الجمعة، 23 أغسطس 2013

خطبة جمعة : تأملات في سورة الضحى

الخطبة الأولى :  أيها المسلمون يقول ربنا عز وجل في محكم التنزيل : "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ  " فمن عظيم مقاصد إنزال القرآن تدبر آياته ومعانيه، وقد حث الله سبحانه على هذه العبادة ورغبهم فيها فقال :" أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"  ، فبتدبر كلام الله يتعرف العبد على ربه ومولاه، فيزيد إيمانه، وتقوى علاقته بربه، قال ابن القيم: فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر... فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها " 
ومن سور القرآن التي بين الله فيها سبحانه وتعالى مكانة نبينا صلى الله عليه وسلم وعلوَّ قدره، والنعم التي أسبغها عليه وعلى أمته سورة الضحى . 

فروى البخاري عن جُنْدُب بْنِ سُفْيَانَ - رضى الله عنه - قَالَ اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا مُحَمَّدُ إِنِّى لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ ، لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَالضُّحَى،  وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى 

فأقسم ربنا سبحانه وتعالى في بداية السورة بالضحى وهو النهار وبالليل إذا أقبل فغطى كل شيء بظلمته الحالكة، وسكون الخلق فيه، وهذا قسم عظيم بطرفي الزمان وهو الليل والنهار، ورب العزة لا يقسم إلا بعظيم، والخلق لا يجوز لهم أن يقسموا إلا بالله العظيم وحده دون سواه أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته، فروى الإمام أحمد عَنِ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَحَلَفَ رَجُلٌ بِالْكَعْبَةِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَيْحَكَ لَا تَفْعَلْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فقد أشرك" . 

وأما المقسم عليه فهو قوله تعالى : "مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" فيخبر الله سبحانه وتعالى عن امتنانه على نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه ما تركه وما أبغضه، بل هو خليل الله، والخلة أعلى أنواع المحبة، قال صلى الله عليه وسلم:" فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِى خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً " ، وما تركه ربه بل رعاه وحماه وحفظه قبل ولادته وقبل بمبعثه وبعد موته .قال تعالى : " وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا" 

ثم بين الله سبحانه وتعالى عظيم الأجر والثواب المعد للنبي عليه الصلاة والسلام فقال :(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى)  أَيْ: أَنَّ مَا أعدَّهُ اللهُ تعالَى لكَ فِي الآخرةِ خيرٌ مِنَ الدنيَا ومَا فيهَا، فلاَ تحزَنْ علَى مَا فاتَكَ منْهَا، فإِنَّ الذِي لكَ عنْدَ اللهِ خيرٌ منْهَا، فكانَ  أزهَدَ الناسِ فِي الدنيَا، ولَمَّا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ  فِي آخِرِ عُمرِهِ بيْنَ الْخُلْدِ فِي الدنيَا وَبينَ اللحاقِ بربِّهِ عزَّ وجلَّ، اختارَ مَا عندَ اللهِ تعالَى طلباً لذلكَ النعيمِ، فعَن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ  أنَّ رَسُولَ اللَّهِ  خرجَ فِي مَرَضِهِ عَاصِبًا رَأْسَهُ فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ... فَقَالَ:« إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ» 

وقد بين هذه الخيرية وأكدها بقوله تعالى : "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى"  ولقد أعطاه الله تعالى ما يرضيه صلى الله عليه وسلم،  فقال تعالى : "عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا" ، وبين صلى الله عليه وسلم هذا المقام المحمود وهو الشفاعة العظمى يوم القيامة، فإن الخلق يأتون الأنبياء من أولي العزم ليشفعوا لهم عند الله، فيعتذرون، ثم يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا نبي الله أنت الذي فتح الله لك وغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر وقد ترى ما نحن فيه فاشفع لنا إلى ربك فيقول أنا صاحبكم فيخرج يجوس بين الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة فيأخذ بحلقة في الباب من ذهب فيقرع الباب فيقول من هذا فيقول محمد فيفتح له حتى يقوم بين يدي الله عز وجل فيسجد فينادى ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فذلك المقام المحمود  " رواه الطبراني . 

وأعطاه الله الوسيلة وهي منزلة عالية لا تنبغي إلا لعبد واحد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ. رَوَاهُ مُسلم 

ثم بين الله امتنانه على نبيه صلى الله عليه وسلم بجملة من النعم في الدنيا فقال : " أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى" فقد ولد صلى الله عليه وسلم يتيم الأب، ثم توفيت أمه ولما يتجاوز السادسة من عمره، ولكن الله يسر من قام على تربيته والعناية به .
ومن هذه الرعاية قوله تعالى :" وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى" أي غير عالم فمنحك العلم بالوحي قال تعالى : " وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا" 

ومن رعاية الله به أن أغناه بعد فقر  فقال : "وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى" حتى فاض المال يوم حنين فأعطى عطاء من لا يخشى الفقر. 
هذه منزلة نبيا صلى الله عليه وسلم عند ربه، ألا فاعرفوا له قدره، واتبعوا سنته، واقتفوا أثره، تكونوا من المفلحين . 


الخطبة الثانية : أيهَا المسلمونَ: وقَدْ أشارَتْ سورةُ الضحَى إلَى أهميةِ رعايةِ الأيتامِ الذينَ فقدُوا آباءَهُمْ، قالَ تعالَى:(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) فكانَ صلى الله عليه وسلم يحنُو علَى الأيتامِ ويرعاهُمْ، ويُشجِّعُ علَى كفالتِهِمْ، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :"أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى" وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَلِيلًا" فهنيئاً  لكافلِ اليتيمِ، بِهذَا المقامِ العظيمِ.

كمَا أشارَتِ السورةُ إلَى رعايةِ الفقراءِ والمحرومينَ، قالَ تعالَى:( وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) فكانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعطِي عطاءَ مَنْ لاَ يخشَى الفقْرَ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ قَالَ:« مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ»

وقَدْ حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ استغلالِ ضعافِ النفوسِ لهذَا التوجيهِ القرآنِيِّ، بإظهارِ المسكنةِ وفقْرِ الحالِ، تَهَرُّباً مِنْ مَؤونةِ العملِ والكسبِ الحلالِ، وطلباً للاستزادةِ مِنَ المالِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ»

واعلمَوا عبادَ اللهِ أنَّ الصدقاتِ والمساعداتِ الاجتماعيةَ، التِي تُقدِّمُهَا الجهاتُ الخيريةُ والرسميةُ، لاَ تَحِلُّ إلاَّ لِمَنْ يَستحِقُّ تلكَ العطيةَ، وفقَ الضوابطِ الشرعيةِ، والشروطِ القانونيةِ، فلاَ يَحِقُّ لأحدٍ أَنْ ينتَزِعَ حقًّا مِنْ حُقوقِ المحتاجينَ، بتقديمِ معلوماتٍ أَوْ مُستنداتٍ تُخالفُ الواقعَ وتُضلِّلُ الْمَانِحِينَ، فهذَا عمَلٌ يُنَافِي المروءةَ والدِّينَ، ويُوجِبُ لفاعلِهِ الجزاءَ يومَ الدِّينِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :«إنَّ رِجالًا يتَخَوَّضُونَ في مالِ اللّهِ بِغيْرِ حقٍّ فلَهُمْ النّارُ يوم الْقِيامَةِ»

عباد الله :اعلمُوا أنَّ التحدُّثَ بِنِعَمِ اللهِ تعالَى نوعٌ مِنَ الشكْرِ للهِ علَى مَا أنعَمَ وأَوْلَى، ولذلكَ أمَرَ اللهُ سبحانَهُ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم بذلكَ فِي ختامِ سُورةِ الضُّحَى فقالَ:( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) وقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ والجَماعةُ رَحمةٌ، والفُرقةُ عَذاب»
فنحمَدُ اللهَ تعالَى علَى نِعَمِهِ العُظْمَى التِي نتفَيَّأُ ظلالَهَا فِي إماراتِنَا الحبيبةِ، فالقلوبُ مُتآلِفَةٌ بكَرَمِ اللهِ، وبلادُنَا مستقرَّةٌ برعايةِ اللهِ، وقادَتُنَا نُحبُّهُمْ ويُحبونَنَا بِحُبِّ اللهَ، وندعُو اللهَ عزَّ وجلَّ أَنْ يحفظَهُمْ بِحفْظِهِ، ويَزيدَهُمْ بتوفيقِهِ" 
فلندع لهم بالخير والصلاح، ولنسع إلى تثبيت الأمن في بلادنا، ولنسمع ولنطع لمن ولاه الله أمرنا في المعروف، وأن لا نشق وحدة صفنا. 
ولا يغرنكم ويخدعكم دعاة الضلال الذين يزينون الخروج على ولاة الأمر باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الطغاة فإنهم دعاة على أبواب جنهم، فبسببهم سفكت دماء المسلمين، وضيع الأمن في بلادهم، وانتهبت الأموال، وربما حرضوا على الجهاد دون إذن ولي الأمر وهم جلوس في بيتوهم ومع أسرهم . 
فلنحمد الله على ما منّ به علينا من نعم في بلادنا، فبالشكر تزيد النعم وتدوم، وبالكفر وبنكرانها تضمحل وتزول. 

هناك تعليق واحد: