الجمعة، 11 أبريل 2014

خطة جمعة : الترغيب في صلة الرحم والترهيب من قطعها

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَشَرَ، وَجَعَلَهُمْ أَنْسَاباً وَأَصْهَاراً، وَقَبَائِلَ وَشُعُوبًا، لِيَتَعَارَفُوا وَيَتَآلَفُوا، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) وَإنَّ التَّعَارُفَ بَيْنَ النَّاسِ يَهْدِفُ إِلَى التَّعَايُشِ وَالتَّوَاصُلِ، وَالتَّآزُرِ وَالتَّكَامُلِ، فَيَصِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِالْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، فَيَتَحَقَّقُ فِيمَا بَيْنَهُمُ التَّآلُفُ وَالتَّرَاحُمُ، وَالتَّمَاسُكُ وَالتَّلاَحُمُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)

وَقَدْ حَثَّنَا دِينُنَا الحنيفُ عَلَى تَحْقِيقِ تَمَاسُكِنَا، وَتَآلُفِ قُلُوبِنَا، بِصِلَةِ أَرْحَامِنَا، فَجَعَلَ صِلَةَ الأَرْحَامِ مِنْ عَلاَمَاتِ الإِيمَانِ وَأَخْلاَقِ الإِسْلاَمِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)

وَلَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَأْنَ الرَّحِمِ وَوَعَدَ بِصِلَةِ مَنْ وَصَلَهَا، وَتَوَعَّدَ بِقَطِيعَةِ مَنْ قَطَعَهَا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ [بكَ] مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ)

ولهذا كانت صلة الرحم واجبة على ذوي الأرحام، يحرم عليهم قطعها، قال القرطبي رحمه الله: " اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة "

وأما فضائل صلة الرحم فكثيرة جمة متظافرة، منها أن صلى الرحم من أسباب دخول الجنة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ) وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْنِينِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ. قَالَ:« تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ ذَا رَحِمِكَ». فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ»

عِبَادَ اللَّهِ: اعلمُوا أنَّ ثوابَ صِلَتِكُمْ لأرحامِكُمْ، يُعَجِّلُهُ اللَّهُ تَعَالَى لكُمْ فِي دُنياكُمْ، فضلاً عمَّا يدَّخِرُهُ لكُمْ فِي آخرَتِكُمْ، لأنَّهَا مِنْ خيرِ الطاعاتِ، وأفضَلِ القُرُباتِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا مِنْ شَيْءٍ أُطِيعُ اللَّهَ فِيهِ بِأَعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ» فَصِلَةُ الرحمِ سببٌ فِي البركةِ فِي الأعمارِ، والحياةِ الطيبةِ فِي الديارِ، والسعةِ فِي الرزقِ والمالِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)

وصِلَةَ الأَرْحَامِ تُعَمِّقُ المحبةَ فِي الروابطِ الأُسريةِ، وتُحقِّقُ التكافلَ فِي العلاقاتِ الاجتماعيةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: (تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ) ، وفِي الحديثِ حَضٌّ علَى تَعَلُّمِ أَسْمَاءِ الآباءِ والأجدادِ، والأعمامِ والأخوالِ، وسائرِ الأقاربِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، بقَصْدِ حُسْنِ الصِلَةِ لَهُمْ، والتَّقَرُّبِ لَدَيْهِمْ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ صِلَةَ الأَرْحَامِ يُحقِّقُهَا المسلمُ بأعمالِ البرِّ والإحسانِ، ومنْهَا: دوامُ زيارتِهِمْ، وتلبيةُ دعوتِهِمْ، وبذلُ المعروفِ لَهُمْ، ورَدُّ الأذَى عَنْهُمْ، وعيادةُ مريضِهِمْ، ومشاركتُهُمْ فِي أفراحِهِمْ، والتَّغَاضِي عَنْ هفواتِهِمْ، وَالْعَفْوُ عَنْ مُسِيئِهِمْ، وأداءُ حقوقِهِمْ، وبذلُ المالِ لِفَقِيرِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) ، وبذل المال لذوي الرحم أجره مظاعف ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِىَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ»
وَلَمَّا نزلَ قولُهُ تَعَالَى:( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قَالَ أَبُو طَلْحَةَ الأنصاريُّ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم  : بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ. فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. وقَدْ أوردَ العلماءُ هذَا الحديثَ فِي فضلِ النفقةِ علَى ذَوِي القُرْبى. قَالَ الإمامُ الشعْبِيُّ رحمَهُ اللَّهُ: مَا مَاتَ ذُو قرابةٍ لِي، وعليهِ دَيْنٌ؛ إِلاَّ وقضَيْتُ عنهُ دَيْنَهُ

فحَافِظْ يَا عبدَ اللَّهِ علَى صِلَةِ رحمِكَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وعلَى القيامِ بحقِّهَا وَإِنْ قطعَتْ ليعظُمَ أجرُكَ، ويصفُوَ قلبُكَ، ويعلُوَ مقامُكَ، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِخِصَالٍ مِنَ الْخَيْرِ: وذكَرَ منْهَا: وَأَوْصَانِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَصِلَ رَحِمِي وَإِنْ أَدْبَرَتْ.

فَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ كَمَا أمرَكُمْ ربُّكُمْ، وتفَقَّدُوا أحوالَهُمْ، وتعاهَدُوهُمْ بالزياراتِ، ولاَ تَنْسَوْهُمْ فِي المناسباتِ، وأحسنُوا إليهِمْ ليرضَى عنْكُمْ ربُّ الأرضِ والسمواتِ.


الخطبة الثانية : اعلموا رحمكم الله أن من كبائر الذنوب وعظائم الآثام قطيعة الرحم وعدم وصلها، و اللَّهَ تبارَكَ وتَعَالَى قَدْ حذَّرَنَا مِنْ قطيعةِ الأرحامِ، فقال سبحانه : " فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ  أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ "

ورَتَّبَ ديننا علَى قَطْعِ الرحمِ عُقوبةً دُنيويةً عاجلةً، وعاقبةً أُخرويةً آجلةً، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا - مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ - مِثْلُ الْبَغْىِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» وقَالَ صلى الله عليه وسلم : «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ»

بل قاطع الرحم متوعد بعدم دخول الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم : (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِع رحم" فعلى المسلم أن يحذر من ذلك ويتقي القطيعة قدرَ ما يستطيع، فعسى الله أن يوفقه للخير.

وليس الواصل لرحمه الذي يصلهم إذا وصلوه فقط، وإنما الواصل حقيقة هو الذي يصل رحمه وإن قطعوه قال صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَ الوَاصِلُ بالمُكَافِئ، وَلَكِنِ الواصِلُ الَّذي إِذا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَها"

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رجلا قال : «يا رسولَ الله ، إِن لي قرابة ، أصلِهُم ويقطعونني ، وأُحْسِن إِليهم ويُسيئُون إِليَّ ، وأحلُم عنهم ، ويجهلون عليَّ ؟ قال : لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهُم الملَّ،  ولن يزال معك من الله ظهير عليهم ما دُمتَ على ذلك».

ومعنى قوله " فكأنما تُسِفُّهُم الملَّ "  أي كأنما تطعمهم الرماد الحار وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم

وقاطع الرحم عمله مردود غير مقبول عند الله تعالى قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ عَلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَشِيَّةَ كُلِّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلاَ يَقْبَلُ عَمَلَ قَاطِعِ رَحِمٍ»

عباد الله : فمن كان بينه وبين رحمه من أعمامه وأخواله أو عماته وخالاته وأبناؤهم قطيعة لسبب من الأسباب فليتذكر عظم الكبيرة والإثم وليسع للتواصل معهم وإن ردوه وقطعوه فليؤد الذي عليه، ولينجو بنفسه .

واعلم أيها الموفق إنّ ذوي الرّحِم غيرُ معصومين، يتعرّضون للزّلَل، ويقَعون في الخَلل، وتصدُر منهم الهَفوة، ويقَعون في الكبيرة، فإن بَدَر منهم شيءٌ من ذلك فالزَم جانبَ العفوِ معهم، فإنَّ العفوَ من شِيَم المحسنين، وما زادَ الله عبدًا بعفو إلاّ عِزًّا، وقابِل إساءَتهم بالإحسان، واقبل عُذرَهم إذا أخطؤوا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق