الخميس، 21 يوليو 2016

خطبة جمعة : تحقيق تقوى الله في زمن الفتن

الخطبة الأولى : أيها المسلمون قال الله عز وجل في محكم التنزيل :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ "  ، فهذا خطاب من الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين الذين صدقوا في إيمانهم بأن يتقوا الله حق التقوى فيخافوه في السر والعلن بأن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى ويكون ذلك إلى الممات (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) أي مذعنون له بالطاعة مخلصون له بالتوحيد والعبادة مجتنبون للشرك والمعاصي ، فبذلك يحصل الفوز في الدنيا والآخرة كما قال تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" 

جماعة المسلمين : ما هي التقوى التي يأمرنا الله ورسوله بها ؟ هي العمل بطاعة الله إيمانا واحتسابا وأمرا ونهيا ، فيفعل ما أمر الله به إيمانا بالأمر وتصديقا بوعده ويترك ما نهى الله عنه إيمانا بالنهي وخوفا من وعيده ، كما قال طلق بن حبيب " إذا وقعت الفتنة فادفعوها بالتقوى " قالوا : وما التقوى ؟ قال " أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وان تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله  "  

قال ابن القيم رحمه الله " وهذا من أحسن ما قيل في حد التقوى ، فإن كل عمل لا بد له من مبدأ وغاية فلا يكون العمل طاعة وقربةً حتى يكون مصدره عن الإيمان، فيكون الباعث عليه هو الإيمان المحض، لا العادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك، بل لا بد أن يكون مبدؤه محض الإيمان وغايته ثواب الله تعالى وابتغاء مرضاته وهو الحساب  "  ا . هـ

عباد الله ، إنما تتحقق التقوى لله تعالى بفعل الواجبات وترك المحرمات فالمتقي لله تعالى حق التقوى هو الذي يأتي بأركان الإسلام الخمسة فيصلي الصلوات الخمس مع الجماعة وفي وقتها ويزكي ماله ويصوم رمضان ويحج بيت الله الحرام .
وأول واجب على العبد فعله هو أن يوحد الله تعالى في عبادته ولا يشرك معه أحدا كائنا من كان ، فعن معاذ بن جبل قال : ينادى يوم القيامة :أين المتقون ؟ فيقومون في كنف الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر ، قالوا له : من المتقون ؟ قال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة  

وفي الأمر بالتقوى وصية بطلب العلم الشرعي علم الحلال والحرام علم الواجبات والمناهي قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله " أصل التقوى أن يعلم العبد ما يُتَقى ثم يَتقي ، وعن بكر بن خنيس قال " كيف يكون متقيا من لا يدري ما يتقي "

فتعلموا رحمكم الله العلم الشرعي الصحيح الذي يرشدكم إلى أداء العبادات على الوجه المرضي والمقبول عند الله تفلحوا في الدنيا والآخرة وتنالوا التقوى التي هي السبيل إلى الجنة قال تعالى {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا}  

أيها المسلمون : إذا اتقى العبد ربه يسر له الله أمره وفرج كربه وجعل له من هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا قال تعالى {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } وقال سبحانه (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}

بالتقوى ينجو العبد من نار جهنم قال تعالى   (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجّي الَّذينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظّالِمينَ فيها جِثِيّاً )

بالتقوى ينال العبد رحمة الله {واكْتُبْ لَنا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفي الْآخِرَةِ إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابي أُصيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذينَ يَتَّقونَ وَيُؤْتونَ الزَّكاةَ والَّذينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنونَ ) 

عباد الله : أمرنا الله عز وجل بالتزود من التقوى لأننا على سفر نوشك أن نصل إلى منتهانا وهو الموت فمن مات فقد قامت قيامته ولا يدري العبد متى أجله قال تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (18) سورة الحشر
  


الخطبة الثانية : أيها المسلمون : لقد أوضح التابعي طلق بن حبيب يرحمه الله- في وصيته طريق النجاة من الفتن وهو تحقيق تقوى الله عز وجل في حال وقوع الفتنة، ويتحقق ذلك بما وضحه ابن القيم رحمه الله بأن تكون أعمال المكلفين عموما وفي زمن الفتن خصوصا الباعث عليها الإيمان المحض أي بالإخلاص لله تعالى، وليس لمجرد الهوى أو طلب محمدة أو رياسة.

وقد قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى بعدما نقل وصية طلق بن حبيب : (قلت: أبدع وأوجز، فلا تقوى إلا بعمل، ولا عمل إلا بترو من العلم والإتباع ... ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله .."

أيها المسلمون: لأجل تحقيق تقوى الله في زمن الفتنة، لا بد من التزام المسلم بأمر الله ونهج رسوله صلى الله عليه وسلم، ليكون من المتقين.

ففما أمرنا به شرعنا الحنيف في زمن الفتن لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، تحقيقا لقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا "، والمراد بأولي الأمر في الآية أمراء المسلمين ، فقد بوب البخاري في كتاب الأحكام من صحيحه فقال : باب قول الله تعالى (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال ابن حجر : وفي هذا إشارة من المصنف رحمه الله إلى ترجيح القول الصائر إلى أن الآية نزلت في طاعة الأمراء " ثم روى  عن أبي هريرة رضي الله عنه قال في قوله (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) هم الأمراء .  قال ابن حجر في الفتح (إسناده صحيح ) .

وهذا هو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حال وقوع الفتن واضطراب الناس فروى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يَكُونُ بَعْدِى أَئِمَّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَاىَ وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِى وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِى جُثْمَانِ إِنْسٍ ». قُلْتُ : كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ :« تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ ». وفي رواية عند البخاري قال حذيفة : فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ ( نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا ). قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا فَقَالَ ( هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا )قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ قَالَ ( تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ ) . قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ قَالَ ( فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا ، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ ) . فهذه هي وصايا نبينا صلوات الله وسلامه عليه في حال وقوع الفتن بأن يلزم المسلم جماعة المسلمين وإمامهم ولا يخرج عليه، بل أوصى عند عدم وجود الإمام وجماعة المسلمين بأن يعتزل جميع تلكم الفرق والأحزاب، وأن لا ينظم تحت راياتها.  

فأين الخوارج من هذا الهدي الشرعي في التعامل في زمن الفتنة، بل نراهم يؤسسون أحزابا وتجمعات بأسماء براقة وشعارات مبهرجة تهدف إلى معارضة ولي أمر المسلمين وتفريق صفهم، فهؤلاء قد حادوا عن تقوى الله تعالى بل حادوا الله ورسوله، ولو كانوا من رؤوس الإصلاح والدعوة، فقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج على الرغم من شدة عبادتهم وقراءتهم، روى أبو داود عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « سَيَكُونُ فِى أُمَّتِى اخْتِلاَفٌ وَفُرْقَةٌ قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ لاَ يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِى شَىْءٍ مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ ».  وفي رواية قال (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصومه مع صومهم ) ومع ذلك ذمهم صلوات الله وسلامه عليه لأنهم خالفوا الهدي الشرعي في التعامل زمن الفتن.

فالواجب على المسلمين عموما وفي هذه البلاد خصوصا الالتفاف حول ولي أمرهم وعدم منازعته حكمه وسلطانه، ومن أراد نصحه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح فليسلك الطريق الشرعي في ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ، فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ، فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ " .

قال ابن مسعود رضي الله عنه- : عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ ، وَقَبْضُهُ أَنْ يُذْهَبَ بِأَصْحَابِهِ ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِى مَتَى يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ أَوْ يُفْتَقَرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ ، وَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَاماً يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق