الخميس، 28 فبراير 2013

خطبة جمعة : اللغة العربية

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين قال تعالى "وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا " ، يمتن الله علينا بأن أنزل على رسوله الكريم هذا القرآن الكريم  باللسان الفاضل العربي الذي نفهمه ونفقهه، ولا يخفى علينا لفظه ولا معناه ، وهذا من رحمة الله بعباده إذ يتذكرون بآياته ووعده ويخافون من وعيده مما يكون له الأثر البالغ في حصول التقوى من ترك الذنوب والمعاصي وفعل الطاعات ، ولو كان هذا القرآن غير عربي لما كان له هذا الأثر العظيم في النفوس ،قال المفسر السعدي رحمه الله تعالى (أي : جعلناه قرآنا عربيا ، واضح الألفاظ ، سهل المعاني ، خصوصا على العرب ، ليس فيه خلل ولا نقص بوجه من الوجوه ، لا في ألفاظه ، ولا في معانيه ، وهذا يستلزم كمال اعتداله واستقامته "

أيها المسلمون :(إن الله تعالى لما أنزل كتابه باللسان العربي وجعل رسوله صلى الله عليه وسلم مبلغا عنه للكتاب والحكمة بلسان عربي وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط اللسان وصارت معرفته من معرفة الدين وصار التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله وأقرب إلى إقامة شعائر الدين "[1]  ، فإذا عرفنا هذا الفضل الذي منحه الله للغة العربية وأنها من الدين صارت معرفتها فرضا وواجبا على المسلمين سواء على التعيين أو الكفاية ، لأن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يتم فهمها إلا بفهم اللغة العربية ومعانيها وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب على ما قرره علماء الإسلام ، وقد ورد عن بعض السلف رحمهم الله قوله (تعلموا العربية فإنها من دينكم ..) ذلك لأن الدين يحتوي على أقوال وأعمال فكان تعلم اللغة العربية سبيلا إلى فهم الأقوال وتعلم السنة النبوية سبيلا إلى فقه الأعمال وقد روى بن أبي شيبة في مصنفه عن عمرو بن زيد قال :كتب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنه (أما بعد :فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي "

أيها المسلمون : اللسان العربي شعار الإسلامِ وأهلهِ ، والأممُ تتمايز بلغاتها، وقد خص الله الإسلام بالعربية وأنزل بها كتابه، وذلك لأن لغة العرب أفصحُ اللغات وأبينُها وأوسعُها. فلهذا أنزل الله أشرف الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة،  في أشرف بقاع الأرض، وابتدأ ذلك في أشرف شهور السنة رمضان، وفي أشرف ليالي العام وهي ليلة القدر، فكمل الكتاب من جميع الوجوه، "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ "
 والعربية - أيها الناس - كانت لغة الأقوام العرب الأولى من العرب البائدة من عاد وثمود، والعرب الباقية من جرهم وقحطان وحمير، حتى ظهر إسماعيل عليه السلام ونشأ بين جرهم وتعلم عربيتهم، ثم ألهمه الله العربية الفصحى، قال صلى الله عليه وسلم: أَوَّلُ مَنْ فَتَقَ لِسَانُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الْمُبِينَةِ إِسْمَاعِيلُ , وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشَرَةَ سَنَةً"

 ثم حدثت النقلة العظيمة للغة العربية بنزول القرآن، فبلغت أوج مجدها، وقمة عزها، فتحدى الله فصحاء العرب أن يأتوا بمثله فعجزوا، بل تحداهم بسورة فعجزوا ، فنادى عليهم بالعجز إلى يوم الدين " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" ، بل وجد العرب في القرآن ألفاظا ووجوها لم يسمعوا بها من قبل .

ومن نظر في حال المسلمين اليوم ومدى فهمهم لكتاب ربهم وسنة نبيهم تيقن بعدهم عن لغتهم وتخلفهم عن فهم مراد ربهم، بخلاف سلف الأمة حين فتحوا البلدان فإنهم عودوا أهلها العربية  قال ابن تيمية رحمه الله : ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر ..وأرض العراق وخراسان  .. عودوا أهل هذه البلاد العربية حتى غلبت على أهل هذه الأمصار مسلمهم وكافرهم،  ثم إنهم أي أهل الإسلام- تساهلوا في أمر اللغة واعتادوا الخطاب بالفارسية حتى غلبت عليهم وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم ولا ريب أن هذا مكروه، وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية حتى يتلقنها الصغار في الدور والمكاتب فيظهر شعارُ الإسلام وأهلِه، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه يصعب عليه "
ثم قال رحمه الله مبينا قاعدة متينة -ليت أهل الإسلام ينتبهون لها- : " واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق "

وهذا الكلام يزيد جراح القلوب حيث انعكس الأمر في كثير من بلاد الإسلام، حتى أماتوا شعار الإسلام، فأُلقم الأطفال في روضاتهم لغة الأجانب، بل إن بعض الآباء ليحرص أشد الحرص على أن ينشأ ولده على اللغة الأجنبية أكثر من حرصه على اللغة العربية، في حين أنك لا يمكن أن ترى دولة غربية متقدمة تُدخل في الدراسة التأسيسية للأطفال لغة أجنبية على بلادها إلى رياضها، لأن قانون حماية الثقافة لا يسمح بذلك، ونحن نفرح ونهلل بأطفالنا إذا نطقوا لغة الأجانب، وفي هذا فتح لباب اقتباس ثقافة القوم وعاداتهم ، فلغة الأمة أيها الناس-  ميزان دقيق ومعيار أساس في حفظ الهوية ، فهي شريان الأمة ومصدر القوة والعزة ، وإذا أضاعت أمة لسانها أضاعت تاريخها وحضارتها كما تضيع 
حاضرها ومستقبلها.

أيها المسلمون: نحن أمة الصدارة أعزنا الله بالإسلام وقد دلت شواهد التاريخ قديما وحديثا على أنه لن تتقدم دولة ولن تشيد حضارة، ما لم يكن التعليم بلغة الأمة نفسها، وها هي حضارة الإسلام شاهدة على ذلك، فقدت امتدت قرونا طويلة مع اعتمادها على لغتها العربية، حتى انبهر بها لقريب والبعيد، وقصدوا ديار الإسلام ينهلون من علومها وحضارتها.

ألا فتعلموا اللغة العربية بقواعدها وأحكامها وألفاظها حتى تفقهوا كلام ربكم الذي نزل بالعربية الفصيحة وتفقهوا سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم فتعملوا بهما .


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : لأجل أهمية اللغة العربية في دين الإسلام كره أهل العلم أن يتعود الرجل النطق بغير اللغة العربية ، فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله،  واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون ،فعن عمر بن الخطاب  رضي الله عنه قال : ( لا تعلَّموا رطانة الأعاجم ، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم ؛ فإن السخط ينْزل عليهم) 
وقد بُلي المسلمون في هذا العصر بالرطانة الأعجمية وأصبح تعلمُ بعض اللغات الأجنبية ضرورة ملحة في كثير من المهن والأعمال وهذا جائز لأهل الحاجات والمصالح ولا سيما مصالح المسلمين العامة . وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم اللغة السُّرْيانية فعن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلَّم له كلمات من كتاب يهود قال ( إني والله ما آمن يهود على كتاب )) قال : فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلمته له .قال : فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم )) . ورواه أحمد وهو دليل على جواز تعلم اللغة الأجنبية للمصلحة والحاجة وهذا لا ينازع فيه أهل العلم .
وأما تعلم هذه اللغة لغير حاجة وجعلها فرضاً في مناهج التعليم في أكثر المستويات فهذا دليل على الإعجاب بالغرب والتأثر بهم وهو مذموم شرعاً، وأقبح منه إقرار مزاحمة اللغات الأجنبية للغة القرآن ولغة الإسلام .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : وأما اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمِصرِ وأهلهِ ولأهلِ الدارِ وللرجلِ مع صاحبهِ ولأهلِ السوقِ أو للأمراءِ أو لأهل الديوانِ أو لأهل الفقهِ فلا ريب أن هذا مكروهٌ فإنه من التشبه بالأعاجم " 
جماعة المسلمين : يقو تعالى معاتبا من يقرأ القرآن  " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا " وذلك لأن في تدبر القرآن من الفوائد والحكم ما لا يحصى، إذ فيه الدلالة على كل خير ، والتحذير من كل شر ، فيه تحقيق الإيمان في القلوب،  وبيان للطريق الموصلة إلى الله .
وكل هذه الآثار المحمودة من تدبر القرآن لا تتم للعبد إلا إذا فهم هذا الكلام الرباني وعَقِلَ معناهُ ، وكلُ ذلكَ لا يصيرُ للعبدِ إلا إذا تعلَّمَ لغةَ القرآنِ الكريمِ وهي اللغةُ العربيةُ. 
وتعتبرُ اللغةُ العربيةُ من أيسرِ اللغاتِ في التعلُّم والتعليم فقد تكلم بها العرب الأميون الجاهليّون وصاروا من أهل الفصاحة والبلاغة .قال ابن تيمية رحمه الله ( والعرب هم أفهم من غيرهم وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة ولسانهم أتم الألسنة بيانا وتمييزا للمعاني....إلى غير ذلك من خصائص اللسان العربي التي لا يستراب فيها "  
ونبينا صلوات الله سلامه عليه أوتي جوامع الكلم وهو الكلام القليل الذي يحوي المعاني الكثيرة ، وهذا مما لا يوجد في بقية اللغات . 
فما لنا لا نتعلم العربية والنحو والبلاغة ، وغيرنا من غير العرب يعتز بلغته ولهجته ويرفض أن يتكلم بغيرها ، فلماذا لا نعتز بلغتنا الشريفة العظيمة التي يكفيها شرفا أنها لغة القرآن وبها تكلم النبي سيد الأنام صلى الله عليه وسلم ولا يستغني عنها فقيه ولا حافظ ولا عالم ولا قارئ . 
وإنما استصعبها الناس لأنهم لا يستخدمونها الاستخدام الصحيح ، فإذا اعتاد اللسان عليها سهلت ، وكلما زاد المسلم من قراءته للقرآن ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولأقوال الصحابة ومن بعدهم ولأشعار العرب ونثرهم كلما زادت حصيلته اللغوية واستقام لسانه وزاد فهمه . 

فإن كان الواقع يفرض علينا تعلم اللغات الأجنبية فينبغي أن لا نهمل دراسة اللغة العربية وتعليمها لأولادنا. 





[1] - اقتضاء الصراط المستقيم /لابن تيمية رحمه الله (1/450 ) بتصرف 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق