الخميس، 6 نوفمبر 2014

وسائل تجنب الفتن - الواجب تجاه الوطن


الخطبة الأولى : معاشر المؤمنين : روى أبو داوود في سننه عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ )) ، السعادةُ مَطْلَبُ كلِّ إنسان، وغايةٌ تُنشَدُ وهدفٌ يُطلَب ، وقد بين لنا ديننا الإسلامي الطرق والمسببات التي تحقق السعادة للعبد في الدارين ليفوز بموعود الله تعالى :" وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ" أي دائم لا ينقطع .

ومن أسباب تحقيق السعادة للعبد تجنب الفتن والخوض فيها، فالفتن عواقبها وخيمة، وإن زينت وبهرجت، إلا أنها سم قاتل ونار تحرق،  و الفتن في أول بروزها وبدوِّ ظهورها تشتبه على كثير من الناس، فيرى القبيح حسنا، والباطل حقا،  عن أي موسى الأشعري رضي الله عنه : «إنَّ الفتنة إذا أقبلت شبَّهت، وإذا أدبرت تبيَّنت» وقد بوب البخاري في صحيحه بابا فقال : بَاب الْفِتْنَة الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ
الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً                     تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا             وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ
شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ                  مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ

والفتنة إذا وقعت أصابت بشررها كل أحد  إلا من عصمه الله قال تعالى : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " فإذا اشتدت عجز أهل العلم والعقل عن إيقافها قال ابن تيمية : والفتنة إذا وقعت عَجَزَ العقلاءُ فيها عن دفع السُّفهاء " ، وخطر الفتن على الدين عظيم جدا قال صلى الله عليه وسلم: " بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا " وعن مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير قال : «إنَّ الفتنة لا تجيء حين تجيء لتهدي النَّاس ، ولكن لتُقارعَ المؤمنَ على دينه»
ولأجل عظم خطورة الفتن كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من منها ويأمر أصحابه بذلك، فروى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة لأصحابه :تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ"

عباد الله : كيف تُتقي الفتن ؟ سؤال يحتاجه كل من يريد لنفسه السلامة من الفتنة والوقاية من شرها وخطرها وضررها
فاعلموا رحمكم الله أن من أهم أسباب تجنب الفتن ملازمة تقوى الله عز وخل في جميع الأحوال ، والله تعالى يقول: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" ، فقوله تعالى: " يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا" أي من كل فتنةٍ وبليةٍ وشر . والتقوى - عباد الله - عواقبها حميدة ومآلاتها رشيدة ، والعاقبة دائماً وأبدا لأهل التقوى ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا كَانَتْ فِتْنَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ قَالَ طَلْقٌ بن حبيب: «اتَّقُوهَا بِالتَّقْوَى» ، قَالَ بَكْرٌ: أَجْمِلْ لَنَا التَّقْوَى، قَالَ: «التَّقْوَى عَمَلٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، رَجَاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالتَّقْوَى تَرْكُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، خِيفَةَ عِقَابِ اللَّهِ "  فتقوى الله جلّ وعلا ليست كلمةً يقولها المرء بلسانه أو دعوى يدّعيها ؛ وإنما تقوى الله  صلاح في القلوب وزكاء في الأعمال وجدّ واجتهاد في طاعة الله وبُعد عن النواهي والمحرمات . فهذه حقيقة التقوى التي حريٌّ بصاحبها أن يجنَّب الفتنة ويوقي من كل شر في الدنيا والآخرة.

ومن الضوابط المهمة عباد الله لاتقاء الفتن : لزوم الكتاب والسنة والاعتصام بهما ؛ فإن من  اعتصم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هُدي إلى صراط مستقيم وسلِم من كل بلية وشر ، و السنة سبيل النجاة في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة : " السنة سفينة نوح ، فمن ركبها نجا ومن تركها هلك وغرق " ، إن من أمّر السنة - عباد الله - على نفسه نطق بالحكمة وسلِم من الفتنة ونال خيري الدنيا والآخرة ، وإلى هذا أرشد رسولنا عليه الصلاة والسلام قال (( فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ )) رواه أبو داود.

وإن من الضوابط المهمة لاتقاء الفتن : البعد عن التسرع والعجلة والاندفاع ، فإن العجلة والتسرع لا يأتيان بخير ؛ بل إنهما يفضيان بصاحبهما إلى كل شر وبلاء ، فعواقب العجلة وخيمة ونهاياتها أليمة ، والحليم المتأني يظفر بمقصوده بإذن الله ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " إنها ستكون أمور مشتبهات فعليكم بالتُؤدة - أي عدم العجلة والتسرع - فإنك أن تكون تابعاً في الخير، خيرٌ من أن تكون رأساً في الشر"  ، وعن على بن أبى طالب رضي الله عنه قال: " لا تكونوا عُجُلا مذاييع بُذرا، فإن من ورائكم أمورا متماحلة رُدُحا " ؛ أي وراءكم فتن ثقيلة، فتجنبوا العجلة وتجنبوا إذاعة الشر والخوض في الخصومة ، وتجنبوا بذْر الفتنة وأصولها في الناس .

عباد الله ؛ وإن مما تتقى به الفتن : الرجوع إلى العلماء الراسخين والأئمة المحققين أهل العلم والأناة والحكمة والبصيرة بدين الله والفقه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، خصوصا الأكابر فلا يزال الناس بخير ما أخذوا عن العلماء الأكابر ، قال صلى الله عليه وسلم: (( الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ )) ، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " لا يزال الناس بخير ما أخذوا عن أكابرهم ، وإذا أخذوا عن الأصاغر هلكوا " . إن الأخذ عن الأئمة الراسخين والعلماء المحققين والفقهاء المدققين أمَنَة بإذن الله وصِمام أمان، ونحن أُرشدنا إلى ذلك في كتاب الله عز وخل ، قال الله تعالى: " وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا " ، وفي هذه الآية - عباد الله - أدَّبنا الله جل وعلا عند حصول أمر يمسّ أمْن الناس أو يمس مصالحهم أو يمس خوفهم أن يكون رجوعنا وتعويلنا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أقوال العلماء الراسخين والفقهاء المحققين المدققين الذين طال باعهم وعظم حظهم ونصيبهم من دراسة كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه .

عباد الله ؛ وإن من الأمور التي تتقى بها الفتن : لزوم الجماعة والبعد عن الفرقة ؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة شر وعذاب ، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (( الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ )) ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث متكاثرة ونصوصٌ متضافرة في الحث على لزوم الجماعة ، ومن أراد أن يصلِح في الناس فليكن واحداً منهم ولازماً لجماعتهم وليصلِح بالتي هي أحسن على ضوء ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، أما أن يخرج عن الجماعة بزعم أنه يريد إصلاحها ثم يفرّق كلمة الناس ويخلخل صفهم ويشق كلمتهم فأي خير في هذا !! وأي نفع أو فائدة ترجى من ورائه!!

عباد الله ؛ وإن من الأمور العظيمة التي تتقى بها الفتن : حسن الصلة بالله والإقبال على دعائه وسؤاله سبحانه ؛ فإن الدعاء - عباد الله - مفتاح كل خير في الدنيا والآخرة ، والله جلّ وعلا لا يخيِّب عبداً دعاه ولا يرد مؤمناً ناجاه ، فالواجب علينا - عباد الله - أن نسأل الله دائماً وأبداً أن يجنبنا والمسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن، وقد جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة: ((تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )) فقال الصحابة رضي الله عنه : (( نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )) .

وإن من الأمور التي تنجي صاحبها من الفتن : عبادة الله تبارك وتعالى ، والإقبال على طاعته ، وعدم التصدر للفتن والبروز لها ، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ)) ، فأرشد صلى الله عليه وسلم في زمن الفتنة  إلى الانشغال بعبادة الله جلّ وعلا والإقبال على طاعته ، وقد جاء في الصحيح أيضا عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلةً فزعا ثم قال: ((سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ ، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ )) ؛ وهنا تأمل أيها المؤمن إلى أي شيء أرشد صلوات الله وسلامه عليه عند حصول الهرج وهو القتل والخصومة والفتنة ؟ إنما أرشد إلى العبادة والطاعة والإقبال الصادق على الله



الخطبة الثانية :
جماعة المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه ، مُعافى في جَسَدِهِ ، عندهُ قوتُ يومِه ، فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها " في الحديث تذكير بنعم الله على العبد، فإن الله –سبحانه وتعالى- خلق العباد لعبادته وتوحيده فقال: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" وأهم النعم التي يحتاجها العابد لتحقيق هذا الهدف السامي هي أمن في نفسه وجماعته وبلده، وعافية في صحته وجسده، وطعام يتقوى به على طاعة الله، وفي ذلك تعليم لخلق القناعة والزهد في أمور الدنيا، والاهتمام بأمر العلم والعمل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ  .

أيها المسلمون: الأرض التي تتوافر فيها هذه النعم من الأمن والعافية والغذاء حري بأهلها أن يتعاونوا على حفظها والعمل على الدفاع عنها وحفظ مكتسباتها، وهذا أمر مجبولة عليه النفوس السليمة، وهو محبة الوطن والدفاع عنه .

من نعم الله علينا أن أسكننا هذه الأرض – دولة الإمارات العربية المتحدة – وجعل لنا فيها الأمن والأمان والراحة والطمأنينة ، وهي الوطن الذي نشأنا فيه وترعرعنا وتعلمنا على أرضه وذلك بفضل من الله المنعم ثم بفضل ما يسر لهذه البلاد من الخيرات وولاة الأمر من الحكام- أعزهم الله- حيث لم يبخلوا علينا في شيء بل وفروا لنا كل ما نحتاج إليه في حياتنا، فإذا تقرر هذا؛ فما هو الواجب علينا ؟ إن الواجب على أبناء هذا الوطن أولا شكر الله تعالى على هذه النعم بأن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، فمن شكر وعد بالمزيد قال سبحانه : " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ "  ، ثم الشكر والدعاء لولاة أمرنا الذين بذلوا الغالي والنفيس لأجل توفير وسائل الحياة السعيدة لأهل هذه الدولة، ثم على أبناء هذا الوطن محبته، و التكاتف بين أفراد مجتمعه والتلاحم فيما بينهم، فإذا كنا لبنة واحدة؛ عجز عنا العدو وباء طمعه بالخسران.

ومن مقتضى محبة الوطن القيام بالواجبات المنوطة على كل فرد بأمانة وإخلاص، على اختلاف المواقع والمراكز والمناصب والرتب، ومن مقتضى محبة الوطن؛ المحافظة على ثرواته وخيراته، وعدم العبث بها وهدر أموال بيت المال


ملاحظة: الخطبة الأولى مقتبسة من خطبة للشيخ عبد الرزاق البدر مع الاختصار والتعديل 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق