الخميس، 20 نوفمبر 2014

خطبة جمعة : القناعة

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين اعلموا رحمكم الله أن الإنسان مجبول على حب المال والاستكثار منه، قال تعالى : "وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا" وقال سبحانه : "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ " ، وجعل الله هذا المال فتنة للناس وابتلاء قال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ " ، وانقسم الناس حيال المال وجمعه إلى قسمين : الأول جعله هو المقصود والغاية فصرف فكره وعمله لأجله، فشغلوا عما خلقوا له من عبادة الله وتوحيده، وبين صلى الله عليه وسلم صورة لهذا القسم في حرصهم على جمع المال فقال : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب"   
 وقسم عرفوا المقصود من هذه الشهوات وأن الله قد جعلها ابتلاء للعباد، لذلك فهم يتزودون منها لآخرتهم ويستعينون بها على طاعة ربهم، فصحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم.

عباد الله : ولأهمية المال في الحياة فهو أحد الضروريات الخمس التي جاءت الشرائع بحفظها وضع الإسلام جملة من الأحكام والأخلاق التي تضبط تعامل الناس بالمال، ومن جملة هذه الأخلاق خلق القناعة الذي عُد في الأمثال من الكنوز التي لا تفنى ولا تبيد فقيل : القناعة كنز لا يفنى.

والقناعة خلق تحبه الطباع، دعا إليه الشرع وحث عليه ورغب فيه، لأن مضمونه الرضا بما قسمه الله للعبد من رزق في هذه الدنيا، وفيه نزع للحسد والطمع في أموال الناس من قلوب العباد، كما يحتوي على التواضع والعفة والمروءة والنزاهة، فهو خلق شريف، وسجية رفيعة.

فالقناعة سبب لطيب العيش وسعادته ، قال تعالى: " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " فسر علي بن أبي طالب وابن عباس الحياة الطيبة بالقناعة.

وَمَنْ رُزِقَ الْقَنَاعَةَ فَقَدْ أَفْلَحَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَنُوعًا بِمَا آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَطْلُبُ الآخِرَةَ، وَيَرْجُو مَرْضَاةَ رَبِّهِ، وَيَدْعُوهُ قَائِلاً:« اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً». أَيْ اكْفِهِمْ مِنَ الْقُوتِ بِمَا يُغْنِيهِمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ.

وقناعة العبد بما رزقه الله سبب لتحصيله العز والشرف في الدنيا والآخرة قال صلى الله عليه وسلم: شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزِّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ " ، فإنما يتحقق الغنى الحقيقي للعبد باستغنائه عما في أيدي الناس، ورضاه بما قسم الله له، قال صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ "

وَمَنْ رُزِقَ الْقَنَاعَةَ أَبْصَرَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَشَكَرَهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو يوصي أبا أهريرة: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ" وسر ذلك كما قال أهل العلم: أن العبد إذا قنع بما أعطاه الله رضي بما قُسم له، وإذا رضي شكر فزاده الله من فضله جزاء لشكره وكلما زاد شكرا ازداد فضلا وربنا يقول: " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ "   

عباد الله : وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم يضرب لنا الأسوة الحسنة في تعامله مع المال بقناعة ورضا ، فكان صلى الله عليه وسلم ينام على فراش من جلد محشو بليف، ودخل عليه عمر بن الخطاب فرآه نائما على حصير قد أثر بجنبه.. فبكى عمر، فقال: ما يبكيك يا عمر؟ قال: أنت نبي الله وكسرى وقيصر على أسرة الذهب، قال: يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة، وتقول عائشة رضي الله عنها لعروة بن الزبير: وَاللهِ يَا ابْنَ أُخْتِي , إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ . فَقال: يَا خَالَةُ , فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعِيشُونَ؟، قَالَتْ: عَلَى الْأَسْوَدَيْنِ  التَّمْرِ وَالْمَاءِ ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ , فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهَا , فَيَسْقِينَاهُ" وهو صاحب المقام الأعلى في الجنة .

وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهَذِّبُ سُلُوكَ أَصْحَابِهِ بِمَا يُجَنِّبُهُمْ شِدَّةَ التَّطَلُّعِ لِلزِّيَادَةِ، وَيُحَقِّقُ لَهُمُ الْقَنَاعَةَ وَالسَّعَادَةَ، فَعَنْ حَكِيمِ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ يَا حَكِيمُ: إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا

 فعلام يتنافس المتنافسون في أمور الدنيا ولا يرضون بما قسم الله لهم من الرزق والعطاء، أعينهم تنظر إلى من هو أعلى منهم فيحتقرون ما عندهم ولو نظروا إلى من هم أسفل منهم لاتعظوا ورضوا قال صلى الله عليه وسلم: انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ"
أخي المسلم : إن كنت تريد الغنى الحقيقي والراحة والسعادة فارض بما قسم الله لك، قال صلى الله عليه وسلم: ارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ" وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، إنه من ييأس عما في أيدي الناس استغنى عنهم "  


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : إن مما يعين العبد على القناعة بما رزقه الله أن يوقن العبد أن ما عنده إنما هو رزقه الذي كتبه الله له، وأن ما لم يحصل عليه فليس له، قال تعالى : إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا "  فالله خبير بحال عباده وما يصلح لهم قال ابن القيم: قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع، والغنى لآخرين أنفع، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع والمرض لبعضهم أنفع" ، وقال صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس اتقوا الله و أجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها و إن أبطأ عنها، فاتقوا الله و أجملوا في الطلب خذوا ما حل و دعوا ما حرم "

وعدم القناعة يفضي العبد إلى الهموم والغموم وحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، فيهلك نفسه ويشقيها، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من نفس طماعة جشعة لا تشبع فعن أبي هريرة قال :  كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن دعاء لا يسمع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع"

ومن قنعه الله بما آتاه وأقبل على ربه واهتم بآخرته آتته الدنيا وهي راغمة صاغرة، قال صلى الله عليه وسلم " من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة"  ، والحريص على المال من غير نظر لحله وحرامه مفسد لدينه ودنياه، ولا يحصل من المال إلا ما قدر له منه قال صلى الله عليه وسلم " ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له "

وضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثلا في إفساد الحرص على المال للدين بذئبين جائعين أرسلا في غنم لا راعي فيها، ومعلوم أنه لا يكاد ينجو من الغنم من إفساد الذئبين شيء، قال صلى الله عليه وسلم " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه"  فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن حرص المرء على المال والشرف سبب لإفساد دينه ، فربما لا يسلم من دينه مع حرصه على المال إلا القليل.

قال ابن رجب : ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف الذي لا قيمة له، وقد كان يمكن لصاحبه اكتساب الدرجات العلى والنعيم المقيم فضيعه الحريص في طلب رزق مضمون مقسوم لا يأتي منه إلا ما قدر وقسم ثم لا ينتفع به بل يتركه لغيره ويرتحل عنه ويبقى حسابه عليه ونفعه لغيره"

والحرص المذموم على المال هو شدة محبته مع شدة طلبه من وجوهه المباحة مع المبالغة في ذلك، ويقبح الحرص إن طلب العبد المال من وجوه محرمه.

ولنعلم أنه لا علاقة بين القناعة والفقر، فقد يكون الغني قنوعا بما آتاه من مال، فيعرف لله فيه حقا، فيزكيه ويصرفه في وجوه الخير، ورب إنسان فقير غير قنوع، هو دائم التسخط من قلة ذات اليد.
كما أن القناعة لا تتعارض مع السعي في طلب الرزق والعمل، بل من القناعة أن تسعى وتعمل ثم ترضى بما قسم الله لك.  

فلْنَحْرِص عبادَ الله على القناعةِ والرِّضا بما آتانا الله تعالى إيّاه من النِّعَم، ولْنعوِّدْ أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا على التزامِ شُكْرِ اللهِ وحمدِه، وعلى الحذرِ من الجُحودِ والاعتراضِ والتذمُّر؛ فإنَّ الشُّكْرَ قيدٌ للنِّعَمِ، وإنَّ الجُحودَ سببٌ لاضْمِحْلالِ النِّعَمِ وزَوالها، قال تعالى: (وإذْ تأَذَّنَ ربُّكُمْ لَئِنْ شَكَرتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ولَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذابي لَشديد).
فاللهُمَّ أَعِنّا على ذكركَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عبادتك، إنّك سميعٌ قريبٌ مجيب.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق