الخميس، 8 يناير 2015

حماية الأوطان

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه ، مُعافى في جَسَدِهِ ، عندهُ قوتُ يومِه ، فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها " في الحديث تذكير بنعم الله على العبد، فإن الله –سبحانه وتعالى- خلق العباد لعبادته وتوحيده فقال: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" وأهم النعم التي يحتاجها العابد لتحقيق هذا الهدف السامي هي أمن في نفسه وجماعته وبلده، وعافية في صحته وجسده، وطعام يتقوى به على طاعة الله.
أيها المسلمون: الأرض التي تتوافر فيها هذه النعم من الأمن والعافية والغذاء حري بأهلها أن يتعاونوا على حفظها والعمل على الدفاع عنها وحفظ مكتسباتها، وهذا أمر مجبولة عليه النفوس السليمة، وهو محبة الوطن والدفاع عنه .

فحب الوطن –عباد الله- غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجم، ويغضب له إذا انتُقص، أخرج الترمذي، بسندٍ صحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق مكة عند هجرته منها:  (ما أطيبك من بلدة وأحبك إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما سكنت غيرك). وحيث أن حب الوطن غريزة في الإنسان، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم من ربه بأن يرزقه حب المدينة لما انتقل إليها، فقد أخرج الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد). 

جماعة المسلمين : مَنْ عَاشَ مُحِبًّا لِوَطَنِهِ أَخْلَصَ فِي بِنَائِهِ، وَاجْتَهَدَ فِي عُمْرَانِهِ، وَلَقَدْ جُبِلَ النَّاسُ عَلَى حِمَايَةِ أَوْطَانِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجُودُ بِأَبْنَائِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجُودُ بِمَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ وَيَزِيدُ.

والدفاع عن الأوطان – يا عباد الله – محل ثناء  ومدح، حيث يُحفظ الدين، وتُصان الدماء، وتُكرم الأعراض، وتُحفظ الأموال والمكتسبات، وهذا هو جوهر الجهادُ وأساسُه، كما قال تعالى : "وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا " 

في الدفاع عن الأوطان ردٌ للعدوان ودفعٌ للفساد عن البلاد والعباد، وهذا كذلك من أهداف الجهاد الشرعي كما قال تعالى : " فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ " ، وقال سبحانه : " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ " 

فالحماة الذابون عن الوطن مجاهدون في سبيل الله، وهبوا أنفسهم، وتركوا أهليهم، وسهروا الليالي، وذاقوا التعب والنصب، لينعم أهل الوطن بالأمن والطمأنينة والسلام.

وَالْعَيْنُ السَّاهِرَةُ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ، الْحَارِسَةُ لِحُدُودِ الْوَطَنِ المسلم، الْقَائِمَةُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ حَرَّمَهَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»

وَحِرَاسَةُ الْوَطَنِ في حال الفتن والحروب مَنْزِلَةٌ عظيمة، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِلَيْلَةٍ أَفْضَلَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، حَارِسٌ حَرَسَ فِي أَرْضِ خَوْفٍ لَعَلَّهُ لاَ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ) .
وَمَنْ أَرَادَ الأَجْرَ الْكَبِيرَ وَالثَّوَابَ الْجَزِيلَ فَلْيَهْنَأْ بِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَهُوَ يَذُودُ عَنْ حِمَى وَطَنِهِ فِي بَرِّهِ وَبَحْرِهِ وَسَمَائِهِ، فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْد رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِن الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا. وَيَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَأَنْ أَبِيتَ حَارِسًا وَخَائِفًا فِي سَبِيلِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ رَاحِلَةٍ "

عباد الله : إن حماية الوطن والذود عنه مسؤولية مشتركة، لا تقع على القوات المسلحة فقط، بل تشمل الأفراد من المواطنين والمقيمين على أرض الوطن، وذلك بخِدْمَتَهِ فِي كُلِّ الْمُؤَسَّسَاتِ، وَالتَّفَانِي وَالإِتْقَانِ فِي أَدَاءِ الْعَمَلِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، فَالسَّاهِرُ فِي عَمَلِهِ الَّذِي يَقْضِي حَوَائِجَ النَّاسِ إِنَّما يَحْمِي الْوَطَنَ، وَالْمُوَظَّفُ الَّذِي يَتَفَانَى فِي تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ حَامٍ لِسُمْعَةِ الْوَطَنِ، وَمَنْ تَكَاسَلَ عَنْ دَوْرِهِ أَوْ تَقَاعَسَ عَنْ عَمَلِهِ فَقَدْ أَسَاءَ إِلَى وَطَنِهِ وَقَصَّرَ فِي حِمَايَتِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»

إِنَّ حِمَايَةَ الْوَطَنِ مَسْؤُولِيَّةٌ تَتَطَلَّبُ كَثِيرًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ، مِنْهَا: الدُّعَاءُ لِلْوَطَنِ وَلِلْحَاكِمِ، يَقُولُ الفضيل بن عياض رحمه الله : لَوْ أَنَّ لِيَ دَعْوَةً مُجَابَةً لَجَعَلْتُهَا فِي الْحَاكِمِ. وَنَسْأَلُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ سُبْحَانَهُ الْخَيْرَ وَالرَّخَاءَ لِوَطَنِنَا وجميع بلاد المسلمين، وَنَرْجُوهُ دَوَامَ أَمْنِهِ وَأَمَانِهِ وَنِعَمِهِ، فَذَلِكَ مِنْ عَلاَمَاتِ الْوَفَاءِ، وَصِدْقِ الاِنْتِمَاءِ. 


الخطبة الثانية : إن الدفاع عن الوطن ليس مجرد تعصب لأرض وتراب كما يدعيه البعض، وإنما هو عمل شرعي تتكاتف فيه الجهود لحفظ الدين وإقامته على أتم وجه، وحفظ الدماء من أن تراق، وحفظ الأعراض من أن تنتهك، وحفظ للأموال والمكاسب من أن تضيع ، وجميع هذه الأمور مقاصد شرعية وضرورات مرعية جاءت الشريعة بحفظها وتكميلها والدفاع عنها.

فإن قال قائل: ما هو العدو الذي نحذره، ونخشى منه على ديننا وأوطاننا ودمائنا وأعراضنا وأموالنا ؟ 

فالجواب: العدو عدوان عدو خارجي نعرفه ونعرف شره فنحذره ونستعد للقائه، وعدو داخلي، يعيش بيننا ، ويتكلم بألستنا، ويظهر أنه منا، كما ورد في حديث حذيفة رضي الله عنه وهو يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير والشر فقال: " فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا قَالَ هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا " وعند مسلم قال : "وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ " فهؤلاء من أشد الأعداء، لأننا نأمن جانبهم، فلا نحذرهم كما نحذر غيرهم، ولكنهم يتربصون بنا الدوائر، ويسعون لتفريق صفنا، وتمكين العدو الخارجي منا.

فليجؤون إلى الغزو الفكري، فيشوهون الثوابت الراسيات، والعادات الجاريات،  وفق أجندات وخطط مرسومة من العدو الخارجي الذي عجز عن الغزو المباشر، فهم كالنائحة المستأجرة التي تنوح بما يقدم لها من أجر ، وما يحقق لها من مصالح.

وفي تاريخنا الغابر عبرة لمعتبر، فمن الذي مكنّ للتتار من دخول بلاد الخلافة الإسلامية بغداد فقتلوا ما يزيد على المليون مسلم إلا الوزير المقرب من الخليفة وهو الرافضي ابن العلقمي.

وكما ذكر بعض الأعداء الذين احتلوا بلاد الإسلام حقبة من الزمن أن بعض أصحاب الزوايا قد أعانوهم على احتلالهم لبلاد الإسلام.

وعبر الأزمنة المتعاقبة وفي زماننا الذي نعايشه شكل الخوارج أكبر عدو لدود للإسلام والمسلمين وبلادهم، لأنهم يرفعون شعارات ظاهرها نصرة الإسلام والجهاد في سبيل الله، فيغتر بهم أصحاب الحماسات والأهواء والعواطف الجياشة التي لم تضبط بضوابط الشرع، فيتعاطفون معهم ويعاونوهم على أفعالهم المشينة .

الخوارج هم الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم وهو يصفهم: يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ .

فخرجوا زمن عثمان رضي الله عنه، وأعلنوا المطالبة بالحقوق والحريات، وقد كانوا في أحسن حال من معيشة وأمن، فما زالوا في ضلالهم حتى حاصروا المدينة وقتلوا خليفة المسلمين المبشر بالجنة من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن.

ثم خرجوا زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقتلوا عبد الله وهو ابن الصحابي  خباب بن الأرت  رضي الله عنه وقتلوا زوجته وبقروا بطنها وكانت حاملا.

وقاتلهم علي في معركة النهروان، ثم قتلوا خليفة المسلمين المبشر بالجنة تقربا إلى الله على حد زعمهم حتى قال قائلهم وهو يمدح قاتل علي :يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا          ليبلغ عند ذي العرش رضوانا.

ولا زال خروجهم مستمرا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى يلحقوا بالدجال الأعور.

وفي زماننا نراهم قد خرجوا بمسميات جديدة كالقاعدة والدواعش وجماعة التكفير والهجرة ونحوها فعاثوا في الأرض فسادا، فكفروا أئمة المسلمين، وجنودهم، وحراس أمنهم، ثم كفروا جماهير المسلمين ممن ليسوا معهم، فأعلنوا الجهاد ضد المسلمين وبلادهم، فسفكوا الدماء وانتهكوا الأعراض، ونهبوا الأموال، وبثوا الرعب في قلوب المسلمين. 

وهم أحرى الناس بحكم الكفر فعَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّمَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلًا قَرَأَ الْقُرْآنَ , حَتَّى رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ وَكَانَ رِدْئًا  لِلْإِسْلامِ , غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ , وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ " , قَالَ حُذَيْفَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ , أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟ , قَالَ: " بَلِ الرَّامِي. 
وللأسف الشديد قد تأثر بهم فئات من الناس من المثقفين وصغار السن فالتحقوا بهم وناصروهم وخلعوا البيعة من ولي أمرهم وبايعوا خليفة الخوارج المزعوم. 
إن الواجب علينا أن نتفقه في ديننا ونعرف العدو الذي حذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم،  لنحذره ونأمن شره، ثم نسعى لنشر الأمن الفكري بين أفراد المجمع ببيان أحكام الدين الصحيح . 
وَاعْلَمُوا أنَّه يَنْبَغِي عَلَيْنَا الْمُسَاهَمَةُ الْفَعَّالَةُ فِي تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ عَلَى حُبِّ الْوَطَنِ، وَإِعْدَادِ الأَجْيَالِ لِيَكُونُوا وَقْتَ السِّلْمِ صُنَّاعَ حَضَارَتِهِ، وَبُنَاةَ أَمْجَادِهِ، وَفِي وَقْتِ الْحَاجَةِ دِرْعَ حِمَايَتِهِ وَوِقَايَتِهِ.
كَمَا عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ حُمَاةَ الْوَطَنِ: قُوَّاتِنَا الْمُسَلَّحَةَ الَّتِي جَعَلها اللهُ سبباً لتَوْفِيرِ أَجْوَاءِ الأَمْنِ وَالأَمَانِ فِي الدَّوْلَةِ لِيَنْعَمَ الْجَمِيعُ عَلَى هَذِهِ الأَرْضِ الطَّيِّبَةِ بِالْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ وَالْهَانِئَةِ.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق