الخميس، 25 فبراير 2016

خطبة جمعة: هدي الإسلام في الحفاظ على البيئة

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: من نعمة الله علينا أن رزقنا أَرْضًا زَاخِرَةً بِالْخَيْرَاتِ، مُنْبَسِطَةً لِلْكَائِنَاتِ، فِيهَا الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ، وَالزُّرُوعُ وَالنَّبَاتَاتُ، وَالأَشْجَارُ الْمُثْمِرَاتُ، قَالَ تَعَالَى:( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). وَكُلُّهَا عَلَى نَسَقٍ بَدِيعٍ ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). خلقها وأتقنها ( وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ). وَكُلُّ مَخْلُوقٍ لَهُ فَوَائِدُهُ وَمَنَافِعُهُ، وَعَمَلُهُ وَوَظِيفَتُهُ، (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ). 

عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ هَيَّأَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا بِيئَةً، هِيَ مَوْطِنُ حَيَاتِنَا، وَمَحِلُّ عِبَادَتِنَا، وَلَهَا تَأْثِيرُهَا الْبَالِغُ عَلَى صِحَّتِنَا، وَلِذَلِكَ وَضَعَ الشَّرْعُ الْحَكِيمُ الضَّوَابِطَ الْعَدِيدَةَ لِلْحِفَاظِ عَلَى عَنَاصِرِهَا وثَرَوَاتِهَا، وَعَدَمِ الإِخْلاَلِ بِمُكَوِّنَاتِهَا، أَوْ إِفْسَادِ نِظَامِهَا؛ لأن الإفساد في الأرض يعيق تحقيق العبودية لله تعالى، لذلك أمر الله عز وجل بعدم الإفساد في الأرض ثم أمر بعبادته وتوحيده فقَالَ تَعَالَى "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا" قال ابن كثير في تفسير الآية :" يَنْهَى تَعَالَى عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَضَرَّهُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ! فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ مَاشِيَةً عَلَى السَّدَادِ، ثُمَّ وَقَعَ الْإِفْسَادُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَانَ أَضَرَّ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِبَادِ. فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ وَالتَّذَلُّلِ لَدَيْهِ.

فنَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ اسْتِنْزَافِ الْمَوَارِدِ، بتَبْدِيدِهَا أَوِ التَّبْذِيرِ وَالإسْرَافِ فِيهَا؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ:( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُدْوَةً فِي الاِقْتِصَادِ وَعَدَمِ الإِسْرَافِ، وَخَاصَّةً فِي الْمَاءِ، لأَنَّهُ سَبَبُ الْحَيَاةِ، قَالَ سُبْحَانَهُ :(وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ). فَالْمَاءُ نِعْمَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، يَشْتَرِكُ الْجَمِيعُ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، بِتَرْشِيدِ اسْتِخْدَامِهَا فِي سَقْيِ الزَّرْعِ، أَوِ الأَغْرَاضِ الأُخْرَى كَالاِسْتِحْمَامِ وَغَسْلِ السَّيَّارَاتِ، وَغَيْرِهَا مِنْ صُوَرِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي حَيَاتِنَا الْيَوْمِيَّةِ، فَإِنَّ الدَّوْلَةَ تَبْذُلُ التَّكَالِيفَ الطَّائِلَةَ فِي تَحْلِيَةِ الْمِيَاهِ وَتَنْقِيَتِهَا، وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ الْحَكِيمُ عَنِ الإِسْرَافِ فِي الْمَاءِ مَهْمَا كَثُرَ وَلَوْ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ، وَلو كَانَ لِأجلِ ِعِبَادَةٍ، طَلَبًا لاِسْتِدَامَةِ نعمةِ الماءِ، وَحِفْظًا لِحَقِّ الأَجْيَالِ الْقَادِمَةِ فِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ « مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ ». قَالَ أَفِى الْوُضُوءِ سَرَفٌ قَالَ « نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ ».

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ رَغَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَنْمِيَةِ الزِّرَاعَةِ، وَجَعَلَ لِمَنْ يَعْتَنِي بِزِيَادَتِهَا وَحِمَايَتِهَا أَجْرَ الصَّدَقَةِ؛ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم :«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ». 

وَأَمَرَ الإِسْلاَمُ بِإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الْبِيئَةِ، حِرْصًا عَلَى نَظَافَتِهَا، وَحِفَاظًا عَلَى جَمَالِهَا؛ وَوَعَدَ فَاعِلَهَا بِالأَجْرِ الْكَرِيمِ، وَالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ- أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا: قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ». 

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا إِمَاطَةَ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ». وَالأَذَى: هُوَ كُلُّ مَا يُؤْذِي مِنْ حَجَرٍ أَوْ قُمَامَةٍ أَوْ مُخَلَّفَاتٍ أَوْ شَوْكٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِمَاطَتُهُ أَيْ: إِبْعَادُهُ. 

وَمِنَ السُّلُوكِ الْحَمِيدِ وَالثَّقَافَةِ الْحَضَارِيَّةِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى الأَمَاكَنِ الْعَامَّةِ؛ مِنْ شَوَارِعَ وَحَدَائِقَ وَشَوَاطِئَ وَأَرْصِفَةٍ، وَصَحْرَاءَ وَغَيْرِهَا؛ لِتَكُونَ خَالِيَةً مِنَ النِّفَايَاتِ وَالْمُخَلَّفَاتِ، فَنَنْعَمُ بِهَا جَمِيلَةً؛ وَنَتْرُكُهَا لِغَيْرِنَا نَظِيفَةً، فَلاَ تُلْقَى فِيهَا مُخَلَّفَاتُ الْبِنَاءِ، وَلاَ بَقَايَا الطَّعَامِ وَلاَ الْعُبُوَّاتُ الزُّجَاجِيَّةُ، وَلاَ الأَكْيَاسُ الْبِلاَسْتِيكِيَّةُ، فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ قَدْ تَبْتَلِعُهَا فَتَتَعَرَّضُ لِلضَّرَرِ أوِ المـَوْتِ، فَيَجِبُ وَضْعُ هَذِهِ الْمُخَلَّفَاتُ فِي الأَمَاكِنِ الْمُخَصَّصَةِ لِيُنْتَفَعَ بِتَدْوِيرِهَا، فَنَكُونَ قَدْ أَمَطْنَا الأَذَى عَنْ بِيئَتِنَا، وَفُزْنَا بِثَوَابِ رَبِّنَا، قَالَ نبينا صلى الله عليه وسلم: «كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ غُصْنُ شَجَرَةٍ يُؤْذِي النَّاسَ فَأَمَاطَهَا رَجُلٌ، فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ». 

جماعة المسلمين: لَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِمَا سَخَّرَهُ لَنَا مِنْ حَيَوَانَاتٍ وَأَنْعَامٍ، فَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ:( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ). وَمِنَ الْمَنَافِعِ: الاِسْتِفَادَةُ بِأَوْلاَدِهَا وَأَلْبَانِهَا وَلُحُومِهَا. وَقَالَ سُبْحَانَهُ:( وَجَعَلَ لَكُم مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ). وَلِذَلِكَ أَمَرَنا صلى الله عليه وسلم بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الثَّرْوَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ ، وَنَهَى عَنْ الإِضْرَارِ بِهَا؛ فَحِينَ مَرَّ صلى الله عليه وسلم بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ- مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ- قَالَ: « اتَّقُوا اللَّهَ فِى هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا وَكُلُوهَا صَالِحَةً ». وَجَعَلَ لِلمُحْسِنِ إِلَيْهَا الثَّوابَ، فَقَدْ سُئلَ صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ لأَجْرًا؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ». أَيْ: إنَّ فِي الإِحْسَانِ إِلَى كُلِّ حَيَوَانٍ حَيٍّ أَجْرًا، بِسَقْيِهِ وَإِطْعَامِهِ وَحِمَايَتِهِ. 

عبادَ الله: لقَدْ قامَتْ دولتُنا الرَّشيدَةُ على تَنْمِيَةِ مَوارِدِها وإدارةِ ثَرَواتها، حِفْظاً لحقِّ أَجْيالِها، فَاعْتَنَتْ بالتَّشْجيرِ وإقَامَةِ المحمِيَّاتِ الطَّبِيعيَّةِ، ونَظَّمَتِ الصَّيْدَ، وأَنْشَأَتِ المتَنَزَّهات، ووفَّرتْ عُمَّالاً للنَّظافَةِ؛ لنَهْنَأَ بِبيئَةٍ صِحِّيَّةٍ، فعَلَيْنَا أَنْ نُحَافِظَ عَلَى إِنْجَازَاتِ الدَّوْلَةِ تُجاه الْبِيئَةِ، وَنُعَلِّمَ أَوْلاَدَنَا الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا، وَعَلَى جَمَالِ مَبَانِيهَا، فَلاَ يَكْتُبُونَ عَلَى جُدْرَانِهَا، وَلاَ يُشَوِّهُونَ حَدَائِقَهَا، وَلاَ يُلَوِّثُونَ شَوَاطِئَهَا وكُثْبانِها، وَلاَ يُلْقُونَ مُخَلَّفَاتٍ فِي طُرُقِهَا وَأَمَاكِنِهَا، قَالَ رَسُولُنا صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».

فَاللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَآخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَوَفِّقْنَا لِطَاعَتِكَ.

الخطبة الثانية : اعْلَمُوا رحمكم الله: أَنَّ أَشَدَّ مَا يَضُرُّ البِيئَةَ ويَتَسَبَّبُ في فَسادِها الإصْرارُ على ارْتِكابِ الذُّنُوبِ والمـَعاصِي؛ قَالَ اللهُ تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، أَيْ: بَانَ النَّقْصُ فِي الأَمْطارِ والثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ بِسَبَبِ الْمَعَاصِي؛ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ رحمه الله: مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ صَلَاحَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِالطَّاعَةِ.

فالاسْتِمْرارُ في المـَعاصِي يُحْدِثُ فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ؛ فِي الْمِيَاهِ، وَالْهَوَاءِ، وَالزَّرْعِ، وَالثِّمَارِ، وَالْمَسَاكِنِ، وغَيْرِ ذلك.

وهذا الفَسادُ في البِيئَةِ يَسْتَمِرُّ في الازْدِيادِ كُلَّمَا ازْدَادَ النَّاسُ في الذُّنُوبِ واسْتَرْسَلُوا في المعاصي، إلى أَنْ يُنزِلَ اللهُ بَأْسَهُ الَّذِي لا يُرَدُّ عَنِ القَوْمِ المـُجْرِمِين، فعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عنه- قَالَ: قَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ [أَيْ: يُمْهِلُهُ]، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ». قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) .

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثال من الجمادات أثرت فيه المعاصي فقال :" نَزَلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ , فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ " ، وفي رواية: لَوْلَا مَا مَسَّهُ مِنْ أَنْجَاسِ الْجَاهِلِيَّةِ , مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إِلَّا شُفِيَ، وَمَا عَلَى الْأَرْضِ شَيْءٌ مِنَ الْجَنَّةِ غَيْرُهُ "

قال ابن القيم: " ومن تأثير معاصي الله في الأرض: ما يحِل بها من الخسف، والزلازل، ومَحْقِ بركتِها... 
وكذلك شؤم تأثير الذنوب في نقص الثمار وما تُرمَى به من الآفات "

ولما ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام فيملأ الأرض قسطا كما ملئت جورًا ويقتل المسيحُ المسيح الدجال، ويقيم الدين الذي بعث الله به رسولَه تُخرِجُ الأرضُ بركتَها، وتعود كما كانت، قال صلى الله عليه وسلم : " ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لاَ يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ أَنْبِتِى ثَمَرَتَكِ وَرُدِّى بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِى الرِّسْلِ – أي اللبن- حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِى الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِى الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِى الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ"

قال ابن القيم: وهذا لأن الأرض لما طهرت من المعاصي ظهرت فيها آثار البركة من الله تعالى التي محقتها الذنوب والكفر" 

فيَنْبَغِي لمن يَعْصِي اللهَ تَعالى ويُصِرُّ على المـَعْصِيَةِ أنْ لا يَغْتَرَّ بالنِّعَمِ وكَثْرِتَها، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي اللهُ عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ"، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) ".

وَعَلَى من رَأَى مِنْ أَخِيهِ ذنباً أو وقوعاً في مَعْصِيَةٍ أَنْ يُبادِرَ إلى نُصْحِهِ وإِرْشَادِهِ، بالَّتي هِيَ أَحْسَنُ، فإنَّ في ذلكَ أَماناً مِنَ العَذابِ؛ فَعَنْ قَيْسِ بن أبي حازمٍ قَالَ: قَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَؤونَ هَذِهِ الْآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ، وَإِنَّا سَمِعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغيِّرُوهُ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابِهِ".

وقد بَيَّنَ ربُّنا سبحانه وتعالى أنَّ التَّواصيَ بالحَقِّ من صِفات أَهْلِ النَّجاةِ من الخَسارةِ في الدُّنْيا والآخرة، فقال سبحانه: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، لِذَا قالَ الإمامُ الشَّافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ.

فَكُونوا عِبادَ اللهِ لرَبِّكُمْ -عزَّ وَجلَّ- مُنِيبين، وفِيما أَمَركم به مُطِيعين، ولما نَهاكُمْ عَنْهُ تاركين، وبسُنَّةِ نَبِيِّكم صلى الله عليه وسلم مُتَمَسِّكين، ففي ذلك كلِّهِ النَّجاةُ من العَذابِ، ونَيْلُ السَّعادةِ والبركَةِ في الأَرْزاقِ وفي الأُمور كلِّها، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) .

فاللهمَّ اجْعَلْنَا من عِبادكَ المؤمِنِينَ المـُتِّقِينَ الفَائِزِين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق