الخميس، 29 يناير 2015

خطبة جمعة : فاعتبروا يا أولي الأبصار

الخطبة الأولى : أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالاِتِّعَاظِ وَالتَّفَكُّرِ، وَالاِعْتِبَارِ وَالتَّدَبُّرِ، فَقَالَ جَلَّ وَعَلاَ:( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ). أَيِ: اتَّعِظُوا يَا أَصْحَابَ الْعُقُولِ وَالأَلْبَابِ. وَضَرَبَ لَنَا الأَمْثَالَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، لِتَكُونَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، فَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ:( وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). وَقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَحْدَاثِ السَّابِقِينَ، لِنَقِفَ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ دُرُوسٍ وَعِظَاتٍ، وَعِبَرٍ وَآيَاتٍ، فَقَالَ تَعَالَى:( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لِلْمُؤْمِنِ أَرْبَعُ عَلَامَاتٍ: كَلَامُهُ ذِكْرٌ، وَصَمْتُهُ تَفَكُّرٌ، وَنَظَرُهُ عِبْرَةٌ، وَعِلْمُهُ بِرٌّ " فَهَنِيئًا لِمَنْ تَفَكَّرَ وَاعْتَبَرَ، وَتَذَكَّرَ وَاتَّعَظَ.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مِنَ الاِعْتِبَارِ أَنْ يَتَفَكَّرَ الإِنْسَانُ فِيمَا صَدَرَ مِنْهُ فِي يَوْمِهِ وَأَمْسِهِ، فَإِنْ وَجَدَ خَيْرًا حَافَظَ عَلَيْهِ وَاسْتَزَادَ مِنْهُ، وَإِنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ بَادَرَ إِلَى عِلاَجِهِ وَتَصْحِيحِهِ، قَالَ سُبْحَانَهُ:( بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ).

فَالْعَاقِلُ فِي تَفَكُّرٍ دَائِمٍ، لِلرُّقِيِّ بِالنَّفْسِ، وَالاِسْتِزَادَةِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَفِعْلِ الصَّالِحَاتِ، قَالَ تَعَالَى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). فَدَوَامُ التَّفَكُّرِ سَبَبٌ لإِزَالَةِ الْعُيُوبِ، وَتَكْمِيلِ النَّقْصِ، وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا.

أَيُّهَا الْمُصَلُّونَ: وَمِنْ وُجُوهِ الاِعْتِبَارِ أَنْ يَعْتَبِرَ الإِنْسَانُ بِغَيْرِهِ، فَيَسْتَفِيدَ مِمَّا اسْتَفَادَ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَيَتَجَنَّبَ مَا أَخْطَأَ فِيهِ أَوْ تَضَرَّرَ مِنْهُ، وَيَتَعَلَّمَ مِمَّا يَدُورُ حَوْلَهُ، يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ.

وَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ الإِنْسَانُ فِيمَا عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْخِصَالِ، فَيَقْتَدِيَ بِأَحْسَنِهَا، وَيَبْتَعِدَ عَنْ سَيِّئِهَا، وَإِنْ أَعْجَبَهُ مِنْ غَيْرِهِ فِعْلٌ جَمِيلٌ زَيَّنَ نَفْسَهُ بِهِ، أَوْ خُلُقٌ كَرِيمٌ سَارَعِ إِلَيْهِ، أَوْ عِلْمٌ نَافِعٌ أَخَذَ بِهِ، أَوْ تَجْربَةٌ نَاجِحَةٌ اسْتَفَادَ مِنْهَا، يَقُولُ الْحَقُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي وَصْفِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ:( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الْأَلْبَابِ).

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ وُجُوهِ التَّفَكُّرِ وَالاِعْتِبَارِ: التَّأَمُّلُ فِي بَدِيعِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّفَكُّرُ فِي عَجَائِبِ صُنْعِهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:« يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدِ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي». قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ -أَيْ ثَوْبَهُ- ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ:« أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا:( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ)».

عباد الله : ومن وجوه التفكر والاعتبار النظر في أحوال أهل الكفر و المعاصي والسيئآت، الذين تجرأوا على رب الأرض والسموات، كيف عاجلهم الله بالعقوبات، مع ما ينتظرهم من العذاب الأليم قال سبحانه : " فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ "  

جماعة المسلمين : ومن وجوه التفكر والاعتبار النظر في عواقب الفتن وما تجره على الإسلام والمسلمين من ويلات ومصائب، فَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: جَاءَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ فِي حَاجَةٍ، فَقُلْنَا: اجْلِسْ حَتَّى نَطْلُبَ لَكَ حَاجَتَكَ فَجَلَسَ، فَقَالَ: عَجِبْتُ لِقَوْمٍ مَرَرْتُ بِهِمْ يَتَمَنَّوْنَ الْفِتَنَ، يَزْعُمُونَ لَيُبْلِيَنَّهُمُ اللَّهُ فِيهَا مَا أَبْلَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ:« إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ»

وإن الناظر في التاريخ الغابر ليرى أثر الفتن رأي عين، فالعاقل من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ به غيره.

ولقد ذكر لنا التاريخ جملة من الثورات التي وقعت في بلاد المسلمين، خرجوا للمطالبة بالحريات والمشاركة في الحكم والسياسات، فما حصدوا إلا القتل والدمار.

من أولى الثورات التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها ما وقع زمن عثمان رضي الله عنه، إذ خرجوا عليه ناقمين عليه سياسته، فتمالؤوا عليه واجتمعوا من كل مصر وبلد، فدخلوا مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وحاصروا بيت الخليفة وأمروه أن يخلع نفسه من الخلافة، ومنع من الخروج للصلاة بل ومن جلب الماء، وبعد أربعين يوما وفي شهر ذي الحجة الحرام تسوروا عليه بيته فقتلوه وهو واضع المصحف بين يديه.
فما هي النتائج التي تحصلت لهم من ثورتهم ؟
قتل خير أهل الأرض ذلكم الزمان، وانتهكت حرمات المدينة، وانتهك الشهر الحرام ذو الحجة، واضطربت أمور المسلمين واختل أمنهم، وبدأت على إثر ذلك سلسلة من الثورات والفتن لم تنته إلى يومنا هذا.

وفي زمن علي رضي الله عنه وقعت معركة الجمل، وعجز العقلاء من الصحابة عن إيقافها، قال ابن تيمية رحمه الله : " والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، فصار الأكابر رضي الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكفِّ أهلها، وهذا شأن الفتن كما قال تعالى : " وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" وقتل في هذه الفتنة الكثير من المسلمين.
ثم ما لبث أن ثار الخوارج فقاتلهم علي رضي الله عنه  فقتلهم.

وفي سنة إحدى وثمانين للهجرة خرج قائد جيش الحجاج عبد الرحمن ابن الأشعث على الحجاج بسبب ظلمه وطغيانه، ثم طالب بخلع الخليفة، قال ابن كثير في البداية والنهاية : "وتفاقم الأمر وكثر متابع ابن الأشعث على ذلك ، واشتد الحال وتفرقت الكلمة جدا ، وعظم الخطب واتسع الخرق" واقتتل جيش ابن الأشعث مع الحجاج فماذا كانت النتيجة؟
أن فرّ ابن الأشعث إلى بلاد الروم ثم مات منتحرا، وقتل من جيشه ما يزيد على مائة وثلاثين ألف رجل من المسلمين، واختل الأمن، وافتتن الناس ، قال الحجاج للشعبي رحمه الله: كيف وجدت الناس بعدنا يا شعبي ؟ قال: أصلح الله الامير، قد اكتحلت بعدك السهر، واستوعرت السهل، واستوخمت الجناب، واستجلست الخوف، واستحليت الهم، وفقدت صالح الاخوان، ولم أجد من الامير خلفا.

ومن الثورات والفتن التي فيها عبر وعظة ما وقع زمن إمرة الحكم بن هشام الداخل الأموي، إذ كثر العلماء وطلبة العلم، قال المؤرخ الذهبي في سير أعلام النبلاء:" فلما أراد الله فناءهم عز عليهم انتهاك الأمير للحرمات .. فجيشوا ليخلوه، وجرت بالندلس فتنة عظيمة على الإسلام وأهله " فما هي النتيجة ؟
قتل ما يزيد عن أربعين ألفا من المسلمين، وسجن آخرون، وهرب الباقي، وهدمت ديارهم ومساجدهم .

أحداث جسام ينظر فيها العاقل فيتعظ وبعتبر، وتمر على الغافل كسحاب صيف،  لا تؤثر فيه.

فَاللُهَمَّ أَعِنَّا عَلَى التَّفَكُّرِ وَالاِعْتِبَارِ، وَارْزُقْنَا حُسْنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، ووَفِّقْنَا جَمِيعًا لِطَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَطَاعَةِ مَنْ أَمَرْتَنَا بِطَاعَتِهِ, عَمَلاً بِقَوْلِكَ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ "


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : العاقل الفطن اللبيب من نظر في عواقب الأمور ومآلات الأفعال، فلا يقدم على ما يندم عليه، خصوصا إذا رأى آثاره رأي عين، في زماننا لم يعتبر الناس بتلكم الأحداث والفتن، فخرجوا في ثورات أطلقوا عليها ثورات الربيع العربي، كانت نتيجتها كنتيجة سابقتها، فسفكت الدماء ولا زالت، وانتهكت الأعراض، ويتم الأطفال، ورمل والنساء، واستبدل الأمن بالخوف، والراحة بالنصب.
فلا بحقوق امتازوا، ولا بنصر حققوا، وإنما هي الذلة والمهانة .

قال ابن تيمية رحمه الله : وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير ..وغاية هؤلاء إما أن يغلبوا وإما أن يُغلبوا، ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة .. فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا. والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا " ا.هـ

فاتقوا الله يا عباد الله في أنفسكم واعبدوا ربكم وأطيعوه، واسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله أمركم، واشكروا ربكم على ما أنتم فيه من النعم، فبالشكر تزيد وتفيض، وبالبطر تنقص وتزول، وإن رأيتم ما لا يرضيكم وترون أن فيه هضما لحقوقكم فاصبروا وأرجعوا سبب ذلك إلى ذنوبكم وما اكتسبتموه من الآثام فـ " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ "  وأقيموا للسلطان عذره لانتشار الأمور عليه وكثيرة ما يكابده من ضبط أمور الدولة ومدافعة الأعداء، وكثرة الكاذبين والمنافقين .


هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أُمِرْتُمْ بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى:( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلىالله عليه وسلم :« مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً»

الأربعاء، 28 يناير 2015

مقال : أمانة الكلمة


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد :
إخواني الأفاضل : لقد جعل الله الخطاب وسيلة للتفاهم بين الناس، فينقل أحدهم ما يريد إلى الآخرين بكلمة مفهمة، وخطاب جميل، ليعقلوا عنه قوله، ويفهموا مراده، فتستمر الحياة، ويتعارف الناس، ويتعاونون فيما بينهم.
و بفضل الله سبحانه وتعالى أن يسر لنا من الوسائل ما به تنقل الكلمات، في أزمنة يسيرة ولحظات، فيعرف من في شرق العالم ما قاله من هو في غربه في ثوان يسيرات.
فهذه الشبكة العالمية الانترنت وببرامجها المختلفة، وهذه الصحف والمجلات، وهذه الفضائيات من أكبر وأشهر هذه الوسائل التي اعتنت بنشر الكلمة.
وهذه الكلمة التي تصدرُ من الإنسانِ سواءٌ كانت مسموعةً أو مكتوبةً مقروءة  لها أثرها الكبير، على صعيد الأفراد و المجتمعات و حتى في تحديد المصير ، ولذلك فهي أمانة في عنق صاحبها وسيسأل عنها يوم القيامة ، قال تعالى (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )(قـ : 18 ) ولأجل ذلك كان على الإنسان العاقلِ أن يتفكرَ ملياً قبلَ أن يُصدرَ مقولته وكلمتهُ، فيسمَعها أو يقرأها غيرهُ، وإلا كانت عليه وبالاً يومَ القيامةِ ، قال تعالى (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (الإسراء : 36 ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن العبد ليتكلمُ بالكلمةِ من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخطِ الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب " رواه البخاري 
ولقد ضرب الله سبحانه وتعالى للكلمة مثلا فقال : " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً
كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ" فالكلمة نوعان كلمة طيبة كثيرة النفع، وكلمة خبيثة لا ثبات لها ولا نفع، فلا ينتفع بها المتكلم ولا ينتفع بها غيره .

ولقد حثنا ديننا الإسلامي الحنيف على طيب الكلام، ورهبنا وحذرنا من شره فمن ذلك قوله:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ،يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا"  تعالى الأحزاب: ٧٠ ٧١ .

فيأمر الله تعالى المؤمنين بتقواه ، ويندبهم للقول السديد وهو القول الموافق للصواب أو المقارب له عند تعذر اليقين من قراءة وذكر وأمر بمعروف ونهي عن منكر والعلم والحرص على إصابة الحق ، وسلوك كل طريق موصل لذلك.

ومن القول السديد لين الكلام ولطفه في مخاطبة الأنام كما قال تعالى لموسى عليه السلام لما أرسله لفرعون يدعون إلى الله " اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى " طه: ٤٣ ٤٤.

وورد أن أحد الناس وعظ أميرا من الأمراء فأغلظ له فقال الأمير: هون عليك يا هذا، لقد بعثَ اللهُ مَن هوَ أفضلُ منكَ وهو موسى إلى مَن هو أشرُ مني، وهو فرعون، ومع ذلك قال تعالى:  " فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا" فلن تبلغَ درجةَ موسى ولن أنحدرَ إلى درجةِ فرعون .

فكم نحتاجُ إلى ذلك الأدب لتربية ودعوة من تحت أيدينا من أهلٍ وزوجةٍ وأولادٍ وطلابٍ وموظّفينَ، فهم أولى بالرِّفق واللِّينِ من فرعونَ الطاغيةِ .

ثم ذكر الله تعالى في الآية ثمرات تحقيق التقوى والقول السديد فقال " يصلح لكم أعمالكم " فتكون الكلمة الطيبة سببا لصلاح الأعمال وطريقا لقبولها ، كما أن الإخلال بهما سببٌ لفساد الأعمال وعدمِ قبولها وعدمِ ترتب آثارها عليها  [1]

وقال صلى الله عليه وسلم حاثا على الكلمة الطيبة بكل معانيها  ((وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ)) رواه مسلم .
وللكلمة الطيبة آثارٌ وثمارٌ يجنيها المسلم في حياته وبعد موته ، فالكلمةُ الطيّبةُ تحفظُ المودّةَ، وتديم الصحبةَ، وتمنعُ كيدَ الشيطان من أن يفسدَ ذاتَ البين؛قال تعالى  "وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا" [الإسراء:53]. قال أهل التفسير : والقول الحسن داع لكل خلق جميل وعمل صالح فإن من ملك لسانه ملك جميع أمره " [2]

 بل إنَّ طيبَ الكلام حتى مع الأعداءِ مطلوبٌ؛ لأنَّه سببٌ في إطفاء الخصومة وإخماد الغضبِ؛ مِمَّا يُقرِّبُ القلوبَ ويُذهبُ غيظَ الصدورِ، قال تعالى "وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ "  [فصّلت:34].

 قال طلحةُ بن عمرَ التابعيُّ لعطاءَ بن أبي رباحٍ: إنّك رجلٌ يجتمعُ عندك ناسٌ ذوو أهواءَ مختلفةٍ، وأنا رجلٌ فيَّ حِدّةٌ، فأقولُ لهم بعضَ القول الغليظ. فقال: لا تفعل؛ فإنّ اللهَ تعالى يقول: "وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا"، قال عطاءٌ: فدخلَ في هذا اليهودُ والنصارى، فكيف بالحنيفيِّ؟! يعني: المسلم.

والكلمة الطيبة سبب لدخول الجنة ، فعن أبي المقدامِ عن أبيه عن جدّه قال: قلتُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أخبرني بشيءٍ يوجبُ الجنةَ، قال: ((عَليكَ بِحُسْنِ الكَلاَمِ وَبَذْلِ الطَّعَامِ)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((اتَّقوا النارَ وَلَو بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَن لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)) متفقٌ عليه

وطِيبَ الكلامِ مجالٌ واسعٌ ومفهومٌ عظيمٌ يشملُ مجالات الخيرِ كلِّها؛ من أمر بمعروفٍ ونهي عن منكر وقراءة للقرآن وذكرٍ وتسبيح واستغفار ودعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وملاطفة للزوجات والأولاد، قال صلى الله عليه وسلم :" أربع من أطيب الكلام وهن من القرآن لا يضرك بأيهن بدأت سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر "

وأما النوع الثاني من أنواع الكلم الذي ذكره الله هو الكلمة الخبيثة ، التي لا قرار لها ولا نفع ، فعلى المسلم أن يتركها ويهجرها ، فلن تزيده إلا ندما وحسرة ، بل هي سبب لذم الناس للمتكلم والنيل من عرضه ومكانته ، قال بعضُ السلف: "إنّي لأرى الرجلَ فيُعجبُني، فإذا تكلَّمَ سقطَ من عيني".

والكلمة الخبيثة من أعظم أسبابِ ولوجِ النار ، فقد سُئلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناسِ النارِ . قال : الفم والفرج . وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال :قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله :  قلت بلى يا رسول الله . قال :كف عليك هذا وأشار إلى لسانه . قلت : يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال: ثكلتك أمك ، وهل يكبُ الناسَ في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم .

والكلمة الخبيثة سبب لضياع الحسنات واكتساب السيئات ، قال صلى الله عليه وسلم : أتدرون ما المفلس ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة ، وصيام ، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا وضرب هذا ،فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار .

وكما أنَّ مجالَ الكلمة الطيّبةِ واسعٌ فإنَّ مجالَ الكلمة الخبيثة أوسعُ؛ أعظمُه الإشراكُ بالله تعالى، والقولُ على الله بغير علمٍ، وشهادةُ الزورِ، والسحرُ، والقذفُ، والشتمُ والسّبابُ، والغيبةُ والنميمةُ، والكذبُ، والمراءُ والجدالُ بالباطل، وتزكية النفوسِ، والخصوماتُ، والغناءُ المحرّم، والسُّخريةُ والهمزُ والاستهزاءُ بالمسلمين وبدينهم، كلُّ هذه من أُمّهات الخبائث الموجبة للحرمان من رحمة الله المورثة للضغائن والأحقاد بين الناس.

فعلى المسلم العاقل أن يحفظ لسانه، وأن يطهّره من الخُبْثِ والخبائث، وان يعلم أنّه لن يسع الناسَ بماله، ولكن يسعُهم منه بسطُ الوجه وكفُّ الأذى وحسنُ الخُلُقِ وطيبُ الكلام، ولينظر فيما يكتبه للناس، فإنه سيبقى وإن فني هو، فيذكر بخير إن كان خيرا، ويذكر بشر إن كان شرا.
 وفقنا الله تعالى لما يحبه ويرضاه



[1] - تفسير السعدي بتصرف
[2] - تفسير السعدي

الخميس، 22 يناير 2015

فضيلة الصلاة ومقاصدها - بعض الأحكام المتعلقة بالصلاة .

الخطبة الأولى: جماعة المسلمين يَقُولَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: "إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً" فَالصَّلاَةُ مِنْ أَعْظَمِ رَكَائِزِ الدِّينِ، وَأَنْفَعِهَا فِي الْعَالَمِينَ، وَهِيَ ثَانِي أَرْكَانِ الإِسْلاَمِ، وَدَعَائِمِهِ الْعِظَامِ، فَهِيَ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ آكَدُ مَفْرُوضٍ، وَأَعْظَمُ مَأْمُورٍ، وَأَجَلُّ طَاعَةٍ، وَأَرْجَى بِضَاعَةٍ، مَنْ حَفِظَهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ أَضَاعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ، وَهِيَ عَمُودُ الدِّيَانَةِ، وَرَأْسُ الأَمَانَةِ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ»

وَمَنْزِلَتُهَا فِي الإِسْلاَمِ عَظِيمَةٌ، وَمَكَانَتُهَا كَبِيرَةُ، وَهِيَ دَأْبُ النَّبِيِّينَ، وَمَحلُّ عِنَايَةِ الْمُرْسَلِينَ, فَهَذَا الْخَلِيلُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ دَعَا رَبَّهُ فَقَالَ: "رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ" وَقَالَ سُبْحَانَهُ: "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ" وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ فَقَالَ تَعَالَى: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" وَقَالَ سُبْحَانَهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: "وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِياًّ ، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَنْدَ رَبِّهِ مَرْضِياًّ" وَهِيَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ وَأُمَّتِهِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى".

أَيُّهَا الْمُصَلُّونَ: اعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ أَدَّى الصَّلاَةَ بِحَقِّهَا كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَهْدٌ بِالْجَنَّةِ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: "حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ". وقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ " 

جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى قُرَّةً لِلْعُيُونِ، وَمَفْزَعًا لِلْمَحْزُونِ، وَدَافِعَةً لِلْهُمُومِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أَهَمَّهُ أَمْرٌ فَزعَ إِلَى الصَّلاَةِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَنْهَا: «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ». فَيَا مَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ السُّبُلُ، وَأَصَابَهُ مِنْ دُنْيَاهُ التَّعَبُ، عَلَيْكَ بِالصَّلاَةِ، فَإِنَّهَا رَاحَةٌ لِقَلْبِكَ، وَسَكِينَةٌ لِنَفْسِكَ، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ الله   صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: « يَا بِلاَلُ أَقِمِ الصَّلاَةَ أَرِحْنَا بِهَا». فَهِيَ خُضُوعٌ وَخُشُوعٌ، وَافْتِقَارٌ وَاضْطِرَارٌ، وَدُعَاءٌ وَثَنَاءٌ، وَتَحْمِيدٌ وَتَمْجِيدٌ، وَتَذَلُّلٌ لله الْعَلِيِّ الْحَمِيدِ، يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ». 

وَإِنَّ الصَّلاَةَ سَبَبٌ لِكُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، يَقُولُ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم: «وَالصَّلاَةُ نُورٌ» قال ابن القيم رحمه الله : "  فما استُدْفِعَتْ شرورُ الدُّنيا والآخرة، ولا استُجْلِبَت مصالِحُهُمَا بمثل الصلاة، وسِرُّ ذلك أنَّ الصلاة صِلةٌ باللهِ عَزَّ وجَلَّ، وعلى قدر صِلَةِ العبد بربه عَزَّ وجَلَّ تُفتح عليه من الخيرات أبوابَها، وتُقطعُ عنه من الشرور أسبابَها، وتُفِيضُ عليه موادُ التوفيق مِن ربه عَزَّ وجَلَّ، والعافيةُ والصحة، والغنيمةُ والغِنى، والراحةُ والنعيم، والأفراحُ والمسرَّات، كلها محضرةٌ لديه، ومسارِعةٌ إليه" 

وَهِيَ مِفْتَاحُ قَبُولِ الأَعْمَالِ، وأولُ مَا يُحاسَبُ عليهِ العبدُ بَيْنَ يَدَيْ ربِّ العالمينَ، فإِنْ صلحَتْ كانَ مِنَ الفائزينَ، وفِي الجنةِ مِنَ الخالدينَ، وإِنْ فسدَتْ كانَ مِنَ النادمينَ؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاَتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنِ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَىْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِى مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ»

 وَهي سَبَبٌ لِلاِرْتِقَاءِ فِي الطَّاعَاتِ وَنَيْلِ كَرِيمِ الْخِصَالِ، فَهَنِيئًا لِمَنِ اسْتَقَامَ فِي صَلاَتِهِ وَأَخْلَصَ فِي أَعْمَالِهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «اعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاَةُ». بها ترفع الدرجات في الجنة قال صلى الله عليه وسلم:"ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجه ، وحط عنه بها خطيئة ، وكتب له بها حسنة"

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الصلاةَ تَمنعُ الْمُحَافِظَ عَلَيْهَا مِنَ المعاصِي، وَتَنْهَاهُ عَنِ الفحشاءِ والْمُنكَرِ، وَتهدِيهِ إلَى الصَّوابِ، وتُعينُهُ عَلَى الإقبالِ عَلَى اللهِ تعالَى بظاهِرِهِ وَبَاطنِهِ يقولُ ربُّنا تعالَى: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ" وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ , قَالَ: " إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ مَا يَقُولُ " ، والمقصود بالصلاة التي تهذب النفس الصلاة الصحيحة بأركانها وشروطها وواجباتها وخشوعها. قال ابن تيمية: (فَإِنَّ الصَّلَاةَ إذَا أَتَى بِهَا كَمَا أُمِرَ نَهَتْهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ , وَإِذَا لَمْ تَنْهَهُ دَلَّ عَلَى تَضْيِيعِهِ لِحُقُوقِهَا , وَإِنْ كَانَ مُطِيعًا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } الْآيَةَ . وَإِضَاعَتُهَا التَّفْرِيطُ فِي وَاجِبَاتِهَا , وَإِنْ كَانَ يُصَلِّيهَا"ا.هـ  ، فحَتَّى تُؤْتِي الصلاةُ ثِمَارَهَا فَإنّ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يقومَ بقلْبٍ حاضِرٍ مُنيبٍ، مُستحضِرًا الخشوعَ للهِ تعالَى، مُفَرِّغًا قلبَهُ مِنَ مشاغِلِ الدنيَا، مُقبلاً عَلَى ربِّهِ بظاهرِهِ وباطنِهِ، يرجُو رحمتَهُ، ويسألُهُ مِنْ فضلِهِ العظيمِ، فالصلاةُ المستوفِيَةُ للشروطِ والأركانِ هِيَ التِي يُرْجَى قبولُهَا، ويُأمَلُ وصولُهَا، وَمَنْ لَمْ يحفَظْ للصلاةِ حقَّهَا فَقَدْ فرَّطَ وضيَّعَ، فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأنصارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ؟ قَالَ: «لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلاَ سُجُودَهَا -أَوْ قَالَ- لاَ يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» 

فَاللَّهُمَّ ارْزُقْنَا المحافظةَ علَى الصلواتِ، وتقبَّلْ منَّا الطاعاتِ، وارْفَعْ لنَا الدرجاتِ، ووَفِّقْنَا جَمِيعًا لِطَاعَتِكَ.
نَفَعَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبِسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ صلى الله عليه وسلم


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : لأهمية الصلاة في الإسلام نقف معها وقفات مهمة نتعلم منها بعض الأحكام ، الوقفة الأولى : دلت الأدلة الصحيحة على أن الصلاة المفروضة تجب على الرجال جماعة في المسجد ولا يجوزُ أن تصلى الصلاةُ المفروضةُ دون الجماعةِ لغيرِ عذرِ ، فقد جاء رجل أعمى من أهل المدينة يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يصلي في داره ، وذلك بسبب كونه أعمى قد كبر سنه ، وليس له قائد يلازمه إلى المسجد ، ولبعد داره عن المسجد ووجود الهوام والسباع في المدينة ، ومع كل ذلك لم يرخص له النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته ،  فقَالَ له النبي صلى الله عليه وسلم : هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ  : لا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً . رواه مسلم
وتوعد النبي صلى الله عليه وسلم تارك الجماعة بالإحراق بالنار ، فقَالَ : لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ فِتْيَتِي فَيَجْمَعُوا حُزَمًا مِنْ حَطَبٍ ثُمَّ آتِيَ قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ فَأُحَرِّقَهَا عَلَيْهِمْ  " 

عباد الله : صلاةُ الجماعةِ أجرها عظيم وفضلها جزيل ، ندم وخسر من خسر هذا الفضل  فمن أجر صلاة الجماعة ، ما رواه أبو هريرة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ .  قَالَ : إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ  وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ  ، ومن أجرِ صلاةِ الجماعةِ ، أن مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ " ومَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ  . بهذا صحت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الوقفة الثانية فهي أن الله سبحانه وتعالى جعل للصلاة أوقاتا معلومة لا يجوز للمسلم أن يتجاوزها ، قال تعالى: " إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا "  وأداء الصلاة في غير وقتها من غير عذر كبيرة من الكبائر ، تُوِعِدَ فاعلُ ذلك بالويل والعذاب قال تعالى " فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ،الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ" ، عن مصعب بن سعد قال : قلت لأبي : يا أبتاه أرأيت قوله تبارك وتعالى (الذين هم عن صلاتهم ساهون) أينا لا يسهو أينا لا يحدث نفسه ؟ قال : ليس ذاك إنما هو إضاعة الوقت يلهو حتى يضيع الوقت . وقال صلى الله عليه وسلم: (من فاتته صلاة فكأنما وتر أهله وماله) .

ومن هنا نعلم خطأ كثير من الناس الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها لغير عذر شرعي كمن يلعب الكرة بعد العصر حتى يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العشاء أو من يلهيه العمل حتى يخرج وقت الصلاة ، أو من ينام عن الصلاة المكتوبة وخصوصا صلاة الفجر التي تعود الناس تركها والنوم عنها فهؤلاء متوعدون بالعذاب ،  قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّهُ أَتَانِي، اللَيْلَةَ، آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي: انْطَلِقْ وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ، فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتَهَدْهَدُ الْحَجَرُ ههُنَا، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ، فَيَاْخُذُهُ، فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى.قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: سُبْحَانَ اللهِ مَا هذَان فقالا: أمّا الرجل الذي أتيتَ عليه يُثلغ رأسه بالحجر فإنّه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة)) 

والتخلف عن صلاة الفجر في الجماعة من صفات المنافقين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ) فحافظوا على الصلاة في أوقاتها المعلومة ولا تضيعوها فتهلكوا . 

الوقفة الثالثة : فقد قال صلى الله عليه وسلم ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) فمن أجل أن تكون الصلاةُ صحيحةً مقبولةً عند الله فلا بد أن يصليها المسلم كما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن القيم : حاجة الناس إلى معرفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب " 

والصلاة تتفاوت في الأجر والقبول عند الله بحسب إتقانها وإقبال القلب على الله فيها ، فعن عمار بن ياسر، قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: ( إن الرجُلَ لَيَنْصَرفُ وما كُتبَ له إلا عُشرُ صلاة ، تُسعُها، ثُمُنُها، سُبُعُها، سُدسُها، خُمسُها، رُبُعُها، ثُلُثُها، نِصْفُها " 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الرجل ليصلي ستين سنة وما تقبل له صلاة لعله يتم الركوع ولا يتم السجود ويتم السجود ولا يتم الركوع "

فكثير من المصلين – هداهم الله – إذا دخلوا في الصلاة كان همهم قضاؤها كأنها ثقل يرمونه عن ظهورهم مع أنهم يناجون ربهم وإلههم قال صلى الله عليه وسلم : إذا كان أحدكم في صلاة فإنه يناجي ربه فلينظر أحدكم ما يقول في صلاته ولا ترفعوا أصواتكم فتؤذوا المؤمنين " 

فلا يبالي بأدائها على الوجه الصحيح ، فلا يقيم ظهره في الركوع والسجود ، أو لا يجاهد نفسه على الخشوع في الصلاة ، أو يسابق الإمام في أفعال الصلاة ، أو يرفع بصره إلى الأعلى ، أو يتلفت عن اليمبن أو الشمال ، أو لا يبالي بلباسه في الصلاة ، ولا بقراءته فيها ، وغير ذلك مما يضيع أجر الصلاة أو يبطلها . 

الثلاثاء، 20 يناير 2015

مقال : معالم الوسطية في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم
معالم الوسطية في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،أما بعد : 

     اعلموا رحمكم الله أن الوسطية من المصطلحات الشرعية التي ذكرها الله في القرآن، وامتازت بها هذه الأمة عن غيرها من الأمم، ولكنّ هذا المصطلح استعمل استعمالا غير شرعي، مما أدى لتحريف معناه، وصرفه عما وضع له، وهذا مذموم شرعا لأن الأحكام الشرعية إنما تتعلق بمعاني الأسماء لا بألقابها. 

واللفظ إذا ورد في الشرع يفسر بحقيقته الشرعية ما لم تصاحبه  قرينة تصرفه إلى المعنى اللغوي أو العرفي، فالوسطية مأخوذة من قوله تعالى : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا "  

 وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، فروى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ فَيَقُولُ هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ فَيَقُولُ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } ، وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ " 

قال الشوكاني في فتح القدير : وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفْسِيرُ الْوَسَطِ هُنَا بِالْعَدْلِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى ذَلِكَ " 

وقال ابن كثير  : " والوسط هاهنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسبا ودارا، أي: خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه، أي: أشرفهم نسبا، ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر " 

ومما يدل على أن معنى قوله تعالى " أمة وسطا "  الخيار العدول قول الله تبارك وتعالى : " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " فوجب أن تفسر الوسطية ضمن هذه المعاني الشرعية . 

وحقيقة الوسطية في الشرع أنها عدل ووسط بين متناقضين، بين الإفراط والتشدد، وبين التفريط والتساهل، قال عمر بن عبد العزيز : وقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم "

 وقال الحسن البصري : سنتكم والله الذي لا إله إلا هو بينهما : بين الغالي والجافي "

وقال ابن القيم : " وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا أَمَرَ اللَّهُ بِأَمْرٍ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَزَعَتَانِ، إِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ، وَإِمَّا إِلَى مُجَاوَزَةٍ، وَهِيَ الْإِفْرَاطُ، وَلَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا ظَفَرَ: زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ.

وقال أيضا :" وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان : إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد" 

ولا يحكم على الشيء في الشرع بأنه وسط إلا بأمرين : 

الأول : أن تدل أدلة الشرع على مشروعيته جملة أو تفصيلا ، فإن كان مخالفا للشرع فليس من الوسطية ولو رآه الناس وسطا . 

ثانيا: أن يكون في تطبيقه تحقيقا لمصالح الأمة ودفعا للمفاسد عنها قال ابن القيم: " فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ.
فَإِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْعَدْلِ وَأَسْفَرَ وَجْهُهُ بِأَيْ طَرِيقٍ كَانَ، فَثَمَّ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَأَعْدَلُ أَنْ يَخُصَّ طُرُقَ الْعَدْلِ وَأَمَارَاتِهِ وَأَعْلَامَهُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ يَنْفِي مَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْهَا وَأَقْوَى دَلَالَةً، وَأَبْيَنُ أَمَارَةً " ا.هـ
ولا يحكم بذلك إلا أهل العلم 

فما هي معالم الوسطية في هذا  الدين وفي هذه الأمة  ؟ 
للوسطية معلم إجمالي، ومعالم تفصيلية تتفرع من هذا المعلم الإجمالي .
أولا : المعلم الإجمالي 
هو أن جميع شرائع الدين مبنية على الوسطية والاعتدال، بعيدة عن الغلو والتعقيد ، قال ابن كثير : " ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح  المذاهب كما قال تعالى : " هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " 

ثانيا : معالم الوسطية في الإسلام من جهة التفصيل .

أولا : هذه الأمة وسط بين الأمم السابقة جميعها ، وقد أشار الله إلى ذلك في عدد من سور القرآن ومنها سورة الفاتحة ، قال تعالى : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ " فقسم الله الناس إلى ثلاث طوائف : المنعم عليهم ، والمغضوب عليهم وهم اليهود، والضالون وهم النصارى . 
فاليهود الضالون عندهم إفراط من جهة علمهم وعدم عملهم ، كما قال تعالى " مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا "  ولبسوا الحق بالباطل عمدا وعدوانا فحذرهم الله بقوله "وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ " 
والنصارى الضالون عملوا بجهل قال تعالى : " وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ " 
وأما المنعم عليهم فهم وسط بين أهل الإفراط والتفريط فعلموا وعملوا، بوب البخاري في صحيحه فقال: باب العلم قبل القول والعمل ثم استدل بقوله تعالى : " فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ " 

ثانيا : وسطية هذه الأمة في أحكامها وتشريعاتها، فأحكامها بنيت على العدل والرحمة، فكل حكم ثابت في الشرع فهو دليل على وسطية هذه الشريعة، سواء علمنا الحكمة منه أو لم نعلم، قال تعالى : " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " 
فأحكامها بنيت على اليسر والرحمة قال تعالى : " يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ "  وقال سبحانه : " وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ" 
وجاءت التكليفات خالية من المشقة الخارجة عن المعتاد قال تعالى : " لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا " 
ومن قواعد الشرع الكلية أن المشقة تجلب التيسير، ومتى ضاق الأمر اتسع . 
ومن الأمثلة : الصلاة : شرع الله لها الطهارة بالماء، فإن عدم أو عجز عن استخدامه نقله إلى التيمم قال تعالى : "وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ " 
من فرائض الصلاة القيام فإن عجز عنه انتقل إلى غيره قال : " صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب"
وشرع القصر في السفر ، وشرع الجمع في السفر وعند الحاجة ، رفعا للحرج عن هذه الأمة.

ومن الأمثلة كذلك الصيام : قال تعالى : " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ "  ، ووضع عن الحامل والمرضع الصيام .

ومن الأمثلة كذلك على وسطية الإسلام في مجال التشريع عبادة الحج إذ ربطها بالاستطاعة والقدرة البدنية والمالية، قال تعالى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا " .

ثالثا : وسطية هذه الأمة في نهيها عن الغلو والتشدد وأمرها بالاعتدال والقصد، قال تعالى ناهيا عن الغلو في الدين : " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ " ، وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الهغ عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ: "الْقُطْ لِي حَصًى" فَلَقَطْتُ لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَجَعَلَ يَنْفُضُهُنَّ فِي كَفِّهِ وَيَقُولُ: "أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا" ثُمَّ قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ" 
بل حث الدين على التيسير فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا "  ، و عن أَبي هريرةَ - رضي الله عنه - ، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: (( إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنُ إلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا..." 

رابعا : وسطية هذا الدين حتى في تعامله مع العدو، ولها مظاهر منها : 
الأول : حث الإسلام على دعوتهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن ، قال تعالى : " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " 
الثاني : حث الإسلام على بر الوالدين إن كانا كافرين فقال تعالى : " وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا " 
الثالث: حث الإسلام على حسن التعامل مع غير المسلمين حال كونهم مسالمين قال تعالى : " لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " 
الرابع: حرم الاعتداء على المعاهدين والمستأمنين منهم وهم في بلاد الإسلام: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» ، وقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» 
الخامس : في حال الحرب معهم، فإن حربنا مع عدونا تقوم على الأخلاق والمبادئ السامية، فأمرنا الإسلام بعدم نقض العهود معهم، وعند إرادة حربهم أن نعلمهم بإنهاء العهد قال تعالى : " وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ " 
وكَانَ رَسُولُ الله صَلى الله عَليهِ وسَلم إِذَا أَمَّرَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى الله, وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا, وَقَالَ: اغْزُوا بِسْمِ الله، وَفِي سَبِيلِ الله, قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ, اغْزُوا وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا. 

خامسا : كما أن دين الإسلام دين الوسطية بين الأمم السابقة، فكذلك أهل السنة وسط بين أرباب الفرق المخالفة في الشريعة ، قال ابن تيمية : " أهل السنة الذين هم وسط في الإسلام كما أن الإسلام وسط في الملل "  وقال : "  أهل السنة والجماعة .. هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم" 

هذه بعض جوانب الوسطية التي تميز بها ديننا الإسلامي، لا تكاد تجدها في أي فكر موجود، أو اتجاه مولود، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم




الخميس، 15 يناير 2015

التراحم - المنجيات المهلكات

الخطبة الأولى : أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الإِسْلاَمَ دِينُ تَكَافُلٍ وَتَلاَحُمٍ، وَتَعَاطُفٍ وَتَرَاحُمٍ، دَعَا إِلَى الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَجَعَلَ التَّرَاحُمَ مِنْ أَخَصِّ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْعَامِلِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾. أَيْ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ يَرْحَمُونَ الْيَتِيمَ وَالْمِسْكِينَ وَالْخَلْقَ أَجْمَعِينَ، سَيَكُونُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ﴿أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ﴾. فَالرَّاحِمُونَ مَوْعُودُونَ بِنَيْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَرُضَوَانِهِ، وَعَفْوِهِ وَغُفْرَانِهِ، يَقُولُ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم : «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ». وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللَّهُ لَكُمْ».

وَقَدْ تَوَعَّدَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ لاَ يَرْحَمُونَ النَّاسَ بِحِرْمَانِهِمْ مِنْ رَحْمَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ لاَ يَرْحَمْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ». وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِىٍّ».

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ التَّرَاحُمَ بَيْنَ الْخَلْقِ فِطْرَةٌ رَبَانِيَّةٌ، تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى الإِحْسَانِ لِلآخَرِينَ، وَالتَّلَطُّفِ مَعَهُمْ، وَالتَّرَفُّقِ بِهِمْ، وَالتَّأَلُّمِ لِمُصَابِهِمْ، وَالسَّعْيِ فِي رَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ، فَالتَّرَاحُمُ دَلِيلٌ عَلَى رِقَّةِ الْقَلْبِ، وَسُمُوِّ النَّفْسِ، وَلَهُ ثَمَرَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي الْعَاجِلِ وَالآجِلِ، يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي».
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ». فَلْنَحْرِصْ عَلَى التَّرَاحُمِ فِي أُمُورِنَا كُلِّهَا.

أَيُّهَا الْمُصَلُّونَ: إِنَّ مَجَالاَتِ التَّرَاحُمِ وَاسِعَةٌ كَثِيرَةٌ، فَمِنْهَا: الرَّحْمَةُ بِالْوَالِدَيْنِ، وَذَلِكَ بِطَاعَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ، وَالْبِرِّ بِهِمَا، وَالدُّعَاءِ لَهُمَا، كَمَا أَوْصَانَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قُرْآنِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً

وَمِنَ التَّرَاحُمِ: الرَّحْمَةُ بِالأَبْنَاءِ وَالصِّغَارِ، وَذَلِكَ بِالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَحُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ، يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا». وَإِنَّ صِلَةَ الْقَرَابَةِ وَالأَرْحَامِ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ التَّرَاحُمِ بَيْنَ الأَنَامِ، يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ». كَمَا أَنَّ الرَّحْمَةَ بِالأَيْتَامِ تُلِينُ الْقُلُوبَ، وَتُرْضِي عَلاَّمَ الْغُيُوبِ، فَقَدْ شَكَا رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ».

وَمِنْ صُوَرِ التَّرَاحُمِ رَحْمَةُ الْغَنِيِّ بِالْفَقِيرِ، وَالْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ، وَالْمُعَافَى بِالْمُبْتَلَى، وَرَبِّ الْمَنْزِلِ بِأَهْلِهِ، وَصَاحِبِ الْعَمَلِ بِمُوَظَّفِيهِ، وَرَحْمَةُ الْعَالِمِ وَالْمُعَلِّمِ بِالْمُتَعَلِّمِينَ، إِلَى صُوَرٍ كَثِيرَةٍ فِي حَيَاتِنَا الْيَوْمِيَّةِ.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ التَّرَاحُمَ لاَ يَقْتَصِرُ عَلَى الرَّحْمَةِ بِالْمُسْلِمِينَ فَحَسْبُ، بَلْ يَشْمَلُ الرَّحْمَةَ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ بِإِغَاثَةِ مَلْهُوفِهِمْ، وَإِعَانَةِ مُحْتَاجِهِمْ، وَالإِحْسَانِ إِلَى ضَعِيفِهِمْ، وَإِظْهَارِ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ لَهُمْ، وَتَعْرِيفِهِمْ بِمَقَاصِدِهِ الْعَظِيمَةِ، وَغَايَاتِهِ النَّبِيلَةِ، بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالْمُعَامَلَةِ الْجَمِيلَةِ، وَحُسْنِ الصِّلَةِ مَعَهُمْ، فَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَىَّ أُمِّي وَهْىَ مُشْرِكَةٌ، فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: إِنَّ أُمِّى قَدِمَتْ وَهْىَ رَاغِبَةٌ ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ».

وَاعْلَمُوا أنَّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا أَنْ جَعَلَ التَّرَاحُمَ سِمَةً أَصِيلَةً فِي مُجْتَمَعِ دَوْلَةِ الإِمَارَاتِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُتَّحِدَةِ : قِيَادَةً وَشَعْبًا، فَهُوَ مُجْتَمَعُ رَحْمَةٍ وَإِحْسَانٍ، وَقَدْ ضَرَبَ أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ فِي الْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ، وَطَالَتْ أَيَادِيهِ الْبَيْضَاءُ مُخْتَلَفَ بُلْدَانِ الْعَالَمِ، وَلاَ أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التَّفَاعُلِ الْكَبِيرِ مَعَ حَمْلَةِ "تَرَاحَمُوا" الَّتِي أَطْلَقَهَا صَاحِبُ السُّمُوِّ رَئِيسُ الدَّوْلَةِ حَفِظَهُ اللَّهُ لإِغَاثَةِ أَهْلِنَا فِي الشَّامِ بَعْدَ أَنْ أَصَابَهُمُ الضُّرُّ، وَحَلَّ بِهِمُ الْبَأْسُ، فَجَزَى اللَّهُ خَيْرًا مَنْ أَمَرَ بِهَا، وَقَامَ عَلَيْهَا، وَسَاهَمَ وَبَذَلَ لأَجْلِهَا، وَصَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» .


الخطبة الثانية :
أيها الناس اتقوا الله تعالى واسلكوا سبيل السلامة والنجاة واحذروا سبل العَطَبِ والأمور المهلكات . فقد قال صلى الله عليه وسلم : " ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ، وَثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ، فَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ: فَتَقْوَى اللهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالسُّخْطِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَأَمَّا الْمُهْلِكَاتِ: فَهَوًى مُتَّبِعٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ أَشَدُّهُنَّ " فياله من كلامٍ جامعٍ لمسالكِ الخيرات، محذرٍ عن مواقع الهلكات.
 أما تقوى الله في السر والعلانية فهي مِلاك الأمور، وبها حصول الخيرات، واندفاعُ الشرورِ، فهي مراقبة الله على الدوام، والعلم بقرب الملك العلام، فيستحي من ربه أن يراه حيث نهاه، ويفقدَه في كل ما يقرب إلى رضاه.
 وأما قول الحق في الغضب والرضى فإن ذلك عنوانٌ على الصدق والعدل والتوفيق، وأكبرُ برهانٍ على الإيمان، وقهر العبد لغضبه وشهوته، فإنه لا ينجو منها إلا كل صدِّيقٍ، فلا يخرجهُ الغضب والشهوة عن الحق ولا يدخلانه في الباطل، بل الصدقُ عام لأحواله كلها وشامل.
 وأما القصد في الفقر والغنى فإن هذا علامة على قوةِ العقل وحسنِ التدبير وامتثالٍ لإرشاد الرب القدير في قوله : "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا "
فهذه الثلاث جمعت كل خير متعلق بحق الله وحق النفس وحقوق العباد، وصاحبها قد فاز بالقدح المعلى، والهدى والرشاد.
 وأما الثلاث المهلكات فأولها هوى متبع والله يقول: " وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ " فإن الهوى يهوي بصاحبه إلى أسفل الدركات، وبالهوى تندفع النفوس إلى الشهوات الضارة المهلكات. وأما الشح المطاع فقد أحضرت النفوس شحها قال تعالى "وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" ومن انقاد لشحه فأولئك هم الخاسرون، فإن الشح يحمل على البخل ومنع الحقوق ويدعو إلى الضرر والقطيعة والعقوق، أمر الشح أهله بالقطيعة فقطعوا، ودعاهم إلى منع الحقوق الواجبة فامتثلوا، وأغراهم بالمعاملات السيئة من البخس والغش والربا ففعلوا، فهو يدعو إلى كل خلق رذيل، وينهى عن كل خلق جميل.
 وأما إعجاب المرء بنفسه فإنه من أعظم المهلكات وفظائع الأمور، فإن العُجب باب إلى الكبر والزهو والغرور، ووسيلة إلى الفخر والخيلاء واحتقار الخلق الذي هو من أعظم الشرور فهذه الثلاث : الهوى المتبع , والشح المطاع , والإعجاب بالنفس ؛ من جمعها فهو من الهالكين، ومن اتصف بها فقد باء بغضب من الله واستحق العذاب المهين .
 فطوبى لمن كان هواه تبعا لمراضي الله، وطوبى لمن وُقِيَ شح نفسه فكان من المفلحين، وعرف نفسه حقيقةً فتواضع للحق وخفض جناحه للمؤمنين.
 منَّ الله علي وعليكم بمكارم الأخلاق ومعاليها وحفظنا من مضارها ومساويها ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا .


الخطبة الأولى: من خطب دائرة الشؤون الإسلامية
الخطبة الثانية : من خطب الشيخ السعدي 

الخميس، 8 يناير 2015

حماية الأوطان

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه ، مُعافى في جَسَدِهِ ، عندهُ قوتُ يومِه ، فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها " في الحديث تذكير بنعم الله على العبد، فإن الله –سبحانه وتعالى- خلق العباد لعبادته وتوحيده فقال: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" وأهم النعم التي يحتاجها العابد لتحقيق هذا الهدف السامي هي أمن في نفسه وجماعته وبلده، وعافية في صحته وجسده، وطعام يتقوى به على طاعة الله.
أيها المسلمون: الأرض التي تتوافر فيها هذه النعم من الأمن والعافية والغذاء حري بأهلها أن يتعاونوا على حفظها والعمل على الدفاع عنها وحفظ مكتسباتها، وهذا أمر مجبولة عليه النفوس السليمة، وهو محبة الوطن والدفاع عنه .

فحب الوطن –عباد الله- غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجم، ويغضب له إذا انتُقص، أخرج الترمذي، بسندٍ صحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق مكة عند هجرته منها:  (ما أطيبك من بلدة وأحبك إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما سكنت غيرك). وحيث أن حب الوطن غريزة في الإنسان، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم من ربه بأن يرزقه حب المدينة لما انتقل إليها، فقد أخرج الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد). 

جماعة المسلمين : مَنْ عَاشَ مُحِبًّا لِوَطَنِهِ أَخْلَصَ فِي بِنَائِهِ، وَاجْتَهَدَ فِي عُمْرَانِهِ، وَلَقَدْ جُبِلَ النَّاسُ عَلَى حِمَايَةِ أَوْطَانِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجُودُ بِأَبْنَائِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجُودُ بِمَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ وَيَزِيدُ.

والدفاع عن الأوطان – يا عباد الله – محل ثناء  ومدح، حيث يُحفظ الدين، وتُصان الدماء، وتُكرم الأعراض، وتُحفظ الأموال والمكتسبات، وهذا هو جوهر الجهادُ وأساسُه، كما قال تعالى : "وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا " 

في الدفاع عن الأوطان ردٌ للعدوان ودفعٌ للفساد عن البلاد والعباد، وهذا كذلك من أهداف الجهاد الشرعي كما قال تعالى : " فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ " ، وقال سبحانه : " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ " 

فالحماة الذابون عن الوطن مجاهدون في سبيل الله، وهبوا أنفسهم، وتركوا أهليهم، وسهروا الليالي، وذاقوا التعب والنصب، لينعم أهل الوطن بالأمن والطمأنينة والسلام.

وَالْعَيْنُ السَّاهِرَةُ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ، الْحَارِسَةُ لِحُدُودِ الْوَطَنِ المسلم، الْقَائِمَةُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ حَرَّمَهَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»

وَحِرَاسَةُ الْوَطَنِ في حال الفتن والحروب مَنْزِلَةٌ عظيمة، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِلَيْلَةٍ أَفْضَلَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، حَارِسٌ حَرَسَ فِي أَرْضِ خَوْفٍ لَعَلَّهُ لاَ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ) .
وَمَنْ أَرَادَ الأَجْرَ الْكَبِيرَ وَالثَّوَابَ الْجَزِيلَ فَلْيَهْنَأْ بِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَهُوَ يَذُودُ عَنْ حِمَى وَطَنِهِ فِي بَرِّهِ وَبَحْرِهِ وَسَمَائِهِ، فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْد رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِن الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا. وَيَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَأَنْ أَبِيتَ حَارِسًا وَخَائِفًا فِي سَبِيلِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ رَاحِلَةٍ "

عباد الله : إن حماية الوطن والذود عنه مسؤولية مشتركة، لا تقع على القوات المسلحة فقط، بل تشمل الأفراد من المواطنين والمقيمين على أرض الوطن، وذلك بخِدْمَتَهِ فِي كُلِّ الْمُؤَسَّسَاتِ، وَالتَّفَانِي وَالإِتْقَانِ فِي أَدَاءِ الْعَمَلِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، فَالسَّاهِرُ فِي عَمَلِهِ الَّذِي يَقْضِي حَوَائِجَ النَّاسِ إِنَّما يَحْمِي الْوَطَنَ، وَالْمُوَظَّفُ الَّذِي يَتَفَانَى فِي تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ حَامٍ لِسُمْعَةِ الْوَطَنِ، وَمَنْ تَكَاسَلَ عَنْ دَوْرِهِ أَوْ تَقَاعَسَ عَنْ عَمَلِهِ فَقَدْ أَسَاءَ إِلَى وَطَنِهِ وَقَصَّرَ فِي حِمَايَتِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»

إِنَّ حِمَايَةَ الْوَطَنِ مَسْؤُولِيَّةٌ تَتَطَلَّبُ كَثِيرًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ، مِنْهَا: الدُّعَاءُ لِلْوَطَنِ وَلِلْحَاكِمِ، يَقُولُ الفضيل بن عياض رحمه الله : لَوْ أَنَّ لِيَ دَعْوَةً مُجَابَةً لَجَعَلْتُهَا فِي الْحَاكِمِ. وَنَسْأَلُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ سُبْحَانَهُ الْخَيْرَ وَالرَّخَاءَ لِوَطَنِنَا وجميع بلاد المسلمين، وَنَرْجُوهُ دَوَامَ أَمْنِهِ وَأَمَانِهِ وَنِعَمِهِ، فَذَلِكَ مِنْ عَلاَمَاتِ الْوَفَاءِ، وَصِدْقِ الاِنْتِمَاءِ. 


الخطبة الثانية : إن الدفاع عن الوطن ليس مجرد تعصب لأرض وتراب كما يدعيه البعض، وإنما هو عمل شرعي تتكاتف فيه الجهود لحفظ الدين وإقامته على أتم وجه، وحفظ الدماء من أن تراق، وحفظ الأعراض من أن تنتهك، وحفظ للأموال والمكاسب من أن تضيع ، وجميع هذه الأمور مقاصد شرعية وضرورات مرعية جاءت الشريعة بحفظها وتكميلها والدفاع عنها.

فإن قال قائل: ما هو العدو الذي نحذره، ونخشى منه على ديننا وأوطاننا ودمائنا وأعراضنا وأموالنا ؟ 

فالجواب: العدو عدوان عدو خارجي نعرفه ونعرف شره فنحذره ونستعد للقائه، وعدو داخلي، يعيش بيننا ، ويتكلم بألستنا، ويظهر أنه منا، كما ورد في حديث حذيفة رضي الله عنه وهو يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير والشر فقال: " فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا قَالَ هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا " وعند مسلم قال : "وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ " فهؤلاء من أشد الأعداء، لأننا نأمن جانبهم، فلا نحذرهم كما نحذر غيرهم، ولكنهم يتربصون بنا الدوائر، ويسعون لتفريق صفنا، وتمكين العدو الخارجي منا.

فليجؤون إلى الغزو الفكري، فيشوهون الثوابت الراسيات، والعادات الجاريات،  وفق أجندات وخطط مرسومة من العدو الخارجي الذي عجز عن الغزو المباشر، فهم كالنائحة المستأجرة التي تنوح بما يقدم لها من أجر ، وما يحقق لها من مصالح.

وفي تاريخنا الغابر عبرة لمعتبر، فمن الذي مكنّ للتتار من دخول بلاد الخلافة الإسلامية بغداد فقتلوا ما يزيد على المليون مسلم إلا الوزير المقرب من الخليفة وهو الرافضي ابن العلقمي.

وكما ذكر بعض الأعداء الذين احتلوا بلاد الإسلام حقبة من الزمن أن بعض أصحاب الزوايا قد أعانوهم على احتلالهم لبلاد الإسلام.

وعبر الأزمنة المتعاقبة وفي زماننا الذي نعايشه شكل الخوارج أكبر عدو لدود للإسلام والمسلمين وبلادهم، لأنهم يرفعون شعارات ظاهرها نصرة الإسلام والجهاد في سبيل الله، فيغتر بهم أصحاب الحماسات والأهواء والعواطف الجياشة التي لم تضبط بضوابط الشرع، فيتعاطفون معهم ويعاونوهم على أفعالهم المشينة .

الخوارج هم الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم وهو يصفهم: يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ .

فخرجوا زمن عثمان رضي الله عنه، وأعلنوا المطالبة بالحقوق والحريات، وقد كانوا في أحسن حال من معيشة وأمن، فما زالوا في ضلالهم حتى حاصروا المدينة وقتلوا خليفة المسلمين المبشر بالجنة من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن.

ثم خرجوا زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقتلوا عبد الله وهو ابن الصحابي  خباب بن الأرت  رضي الله عنه وقتلوا زوجته وبقروا بطنها وكانت حاملا.

وقاتلهم علي في معركة النهروان، ثم قتلوا خليفة المسلمين المبشر بالجنة تقربا إلى الله على حد زعمهم حتى قال قائلهم وهو يمدح قاتل علي :يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا          ليبلغ عند ذي العرش رضوانا.

ولا زال خروجهم مستمرا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى يلحقوا بالدجال الأعور.

وفي زماننا نراهم قد خرجوا بمسميات جديدة كالقاعدة والدواعش وجماعة التكفير والهجرة ونحوها فعاثوا في الأرض فسادا، فكفروا أئمة المسلمين، وجنودهم، وحراس أمنهم، ثم كفروا جماهير المسلمين ممن ليسوا معهم، فأعلنوا الجهاد ضد المسلمين وبلادهم، فسفكوا الدماء وانتهكوا الأعراض، ونهبوا الأموال، وبثوا الرعب في قلوب المسلمين. 

وهم أحرى الناس بحكم الكفر فعَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّمَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلًا قَرَأَ الْقُرْآنَ , حَتَّى رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ وَكَانَ رِدْئًا  لِلْإِسْلامِ , غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ , وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ " , قَالَ حُذَيْفَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ , أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟ , قَالَ: " بَلِ الرَّامِي. 
وللأسف الشديد قد تأثر بهم فئات من الناس من المثقفين وصغار السن فالتحقوا بهم وناصروهم وخلعوا البيعة من ولي أمرهم وبايعوا خليفة الخوارج المزعوم. 
إن الواجب علينا أن نتفقه في ديننا ونعرف العدو الذي حذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم،  لنحذره ونأمن شره، ثم نسعى لنشر الأمن الفكري بين أفراد المجمع ببيان أحكام الدين الصحيح . 
وَاعْلَمُوا أنَّه يَنْبَغِي عَلَيْنَا الْمُسَاهَمَةُ الْفَعَّالَةُ فِي تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ عَلَى حُبِّ الْوَطَنِ، وَإِعْدَادِ الأَجْيَالِ لِيَكُونُوا وَقْتَ السِّلْمِ صُنَّاعَ حَضَارَتِهِ، وَبُنَاةَ أَمْجَادِهِ، وَفِي وَقْتِ الْحَاجَةِ دِرْعَ حِمَايَتِهِ وَوِقَايَتِهِ.
كَمَا عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ حُمَاةَ الْوَطَنِ: قُوَّاتِنَا الْمُسَلَّحَةَ الَّتِي جَعَلها اللهُ سبباً لتَوْفِيرِ أَجْوَاءِ الأَمْنِ وَالأَمَانِ فِي الدَّوْلَةِ لِيَنْعَمَ الْجَمِيعُ عَلَى هَذِهِ الأَرْضِ الطَّيِّبَةِ بِالْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ وَالْهَانِئَةِ.