أبدع وأوجز، فلا تقوى إلا بعمل، ولا عمل إلا بترو من العلم والإتباع ... ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله .."

أيها المسلمون: لأجل تحقيق تقوى الله في زمن الفتنة، لا بد من التزام المسلم بأمر الله ونهج رسوله صلى الله عليه وسلم، ليكون من المتقين.

ففما أمرنا به شرعنا الحنيف في زمن الفتن لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، تحقيقا لقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا "، والمراد بأولي الأمر في الآية أمراء المسلمين ، فقد بوب البخاري في كتاب الأحكام من صحيحه فقال : باب قول الله تعالى (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال ابن حجر : وفي هذا إشارة من المصنف رحمه الله إلى ترجيح القول الصائر إلى أن الآية نزلت في طاعة الأمراء " ثم روى  عن أبي هريرة رضي الله عنه قال في قوله (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) هم الأمراء .  قال ابن حجر في الفتح (إسناده صحيح ) .

وهذا هو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حال وقوع الفتن واضطراب الناس فروى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يَكُونُ بَعْدِى أَئِمَّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَاىَ وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِى وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِى جُثْمَانِ إِنْسٍ ». قُلْتُ : كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ :« تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ ». وفي رواية عند البخاري قال حذيفة : فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ ( نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا ). قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا فَقَالَ ( هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا )قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ قَالَ ( تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ ) . قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ قَالَ ( فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا ، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ ) . فهذه هي وصايا نبينا صلوات الله وسلامه عليه في حال وقوع الفتن بأن يلزم المسلم جماعة المسلمين وإمامهم ولا يخرج عليه، بل أوصى عند عدم وجود الإمام وجماعة المسلمين بأن يعتزل جميع تلكم الفرق والأحزاب، وأن لا ينظم تحت راياتها.  

فأين الخوارج من هذا الهدي الشرعي في التعامل في زمن الفتنة، بل نراهم يؤسسون أحزابا وتجمعات بأسماء براقة وشعارات مبهرجة تهدف إلى معارضة ولي أمر المسلمين وتفريق صفهم، فهؤلاء قد حادوا عن تقوى الله تعالى بل حادوا الله ورسوله، ولو كانوا من رؤوس الإصلاح والدعوة، فقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج على الرغم من شدة عبادتهم وقراءتهم، روى أبو داود عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « سَيَكُونُ فِى أُمَّتِى اخْتِلاَفٌ وَفُرْقَةٌ قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ لاَ يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِى شَىْءٍ مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ ».  وفي رواية قال (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصومه مع صومهم ) ومع ذلك ذمهم صلوات الله وسلامه عليه لأنهم خالفوا الهدي الشرعي في التعامل زمن الفتن.

فالواجب على المسلمين عموما وفي هذه البلاد خصوصا الالتفاف حول ولي أمرهم وعدم منازعته حكمه وسلطانه، ومن أراد نصحه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح فليسلك الطريق الشرعي في ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ، فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ، فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ " .

قال ابن مسعود رضي الله عنه- : عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ ، وَقَبْضُهُ أَنْ يُذْهَبَ بِأَصْحَابِهِ ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِى مَتَى يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ أَوْ يُفْتَقَرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ ، وَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَاماً يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ .




خطبة جمعة : خلق الأمانة

الخطبة الأولى : قال الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل :" إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا " ، قال المفسر عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية " يعظم الله شأن الأمانة التي ائتمن الله عليها المكلفين التي هي امتثال الأوامر واجتناب المحارم ، في حال السر والخفية كحال العلانية ، وأنه تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة السماوات والأرض والجبال ، عرض تخيير لا تحتيم  .. ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، خوفا أن لا يقمن بما حُملنَ، لا عصيانا لربهن، ولا زهداً في ثوابه  ، وعرضها الله على الإنسان على ذلك الشرط المذكور ( يعني القيام بحقها من طاعة الله فيما أمر وترك ما نهى عنه ورسوله ) فقبلها وحملها مع ظلمه وجهله ... " أ .هـ [1]

عباد الله : لقد أمرنا الله بحفظ الأمانة ورعايتها والقيام بها وأدائها إلى أصحابها, وأخبر سبحانه وتعالى أن القيام بها والعناية بها شيمة من شيم المؤمنين، وخصلة من خصال الأخيار الصالحين، فقال في كتابه المبين وهو يُثني على عباده المفلحين "وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ " " أي مراعون لها ضابطون حافظون حريصون على القيام بها وتنفيذها ، وهذا عام في جميع الأمانات التي هي حق لله والتي هي حق للعباد "[2]

والأمانة مما حث عليها نبينا صلى الله عليه وسلم وأمر بالالتزام بها وجعل جزاء الوفاء بها الجنة ، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اضْمَنُوا لِى سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ  " وفي رواية عن أنس قال وإذا ائتمن فلا يخن "[3]

والأمانة من الصفات الحميدة التي اتصف بها الأنبياء والرسل فوصف الله بها نبيه نوح فقال تعالى "إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ" ، ووصف بها هودا فقال: "إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ " ، وكذلك وصف بها لوطا وشعيبا وداود عليهم الصلاة والسلام،  ووصف الله بالأمانة جبريل عليه السلام ملك الوحي فقال " وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ "  ، ولقد كان خلق الأمانة بارزا في شخص رسولنا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، فقد كان معروفا بالصادق الأمين.

  فالأمانة من صفات أهل الخير والصلاح  ، وضدها الخيانة التي هي من صفات أهل الشر والنفاق .

و قد نهى الله ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن خيانة الأمانة قال تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ"  قال السدي " إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم "

وجعلها صلى الله عليه وسلم من صفات أهل الشر فروى البخاري في صحيحه من حديث عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَنْذُرُونَ وَلَا يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ .

وخيانة الأمانة من صفات المنافقين التي يعرفون بها فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ . وفي رواية لمسلم " وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم .

وحذر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من تضييع الأمانة فقال رضي الله عنه " القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة  ، يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله فيقال : أدً أمانتك ، فيقول أي رب كيف وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال انطلقوا به إلى الهاوية ، فينطلق به إلى الهاوية وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيراها فيعرفها فيهوي في أثرها حتى يدركها فيحملها على منكبيه حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين  ثم قال " الصلاة أمانة ، والوضوء أمانة ، والوزن أمانة ، والكيل أمانة ، وأشد ذلك الودائع " [4]

أيها المسلمون، إن الأمانة مسئولية عظيمة وعبء ثقيل إلا من أعانه الله عليها. وأكثر الناس اليوم لا يعرف عن الأمانة إلا أنها أداء الودائع التي استودع إياها من قبل الناس ( وهو أشد أنواع الأمانة كما أخبر عبد الله بن مسعود )، وهذا المفهوم هو جزء من مفهوم الأمانة الحقيقية، فالأمانة بمفهومها الشرعي الصحيح التزام الإنسان المسلم بالقيام بحق الله وعبادته على الوجه الذي شرعه الله مخلصاً له الدين ، و الالتزام بالقيام بحقوق الناس من غير تقصير .

وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه، وجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه. والله أعلم 

  
الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : قال ابن مسعود رضي الله عنه " الصلاة أمانة ، والوضوء أمانة ، والوزن أمانة ، والكيل أمانة ، وأشد ذلك الودائع " فالصلاة يا عباد الله أمانة في عنق المسلم لا بد أن يأتي بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، قال النبي صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي " والوضوء والغسل من الجنابة أمانة عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمَانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وُضُوئِهِنَّ وَرُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَمَوَاقِيتِهِنَّ وَصَامَ رَمَضَانَ وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَأَعْطَى الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ قيل يا رسول الله وما أداء الأمانة ؟ قال " الغسل من الجنابة ، إن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها "  ، وجميع العبادات أمانة في أعناقنا يجب أن تؤدى بإخلاص وكما جاء الأمر بها .

و الموظف وظيفته أمانة في عنقه يجب عليه أن يتقي الله عز وجل في ذلك، وأن يقوم بأداء ما أسند إليه من عمل على أكمل وجه وأتمه، فحرص الإنسان على أداء واجبه كاملاً في العمل الذي يوكل إليه مظهر من مظاهر الأمانة.

أيها المسلمون، ومن الأمانة أيضاً حفظ العبد جوارحه وحواسه ومعرفته نعم الله عليه في نفسه وأهله وماله، ومن أدى هذه الأمانة فإنه لا يختار لنفسه إلا الأنفع، ومن الخيانة أن يستسلم المرء لشهواته ويخضع لكل رغباته ويقصر في شئون آخرته.

وأحوال البيت وأمور الأسرة أمانات محفوظة وحرمات مصونة يجب أن تحفظ بستر الله، والمرأة إذا حفظت نفسها وبرت زوجها وأدت حق ربها لم يكن بينها وبين الجنة إلا الأجل.

ومن الأمانة أيضاً: التجارة في البيع والشراء فلا يغش المسلمين في بيعه ولا يبخس منه شيئاً ولا يتاجر بما يضر المسلمين في دينهم ودنياهم.

ومن الأمانة أيضا إيصال الحقوق إلى أصحابها، وإعطاء كل ذي حق حقه، ومن خيانة الأمانة عدم إعطاء العمال والخدم أجورهم ورواتبهم، أو ظلمهم وبخس حقوقهم. 

ومن الأمانة أيضاً  المحافظة على الأبناء وتربيتهم تربية سليمة وتنشئتهم على الأخلاق الفاضلة وتذكيرهم بثواب الله وتخويفهم من عقاب الله حتى ينشأ الفتى دائم المراقبة لله عز وجل.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ .

نسأل الله تعالى أن يرزقنا حفظ الأمانة وأن يعيننا على أدائها وأن يوفقنا جميعا لطاعته والسير على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ..





[1]  - تفسير السعدي /الأحزاب / الآية 72 بتصرف يسير ص 620
[2]  -المصدر السابق ص 497
[3]  - صيح الترغيب 3/ 121 حديث 2925
[4]  - حسن صحيح الترغيب 3/152