الجمعة، 25 أبريل 2014

خطبة جمعة: الأجر العظيم في معاونة المسلمين

الخطبة الأولى : اعلموا رحمكم الله أننا في هذه الدار مكلفون بعبادة ربنا و طاعتة، ثم سنرجع إليه ليحاسبنا على طاعاتنا، قال سبحانه : " وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" وقال سبحانه في الحديث القدسي: " يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ " ، وفي يوم القيامة يفرح أهل الطاعات والبر بأعمالهم، فيأخذون كتبهم بأيمانهم منقلبين إلى أهلهم في سرور وسعادة قال تعالى  "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ،فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا " وأما من فرط في هذه الدار في اكتساب الحسنات و طاعة رب الأرض والسموات فإنه من النادمين المذلولين الذي يتمنى أن يرجع إلى الدنيا ليزداد من الخير قال سبحانه "وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ"

عباد الله : ولقد علم الله سبحانه ضعف عباده، وتكالب الأعداء عليهم، من النفس الأمارة بالسوء وحبها للشهوات والملذات وشياطين الجن والإنس، فخفف عن العباد في التكاليف، وجعل لهم من الأسباب ما تعظم به أعمالهم وتضاعف به حسناتهم، وترتفع به درجاتهم، قال سبحانه : " يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا" .
ومن الأسباب التي ذكرها أهل العلم في مضاعفة الأجور والحسنات  أن يكون العمل له أثر عظيم ونفع كبير، إذ يتعدى أثره إلى الخلق، كما إذا كان فيه إنجاء من مهلكة وإزالة ضرر عن متضرر، وكشف كرب عن مكروب، فهذا العمل أجره مضاعف بحسب الأثر المرتب عليه وما يقوم في قلب العامل من الإخلاص وحب الخير للآخرين.

روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ "  ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا، أَوْ تُطْرَدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلِأَنْ أَمْشِيَ  مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، شَهْرًا، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلَأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَلْبَهُ رضى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَثْبَتَهَا لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ»

عباد الله : إن فعل الخيرات بمساعدة الخلائق عبادة جليلة اتصف بها خير الناس وأعلاهم منزلة ،  فوصف أهل الجنة بأن من أعمالهم في الدنيا : " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ،إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ، إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا "  فما هو الجزاء على هذا الفعل قال سبحانه : " فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا "

وأخبر صلى الله عليه وسلم عن رجل دخل الجنة لأنه رأى غصن شجرة في طريق الناس فخشي أن يؤذيهم فأزاحه فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: " لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ طَرِيقٍ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ"
 وإزالة الأذى من طريق الناس من أرجى الأعمال وأعظمها عند الله تعالى فعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي - حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا- فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا: أَنَّ الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ .

عباد الله : إن مساعدة الناس ومعاونتهم يجعلُ المجتمعَ مُترابطًا مُتلاحمًا، مُتوادًّا مُتراحمًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:« مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»
فاللهُمَّ أعنا على فعل الخيرات، والبعد عن المنكرات، وزِدْنَا مِنْ فضلِكَ، إِنَّكَ أنتَ الجوادُ الكريمُ


الخطبة الثانية: عباد الله لقد رتب ديينا الإسلامي مضاعفة الأجر والثواب على الأعمال التي يتعدى نفعها للآخرين، ولو كانت في حق البهائم والحيوانات ، فروى البخاري عن أبي هريرة رضيَ اللهُ عنه عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"غُفِرَ لامرأةٍ بَغِيٍّ من بَغَايا بني إسرائيلَ ، مَرَّتْ بكلبٍ على رأسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ، قالَ: كادَ يَقْتُلُهُ العطشُ، فنَزَعَتْ خُفِّها فأوثَقَتْهُ بخِمارِها، فنَزَعَتْ لهُ مِن الماءِ، فسَقَتْهُ، فغُفِرَ لها بذلك" ، قال بعض أهل العلم أي وفقها الله سبحانه وتعالى بهذا العمل وهو سقيها الكلب إلى التوبة من عملها السيئ  ووفقها لعمل الخير.

قال ابن القيم وهو يصف عمل هذه المرأة وسبب فوزها بالمغفرة من الله : " مَا قَامَ بِقَلْبِ الْبَغِيِّ الَّتِي رَأَتْ ذَلِكَ الْكَلْبَ - وَقَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ يَأْكُلُ الثَّرَى - فَقَامَ بِقَلْبِهَا ذَلِكَ الْوَقْتَ - مَعَ عَدَمِ الْآلَةِ، وَعَدَمِ الْمُعِينِ وَعَدَمِ مَنْ تُرَائِيهِ بِعَمَلِهَا - مَا حَمَلَهَا عَلَى أَنْ غَرَّرَتْ بِنَفْسِهَا فِي نُزُولِ الْبِئْرِ، وَمَلْءِ الْمَاءِ فِي خُفِّهَا، وَلَمْ تَعْبَأْ بِتَعَرُّضِهَا لِلتَّلَفِ، وَحَمْلِهَا خُفَّهَا بِفِيهَا، وَهُوَ مَلْآنٌ، حَتَّى أَمْكَنَهَا الرُّقِيُّ مِنَ الْبِئْرِ، ثُمَّ تَوَاضُعُهَا لِهَذَا الْمَخْلُوقِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِضَرْبِهِ، فَأَمْسَكَتْ لَهُ الْخُفَّ بِيَدِهَا حَتَّى شَرِبَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَرْجُوَ مِنْهُ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، فَأَحْرَقَتْ أَنْوَارُ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ التَّوْحِيدِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا مِنَ الْبِغَاءِ، فَغُفِرَ لَهَا"

ومثل ذلك كذلك ما رواه البخاري ، قال صلى الله عليه وسلم: "بَيْنا رجُلٌ بطريقٍ  يمشي، فاشتدَّ عليه العطَشُ، فنزَلَ بئراً، فشرب منها، ثمَّ خَرَجَ، فإذا هو بكلبٍ يَلْهَثُ، يأكلُ الثَّرى من العَطَشِ، فقالَ الرجلُ: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطشِ مثلُ الذي كان بلَغَ بي، فنزل البئرَ، فملأ خُفَّهُ، ثمَّ أمْسَكَهُ بفيهِ، ثمَّ رَقِيَ فسقى الكلبَ، فشَكَرَ الله له، فغَفَرَ لهُ وفي روايةٍ: فأدخله الجنة. قالوا: يا رسولَ الله! وإنَّ لنا في البهائمِ لأجْراً؟ قال: في كل ذاتِ كَبِدٍ رطبةٍ أجْرٌ"

فتأملوا رحمكم الله : إذا كان الله سبحانه قد غفر لمن سقى كلبا على شدة ظمأه فكيف بمن سقى العطاش وأشبع الجياع وكسى العراة من المسلمين ، فأجره أعظم وأعظم .

عباد الله : لا تحقروا من المعروف شيئا ، فإنكم لا تعلمون أي العمل تقومون به أرجى عند الله، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول : "اتَّقوا النارَ ولوْ بشقِّ تمرةٍ"

فكونوا لإخوانكم خير عون في ملماتهم، بل بادر إليه قبل أن يطلبك ، قال عبد الله بن جعفر رحمه الله: ليس الجواد الذي يعطيك بعد المسألة، ولكن الجواد الذي يبتدئ، لأن ما يبذله إليك من وجهه أشد عليه مما يعطى عليه. وعن عبيد بن عباس قال : إن أفضل العطية ما أعطيت الرجل قبل المسألة، فإذا سألك فإنما تعطيه ثمن وجهه حين بذله لك .

وكان السلف رحمهم الله من العلماء والصالحين يعرفون قدر معاونة الآخرين وكشف الكرب عنهم، فعن مجاهد قال : صحبت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمني أكثر" 

الجمعة، 18 أبريل 2014

خطبة جمعة: فضل القرآن الكريم

الخطبة الأولى : أيهَا المؤمنونَ: قال تعالى في محكم التنزيل: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ "  إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أنزلَهُ علَى قلبِ نبِيِّهِ محمدٍ خاتمِ النبيينَ، قالَ عزَّ وجلَّ:( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ،عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)  هذا الكتابُ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، وفُصِّلَتْ كلماتُهُ، وحُفِظَتْ مِنْ عَبَثِ العابثينَ، وتحريفِ الْمُحَرِّفينَ، قالَ تعالَى:( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ، سَمَّاهُ اللهُ تعالَى بأسماءٍ كريمةٍ، ووصفَهُ بصفاتٍ حكيمةٍ، فهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وهوَ الشفاءُ النافِعُ، والدواءُ الناجِعُ، عِصْمةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بهِ، ونجاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ، وهدايةٌ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ:( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ولذلك أوصانا الله بالتمسك به وحثنا النبي صلى الله عليه وسلم على لزومه، قال صلى الله عليه وسلم: أَلاَ وَإِنِّى تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَحَدُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلاَلَةٍ "

ويستلزِمُ التمسكُ بالقرآنِ الكريمِ العنايةَ بحفظِهِ وتلاوتِهِ، والمواظبةَ علَى قراءتِهِ وتدبُّرِهِ، والحرصَ علَى العملِ بأحكامِهِ ومبادئِهِ، والتخَلُّقَ بأخلاقِهِ وقِيَمِهِ، والقيامَ بتَعَلُّمِهِ وتعليمِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :«خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»

عبادَ اللهِ: إنَّ للتمسكِ بالقرآنِ الكريمِ ثمراتٍ شتَّى، وفوائدَ عُظْمَى، تعودُ علَى الإنسانِ بِخَيْرَيِ الدنيَا والآخرةِ، فقارئُ القرآنِ الكريمِ قد أثنى الله عليه ووعده بالأجر العظيم قال تعالى : :"إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ" ، ومن عظيم بركة القرآن مضاعفة الحسنات لقارئه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :( مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ)  فكم من الحسنات ضيعت يا عباد الله بالإعراض عن تلاوة القرآن وتدبره .

وبالقرآنِ وحفظه يرتقِي المؤمنُ يومَ القيامةِ درجاتِ الجنانِ قَالَ صلى الله عليه وسلم :( يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا) قال بعض شراح الحديث:وصاحبُ القرآنِ هُوَ مَنْ يُلَازِمُهُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْعَمَلِ.
وفي ذلكم اليوم العظيم الذي تقترب فيه الشمس من الرؤوس ويلجم العرق الناس، يأتي القرآن شفعيا لأصحابه، فعن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ " أي السحرة . رواه مسلم.   

بل إن في تعلم القرآن أجر وفضيلة تعلو وتزيد على أنفس الأموال وأغلاها ثمنا في الدنيا، فروى مسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ :خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ والناقة الكوماء هي العظيمة السنام وهي من أفضل أنواع النوق عند العرب- فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُحِبُّ ذَلِكَ قَالَ أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الْإِبِلِ"

فإذا خرجت أخي المسلم إلى المسجد لتتعلم كتاب ربك وتقرؤه فأبشر بهذه البشارة العظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حِجَّتُهُ» فإذا جلست في حلقات القرآن فأنت في خير عظيم وفضل عميم قال صلى الله عليه وسلم: مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ "

فاللهُمَّ اجْعَلِ الْقُرْآنَ العظيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ أبصارِنَا، وَجِلاَءَ همومِنَا، وَذَهَابَ أحزانِنَا، وارزُقْنَا تلاوتَهُ، ووفِّقْنَا للعملِ بهِ والتخلُّقِ بأخلاقِهِ


الخطبة الثانية : أيهَا المسلمونَ: مِنْ ثمراتِ التمسُّكِ بالقرآنِ استقامةُ الإنسانِ علَى طاعةِ الرحمنِ، فيتلُو القرآنَ الكريمَ حقَّ تلاوتِهِ، ويتَّبِعُهُ حقَّ اتِّبَاعِهِ، فيعملُ بآياتِهِ، ويقِفُ عنْدَ حُدودِهِ، ويُحِلُّ حلالَهُ، ويُحَرِّمُ حرامَهُ، ويتخلَّقُ بأخلاقِ القرآنِ، فقَدْ سُئِلَتِ أم المؤمنين عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ " .
والتمسُّكُ بالقرآنِ الكريمِ سببٌ لسعادةِ الأُسر والبيوت واستقرارِهَا، والبركةِ فِي حياتِهَا، وكَثْرَةِ خيراتِهَا، وكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ في الْبَيْتُ إذَا تُلِيَ فِيهِ كِتَابُ اللهِ اتَّسَعَ بِأَهْلِهِ، وَكَثُرَ خَيْرُهُ، وَحَضَرَتْهُ الْمَلائِكَةُ، وَخَرَجَتْ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ، وَالْبَيْتُ إذا لَمْ يُتْلَ فِيهِ كِتَابُ اللهِ ضَاقَ بِأَهْلِهِ، وَقَلَّ خَيْرُهُ، وَحَضَرَتْهُ الشَّيَاطِينُ
ومِنْ ثمراتِ التمسُّكِ بالقرآنِ شفاءُ الإنسانِ، قالَ عزَّ وجلَّ:( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ففيه الشفاء من أمراض الشبهات والشهوات، والأوجاع والأسقام وما يصيب القلوب من هموم وغموم وأحزان .
جماعة المسلمين: لقد انشغل الكثير منا بأمور الدنيا وتغافلنا عن كتاب ربنا سبحانه وتعالى، وفي ذلك علامة على مرض القلوب قال ابن القيم: فالقلب الطاهر، لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث، لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذى لم يطهره الله تعالى، فإنه يتغذى من الأغذية التى تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة. فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التى تلائم الصحيح "
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن هذه القلوب أوعية فأشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره "
فاعمروا قلوبكم وبيوتكم بتلاوة كتاب ربكم، واحفظوه وحفظوه أولادكم، وقَدْ هيأَتْ حكومتُنَا الرشيدةُ كلَّ الوسائلِ التِي مِنْ شأنِهَا خدمةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ منذُ عهدِ المغفورِ لهُ الشيخِ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، الذِي أسَّسَ مشروعَ الشيخ زايد لحفظِ القرآنِ الكريمِ، وهَا هيَ الجهودُ مستمرةٌ بطباعةِ المصاحفِ وتوزيعِهَا، وإنشاءِ مراكزِ ومعاهدِ تحفيظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي أنحاءِ الدولةِ، التِي يدرسُ فيهَا الصغارُ والكبارُ الذكورُ والإناثُ، والتِي خَرَّجَتْ بفضلِ اللهِ تعالى أعدادًا كبيرةً مِنْ حفظةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فاستثمِرُوهَا يرحمكُمُ اللهُ.

 فمَنْ علَّمَ أبناءَهُ القرآنَ أُلْبِسَ تاجاً مِنْ نُورٍ عنْدَ الرحمنِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:( مَن قَرَأَ الْقُرآنَ وَتَعَلَّمَهُ، وَعَمِلَ بِهِ أُلْبِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَاجَاً مِنْ نُورٍ، ضَوْؤُهُ مِثْلُ ضَوْءِ الشَّمْسِ، وَيُكْسَى وَاْلِدَيْهِ حُلَّتَانِ لاَ تُقَوَّمُ بِهِمَا الدُّنْيَا، فَيَقُولاَنِ: بِمَ كُسِينَا؟ فَيُقَاْلُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرآنَ)

الجمعة، 11 أبريل 2014

خطة جمعة : الترغيب في صلة الرحم والترهيب من قطعها

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَشَرَ، وَجَعَلَهُمْ أَنْسَاباً وَأَصْهَاراً، وَقَبَائِلَ وَشُعُوبًا، لِيَتَعَارَفُوا وَيَتَآلَفُوا، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) وَإنَّ التَّعَارُفَ بَيْنَ النَّاسِ يَهْدِفُ إِلَى التَّعَايُشِ وَالتَّوَاصُلِ، وَالتَّآزُرِ وَالتَّكَامُلِ، فَيَصِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِالْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، فَيَتَحَقَّقُ فِيمَا بَيْنَهُمُ التَّآلُفُ وَالتَّرَاحُمُ، وَالتَّمَاسُكُ وَالتَّلاَحُمُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)

وَقَدْ حَثَّنَا دِينُنَا الحنيفُ عَلَى تَحْقِيقِ تَمَاسُكِنَا، وَتَآلُفِ قُلُوبِنَا، بِصِلَةِ أَرْحَامِنَا، فَجَعَلَ صِلَةَ الأَرْحَامِ مِنْ عَلاَمَاتِ الإِيمَانِ وَأَخْلاَقِ الإِسْلاَمِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)

وَلَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَأْنَ الرَّحِمِ وَوَعَدَ بِصِلَةِ مَنْ وَصَلَهَا، وَتَوَعَّدَ بِقَطِيعَةِ مَنْ قَطَعَهَا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ [بكَ] مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ)

ولهذا كانت صلة الرحم واجبة على ذوي الأرحام، يحرم عليهم قطعها، قال القرطبي رحمه الله: " اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة "

وأما فضائل صلة الرحم فكثيرة جمة متظافرة، منها أن صلى الرحم من أسباب دخول الجنة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ) وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْنِينِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ. قَالَ:« تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ ذَا رَحِمِكَ». فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ»

عِبَادَ اللَّهِ: اعلمُوا أنَّ ثوابَ صِلَتِكُمْ لأرحامِكُمْ، يُعَجِّلُهُ اللَّهُ تَعَالَى لكُمْ فِي دُنياكُمْ، فضلاً عمَّا يدَّخِرُهُ لكُمْ فِي آخرَتِكُمْ، لأنَّهَا مِنْ خيرِ الطاعاتِ، وأفضَلِ القُرُباتِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا مِنْ شَيْءٍ أُطِيعُ اللَّهَ فِيهِ بِأَعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ» فَصِلَةُ الرحمِ سببٌ فِي البركةِ فِي الأعمارِ، والحياةِ الطيبةِ فِي الديارِ، والسعةِ فِي الرزقِ والمالِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)

وصِلَةَ الأَرْحَامِ تُعَمِّقُ المحبةَ فِي الروابطِ الأُسريةِ، وتُحقِّقُ التكافلَ فِي العلاقاتِ الاجتماعيةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: (تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ) ، وفِي الحديثِ حَضٌّ علَى تَعَلُّمِ أَسْمَاءِ الآباءِ والأجدادِ، والأعمامِ والأخوالِ، وسائرِ الأقاربِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، بقَصْدِ حُسْنِ الصِلَةِ لَهُمْ، والتَّقَرُّبِ لَدَيْهِمْ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ صِلَةَ الأَرْحَامِ يُحقِّقُهَا المسلمُ بأعمالِ البرِّ والإحسانِ، ومنْهَا: دوامُ زيارتِهِمْ، وتلبيةُ دعوتِهِمْ، وبذلُ المعروفِ لَهُمْ، ورَدُّ الأذَى عَنْهُمْ، وعيادةُ مريضِهِمْ، ومشاركتُهُمْ فِي أفراحِهِمْ، والتَّغَاضِي عَنْ هفواتِهِمْ، وَالْعَفْوُ عَنْ مُسِيئِهِمْ، وأداءُ حقوقِهِمْ، وبذلُ المالِ لِفَقِيرِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) ، وبذل المال لذوي الرحم أجره مظاعف ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِىَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ»
وَلَمَّا نزلَ قولُهُ تَعَالَى:( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قَالَ أَبُو طَلْحَةَ الأنصاريُّ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم  : بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ. فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. وقَدْ أوردَ العلماءُ هذَا الحديثَ فِي فضلِ النفقةِ علَى ذَوِي القُرْبى. قَالَ الإمامُ الشعْبِيُّ رحمَهُ اللَّهُ: مَا مَاتَ ذُو قرابةٍ لِي، وعليهِ دَيْنٌ؛ إِلاَّ وقضَيْتُ عنهُ دَيْنَهُ

فحَافِظْ يَا عبدَ اللَّهِ علَى صِلَةِ رحمِكَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وعلَى القيامِ بحقِّهَا وَإِنْ قطعَتْ ليعظُمَ أجرُكَ، ويصفُوَ قلبُكَ، ويعلُوَ مقامُكَ، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِخِصَالٍ مِنَ الْخَيْرِ: وذكَرَ منْهَا: وَأَوْصَانِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَصِلَ رَحِمِي وَإِنْ أَدْبَرَتْ.

فَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ كَمَا أمرَكُمْ ربُّكُمْ، وتفَقَّدُوا أحوالَهُمْ، وتعاهَدُوهُمْ بالزياراتِ، ولاَ تَنْسَوْهُمْ فِي المناسباتِ، وأحسنُوا إليهِمْ ليرضَى عنْكُمْ ربُّ الأرضِ والسمواتِ.


الخطبة الثانية : اعلموا رحمكم الله أن من كبائر الذنوب وعظائم الآثام قطيعة الرحم وعدم وصلها، و اللَّهَ تبارَكَ وتَعَالَى قَدْ حذَّرَنَا مِنْ قطيعةِ الأرحامِ، فقال سبحانه : " فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ  أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ "

ورَتَّبَ ديننا علَى قَطْعِ الرحمِ عُقوبةً دُنيويةً عاجلةً، وعاقبةً أُخرويةً آجلةً، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا - مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ - مِثْلُ الْبَغْىِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» وقَالَ صلى الله عليه وسلم : «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ»

بل قاطع الرحم متوعد بعدم دخول الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم : (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِع رحم" فعلى المسلم أن يحذر من ذلك ويتقي القطيعة قدرَ ما يستطيع، فعسى الله أن يوفقه للخير.

وليس الواصل لرحمه الذي يصلهم إذا وصلوه فقط، وإنما الواصل حقيقة هو الذي يصل رحمه وإن قطعوه قال صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَ الوَاصِلُ بالمُكَافِئ، وَلَكِنِ الواصِلُ الَّذي إِذا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَها"

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رجلا قال : «يا رسولَ الله ، إِن لي قرابة ، أصلِهُم ويقطعونني ، وأُحْسِن إِليهم ويُسيئُون إِليَّ ، وأحلُم عنهم ، ويجهلون عليَّ ؟ قال : لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهُم الملَّ،  ولن يزال معك من الله ظهير عليهم ما دُمتَ على ذلك».

ومعنى قوله " فكأنما تُسِفُّهُم الملَّ "  أي كأنما تطعمهم الرماد الحار وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم

وقاطع الرحم عمله مردود غير مقبول عند الله تعالى قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ عَلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَشِيَّةَ كُلِّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلاَ يَقْبَلُ عَمَلَ قَاطِعِ رَحِمٍ»

عباد الله : فمن كان بينه وبين رحمه من أعمامه وأخواله أو عماته وخالاته وأبناؤهم قطيعة لسبب من الأسباب فليتذكر عظم الكبيرة والإثم وليسع للتواصل معهم وإن ردوه وقطعوه فليؤد الذي عليه، ولينجو بنفسه .

واعلم أيها الموفق إنّ ذوي الرّحِم غيرُ معصومين، يتعرّضون للزّلَل، ويقَعون في الخَلل، وتصدُر منهم الهَفوة، ويقَعون في الكبيرة، فإن بَدَر منهم شيءٌ من ذلك فالزَم جانبَ العفوِ معهم، فإنَّ العفوَ من شِيَم المحسنين، وما زادَ الله عبدًا بعفو إلاّ عِزًّا، وقابِل إساءَتهم بالإحسان، واقبل عُذرَهم إذا أخطؤوا


الخميس، 3 أبريل 2014

خطبة جمعة: تأملات في سورة (ص)

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين من سور القرآن التي ينبغي للمسلم أن يتدبرها ويقف على معانيها سورة ص ، هذه السورة التي أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بمكة، ومقصدها الرئيس هو التذكير بكتاب الله تعالى، وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم بذكر قصص الأنبياء من قبله، وبيان عاقبة من أطاعه واتبعه، وعقوبة من كذبه وأعرض عنه.

فأقسم الله جل في علاه فقال : "ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ" فأقسم بالكتاب ذي الشرف والمكانة العالية، الذي من قرأه وتدبره ذكّرَهُ ووعظهُ، ولذلك حث على تدبره في السورة فقال : "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" ، وكرر سبحانه الأمر بالتذكر في جملة من آيات السورة فقال : "وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ" وقال : "وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ" وقال : " هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ" بل ختم الآيات بالنص على هذا المعنى فقال : " إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ" فيتعلم المسلم من ذلك أن عليه أن يتلو كتاب الله تعالى بتدبر وتفهم لمعانيه، فيتذكر بتذكيره، ويتعظ بمواعظه، قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- : " لَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ وَلَا تَهُذُّوهُ هَذَّ الشِّعْرِ , قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ , وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ , وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ " قال ابن القيم: " فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ " وقال رحمه الله: " فَلَو علم النَّاس مَا فِي قِرَاءَة الْقُرْآن بالتدبر لاشتغلوا بهَا عَن كل مَا سواهَا"

          ومن موضوعات سورة ص ما ذكره الله فيها من الخصومات المتعددة، فذكر خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : "أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ" ثم ذكر اختصام الخصمين عند داود عليه الصلاة والسلام في قوله: " وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ" ثم ذكر تخاصم أهل النار فقال : " إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ " ثم ذكر اختصام الملأ الأعلى ولعله في الدرجات والكفارات فقال : " مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ" ثم ذكر مخاصمة إبليس واعتراضَه على ربه في أمره بالسجود لآدم، ثم خصامه في شأن بني آدم وحلفُه على إغوائهم.

فيتعلم العبد أن الاختلاف والخصومة سنة كونية واقعة بين الخلق لا محالة، كما قال سبحانه" وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" فيطلب العبد من ربه الهدايةَ والثباتَ على الحق دائما وأبدا .

ومن موضوعات السورة بيان أن خصومةَ الأنبياءِ لأقوامهم كانت في إفرادِ اللهِ تعالى بالعبادةِ، وهو توحيد الألوهية، وليس في إقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق المحيي، فهذا يؤمن به الكفار في الجملة ويسلِّمون به كما قال تعالى : " قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ " وقال : " وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ" وهذا يسمى بتوحيد الربوبية، ولكن الكفار خاصموا أنبياءهم في إفراد الله بالعبادة وعدم صرفها للأصنام والقبور والأوثان والصالحين من الأنبياء والأولياء، فكان لكفار قريش ثلاثمائة وستون صنما حول الكعبة يعبدونها مع الله ويقولون: " مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى " فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم طلب منهم أن يقولوا: " لا إله إلا الله" التي تعني إفراد الله بالعبادة وحده دون سواه، وإبطالَ ما يُعبدُ من الآلهة المزعومة فأبوا وامتنعوا وقالوا: " أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ "

فيتعلم المسلم أن معنى لا إله إلا الله أي لا معبود في السموات والأرض إلا الله، وليس معناها لا خالق ولا رازق إلا الله، كما يتعلم الداعية أن أول ما يدعو إليه هو إفراد الله تعالى بالعبادة فهي دعوة جميع الرسل وعليها يقوم الدين كما قال سبحانه : " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" ولذلك لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له : " إنك تأتي قَوْماً أهلَ كِتاب، فادعُهمُ إلى شهادَةِ أن لا إله إلا الله، وأني رسولُ الله، في رواية " فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ أَنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ " ، فإنْ هُمْ أطاعُوكَ لذلكَ فأعْلِمْهُمْ أن الله افترضَ عليهم خمسَ صَلَواتٍ في كُل يَوْمٍ ولَيْلَةٍ"

جماعة المسلمين : ومن موضوعات سورة (ص) تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت قلبه بذكر قصص الرسل والأنبياء من قبله وكيف كذبهم قومهم مع بيان سوء عاقبتهم كما قال تعالى في سورة هود: " وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ" فقال سبحانه : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ،وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ ، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ، وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ، وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ " ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر فقال : " اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ" فأمره بالصبر على قومه، وبأن يستعين على الصبر بالعبادة وأن يتذكر حال العابدين ومنهم نبي الله داود عليه السلام الذي وصفه بأنه أواب أي رجاع إلى الله في جميع أموره، وذكره بصبر نبي الله أيوب عليه السلام فقال له: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ، وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ " فوصفه الله تعالى مع الصبر باستكمال مراتب العبودية فقال " نعم العبد" ووصفه بأنه " أواب"

فيتعلم المسلم الداعية أن عليه تبليغ هذا الدين للناس، وليس عليه هدايتهم، فالهداية بيد الله تعالى، وأنه لن يتبعه كل الناس، بل سيواجه التكذيب والإعراض، قال تعالى : "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ" كما يستفيد الداعية إلى الله أن عليه الصبر على ما سيصيبه من بلاء بسبب الدعوة إلى الله وأمره بالمعروف نهيه عن المنكر، كما يستفيد المسلم أن عليه الاستعانة على الصبر بعبادة الله تعالى والإنابة إليه.
وفقنا الله تعالى لما يحبه ويرضاه وجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

  

الخطبة الثانية : عباد الله : من موضوعات سورة (ص) ذكر جزاء الطائعين المؤمنين، وعقوبة الطاغين المكذبين، فقال سبحانه : " هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ، جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ ، مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ، وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ، إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ"  فهو رزق دائم مستقر متزايد لا انقطاع له .
وأما الطاغين المكذبين فقد توعدهم الله فقال : " هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ
لْمِهَادُ، هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ.."
فيسأل العبد ربه بلوغ جنته، والنجاة من ناره، وهذا هو الغرض من ذكر ما أعده الله للطائعين من النعيم، وما توعد به العاصين المكذبين من العقاب.

ثم بين سبب إعراض هؤلاء الناس عن طاعة ربهم، وإجابة دعوة رسله إليهم ألا وهو الشيطان الرجيم، فذكر قصته لما أمره بالسجود لآدم فامتنع وأبى استكبارا وحسدا فقال سبحانه: " فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ،إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ، قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ،قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ"
فكان عقابه أن قال الله له : " قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ"
فلما تيقن هلاكه ووقوع اللعنة عليه توعد وأقسم على إضلال بني آدم فقال : "قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ "

فيتعلم المسلم أن من خالف الأمر استحق العقوبة، فهذا إبليس على مكانته عند ربه لما عصى أمره عاقبه الله تعالى بأن طرده من رحمته ووعده بالخلود في النار، فيخشى العبد على نفسه من عقوبة الله إن هو خالف أمره وارتكب نهيه.

كما يحذر من الشيطان الرجيم الذي توعده بالإضلال فيتخذه عدوا لا وليا قال سبحانه محذرا عباده " إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ"  وعلى العبد أن يلجأ إلى ربه ليعيذه من شره ووسوسته وأن يجعله من عباد الله المخلصين الذين يجاهدون الشيطان فلا يضرهم كيده.

كما يحذر من الكبر والحسد فإنه من أكبر أسباب الصد عن الحق، فهو الذي منع إبليس من تنفيذ أمر ربه، وهو الذي منع كفار قريش من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى في أول السورة : " بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ" فتكبروا على الحق وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حسدوه على نعمة الرسالة فقال سبحانه "أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا" وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي غَسِيلًا، وَرَأْسِي دَهِينًا، وَشِرَاكُ نَعْلِي جَدِيدًا، أَفَمِنَ الْكِبْرِ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " لَا، ذَاكَ الْجَمَالُ، إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ، وَازْدَرَى النَّاسَ"

ومن موضوعات السورة التحذير من الفتن، وأن من وقع فيها عليه أن يتوب ويؤوب إلى ربه، والله يقبل التوبة عن عباده، والعبد يفتتن على قدر دينه قال تعالى : "  أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ،وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ "  ، فذكر الله وقوع الفتنة لداود عليه الصلاة والسلام وذكر توبته ورجوعه إلى الله قال سبحانه : "وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ، فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ" وذكر افتتان سليمان عليه السلام بالخيل التي ألهته عن عبادة ربه فقال سبحانه : "إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ  فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ،وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي .." وذكر فتنة أيوب عليه الصلاة والسلام بالمرض الذي طال زمانه حتى تقرح جسده وتقيح وتركه الأصحاب فقابل ذلك بالصبر والاحتساب.

فيتعلم المؤمن أن الدنيا دار ابتلاء وفتن ، فهؤلاء خيرة خلق الله من بني آدم ممن اصطفاهم واجتباهم قد وقعوا في الفتن، إلا أنهم رجعوا واستغفروا ربهم، فغفر الله لهم . قال تعالى : " وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ  وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ"

جماعة المسلمين:  هذه وقفات يسيرة مع بعض موضوعات سورة (ص) ذكرناها لنتدبرها ونستلهم منها الدروس والعبر، وإلا فما تركناه أكثر مما ذكرناه، فهي دعوة لتأمل كلام الله وتدبره ، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لقد عشنا بُرْهَةً من الدهر وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة فيتعلم حلالها وحرامها وأوامرها وزواجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها، ولقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا يدري ما أمره وما زاجره وما ينبغي أن يقف عند يَنْثُرُه نَثْرَ الدَّقَل"