الخميس، 15 يناير 2015

التراحم - المنجيات المهلكات

الخطبة الأولى : أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الإِسْلاَمَ دِينُ تَكَافُلٍ وَتَلاَحُمٍ، وَتَعَاطُفٍ وَتَرَاحُمٍ، دَعَا إِلَى الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَجَعَلَ التَّرَاحُمَ مِنْ أَخَصِّ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْعَامِلِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾. أَيْ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ يَرْحَمُونَ الْيَتِيمَ وَالْمِسْكِينَ وَالْخَلْقَ أَجْمَعِينَ، سَيَكُونُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ﴿أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ﴾. فَالرَّاحِمُونَ مَوْعُودُونَ بِنَيْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَرُضَوَانِهِ، وَعَفْوِهِ وَغُفْرَانِهِ، يَقُولُ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم : «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ». وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللَّهُ لَكُمْ».

وَقَدْ تَوَعَّدَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ لاَ يَرْحَمُونَ النَّاسَ بِحِرْمَانِهِمْ مِنْ رَحْمَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ لاَ يَرْحَمْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ». وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِىٍّ».

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ التَّرَاحُمَ بَيْنَ الْخَلْقِ فِطْرَةٌ رَبَانِيَّةٌ، تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى الإِحْسَانِ لِلآخَرِينَ، وَالتَّلَطُّفِ مَعَهُمْ، وَالتَّرَفُّقِ بِهِمْ، وَالتَّأَلُّمِ لِمُصَابِهِمْ، وَالسَّعْيِ فِي رَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ، فَالتَّرَاحُمُ دَلِيلٌ عَلَى رِقَّةِ الْقَلْبِ، وَسُمُوِّ النَّفْسِ، وَلَهُ ثَمَرَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي الْعَاجِلِ وَالآجِلِ، يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي».
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ». فَلْنَحْرِصْ عَلَى التَّرَاحُمِ فِي أُمُورِنَا كُلِّهَا.

أَيُّهَا الْمُصَلُّونَ: إِنَّ مَجَالاَتِ التَّرَاحُمِ وَاسِعَةٌ كَثِيرَةٌ، فَمِنْهَا: الرَّحْمَةُ بِالْوَالِدَيْنِ، وَذَلِكَ بِطَاعَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ، وَالْبِرِّ بِهِمَا، وَالدُّعَاءِ لَهُمَا، كَمَا أَوْصَانَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قُرْآنِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً

وَمِنَ التَّرَاحُمِ: الرَّحْمَةُ بِالأَبْنَاءِ وَالصِّغَارِ، وَذَلِكَ بِالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَحُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ، يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا». وَإِنَّ صِلَةَ الْقَرَابَةِ وَالأَرْحَامِ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ التَّرَاحُمِ بَيْنَ الأَنَامِ، يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ». كَمَا أَنَّ الرَّحْمَةَ بِالأَيْتَامِ تُلِينُ الْقُلُوبَ، وَتُرْضِي عَلاَّمَ الْغُيُوبِ، فَقَدْ شَكَا رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ».

وَمِنْ صُوَرِ التَّرَاحُمِ رَحْمَةُ الْغَنِيِّ بِالْفَقِيرِ، وَالْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ، وَالْمُعَافَى بِالْمُبْتَلَى، وَرَبِّ الْمَنْزِلِ بِأَهْلِهِ، وَصَاحِبِ الْعَمَلِ بِمُوَظَّفِيهِ، وَرَحْمَةُ الْعَالِمِ وَالْمُعَلِّمِ بِالْمُتَعَلِّمِينَ، إِلَى صُوَرٍ كَثِيرَةٍ فِي حَيَاتِنَا الْيَوْمِيَّةِ.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ التَّرَاحُمَ لاَ يَقْتَصِرُ عَلَى الرَّحْمَةِ بِالْمُسْلِمِينَ فَحَسْبُ، بَلْ يَشْمَلُ الرَّحْمَةَ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ بِإِغَاثَةِ مَلْهُوفِهِمْ، وَإِعَانَةِ مُحْتَاجِهِمْ، وَالإِحْسَانِ إِلَى ضَعِيفِهِمْ، وَإِظْهَارِ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ لَهُمْ، وَتَعْرِيفِهِمْ بِمَقَاصِدِهِ الْعَظِيمَةِ، وَغَايَاتِهِ النَّبِيلَةِ، بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالْمُعَامَلَةِ الْجَمِيلَةِ، وَحُسْنِ الصِّلَةِ مَعَهُمْ، فَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَىَّ أُمِّي وَهْىَ مُشْرِكَةٌ، فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: إِنَّ أُمِّى قَدِمَتْ وَهْىَ رَاغِبَةٌ ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ».

وَاعْلَمُوا أنَّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا أَنْ جَعَلَ التَّرَاحُمَ سِمَةً أَصِيلَةً فِي مُجْتَمَعِ دَوْلَةِ الإِمَارَاتِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُتَّحِدَةِ : قِيَادَةً وَشَعْبًا، فَهُوَ مُجْتَمَعُ رَحْمَةٍ وَإِحْسَانٍ، وَقَدْ ضَرَبَ أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ فِي الْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ، وَطَالَتْ أَيَادِيهِ الْبَيْضَاءُ مُخْتَلَفَ بُلْدَانِ الْعَالَمِ، وَلاَ أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التَّفَاعُلِ الْكَبِيرِ مَعَ حَمْلَةِ "تَرَاحَمُوا" الَّتِي أَطْلَقَهَا صَاحِبُ السُّمُوِّ رَئِيسُ الدَّوْلَةِ حَفِظَهُ اللَّهُ لإِغَاثَةِ أَهْلِنَا فِي الشَّامِ بَعْدَ أَنْ أَصَابَهُمُ الضُّرُّ، وَحَلَّ بِهِمُ الْبَأْسُ، فَجَزَى اللَّهُ خَيْرًا مَنْ أَمَرَ بِهَا، وَقَامَ عَلَيْهَا، وَسَاهَمَ وَبَذَلَ لأَجْلِهَا، وَصَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» .


الخطبة الثانية :
أيها الناس اتقوا الله تعالى واسلكوا سبيل السلامة والنجاة واحذروا سبل العَطَبِ والأمور المهلكات . فقد قال صلى الله عليه وسلم : " ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ، وَثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ، فَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ: فَتَقْوَى اللهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالسُّخْطِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَأَمَّا الْمُهْلِكَاتِ: فَهَوًى مُتَّبِعٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ أَشَدُّهُنَّ " فياله من كلامٍ جامعٍ لمسالكِ الخيرات، محذرٍ عن مواقع الهلكات.
 أما تقوى الله في السر والعلانية فهي مِلاك الأمور، وبها حصول الخيرات، واندفاعُ الشرورِ، فهي مراقبة الله على الدوام، والعلم بقرب الملك العلام، فيستحي من ربه أن يراه حيث نهاه، ويفقدَه في كل ما يقرب إلى رضاه.
 وأما قول الحق في الغضب والرضى فإن ذلك عنوانٌ على الصدق والعدل والتوفيق، وأكبرُ برهانٍ على الإيمان، وقهر العبد لغضبه وشهوته، فإنه لا ينجو منها إلا كل صدِّيقٍ، فلا يخرجهُ الغضب والشهوة عن الحق ولا يدخلانه في الباطل، بل الصدقُ عام لأحواله كلها وشامل.
 وأما القصد في الفقر والغنى فإن هذا علامة على قوةِ العقل وحسنِ التدبير وامتثالٍ لإرشاد الرب القدير في قوله : "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا "
فهذه الثلاث جمعت كل خير متعلق بحق الله وحق النفس وحقوق العباد، وصاحبها قد فاز بالقدح المعلى، والهدى والرشاد.
 وأما الثلاث المهلكات فأولها هوى متبع والله يقول: " وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ " فإن الهوى يهوي بصاحبه إلى أسفل الدركات، وبالهوى تندفع النفوس إلى الشهوات الضارة المهلكات. وأما الشح المطاع فقد أحضرت النفوس شحها قال تعالى "وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" ومن انقاد لشحه فأولئك هم الخاسرون، فإن الشح يحمل على البخل ومنع الحقوق ويدعو إلى الضرر والقطيعة والعقوق، أمر الشح أهله بالقطيعة فقطعوا، ودعاهم إلى منع الحقوق الواجبة فامتثلوا، وأغراهم بالمعاملات السيئة من البخس والغش والربا ففعلوا، فهو يدعو إلى كل خلق رذيل، وينهى عن كل خلق جميل.
 وأما إعجاب المرء بنفسه فإنه من أعظم المهلكات وفظائع الأمور، فإن العُجب باب إلى الكبر والزهو والغرور، ووسيلة إلى الفخر والخيلاء واحتقار الخلق الذي هو من أعظم الشرور فهذه الثلاث : الهوى المتبع , والشح المطاع , والإعجاب بالنفس ؛ من جمعها فهو من الهالكين، ومن اتصف بها فقد باء بغضب من الله واستحق العذاب المهين .
 فطوبى لمن كان هواه تبعا لمراضي الله، وطوبى لمن وُقِيَ شح نفسه فكان من المفلحين، وعرف نفسه حقيقةً فتواضع للحق وخفض جناحه للمؤمنين.
 منَّ الله علي وعليكم بمكارم الأخلاق ومعاليها وحفظنا من مضارها ومساويها ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا .


الخطبة الأولى: من خطب دائرة الشؤون الإسلامية
الخطبة الثانية : من خطب الشيخ السعدي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق