الخميس، 21 يوليو 2016

خطبة جمعة : خلق الأمانة

الخطبة الأولى : قال الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل :" إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا " ، قال المفسر عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية " يعظم الله شأن الأمانة التي ائتمن الله عليها المكلفين التي هي امتثال الأوامر واجتناب المحارم ، في حال السر والخفية كحال العلانية ، وأنه تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة السماوات والأرض والجبال ، عرض تخيير لا تحتيم  .. ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، خوفا أن لا يقمن بما حُملنَ، لا عصيانا لربهن، ولا زهداً في ثوابه  ، وعرضها الله على الإنسان على ذلك الشرط المذكور ( يعني القيام بحقها من طاعة الله فيما أمر وترك ما نهى عنه ورسوله ) فقبلها وحملها مع ظلمه وجهله ... " أ .هـ [1]

عباد الله : لقد أمرنا الله بحفظ الأمانة ورعايتها والقيام بها وأدائها إلى أصحابها, وأخبر سبحانه وتعالى أن القيام بها والعناية بها شيمة من شيم المؤمنين، وخصلة من خصال الأخيار الصالحين، فقال في كتابه المبين وهو يُثني على عباده المفلحين "وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ " " أي مراعون لها ضابطون حافظون حريصون على القيام بها وتنفيذها ، وهذا عام في جميع الأمانات التي هي حق لله والتي هي حق للعباد "[2]

والأمانة مما حث عليها نبينا صلى الله عليه وسلم وأمر بالالتزام بها وجعل جزاء الوفاء بها الجنة ، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اضْمَنُوا لِى سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ  " وفي رواية عن أنس قال وإذا ائتمن فلا يخن "[3]

والأمانة من الصفات الحميدة التي اتصف بها الأنبياء والرسل فوصف الله بها نبيه نوح فقال تعالى "إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ" ، ووصف بها هودا فقال: "إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ " ، وكذلك وصف بها لوطا وشعيبا وداود عليهم الصلاة والسلام،  ووصف الله بالأمانة جبريل عليه السلام ملك الوحي فقال " وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ "  ، ولقد كان خلق الأمانة بارزا في شخص رسولنا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، فقد كان معروفا بالصادق الأمين.

  فالأمانة من صفات أهل الخير والصلاح  ، وضدها الخيانة التي هي من صفات أهل الشر والنفاق .

و قد نهى الله ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن خيانة الأمانة قال تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ"  قال السدي " إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم "

وجعلها صلى الله عليه وسلم من صفات أهل الشر فروى البخاري في صحيحه من حديث عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَنْذُرُونَ وَلَا يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ .

وخيانة الأمانة من صفات المنافقين التي يعرفون بها فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ . وفي رواية لمسلم " وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم .

وحذر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من تضييع الأمانة فقال رضي الله عنه " القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة  ، يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله فيقال : أدً أمانتك ، فيقول أي رب كيف وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال انطلقوا به إلى الهاوية ، فينطلق به إلى الهاوية وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيراها فيعرفها فيهوي في أثرها حتى يدركها فيحملها على منكبيه حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين  ثم قال " الصلاة أمانة ، والوضوء أمانة ، والوزن أمانة ، والكيل أمانة ، وأشد ذلك الودائع " [4]

أيها المسلمون، إن الأمانة مسئولية عظيمة وعبء ثقيل إلا من أعانه الله عليها. وأكثر الناس اليوم لا يعرف عن الأمانة إلا أنها أداء الودائع التي استودع إياها من قبل الناس ( وهو أشد أنواع الأمانة كما أخبر عبد الله بن مسعود )، وهذا المفهوم هو جزء من مفهوم الأمانة الحقيقية، فالأمانة بمفهومها الشرعي الصحيح التزام الإنسان المسلم بالقيام بحق الله وعبادته على الوجه الذي شرعه الله مخلصاً له الدين ، و الالتزام بالقيام بحقوق الناس من غير تقصير .

وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه، وجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه. والله أعلم 

  
الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : قال ابن مسعود رضي الله عنه " الصلاة أمانة ، والوضوء أمانة ، والوزن أمانة ، والكيل أمانة ، وأشد ذلك الودائع " فالصلاة يا عباد الله أمانة في عنق المسلم لا بد أن يأتي بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، قال النبي صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي " والوضوء والغسل من الجنابة أمانة عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمَانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وُضُوئِهِنَّ وَرُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَمَوَاقِيتِهِنَّ وَصَامَ رَمَضَانَ وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَأَعْطَى الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ قيل يا رسول الله وما أداء الأمانة ؟ قال " الغسل من الجنابة ، إن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها "  ، وجميع العبادات أمانة في أعناقنا يجب أن تؤدى بإخلاص وكما جاء الأمر بها .

و الموظف وظيفته أمانة في عنقه يجب عليه أن يتقي الله عز وجل في ذلك، وأن يقوم بأداء ما أسند إليه من عمل على أكمل وجه وأتمه، فحرص الإنسان على أداء واجبه كاملاً في العمل الذي يوكل إليه مظهر من مظاهر الأمانة.

أيها المسلمون، ومن الأمانة أيضاً حفظ العبد جوارحه وحواسه ومعرفته نعم الله عليه في نفسه وأهله وماله، ومن أدى هذه الأمانة فإنه لا يختار لنفسه إلا الأنفع، ومن الخيانة أن يستسلم المرء لشهواته ويخضع لكل رغباته ويقصر في شئون آخرته.

وأحوال البيت وأمور الأسرة أمانات محفوظة وحرمات مصونة يجب أن تحفظ بستر الله، والمرأة إذا حفظت نفسها وبرت زوجها وأدت حق ربها لم يكن بينها وبين الجنة إلا الأجل.

ومن الأمانة أيضاً: التجارة في البيع والشراء فلا يغش المسلمين في بيعه ولا يبخس منه شيئاً ولا يتاجر بما يضر المسلمين في دينهم ودنياهم.

ومن الأمانة أيضا إيصال الحقوق إلى أصحابها، وإعطاء كل ذي حق حقه، ومن خيانة الأمانة عدم إعطاء العمال والخدم أجورهم ورواتبهم، أو ظلمهم وبخس حقوقهم. 

ومن الأمانة أيضاً  المحافظة على الأبناء وتربيتهم تربية سليمة وتنشئتهم على الأخلاق الفاضلة وتذكيرهم بثواب الله وتخويفهم من عقاب الله حتى ينشأ الفتى دائم المراقبة لله عز وجل.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ .

نسأل الله تعالى أن يرزقنا حفظ الأمانة وأن يعيننا على أدائها وأن يوفقنا جميعا لطاعته والسير على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ..





[1]  - تفسير السعدي /الأحزاب / الآية 72 بتصرف يسير ص 620
[2]  -المصدر السابق ص 497
[3]  - صيح الترغيب 3/ 121 حديث 2925
[4]  - حسن صحيح الترغيب 3/152 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق